"هذا السيدُ تقريبًا مجنونٌ؛ أمضى سنواتٍ كثيرةً من عمره فيما وراء البحار في قراءة الكتب، يتحدثُ إلى نفسه في مكتبه، ولا يردُّ التحايا، كما أن شَعرَه غزيرٌ جدًّا." قالت عمةُ آجوو هذا التعريف بصوت خفيض فيما يسيران في الدرب. "لكنه رجلٌ فاضل،" أضافت. "ومادمتَ تعملُ بجدٍّ، فسوف تأكل جدًّا، حتى أنك سوف تأكلُ اللحمَ كلَّ يوم." توقفت لكي تبصق؛ فغادر اللعابُ فمَها بصوت يشبه الامتصاص ثم استقرَّ فوق العشب.
لم يكن آجوو ليصدقَ أن أيَّ إنسانٍ، ولا حتى هذا السيد الذي هو على وشك المعيشة معه، يأكل اللحمَ كل يوم. لكنه لم يجادل عمّته، لأنه كان مزدحمًا بالأفكار والترقّب، مشغولاً بمحاولة تصوّر حياته المقبلة بعيدًا عن القرية. كانا قد مشيا لبرهة حتى الآن، منذ أن نزلا من اللوري في مرآب السيارات، وشمسُ الظهيرة تحرق ظهر رقبته. لم يكن قد شاهد مثل تلك الشوارع التي بدت للعيان بعدما تجاوزا بوابات الجامعة، شوارعُ أسفلتية ناعمةٌ جدًّا حدَّ أن تاق خدُّه إلى مسّها. لن يكون بوسعه أبدًا أن يصفَ لشقيقته آنيوليكا كيف أن الأكواخَ هنا مطليةٌ بلون السماء وتقف متجاورةً مثل سادةٍ نبلاء متأنقي المظهر، ولا كيف أن سياجَ الأشجار بينها مشذبةٌ ومقصوصةٌ باستقامة عند قممها فبدت مثل طاولات مغطاة بأوراق الشجر.
كانت العمةُ تمشي أسرع، خُفُّها يطقطقُ سلاب-سلاب فيتردد صداه في الشارع الساكن. تساءل آجوو ما إذا كانت هي، أيضًا، تشعرُ بالقطران الذي يزداد سخونةً تحت القدم، من خلال نعليها الرقيقين. مرّا بعلامة، شارع أوديم، فنطق آجوو: "شارع"، كما اعتاد أن يفعل كلما شاهد كلمة إنجليزية غير طويلة. شمَّ رائحةً ذكيّة تُدوِّخ، وهما يدخلان المجاورةَ السكنية، فعرف أن الرائحةَ تفوحُ من تلك الزهور البيضاء التي تتدلى كعناقيدَ من شجيراتِ المدخل. شجيراتٌ تشبه تِلالاً نحيلةً. مروجٌ تتلألأ بالخضرة. وفراشاتٌ ترفُّ في الأعلى.
"أخبرتُ السيدَ أنكَ تتعلم بسرعة، أوسيزو-أوسيزو،" قالت عمته. أومأ آجوو مُجاملاً رغم إنها أخبرته بهذا عدة مرات، مثلما رددت حكاية الحظّ الحسن الذي طرق بابه أخيرًا: قبل أسبوع، حينما كانت تكنسُ الممرَّ في قسم الرياضيات، سمعتِ السيدَ يقول إنه بحاجة إلى خادم صغير يقوم بأعمال النظافة في البيت، وأجابته في الحال أن بوسعها المساعدة، قبل أن تتمكن موظفةُ الآلة الكاتبة أو ساعي مكتبه من عرض إحضار أحدٍ.
"سوف أتعلمُ سريعًا يا عمتي،" قال آجوو. كان يحدّقُ في السيارة بالمرآب؛ ثمة شريحةٌ معدنية تحيط بجسمها الأزرق مثل عقدٍِ بهيّ.
"تذكّرْ، العبارة التي ستجيب بها كلما يناديك السيد هي: نعم، يا صاح !"
"نعم، يا صاح!" ردّد آجوو.
