ما أشقَّ هذا الكتابَ، وما أصعبَه!
كيف رضختُ دون تفكيرٍ لطلب صديقتي الأديبة الجميلة الأستاذة: “نوال مصطفى" بأن أكتب كتابًا عن رحلتي مع ابني المتوحّد الجميل: "عمر"؟! منذ دخوله شرنقةَ العُزلة والانطواء ورفض العالم، وحتى تحرُّره وطيرانِه من عتمة الشرنقة الضيقة نحو براح الحياة. الكتابةُ شاقّةٌ للغاية؛ ليس حين نكتبُ عن أنفسنا وعن قلوبنا، بل حين نكتبُ عن قلوبِنا التي تخفقُ خارج أجسادنا، وتسيرُ أمامنا على الأرض! و"عُمر" هو قلبي الذي يخفقُ خارج جسدي وينبضُ أمامي، وأظلُّ أرقبُه طوالَ الوقت حتى أحيا. فإن ابتعد عني بُرهةً، يُدثّرني القلقُ وأهرعُ باحثةً عنه حتى يتناغمَ نبضُه مع نبضي، فتقرُّ عيني وأتنفس. هكذا الأمومةُ. قلبٌ صغيرٌ يخفقُ داخل أحشاء الأمّ إلى جوار قلبها الطبيعيّ على مدى تسعة أشهر، وبعد الميلاد وخروج الجسدِ من الجسد، يتحولُ الوليدُ إلى قلبٍ ثان للأمّ، لكنه يخفق خارج جسدها. ويظلُّ هذا القلبُ الصغيرُ يكبُرُ مع الأيام ليصير صبيًّا، ثم شابًّا، ثم رجلا، وتظلُّ الأمُّ مشغولةً بهذا القلب الخارجي، أكثر من انشغالها بقلبها الطبيعي الذي يؤمّنُ لها الحياةَ داخل جسدها. لا تصدّقوا أن قَطعَ "الحبل السُّري" بالمقصّ لحظة الميلاد وفصْدَ دم الخلاص من المشيمة، يحققُ "الخلاص". فانفصالُ جسد المولود عن جسد الأم ظاهرةٌ ظا هريةٌ مخادعة، لأن الأمَّ تظلُّ مربوطة بأبنائها مرهونة بوجودهم حولها حتى لحظة رحيلها عن العالم. وتلك عبقريةُ الله تعالى في خلقه العظيم. لي قلبان يخفقان خارج جسدي: “مازن" قلبي الأكبر، وهو مهندسٌ معماريٌّ ناجحٌ وموهوب، أنتظرُ بشغفٍ أن أحمل أطفالَه حتى أجرِّبَ مشاعر: "قلب القلب"، و"عمر" قلبي الأصغر الذي دخل شرنقة التوحد وهو في الثالثة من عمره، ونجاهدُ أن نُحرّره من خيوطها وأوشكنا بإذن الله على اكتمال الرجاء. فكيف أكتبُ عن قلبي الصغير؟! هل رأيتم أحدًا يكتبُ عن قلبه؟ وهل هذا العملُ سهل؟
هذا الكتابُ لا يشبه أيًّا من كتبي السابقة، ولن يشبه أيًّا من القادمة. هذا الكتابُ لا يكتبُه قلمي، قلمُ الأديبة، مثل جميع قصائدي ومقالاتي وكتبي، بل يكتبُه قلمُ "أمٍّ”. أمٍّ وفقط. على عَتَبةِ هذا الكتاب، أخلعُ جميعَ عباءاتي: الشهادات، الألقاب، الدروع والأوسمة، حتى لا يتبقى أمامكم إلا جسدُ أمٍّ: راودَها حُلُمٌ، وعانقَها حَمْلٌ، وصافحَها رجاءٌ، وباغتها طَلقٌ، وأوجعَها ميلادٌ، ثم أشرق من كُوّة الرحمة وجهُ: “عُمَر"، بطلُ هذا الكتاب الصعب.
