Naoot

Share to Social Media

طفـــلان


كان يظنُّ البيتَ الصغيرَ
قصرًا،
وإصّيصَ الوردِ
حدائقَ فردايسَ،
والبيسكليتَ النحيلةَ
أُسطولاً ومواكبَ؛
….
فلمّا دخلَ الكوخَ الخشبيّ،
وأنصَتَ إلى فيروزْ
تحكي عن أطفالٍ يعدّونَ قروشَهم
من أجلِ شجرةِ الميلادْ،
سقَى معها الزَّهرَ،
وأحبَّها أكثرْ.


كان يظنُّ الفُرُشَ وثيرةً
والوسائدَ
حريرًا وريشَ نعامْ
وعلى الأرائكِ
تدنو القطوفُ اليانعاتُ؛
….
فلما جرحتْه خشونةُ الأخشابْ
في كوخِها
ووَخَزَهُ شَوكُ الصُّوفِ
في خِدْرِها؛
حضنَها في قلبِه،
وأحبَّها
أكثرْ.

كان يظنُّها ملكةً
تحوِّطُها الحاشيةُ والخدمُ،
تسعى الجواري الفاتناتُ لراحتِها؛
….
فلما شاهدَ الصَّبيةَ
وحيدةً
ترتبكُ في عدِّ قروشِها الشحيحةِ؛
لكي تُطعِمَ قططَها الجائعاتْ
وتسقي زهورَ الشرفةِ
بماءِ وحدتِها؛
ضفّرَ جديلتَها بشريطِ الحريرْ،
وأحبَّها
أكثرْ.

كان يظنُّ المباهجَ
تسكنُها
والأغاريدَ
تُدثِّرُ وسائدَها،
….
فلما لمحَ الوحشةَ تجولُ في بيتِها
مثل وحْشٍ صموتْ،
سكبَ في كأسها شيئًا من الفرحْ
وقبّلَ شفتيها الظامئتين،
وأحبَّها
أكثرْ.

كان يظنُّها مزدحمةً،
تغزو العيونُ عالمَها
والعاشقون؛
….
فلما أبصرَ المكتبةَ حزينةً
والكتبَ
صامتةً على الأرففِ
تحملُ جثامينَ عشّاقِها الموتى:
جبرانَ وغاندي ولوثر؛
عرفَ كيف تُجيدُ الصَّبيةُ
غزْلَ وحدتِها؛
وأحبَّها
أكثرْ.

كان يراها نجمةً
تسكنُ العُلا
تملكُ شعاعًا وجواهرَ وأقواسَ قزحٍ؛
….
فلما أطعمته من يدِها
حِفنةَ مِلحٍ
وكِسرةً
من خُبزٍ ناشفْ؛
قطّرَ في صحنِها زيتَ زيتونْ،
وأحبَّها
أكثرْ.

كان يظنُّ أن اليقينَ يسكنُها
تعرفُ أسرارَ البدايةِ
والنهاياتْ،
سمعتْ همسَ حواءَ لآدمَ
وراء الشجرةِ الأولى
وانتظرتْ معهما
-دون جدوى-
دمَ الخلاصِ
أو
نورَ جزيرةِ الصحراء؛
….
فلما قرأ حَيرتَها
وسمعَ طرْقَها الغاضبَ
على بابِ بوذا ولاما وابنِ العذراءِ وزارادشتْ،
فتّش في جيبِها
فوجدَ عظامًا
لحفريّاتِ الأسلافِ القِرَدَة،
وكثيرًا من السؤالِ
يسكنُها،
احتواها بعينيه عميقتين،
فغامَ الدمعُ على صفحةِ العسلْ،
دسَّ في يدها حِفنةً من الرحمةِ،
وأحبَّها
أكثرْ.

كان
-مثلها-
يظنُّ بُرجَ الكهرباءْ
نخلةً خضراءَ مورقةً؛
….
فلما صدَّه الحديدُ والرَّصاصْ؛
ولسعتْ أصابعَه شُحنةُ الكهرمانْ،
عرف أنهما
-معًا-
طفلانِ
يتعلّمان الحياة.

القاهرة/ 5 فبراير 2013



قانونُ الوردة



الحدائقيُّ
يمضي عند الفجرْ
مُحاذِرًِا أن يوقظَ الزهورَ،
غافيةً
على أغصانِها
عند خاصرةِ النيلْ.