كانا يقفان أمام الباب الزجاجيّ. تراجع آجوو قليلاً ليمسّ الحائط الأسمنتي، أراد أن يتحقق إلى أي مدى يختلف عن الجدار الطينيّ في كوخ أمه الذي مازالت عليه علامات الأصابع التي عجنته وشكّلته. للحظة عابرة، تمنى لو رجع إلى كوخ أمه، تحت برودة السقيفة المعتمة؛ أو إلى كوخ عمته، الوحيدة في القرية التي تمتلك سقفًا من الحديد المعرّج.
دقّت العمةُ على الزجاج. وكان بوسع آجوو أن يرى الستائر البيضاء وراء الباب. قال صوت بالإنجليزية: "نعم؟ ادخلْ."
خلعا نعليهما قبل الدخول. لم يكن آجوو قد رأى من قبل غرفةً بهذا الاتساع. وبرغم الأرائك البنيّة المرصوصة في نصف دائرة، والمناضد الجانبية فيما بينها، وبرغم الرفوف المكدسة بالكتب، وطاولة المنتصف التي فوقها مزهريةٌ بورودٍ بلاستيكيةٍ حمراءَ وبيضاء، إلا أن مزيدًا من الفراغ كان لا يزال بالغرفة. كان السيد يجلس على مقعد بمرفقين، بقميص داخليّ وبنطلون قصير. لم يكن معتدلاً في جلسته بل مائلٌ، وكتابٌ يغطي وجهَه، كما لو نسي أنه للتوّ قال لشخصين: ادخلا.
"مساء الخير يا صاح،! هذا هو الطفل،" قالت عمة آجوو.
نظر السيدُ إلى أعلى. بشرتُه قاتمةٌ جًّا، مثل قشرة شجرة عجوز، ولمع الشعرُ المغطِي صدرَه وساقيه بظلٍّ أكثرَ قتامةً. خلع نظارته: "الطفل؟".
"الصبيُّ الخادمُ يا صاح."
"أوه، نعم، أحضرتِه. أنا كبوتاجو يا ." كانت لهجةُ السيد الإيبو لها ملمسُ الريشِ في أذنيْ الصغير آجوو. لهجةٌ إفريقية ملوّنةٌ بظلال من الإنجليزية، لهجةُ تخصُّ رجلاً كثيرًا ما يتحدث الإنجليزية.
"سوف يعمل باجتهاد،" قالتِ العمةُ. "إنه ولدٌ طيب. فقط خبّره عما ينبغي أن يعمل. شكرًا يا صاح!"
نخرَ السيدُ بصوتٍ يشبه الموافقة، وهو يرمق آجوو وعمّته بانطباع يشي بعدم اهتمام، كما لو أن وجودهما قد أنساه شيئًا مهمًّا. ربتت العمة على كتف آجوو، هامسةً بأنْ يُحسنَ السلوك، ثم استداراتْ صوب الباب. بعدما غادرتْ، أعاد السيدُ نظارته وغرق في كتابه، مسترخيًا أكثر في وضعيته المائلة، وساقاه ممددتان إلى الأمام. حتى وهو يقلّبُ الصفحاتِ، كانت عيناه على الكتاب.
وقف آجوو جوار الباب، ينتظر. سقط ضوءُ الشمس داخل الغرفة عبر نوافذها مثل شلالٍ، ومن وقت لآخر، كانت نسمةٌ عذبةٌ ترفعُ الستائرَ. الغرفةُ صامتةٌ إلا من خشخشة صفحات كتاب السيد. وقف آجوو برهةً قبل أن يبدأ في التحرك ببطء أقرب وأقرب من المكتبة، كأنما ليختبئ فيها، وعندئذ، بعد برهة، غطس في الأرض، متوسّدًا حقيبتهَ الورقيةَ التي وضعها بين ركبتيه. نظر إلى السقف، لكَمْ هو عالٍ، لكم هو قاسي البياض! أغلق عينيه وحاول إعادة رسم الغرفة الشاسعة بأثاثها الأجنبيّ الغريب، لكنه لم يقدر. فتح عينيه، واستولى عليه عجبٌ جديد، فنظر حوله ليتأكد أن كلَّ هذا كان حقيقيًّا. وراح يفكر أنه سوف يجلس على هذه الأرائك، وسوف يلمّعُ هذه الأرضية الناعمةَ حدَّ الزلق، وسوف يغسلُ تلك الستائر المخملية الشفيفة.
"كيدو أفا جي؟" ما اسمك؟ سأل السيدُ بغتةً، فانتفض آجوو.