كان "عمر" طفلا استثنائيًّا في كل شيء: أحرق سريعًا مراحلَ يقطعُها الأطفالُ في أعوام، قطعها "عمر" في أيام وأسابيع وشهور، وتلك هي الخدعةُ السحريةُ التي جعلتني أظنُّ أنه طفلٌ سهلٌ! لكنّه كان طيف "التوحّد" الماكر Autism، الذي يجعلُ الطفلَ مُكتفيًّا بذاته عن العالم؛ فيتعلّم كلَّ شيء بمفرده على نحو سليم وسهل وسريع. وهو طفلٌ دون الثالثة من عمره، اعتمد على نفسه دون مساعدة في كل شيء تقريبًا: مشي سريعًا وتكلّم سريعًا وقاد دراجته وحده سريعًا، واستخدم الكمبيوتر سريعًا، وجمَّعَ وركَّب وحده جميع قِطع الأُحجيات المعقدة PUZZLES بمنتهى السهولة والسرعة. وفي يوم مُقدَّر أذكره جيدًّا، سوف أحكي عنه مع صفحات الكتاب، انسحبَ كلُّ هذا فجأة ودون إنذار، وقرّر أن يستغنى بنفسه عن العالم: تمحوَّر حول ذاته، ودخل الشرنقة وأحكم إغلاق خيوطها حوله، وبدأتْ الرحلةُ الشاقّة. نعم. باغت التوحُّدُ ابني "عمر" وهو في الثالثة من عمره، وأكتبُ لكم هذا الكتاب قبيل عيد ميلاده التاسع والعشرين وأنا أمسكُ بيد ابني الجميل لأسحبه إلى خارج الشرنقة التي سجن نفسَه فيها سنواتٍ وسنوات. فكيف أقصُّ عليكم ستة وعشرين عامًا من الحزن والفرح، اليأس والرجاء، الكفاح المُضني وتلوحيات الأمل المخادع، ثم الرحمة والثمر. كيف أقصُّ عليكم تلك الرحلة الطويلة في صفحات وسطور بين دفتيّ كتاب؟! لكنني على كل حال سوف أحاول جهدي، وليساعدني اللهُ على إتمام هذا الكتاب العسير، لعلّه يكون شمعةً في درب أي أمٍّ صغيرة في بداية رحلتها مع ابنها المتوحد.
أن تعيشَ حياتَك مع طفل متوحِّد Autistic، يكبُر مع الأيام، فهذا يعني أنك تتمتعُ بمنحةٍ وجودية ومنحةٍ إلهية هائلة. لأنك سوف تتعلّم منه درسًا أخلاقيًّا وجماليًّا جديدًا وفريدًا كل يوم. دروسٌ من خارج صناديق التعلّم والمعرفة التي نتلقاها على مقاعد المدرسة، أو في دروب الحياة. دروسٌ طوباوية فريدة، ليست مقرّرةً إلا في مناهج النفوس المتوحدّة الجميلة، وفقط. وليس في كلامي مبالغةٌ، أو تشويشٌ في الحكم على الأشياء بوصفي "أُمًّا"، لصَبيّ متوحّد جميل، هو بطلُ هذا الكتاب الصعب الذي بين أياديكم الآن. ذاك أن الأمومةَ، كما تعرفون، غريزةٌ غير موضوعية وغير محايدة، تجعلُك ترى كلَّ شيء في أولادك جميلا وفاتنًا، مما قد يراه الناسُ عكسَ ذلك. الأمومة لا شكَّ غريزة عجائبيةٌ مُلغزةٌ. تلبَسُ ثوبَ الجنون حينًا، وثوبَ النَّزَقِ حينًا، وثوبَ الخوف والتوجس والقلق حينًا، وثوبَ الشَّغف دائمًا. الأمومةُ تجعلُ الإنسانَ، وإن كان فيلسوفًا، طفلا شغوفًا لا يحكمُ على الأشياء إلا من منطق العشق و"الشغف". لكنني تعلّمتُ من أساتذتي الأدباء العظام، أنني حين أمسكُ قلمي لأكتبَ، لابد أن أخرجَ من عباءة الأنا وأُسقِطَ أثوابي، ثوبًا في إثر ثوب، حتى أتحررَ من كهف الذات، لأخرجَ نحو براح الموضوع. وأعدُكم أنني سأحاولُ قدرَ طاقتي أن أكتبَ تجربتي مع "عمر"، بعين الموضوع، وقلم الحياد. ولستُ أراهنُ على نجاحي في هذا. فلو أخفقتُ في هذا التحدّي، فليعذرني القارئُ العزيز ويسامحني. وليتذكرْ في الأخير أنني فاطمة ناعوت (الأمّ)، قبل أن أكون (الكاتبة والشاعرة).
سأحكي في هذا الكتاب عن "عمر" منذ كان جنينًا في أحشائي، ثم طفلا آسرًا لا يشبه الأطفالَ، وحتى صار اليوم شابًّا وسيمًا أنيقًا راقيًّا، متحضرًا، يُهدي الفتيات المتسولاتٍ الورودَ والابتسامات، بدلا من النقود. وسوف نحتفل بعيد ميلاده التاسع والعشرين مع صدور هذا الكتاب بإذن الله تعالى.