بعد أنْ أحضرت الشاي ، جلست في الشرفة التي تطل على حديقة المنزل الواسعة ، تداعب وجنتيها نسمات المرج الندية الباردة ، أخذت ترشف الشاي وهي ترقب زوجها - عن بعد - يقرأ الجريدة بعبث ، كان شيئا ما يقلقه ، فقصدته بهدوء ، وقفت أمامه ، وتمايلت بحركة سريعة لترى ماذا يقرأ ، فأمطرته بوابلٍ من حرير شعرها المتساقط على كتفه وحجره :
- أراك قلقاً ، ما الأمر ؟!.
- لا شيء .
رمى الجريدة بعد صراع غير مثمر . مدَّ يده ليتناول الشاي .
- أنا زوجتك ، إذا لم تخبرني بما يقلقك من ستخبر إذاً ؟
- قلتُ لكِ لا شيء .
امتزجت ملامح وجهه بعلامات الغضب والحيرة ، وضع من يده الشاي وتوجه إلى الصالة ، بعد لحظات كانت الزوجة في إثره .
- لم لا تخبرني وتريح نفسك ، لطالما أذعتَ أنني خير من يسمعك من بين جميع الناس .
كانت زوجته قريبة جداً من نفسه ، ولطالما اعتبرها كهفه الحصين ، يلجأ اليها حين تغلبه الهموم والأحزان ، وتعصف به دورة الحياة ، يبوح لها دوماً بما يخشى الكلام فيه مع أقرب الناس اليه ، بل حتى مع نفسه أحياناً ، جلس ، أحسَّ بحاجة للكلام ولكنه لم يقوَ ، استجمع قواه من جديد وقال بفتور :
- ما زال القلق يعذبني .
- من أي شيء ؟!.
- بسبب ما يبدر مني عن غير قصد مع الناس .
- ولكنني أظن أننا تكلمنا كثيرا حول ذلك الامر !.
- نعم ، ولا أنكر أن كلامكِ كان عزاءً لي ، كما كان دوماً في كل محني وهمومي . ولكنني ... ولكنني....
- ولكنك ماذا ؟
أشاح بوجهه عنها ، فأعادته أناملها الرقيقة .
- إنّ أسلوبك في كبت مشاعرك لا يعود عليك بنفع كبير.
- أنا ... أنا أتوتر كثيرا كلما تذكرت أحداً من الذين آذيتهم بزلل لساني حين أمازحهم ، فصورهم مطبوعة بذهني لا تفارقني أبداً ، مواقف كثيرة تطاردني دوماً ، وتلحّ عليّ ، أصبحت جزءاً من ذاكرتي ، لا أحسبني سأجدُ منها مهرباً يوماً ما .
كان حين يتكلم ؛ كمن يحتضن بداخله شعلة من الألم لن يحسب أن تنطفئ يوما . قال بعد شعور مرير بالخيبة :
- يبدو أن الحزن وحده يمتلك ذاكرة قوية ، فهو حاضر أبداً في كياني ، وممتزج بدمي .
- إنك تتعامل مع الحياة كمن يريد سبباً وتعليلاً للصغيرة والكبيرة فيها ، الحياة أعقد وأصعب من أن نفهمها كلياً ، نحن نتماشى معها فقط ، هذا ما يتاح لنا .
- أحتاج الى معجزة لأتخلص مما أنا فيه . هذا هو الحل .
- ربما كنت أنت من ضخم تلك المواقف حين كانت موقفاً عابراً .
نظر الى زوجته طويلاً ، وكان حديثه مع نفسه : (( ليتني اقدر على التفكير بطريقتكِ تلك ، ليتني كنت بقوتكِ ِ، إذن لاختصرت زمناً من همومي وآلامي ، ولأرحتُ هذا الرأس الذي يكاد أن ينفجر )).
- ها ، بمَ تفكر ؟.
- أنا خجلٌ منكِ .