"ما اسمك؟" سأل السيدُ مجددًا واعتدلَ في جلسته. فملأ المقعدَ ذا المرفقين، شعرُه الغزيرُ منتصبٌ فوق رأسه، ذراعاه مفتولتان، كتفاه عريضتان؛ كان آجوو يتصوره رجلاً طاعناً في العمر، شخصاً سهلَ الانقياد ضعيفًا، والآن بدأ خوفٌ مفاجئ يغزوه لئلا يروقُ لهذا السيد الممتلئ بقوة الشباب وسطوتهم، سيدٌ كأنما فوق كلِّ احتياج.
"آجوو، صاح."
"آجوو. وجئت من أوبوكبا؟
"من أوبي، صاح."
"قد يكون عمرك أيًّا ما بين الاثني عشر عاماً والثلاثين." قال السيد ثم ضَيّق عينيه وأردف: "ربما في الثالثة عشرة." قالها بالإنجليزية.
"أجل صاح،"
عاد السيدُ إلى كتابه. ووقف آجوو هناك. تصفّح السيدُ عدةَ صفحاتٍ ثم نظر لأعلى. "نجوا، أذهبْ إلى المطبخ؛ بالتأكيد ستجد في الثلاجة شيئًا تأكله."
دخل آجوو المطبخَ بفضول، واضعًا قدمًا ببطء ورافعًا قدمًا. حينما رأى الشيء الأبيض، الذي يماثله طولاً تقريبًا، عرف أنها الثلاجة. عمتُه كانت أخبرته عنها. مخزنٌ بارد، قالت، يحفظ الطعامَ لئلا يفسد. فتحها ولهثَ حينما اندفع الهواءُ البارد وغمرَ وجهه. برتقالٌ، خبزٌ، بيرة، مشروباتٌ خفيفة وعصائرُ: أشياءُ كثيرةٌ في معلّبات وقنانٍ رُصّت فوق أرفف مختلفة و، وفي الأعلى، كانت هناك دجاجةٌ محمّرة تتألق، كاملةٌ إلا من فخذٍ واحد منزوع. مدَّ آجوو يديه ولمسَ الدجاجة. زفرتِ الثلاجةُ بقوة في أذنيه. لمسَ الدجاجةَ مرة أخرى ثم لعقَ أصابعه قبل أن ينزعَ الفخذَ الآخر، وراح يأكله حتى لم يبق في يده إلا شظايا ممصوصةٌ من العظام. بعد ذلك، كسر رغيفًا، وتناول قطعةً كبيرة مما تاق كثيرًا ليتشارك بها مع إخوته، إذا ما حدث وزارهم أحدُ الأقارب وأحضر معه رغيفًا على سبيل الهدية. كان يأكل على عجل قبل أن يدخلَ السيدُ ويغير رأيه. كان قد أنهى طعامه ووقف جوار الحوض، محاولاً أن يتذكر ما قالته عمته عن كيف يُفتح لكي نحصل على ماء متدفق مثل الينبوع، حينما دخل السيد. يرتدي قميصًا مطبوعًا وبنطالاً. أصابعُ قدميه، التي كانت تتلصص عبر الشبشب الجلديّ، بدت أنثويةً، ربما لأنها شديدة النظافة؛ ذاك أنها تنتمي لقدمين تعودتا أن تكونا داخل حذاء.
"ماذا هناك؟" سأل السيد.
"صاح؟" أشار آجوو إلى الحوض.
جاء السيد وأدار الصنبورَ المعدنيّ. "تفقدْ المنزل ثم ضعْ حقيبتك في أول غرفة بالدهليز. سأذهب لجولة، لكي أصفّي رأسي، آي نوجو؟"
"حسنٌ يا صاح." راقبه آجوو وهو يغادرُ الباب الخلفيّ.
لم يكن طويلاً. مشيته سريعة، مفعمةٌ بالطاقة، يشبه إيزياجو، المصارع حاملَ اللقب في قرية آجوو.
