حينما اكتشفنا إصابة ابننا الأصغر "عُمر" بالتوحّد، أصابني الهلعُ، وتمنيتُ مغادرةَ هذا العالم حتى لا أراه يكبُرُ أمامي بذلك المرض الغامض الذي لم يجد له الأطباءُ علاجًا حتى الآن. ثم عشتُ عشر سنوات أقرأ عن التوحّد حتى ملأني اليأسُ من شفائه. لكنني مع الوقت ومع مراقبة تصرفات "عمر" الراقية، وهوسه الشديد بالنظام والعدل والأناقة والصدق وعذوبة السلوك، بدأتُ في تعديل وضع المنظار فوق عينى، والنظر إلى "عمر" من زاوية أخرى، غير زاوية المرض التي وضعنا الأطباءُ فيها. فاكتشفتُ، فجأة، أن ابني "مصابٌ بالجمال"، إن كان ثمة مرضٌ اسمه: الجمال! هل أبدعَ وأرقى وأجمل من كائن عادل، صادق، منظّم، غير أناني، قليل الكلام، غير مجامل، إلى أقصى الحدود؟! واكتشفتُ وجاهةَ وجهة نظر زوجي المثقف حين قال: ("عمر" مش مريض. ابننا "مختلف”. وعلينا احترام اختلافه. هو يرى العالم من منظوره الخاص، وعلينا احترام عالمه الجميل، بدلا من محاولة سحبه إلى عالمنا.)
وبدأتُ «أُربّي» نفسى من جديد حسب منهج صغيري «عمر»، حرّمت على نفسي، ما وسعني ذلك، كثيرًا من الأمور مثل: المجاملة والمبالغة والانحياز، ودرّبتُ نفسي على العدل والموضوعية ونُصرة المظلوم والتقشف في القول. حاولت، وأحاولُ، أن أرتدي رداء ذلك "المرض النبيل”. مرض التوحّد أو "مرض الجمال والنبالة والأناقة والنظافة والنظام". وأنصح قراءَ هذا الكتاب، كما أنصحُ جميعَ الأمهات والآباء الذين رزقهم اللهُ تعالى بنعم أن يكونوا آباء وأمهات لطفل متوحّد، أن يجتهدوا ما وسعهم أن يتعلموا من أولادهم المتوحدين حتى يغنموا نعمةَ أن يُصابوا مثلهم بهذا المرض النبيل. فإن كان هذا مرضًا، فإنني أرجو أن نُصاب جميعًا ببعض هذا المرض، لنتخلص من بعض آفاتنا، فلا يقولُ الناسُ إننا «ظاهرة صوتية»، نجيد الكلامَ والمبالغة أكثر مما نجيدُ الفعل.
***
لابد أن يعلمَ الصِّغارُ
قبل أن تتدحرجَ القطراتُ من عيونهم
فوق كراسات الرسم
أن الأمهاتِ اللواتي قتلتهنَ الوحْشةُ
ظللن يتخبطن في الزنازينِ الحريرية
ينفُضن الصقيعَ عن الأطراف
ويُشعلنَ المراجلَ
قرابينَ لآلهةِ سقّارةَ
الذين نسوا أن ينثروا الحروفَ
فوق عتبةِ
الطفلِ الصامتِ.