الأهلي دَرْب المنتمين
منزل تظهر عليه ملامح الزمان ومضي السنوات يوجد بحي السيدة زينب علم الأهلي يكسو شرفاته؛ ليظل خفاقًا طالما وجد هذا المنزل يرفرف العلم كما يرفرف قلب ساكني هذا المنزل بِحب الأهلي. المنزل كُتب على جدرانه منزل آل صالح. فهو يسكنه الأستاذ صالح عبد الحميد الذي كان يعمل موظفًا بوزارة الآثار، وربما كما حفظ تاريخ الملوك السابقين في ذاكرته فقد حفظ تاريخ النادي الأهلي ومواقفه في قلبه وعقله ووجدانه. كان أهالي الحي يعتبرونه أحد حكماء الحي والقصاصين فداخل ذاكرة الأستاذ صالح سوف تجد تاريخ مصر عبر الأزمان ولكن مكان ما في ذاكرة الأستاذ صالح انتزعه تاريخ الأهلي ومواقفه. يقولون لأي غريب عن الحي ربما قد قابلت الكثير من هؤلاء الذين يعشقون الأهلي، واتخذوه لهم وطنًا صغيرًا داخل الوطن الكبير، ولكن إذا لم تكن قد قابلت الأستاذ/ صالح من بينهم فأنت لم تعرف بعد قصة روح سكنها حب الأهلي.
دائمًا ما كان يقول لهم الأستاذ صالح منذ صباي كان الحديث في منزلنا دومًا عن الأهلي كان أبي يقص علينا ما عاصره من مواقف وتاريخ هذا النادي. فبدلًا من أن تشكل طفولتي حكايات الأطفال عن الغول أو العنقاء شكلت طفولتي حكايات عمر لطفي بك وجعفر والي باشا وأحمد عبود باشا. كنت أستمتع بكل ما يقصه عليّ أبي، كنت أرى في ذلك ملاحم تاريخية لا يمكن أن تضاهيها رواية كانوا هم أبطال السير الشعبية لطفولتي.
ولكن ربما هي المفارقة أو ربما هو رابط روحي لم أدركه فمن بين الجميع ظل صالح سليم نجم الصبى بلا منازع، وكيف لا وهو كان بمثابة البطل الخارق لطفولتي، ولكن متى كانت البداية ؟؟!!. لا أتذكر متى كانت وما دفعني إليها هل هو التعلق بصالح سليم حبًا في الاسم ذاته الذي حمله كلانا "صالح". حقًا لا أتذكر ولكن ما لا يمكن أن أنساه وأتذكره كما لو أنه قد حدث منذ دقائق هو يوم الرابع من إبريل عام ١٩٥٨ حينما اصطحبني أبي لمباراة الأهلي والإسماعيلي في بطولة الدوري؛ لأكون شاهدًا على ما لم تره عيني من لاعب مرة أخرى حتى الآن حينما سجل صالح سليم سبعة أهداف من أصل ثمانية في شباك الإسماعيلي ليفوز الأهلي بنتيجة 8 / 0. نعم شاهدته وهو يفعلها. كل عبارات الثناء لا تكفي لوصف ما فعله صالح يومها سجل من كل الوضعيات وبكل الطرق الممكنة. رأيته كما لو كان قادمًا من عالم آخر. بعد تسجيل صالح هدفه السابع في الدقيقة ٨٧ تثبتت وتجمدت عيناني، وهي ترى الهدف ظللت ساكنًا في مكاني إلى أن انتهت المباراة يحاول أبي جذبي؛ لنرحل بعد انتهاء الوقت ولكن لم أكن أحرك ساكنًا كنت مازلت تحت وطأة ما رأيت لن تصدقني لو قلت لك إن بعض أثار نشوة الطفل في تلك اللحظ مازالت تصاحبني حتى اليوم. في اليوم التالي أحضر أبي جريدة الألعاب الرياضية، وكان عنوانها حول معجزة صالح "صالح سليم سجل 7 أهداف أمس !" كانت تلك هي الورقة الأولى التي أقصها لتزين جدار غرفتي.
داخل المنزل توجد غرفة الأستاذ صالح التي تحولت فيما بعد لبانوراما من الممكن أن تتجول داخلها بين حكاياته، وأصبحت مخصصة لكل ما يحمل ذكرياته مع الأهلي إذا دخلت إليها سوف تشعر وكأنك دخلت إلى أحد متاحف الفراعنة التي نقشت على جدرانها تاريخ الملوك، ولكن في غرفة الأستاذ صالح سوف تجد تاريخ الأهلي. قصاصات الصحف معلقة في كل مكان وعلى الحوائط، ولكل منها حكاية؛ وفي ذاك الركن ثلاث صور وضعت الأولى لصالح سليم، والثانية لمحمود الخطيب، والثالثة لمحمد أبو تريكة، ولكل منها في قلب الأستاذ صالح حكاية..