أغلق آجوو الصنبور، وفتحه من جديد، ثم أغلقه. فتْحٌ وغلْقٌ وفتحٌ وغلقٌ ثم راح يضحك من سِحْر الماءِ المتدفق والخبز والدجاجة التي ترقد الآن ساكنةً داخل معدته. مشى صوب غرفة المعيشة ثم دخل الدهليز. أكوامٌ من الكتب فوق الأرفف والطاولات في غرف النوم الثلاث، وفوق حرف البانيو، وفوق خزانات الحمّام، وفي المكتبة والمخزن كانت الأكوامُ من الأرضية إلى السقف، الجرائدُ القديمة مكدسةٌ جوار صناديق الكوكاكولا وكراتين البيرة ماركة بريميير. بعضُ الكتبِ مفتوحةٌ ومقلوبٌ وجهها للأسفل، كأنما السيد لم ينه قراءتها وسرعان ما تركها وذهب لكتب أخرى. حاول آجوو قراءة العناوين، لكن أغلبها كان طويلاً جدًّا، صعبًا جدًّا. الأساليبُ غيرُ القياسية. مسحُ الأراضي الإفريقية. سلسلةُ الوجود العظمي. الغزو النورماندي لانجلترا. مشى من غرفةٍ إلى غرفة على أطراف أصابعه، لأن قدميه كانتا قذرتين، وما أن فعل هذا حتى تزايد داخله التصميمُ على إرضاء السيد، لكي يبقى في هذا المنزل ذي اللحم والأرضيات الجميلة الباردة. كان يفحص التواليت، يمرر يده على المقعد البلاستيكي الأسود، حينما سمع صوتَ السيد.
"أين أنت يا رَجُلي الطيب؟" قال: يا رجلي الطيب، بالإنجليزية.
أسرع آجوو بالخروج إلى غرفة المعيشة. "نعم صاح!"
"ما هو اسمك ثانيةً؟"
"آجوو، صاح."
"أجل، آجوو. انظر هنا، نيي آنيا، هل تعرف ما هذا؟"
أشار السيد، فنظر آجوو إلى الصندوق المعدني ذي المسامير المخيفة.
"لا، يا صاح." قال آجوو.
"هذا راديو. جهاز جديد وممتاز. ليس مثل تلك الجراموفونات العتيقة التي عليك أن تديرها وتديرها. يجب أن تكون حريصًا في التعامل معه، حريصًا جدًّا. وألا تسمح للماء أن يمسّه."
"نعم يا صاح."
"سأخرج لألعبَ التنس، وبعدها سأذهب إلى نادي الأساتذة." التقطَ السيدُ بعضَ الكتب من فوق المنضدة. "قد أعودُ متأخرًا؟ لذلك رتّبْ حالك ونَلْ قسطًا من الراحة."
"نعم يا صاح."
بعدما شاهد السيدَ يغادرُ المبني ويختفي عن النظر، ذهب ووقف جوار الراديو وراح يتأمله مليًّا، دون أن يلمسه. ثم راح يزرع المنزل، يطلع وينزل، يمسُّ الكتبَ والستائرَ والأثاث والأطباق، وحينما زحف الظلام أضاء النورَ متعجبًا من معجزة البريق الذي تشعّه اللمبات المدلاة من السقف، وكيف أنها لا تلقي ظلالاً قاتمةً على الجداران مثلما تفعل لمباتُ زيت النخيل في بيته القديم. لابد أن أمه تعدُّ الآن وجبةَ المساء، تسحق الأكبو في الهاون، فتقبض بقوة على ذراع الهاون بكلتا يديها. تشيوكي، الزوجة الصغرى، بالتأكيد تحضّر الآن وعاءَ الحساء وتضبط اتزانه على الأحجار الثلاثة فوق النار. والأطفال لابد رجعوا من النهر يتصايحون ويتعاركون تحت شجرة الفاكهة. آنيوليكا تراقبهم ربما. فهي الطفلةُ الأكبر سنًّا في الأسرة الآن، وبينما يجلسون جميعهم حول النار ليأكلوا، سوف تثور ثائرتُها حين يتعاركَ الأطفالُ الأصغر على شرائح السمك المقدد في الحساء. ستنتظر حتى يؤكل الأكبو كله ثم تُقسّم السمكَ لينال كلُّ طفل قطعةً، وتأخذ القطعة الأكبر لنفسها، كما تفعل دائمًا.