لو شاءَ المسافرُ
لقطَفَ حبيبتَه
لتُدفئَ رحلتَه
نحو أقاصي الأرضِ
والصقيعْ.

لكن الطيبين يظنّونَ
أنَّ الزهرَ يفنَى
إذا انخلعَ من أرضه!
الطيبونَ
طيبونْ!
لا يعرفون قانونَ الورودِ الماكرة
وتناقضاتِ الزهرْ!

وحدَه الزهرُ
يعرفُ
….
لكنه أبدًا
لا يُنبئُ الحدائقيينَ
عن أسرارِه.

الوردُ،
إن سُئِلَ،
لاختارَ أن يسافرَ مع العشّاقْ،
حتى وأن هجَرَ
حُضنَ الشجرْ.
الوردةُ تعرفُ
أنَّ الموتَ يكمُنُ
في انخطافِ الروحْ،
لا في اختفاءِ الأرضْ.

تقولُ زهرةٌ لحبيبِها:
خُذني
وضُمَّني إليكَ
نائمةً بين كفّيك،
أو
زاهيةً يقظةً
في عُروةِ قميصِكْ،
أو حتى
ذابلةً
في كتابٍ
فوق وسادتِك.

لأن الذبولَ معكَ
حياةٌ
والعطشْ،
….
لكنْ
إنْ أنتَ تركتَني وحدي
أموتْ.

يقولُ الفتى:
الورودُ أجملُ
فوق أغصانِها
وأنا،
علّمني الملكُ أبي
أنْ أُحبَّ الزهراتِ
في براعمِها الخُضرِ
مخبآتٍ في الرحيقْ
….
لكنّه نسيَ أنْ يعلّمَّني
كيف أسرقُها.
القاهرة/ 4 فبراير 2013



الحَوَارِيّون


خَدْشٌ طفيفٌ في القلبْ
لأن الحَوارِيَّ
صمتَ عن الحكايا،
والمساءاتُ
تجِفُّ.

الحَواريون
ذوو العيونِ الطيّبة
ينتظرون دقَّةَ الربِّ على بابِهمْ
يُنصِتون للوصايا العشرْ
يجدلونَ السَّعفَ مراكبَ وأشرعةً وصُلبانًا
يسكبونَ الطِّيْبَ
عند موطئِ القدمْ
ثم
يفترقونْ.

ينزوي الفتى
-الذي حملَ الكتابَ في صدرِه-
بعدما أعدَّ العَشاءَ الأخيرْ
وينتظرُ الصَّبيَّة التي نسيتْ أن تعيشَ
وأخفقتْ أن تموتْ،
ليُعلِّمَها
درسَ السَّامريّ الصالحْ
ويُحذِّرَها
من شوكةِ
"زهرة الصبح".

يأتي الصبحُ
يسمعانِ صوتَ الديكْ
فينهمرُ من جديدْ
-عبر شرفتِها-
رَذاذُ الحَيرة.

تجلسُ
في ركن الدارِ
وحيدةً
-كما دائمًا-
يدُها على خدِّها
تنتظرْ.

بعد برهةٍ
سيأتي الملكُ الذي يقفُ بالبابِ ويقْرعْ
تِكْ
تِكْ
تِكْ
مَن يسمعُ صوتَه
يفتحُ البابَ ليدخلَ
والعَشاءُ
مُعَدٌّ.

لكن الصَّوتَ لا يأتي
ولا البابَ
قُرِعْ.

عشرون عامًا أخرى
يجِبُ أنْ تمرَّ
حتى تقِفَ الإجاباتُ على أسئلة،
عشرون عامًا
حتى تُصادِفَ البنتُ الحزينةُ
حواريًّا
جديدًا
بعينين رطبتيْن
بدلاً من ذاكَ الذي
صمَتَ عن الحكايا
وتركَ في القلبِ
خدشًا
طفيفًا
.
.
.
يُوجِعُ.