- خجلٌ منّي !. ولمَ ؟.
- لا يجب أن أكون أمامكِ بهذا الضعف . المفروض أنني ربّان السفينة . يجب أن أكون أقوى مما أنا فيه الان .
- لستً ضعيفاً .
- وماذا يمكنني أن أسمّي حالتي هذه ؟.
- سمّها مرضاً إن شئت ؛ إنْ كنت مهتماً بتسميتها لهذه الدرجة ، فأنت طبيب ، وكل حياتك ومهاراتك بأن تعالج الناس ، ابدأ بعلاج نفسك .
- لا يمكن ... لا يمكن أن أقارن حالتي تلك بالأمراض التي تمرّ علي دوماً . ولا أظن أن هناك من علاج يمكن أن يبث الحياة فيّ من جديد .
كانت تلك الرؤى تتراقص أمامه متحدية بذلك وعيه وعزيمته ، فأدار وجهه الى الناحية الاخرى مستعيذاً بالله من الشيطان الغوي الرجيم .
- ما هذا الاستسلام الذي أراك فيه ؟! إنّ أمامك الكثير لتنجزه قبل أنْ تقع بشرك هذه الوساوس ، فتملي عليك طريقاً لا تحب أن تجد نفسك فيه . ولكن مهلاً ! ما الذي استجد من الأمر ؟ من عدة شهور مضت حين تكلمنا آخر مرة – على ما اذكر – في هذا الموضوع ، كنتَ طبيعيا بعدها .
تنهد ، أراد أن يبوح بما عنده ، فقد عودته على السماع منه ، وكان هو يأنس بالكلام معها ، يبادلها كل ما يمرّ به تقريباً ، ولكنه اليوم مختلف ، هناك شيء ما يجثم على صدره ، يمنعه من الكلام ، ربما كان شعوره المستمر بحالة الضعف تلك أمام زوجته .
- لستُ مضطرة لتذكيرك كل دقيقة بأنني مستعدة للسماع منك !.
شعر بأنّ للكلمات ممر ضيق بين طبقات الهموم المكدسة بصدره ، ولكنه لم يجد بداً من البوح بما عنده ، فقد أغرته بالحديث .
- قبل بضعة أيام زارني أحد أصدقاء أبي ، لم أذكره في البداية ولكنني تذكرته حين نبهني ، فاعتذرت منه وقمت له بالواجب .
- وبعد .
- حين همَّ بالرحيل غمزته مازحاً ، بأنه ذكرني بصداقة أبي ليحصل على معاينته مجاناً ، فتجهم الرجل كثيراً وبان على وجهه الإحراج ، فانصرف سريعاً ، فحاولت أن أبين له إنني امزح فقط ، ولكن كلَّ لساني ، وخارت قواي .
- نعم ... ، لقد فهمت ، إنه لموقف محرج حقاً .
- حاولت أن اتدارك الموقف ، ولكن .....
أرجع رأسه الى الوراء . تنفس بقوة . أحس بالراحة قليلاً ، فقد نفث ببعض ما في صدره من الهم .
- إن امري لغريب !. لو كنتُ قد سكتُّ في كثير من المواقف لما ندمتُ ، ولكن ..... ولكن هل سأقضي بقية عمري ساكتا ً، إنّ الحياة لم تنصفني ، تجعل في طريقي دوماً ألف عثرة ، أرى كثيراً من أترابي وقد افترشت لهم الحياة طريقاً سهلةً ، لماذا ..... لماذا ؟
نظر الى زوجته بعد أنْ خيّم الصمت برهة ، وجدها منصتة تماماً لما يقول ، فاستأنف كلامه :
- والأدهى من ذلك ، كنتُ في غرفة العمليات وقد بانت علامات الارهاق والتعب عليَّ امام زملائي ، فقد التصق بذهني موقف ذلك الرجل ، لم يفارقني أبداً ، وكدتُ أقضي على المسكينة التي كنتُ اجري لها العملية ؛ إذ قطعتُ لها شرياناً قريباً من القلب ، وسببتُ لها نزفاً حاداً لولا أنْ تداركني رئيس الجراحين وأسعفها في اللحظات الاخيرة .