فتح آجوو الثلاجة وأكل المزيد من الخبز والسمك، كان يكدّس الطعامَ في فمه بسرعة وقلبه يدق كما لو كان يركض؛ واستخرج مزيدًا من قطع اللحم وانتزع الأجنحة. دسَّ القطع داخل جيب سرواله قبل أن يذهب إلى غرفة النوم. سوف يحتفظ بها حتى تأتي عمته للزيارة ثم يسألها أن تعطيها لـ آنيوليكا. وربما سألها أن تعطي بعضها لـ نيسيناتشي أيضًا. ربما يجعلها هذا تنتبه إليه أخيرًا. لم يكن متأكدًا على أي نحو تمُتُّ نيسيناتشي إليه بصلة القربى، لكنه يعلم أنهما من نفس الـ يومانّا، ومن ثم مستحيلٌ أن يتزوجا. لكنه كان يتمنى أن تتوقف أمه عن الإشارة إلى نيسيناتشي بوصفها شقيقته، مردّدةً أشياءَ من قبيل: "من فضلك خذْ زيتَ النخيل هذا واذهب إلى ماما نيسيناتشي، وإن لم تجدها اتركه لأختك."
نيسيناتشي تكلمه دائمًا بصوت غامض، لا تركز عينيها عليه، كأنما حضوره لا يعنيها. أحيانًا تناديه بـ تشيجينا، اسم ابن خالته الذي لا يشبهه قط، وحين يقولُ لها: "بل أنا،" كانت تقول: "سامحني، أخي آجوو،" برسمية متناهية بما يشي بأنّ لا رغبةَ لها في المزيد من الحديث. مع هذا كان يحب أن يذهب إلي بيتها في مهام أسرية. كان ذلك فرصةً ليجدها منحنية فوق خشب النار تؤججه، أو تقطع أوراق الأجو من أجل قِدرة حساء أمها، أو حتى فقط تكون جالسة في الخارج تراقب أشقاءها الصغار، ودثارُها متهدل بما يكفيه ليرى قمةَ ثدييها. وقد بدءا في البروز، هذان النهدان الناهدان، وقتها كان يتساءل ما إذا كان ملمسهما هلاميًّا رطبًا أم جافًّا مثل تلك الفاكهة غير الناضجة في شجرة اليوبو. كم تمنى لو لم تكن آنيوليكا منبسطة الصدر هكذا- وتساءل ما الذي أخرّها في الوصول إلى ذلك، رغم أنها ونيسيناتشي من نفس العمر تقريبًا- لكي يتمكن من مسّ نهديها. كانت آنيوليكا بالتأكيد ستصفعُ يده على كل حال، وربما تصفع وجهه أيضًا، لكنه كان سيفعل ذلك بسرعة- يهصره ويجري- وبهذه الطريقة كان سيأخذ على الأقل فكرة ما، ويعرف ما الذي يتوقعه عندما في الأخير يمسُّ نهدي نيسيناتشي.
لكنه كان قلقًا لئلا يُتاح له مَسُّهُما أبدًا، ذاك أن عمَّها قد طلب إليها أن تذهب وتتعلم التجارة في كانو. كان عليها أن ترحل للشمال عند نهاية العام، حينما يبدأ آخرُ أطفال أمها، الذي كان عليها أن تحمله، في تعلّم المشي. أراد آجوو أن يفرح لها مثل بقية أفراد العائلة. ثمة ثروةٌ يمكن أن تُغتنم في الشمال؛ عرف ذلك من الناس الذين طلعوا الشمال للتجارة ثم عادوا إلى الوطن ليهدموا الأكواخَ ويبتنوا محلَّها منازلَ بأسقف حديدية مضلّعة. لكنه خاف أن ينظر إليها أحدُ هؤلاء الرجال ذوي الكروش، ثم أنه يعرفُ شخصًا بوسعه أن يجلب لأبيها نبيذَ النخيل ومن ثم فلن يكون بوسعه أبدًا أن يَمسَّ هذين النهدين. هذان الثديان كانا الصورةَ التي يحفظها في الليالي الكثيرة متمنيًا أن يمسسهما بنفسه، ببطء في البدء ثم بعنف حتى تنطلق أنّةُ عويلٍ تجعله يهرب. كان دائمًا يبدأ بوجهها، خديها الممتلئين وأسنانها ذات اللون العاجي، ثم يذهب في تَخَيّل ذراعيها تعانقانه، وجسدها منصهر في جسده. وفي الأخير سيجعل ثدييها يأخذان شكليهما؛ أحيانًا يكونان جامديْن، يغريانه بعضِّهما، وفي أحيان أخرى طريّين جدًّا حتى يخشى أنّ مجردَ تصوّر الهصر قد يؤلمها.