القاهرة/ 8 أبريل 2012



حكيم عيون


إنْ غابَ، بحثتْ عنه العيونُ التي في طرفِها حوَرُ. وافتقدته الجفونُ المُجهداتُ اللواتي، قَدَّ نومَها السهَرُ.
إن سافرَ، سألته المآقي التي خَفُتَ بريقُها:
كيف تسافرُ قبل أن يدركنا البصرُ؟
إنْ تأخّرَ عن موعده، لاحقَه العِميانُ يضربون الأرضَ بعصواتِهم، مُتخبّطين في الأزقّة والطرقاتْ، حتى يشعروا بظِّل مِبضَعِه يسقطُ على رؤوسِهم المتعبة، فيبتسمون في وهنٍ، ثم يسكنون أمام مشارطِه وكيميائه، ويستسلمون.
سألني ديوچين، ابنُ الإغريق الكفيف:
أين كان طبيبُك في القرن الرابع قبل الميلاد؟! لو وجدتُه، ما كنتُ حملتُ مصباحي كالمجنون في وضَحِ النهار؛ لأبحث بعمائي عن الحقيقة! وما وجدتُها!
فهل وجدَها طبيبُ العيون؟
***
تلك عيناي
اخلعْهما برفقٍ
ودثّرْهما في رُقعةِ حريرٍ بيضاءَ
ثم خُذْهُما
إلى مَعملِك.

دقِّقْ بمِنظارِكَ الطِّبيّ
أسفلَ القَرَنيةْ
وفي مركزِ العدسة
حدِّدْ
أين تختبئُ سنواتٌ طوالٌ
لم أعشْها
وأشجارٌ
زرعَها أبي في رئتيَّ
فأورقتْ في رأسي
وثقبتْه
ثم ألقتْ ظلالَها الخضراءَ
فوق جفوني.

اِبحثْ
عن فساتيَن ملونةٍ
لم تلمَسْني
وثوبِ زفافٍ
مازالتْ زهورُه في براعمِها
لم تتفتحْ.

فتِّشْ
عن عذوبةٍ
سقطتْ
مع شرائطِ شعري
في صندوقِ طفولتي القديمْ.

سلِّطْ شعاعَ الضوءْ
في كهفِ البؤبؤْ
وتفرَّسْ
في وجوه العشاقِ الذين
وقفوا تحتَ بيتي
عِقدينْ
يُعلِّقونَ قصائدَهم
على بابي
ويعزفون قيثاراتِهم
ليلةً بعد ليلةٍ
حتى أُطِلَّ من شُرفتي.

اِجمعْ عيونَهم
التي زرعوها داخلَ جمجمتي
تتلصصُ على أفكاري،
وأحداقَهم
التي بذروها حول ثنايا جسدي
لتُفكِّكَ خيوطَ شرنقتي،
ومآقيهم
التي دقّوها كأوتادٍ حول خيمتي
ترقُبُ
وتطردُ الغرباءْ.

اِنتشلْ
من قنواتِ الدمعِ
كشاكيلَ محاضراتِهم
غارقةً في مُلوحتِها
تركوا بين أوراقِها رسائلَهم
وأسماءَهم
وأرقامَ هواتفِهم
وورودًا حمراءَ
تحكي
عذاباتِهم
وعذابي.

اِحْصِ في مُقلتيَّ
عددَ الأبوابِ التي غلَّقتُها
بابًا
في إثرِ بابٍ
حتى أُغلِّفَ وحدتي
بالبُتوليةِ
والتوحّدْ.

اِجمعْ
من جفوني
أحرازَك تلكْ
ثم اسكبْها في كأسِ البلّورْ
وصبّ أكاسيرَكَ
وقطراتِكَ
ومحاليلَ كاويةً حارقةْ
حتى تُفكِكَ تعويذتي.

هاك عيناي
أيها الطبيبُ
هُما لكْ
بكلِّ أسرارِهما
والخبايا
وحقولِهما البُنيّةِ
والخضراءْ.
...
أما لهفةُ الحُبِّ الأولِ
والخفقةُ التي تعصِفُ بالقلبْ
قبل اللقاءْ
وارتعاشُ الأصابعِ قُبيلَ المصافحةْ
ورجفةُ الشفاهِ
عند اختلاسِ قُبلةٍ
عند بابِ المحاضرة
فجميعُها
جميعُها
لي وحدي
….
ليس بوسعِك أن تجدَها في عينيَّ
لأنها
زحفتْ إلى صدري
فدسستُها في صندوقِ أسراري
لكيلا تراها.

القاهرة/ 1 مارس 2014
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.