- آه ... لهذا انت في اجازة اليوم .
حدّق في وجه زوجته بعينين شاردتين .
- لمَ يخامرني الشعور دوماً بأنني أحمل الماً فريداً ؟!.
أمسكتْ كفه بإحدى يديها ، ووضعتْ راحة يدها الاخرى على خده ، نظرتْ بعينيه بثقتها المعهودة ، واطمئنانها المدهش ، فأحس أنه يفترش حضناً دافئاً يغمره الأمان فيه من كل جانب .
- عزيزي ، ربما كان هذا التوتر ناجم من التفكير الدائم بتلك الأمور ، فلو تصرفتَ على فطرتكَ فكن واثقاً من أنّ الامور ستختلف معك ، أما بالنسبة للناس ؛ فحاول أنْ تعتذر لهم ، فحسن سيرتك بينهم سبباً لانْ يسامحوك ، ويغفروا لك هفواتك معهم ، وأنا واثقة أنّ أكثرهم لا يذكر ما كان بينك وبينه ، لانّ الناس كثيراً ما تنسى صغائر الامور .
- الكلام سهل .
- ويجب أن تكون حياتنا بقدر سهولته .
- أريد أن أبدأ ، ولكن ذلك ليس سهلاً ، طالما أحمل تلك التركة الثقيلة على ظهري .
- وهل تعتقد أن كل الناس معصومون عن تلك الافعال ، الجميع يفعل الاخطاء ، ولكنهم لا يحملون اتجاه أخطائهم مثل تلك الحساسية المفرطة التي تحمل .
أحس بانزياح طبقة من الهم والكدر عن صدره بعد تلك المحادثة السريعة ، فعاودتْ وجهه ابتسامة باهتة .
- ترى ... ما شكل حياتي لولا وجودكِ معي ؟.
- إنّ الحياة فرصة يا عزيزي يجب أن ترقى فيها لمستوى التحدي ، وأنت بما تفعل تضيع كل فرصك وأحلامك .
- وما العمل برأيك ؟ ما هي البداية الصحيحة ؟.
- ببساطة ... لا تفكر باللحظة القادمة ، دعها تأتي بعفوية .
شعرَ - بعد تلك الكلمات - بخفة في جسده تدفعه ليرتفع في الهواء ، فقد عادت اليه تلك الثقة بالنفس ، التي يهبّ نسيمها على روحه المعذّبة كلّ ما حادثته زوجته بشأنٍ يضنيه ويربكه ، قادته قدماه الى الشرفة ، حيث المنظر الخلاّب والطبيعة الملهمة ، أجال نظره يميناً وشمالاً ، فأبهرته تجليات جمال الكون المتناسق ، تنفس بملء رئتيه ، أحس بأنه قد وُلد من جديد ، أراد أن يعبر عن امتنان عظيم لم يعرف له سبباً ومصدراً غمره بتلك اللحظات ، فضاقت أمامه جميع اللغات ، فلجأ الى لغة الحب ومعادلاتها العجيبة ، فالتفت الى زوجته :
- لولاك ِ يا عزيزتي ...... لولا كلماتكِ الدافئة ...... أتمنى ...... هيا بنا .
- على مهلك .. الى أين ؟.
- أحب أن نخرج الآن ، أشعر بأنني كنت مسجوناً ، وقد أُذن لي بأن أتحرر .
- ولكن الى أين ، فالوقت ما زال صباحاً ؟.
- الى أي مكان ، لا يهم ، أريد أن أستنشق الهواء ، أريد أن أخرج ، أن أرى الناس .
حينها قاطعهما رنين الهاتف ، وأبلغوه من المستشفى أنّ المرأة التي تسبب لها بالنزف أمس قد توفيت .