للحظة، قرر أن يفكر بها هذه الليلة. ثم عدَل عن قراره. ليس في أول لياليه في بيت السيد، ليس على هذا السرير الذي لا يشبه أبدا تلك الحصيرةَ المنسوجة يدويًّا من أوراق الرافيا. في الأول، دسَّ يديه في عمق نعومة الفراش النابضة. ثم فحص طبقات الملاءات فوقه، لا يعرف هل ينام فوقها أم يُقصيها جانبًا قبل النوم. أخيرًا ارتقى السرير واستلقى فوق طبقات الملاءات، كوّر جسدَه مثل عقدةٍ ضيّقة.
حَلُم بأن السيدَ يناديه- آجوو، رَجُلي الطيب!- وحين استيقظَ كان السيدُ يقف عند الباب، يرقبه. ربما لم يكن حُلمًا. تسلل من السرير ورمق في حَيْرةٍ النافذةَ بستائرها المسدلة. هل كان الوقت متأخرًا؟ هل خَدَعه السريرُ الوثيرُ فأغرقَ في النوم؟ كان عادة ما يصحو مع أول صَيحة ديك.
"صباح الخير يا صاح!"
"توجد هنا رائحةُ دجاج محمَّر."
"معذرة صاح."
"أين الدجاجة؟"
تحسّس آجوو بارتباك جيوبَ سرواله وأخرج قطعَ الدجاج.
"هل أهلُك يأكلون أثناء نومهم؟" سأل السيد. كان يلبس شيئًا مثل معطف امرأة ملفوفًا بغير اهتمام حول خصره.
"صاح؟"
"هل كنت ستأكل الدجاج في السرير؟"
"لا يا صاح؟"
"الطعامُ في غرفة الطعام وفي المطبخ."
"نعم، صاح."
استدار السيدُ ومضى. وقف آجوو في منتصف الغرفة يرتعد، ممسكًا ما يزال بقطع الدجاج في يده الممدودة للأمام. تمنى لو لم يكن عليه أن يمرَّ بغرفة الطعام لكي يذهب إلى المطبخ. في الأخير، أعاد الدجاج إلى جيبه، أخذ نفسًا عميقًا، ثم غادر الغرفة. كان السيدُ يجلسُ إلى طاولة الطعام، فنجانُ الشاي موضوعٌ أمامه فوق كومة كتب.
"هل تعرف مَن الذي قتل لومومبا ؟" قال السيد وهو يرفع وجهه عن المجلة. "إنهم الأمريكان والبلجيك. وليس لـ كاتانجا علاقةٌ بالأمر."
"نعم يا صاح،" قال آجوو. كان يودُّ أن يستمرَ السيدُ في الحديث، ليكون بوسعه الإنصاتُ إلى الصوت الجهوريّ، وإلى ذلك المزيج الموسيقيّ من جُمَل إيبوية مُطعّمة بكلمات إنجليزية.
"أنتَ خادمي الصغير،" قال السيد. "إذا ما أمرتُك أن تخرجَ وتضربَ بالعصا امرأةً تمشي في الشارع، وأنت من ثم أطعتَ وجرحتها جُرحًا داميًا في ساقها، مَنْ وقتها سيكون المسؤول عن الجُرح، أنتَ أم أنا؟"
حدّقَ آجوو في سيده، وراح يهز رأسه، متسائلاً ما إذا كان السيد يشير إلى قِطع الدجاج بطريقة ملتوية.
"لومومبا كان رئيسَ وزراء الكونغو. هل تعلم أين هي الكونغو؟" سأل السيد.
"لا، صاح."