وعلى مدار سنوات حينما يأتي المساء يدخل الأستاذ صالح إلى تلك الغرفة ليمكث بها بالساعات يتفقد القصاصات، وتلك النسخ التي احتفظ بها من الصحف يجول بينها في رحلة الذكريات هى سنوات عمره قبل أن تكون سنوات من تاريخ الأهلي هي رحلته من الصبى إلى الكهولة وحتى شيخوخته تلك التي أضعفت جسده، ولم تضعف ذاكرته. يظل هكذا في عالمه الخاص إلى أن يدخل عليه حفيده ثابت نعم اختار له صالح اسم ثابت؛ فلقد ولد في مارس عام ٢٠٠٥ بعد وفاة ثابت البطل بأيام معدودات؛ فأراد الأستاذ صالح أن يخلد ذكرى ثابت البطل يتذكره كلما نادى حفيده باسم "ثابت"؛ فلقد رأى صالح في ثابت البطل كل ما يتمنى أن يراه في حفيده من ثبات أمام تلك الحياة الموحشة التي لا تحتمل الكثير من أمثال ثابت من هؤلاء الذين لم يخشوا شيئًا، ولم يقايضوا على ما يحبون وظلوا ثابتين في مواقفهم حتى لحظاتهم الأخيرة، وحتى حينما جاء المرض واجهوه بثبات فيقول دائمًا طوبى لأمثال ثابت فهم بيننا غرباء.
دائمًا ما يحكي صالح لحفيده هذا الموقف عن ثابت البطل يكرره كما أنه لم يحكه من قبل ويسمعه حفيده في كل مرة بنفس الشغف حينما يقول له أتعلم أن ثابت في الفترة ما بين عام ١٩٩٥ وحتى ٢٠٠٠ وهو كان مديرًا للكرة مع النادي الأهلي حقق الأهلي أغلب البطولات التي شارك فيها، ووضع نظامًا وأسس غيرت الكثير داخل النادي إلى أن رحل إلى الاتحاد الليبي في رحلة جديدة، ومع تراجع نتائج الأهلي وفي يوليو عام ٢٠٠٣ حينما طلب منه العودة للنادي الأهلي الذي كان يمر بفترة مظلمة من تاريخه، وكان ثابت في ذاك الوقت يتقاضى أضعاف الراتب الذي سوف يعود ليتقاضاه في النادي الأهلي فما كان لثابت إلا أن وافق على الفور دون تردد أو تفكير، ترك الذهب والفضة ليعود إلى بيته وعشقه الأبدي، عاد ليضع حجر الزاوية في تشكيل شخصية جيل الأهلي الذهبي الذي حصد الأخضر واليابس منذ عام ٢٠٠٥ وحتى اعتزال كباره، ورحل ثابت بعد أن وضع اللبنة الأولى لعقلية وروح هذا الجيل، رحل وترك بداخلهم الكثير من المواقف التي لم ولن تنسى، ولم يفرق بينه وبين الأهلي سوى الموت لم يترك ثابت الأهلي حتى لحظاته الأخيرة، كان الجميع يحاول أن يثنيه عن حضور لقاء الأهلي والزمالك في الجولة الـ20 من بطولة الدوري في 12 فبراير 2005 كان الجسد يتآكل بفعل المرض كان لا يقوى على الحراك، ولكنه أصر أن يحضر المباراة رفض الاستماع للجميع استمع فقط لقلبه الذي كان يريد أن يودع الجميع في لحظة هي الأكثر وفاءً في تاريخ الأهلي، ذهب ثابت البطل إلى الملعب ليجلس واضعًا غطاءً حول جسده؛ فكان يشعر ببرودة ربما لم يشعر بها أحد من قبل، وكان الألم يعتصره ليفوز الأهلي أمام أعين ثابت في تلك المباراة بنتيجة 3/ 0، ويخرج أبو تريكة ليطبع قُبلة على جبين ثابت أمام الجميع كانت قبلة الوداع فخلال أقل من 48 ساعة، رحل ثابت البطل في 14 فبراير 2005، رحل بعد أن ودع الأهلي وودعه الأهلي، رحل وترك في القلب حزنًا عليه لا يبرد، رحل المثال والقدوة، رحل ثابت البطل فقررت أن هبة الله لعائلتنا سوف تحمل أسم "ثابت" جديد؛ فأخبرت والدك أن يختار لك اسم ثابت ربما لأراه فيك وتذكرني به ؛ فأخبرت والدك أن يختار لك اسم ثابت ربما لأراه فيك وتذكرني به.
ربما سمع الحفيد ثابت تلك القصة مئات المرات دون أن يدرك أنها ربما كانت تعده لتلك اللحظة؛ فلم يعد الفتى ثابت يغادر حجرة جده صالح إلا قليلًا؛ فالجد أصابه أيضًا هذا المرض اللعين المرض ذاته الذي حصد روح صالح سليم وثابت البطل، هل هذا هو الرابط الخفي في حياة الأستاذ صالح؟ هل هذا هو الرابط الخفي لم يكن يدري؟ ولكن ما أدركه أنه إذا حان الرحيل عليك أن تترك الكثير والكثير من الذكريات. كان يجد الجد في الحكي تخفيفًا لآلامه وعالمًا من الذكريات واللحظات السعيدة الذي يهرب به من عالمه القاسي.
ومن بين كل تلك الأحاديث خلال أيام الجد صالح الأخيرة، جاءت فصول تلك الرواية التي أشبه برحلة قطار داخل روح هذا الرجل التي عشقت الأهلي وأحبته؛ لتتحول ذاكرته إلى محطات يقف فيها هذا القطار الذي يستقله الحفيد ثابت؛ لتتكشف له أسرار عظمة، وتفرد النادي الأهلي.