نهض السيدُ مسرعًا ودخل المكتبة. خوفُ آجوو المرتبكُ جعل جفنيه ترتعدان. هل سيرسله السيدُ إلى بيته لأنه لا يتكلم الإنجليزية جيدًا، ولأنه أخفى الدجاجَ في جيبه طوال الليل، ولأنه لا يعرف تلك الأماكن الغريبة التي ذكرها السيد؟ عاد السيدُ ومعه قطعةٌ كبيرة من الورق فتحها وبسطها على مائدة الطعام، مُزيحًا الكتبَ والمجلات. أشار بقلمه. "هذا هو عالمُنا، مع أن الناس الذين رسموا هذه الخريطةَ قرروا أن يضعوا أرضَهم فوق أرضنا. لا فوقَ ولا تحتَ هناك، كما ترى." أمسك السيدُ الورقة وأعاد لفها بحيث لمس طرفُها الطرفَ الآخر، تاركًا فراغًا فيما بينهما. "عالمنا مستديرٌ كرويّ، لا بدايةَ له ولا نهايةَ. ني آنيا، هذه كلها مياه، البحارُ والمحيطات، وهنا أوروبا وهنا قارتنا، أفريقيا، والكونغو في منتصفها. في أقصى الأعلى هنا توجد نيجيريا، ونسوكا هنا، في الشرق الجنوبيّ؛ حيث نحن الآن." دقَّ بقلمه.
"نعم يا صاح."
"هل ذهبت إلى المدرسة؟"
"حتى الصفِّ الثاني، يا صاح. لكنني أتعلمُ كلَّ شيء بسرعة."
"الصفُّ الثاني؟ منذ متى؟"
"منذ عدة سنوات الآن، يا صاح. لكنني أتعلم كلَّ شيء بسرعة كبيرة!"
"وهل توقفتَ عن المدرسة؟"
"كَسَد محصولُ أبي، يا صاح."
أومأ السيد برأسه ببطء. "ولماذا لم يجد أبوك شخصًا يقترض منه رسومَ مدرستك؟"
"صاح؟"
"كان على أبيك أن يقترض!" زمجر السيدُ، ثم قال بالإنجليزية: "التعليم أوّلُ الأوليات! كيف نقاومُ الاستغلالَ إذا لم نمتلك أدواتِ إدراك الاستغلال؟"
"أجل يا صاح." أومأ آجوو بقوة. كان قد قرر أن يبدو يقظًا بقدر ما يستطيع، بسبب هذا البريق الشرس الذي بدا في عينيْ السيد.
"سوف أُدرجُك في المدرسة الابتدائية،" قال السيد، وهو مازال يدقُّ على قطعة الورق بقلمه.
كانت العمةُ قد أخبرت آجوو أنه إذا خدم جيدًّا لأعوام قليلة، فسوف يرسله السيد إلى مدرسة التجارة حيث يتعلم الآلة الكاتبة والاختزال. ذكرتِ المدرسةَ الابتدائية الخاصة بالأساتذة، لكن فقط لتخبره أنها من أجل أطفال المُعلمين، الذين يلبسون الزي الأزرق والجوارب البيضاء ذات الزخارف الكثيرة المزينة بشرائطَ حتى ليتعجب المرءُ كيف يُهدَرُ كل هذا الوقتُ لزخرفة مجرد جورب.
"نعم يا صاح،" قال. "شكرًا صاح."
"أتوقّع أن تكونَ الأكبرَ عمرًا في فصلك، مفترضٌ أن تكون في الصف الثالث الآن،" قال السيد. "والسبيل الوحيد لتكسب احترامَهم هو أن تكون الأفضل. هل تفهم؟"
"نعم يا صاح."
"اجلسْ يا رَجُلي الطيب."
"اختار آجوو المقعد الأبعد عن السيد، وعلى نحوٍ أخرقَ جلس وقدماه ملتصقان معًا. كان يفضل الوقوف.
"هناك إجابتان على الأشياء التي سوف يعلمونها لك عن وطنك: إجابةٌ حقيقة وإجابةٌ سوف تجيبُ بها لكي تنجح. يجب أن تقرأ الكتب لتتعلم الإجابتين كلتيهما. سوف أعطيك الكتبَ، كتبًا ممتازة." توقف السيدُ ليرتشفَ الشاي. "سوف يعلمونك أن رجلاً أبيضَ يُدعى مانجو بارك اكتشف نهرَ النيجر. هذا هُراء. فشعبُنا يصطاد من نهر النيجر منذ زمن بعيد قبل أن يولد الجدُّ الأكبرُ لمانجو بارك. لكنْ في الامتحان، اكتبْ أنه كان مانجو بارك."
"نعم يا صاح،" كان آجوو يتمنى لو لم يكن هذا المدعو مانجو بارك قد ضايق السيد هكذا.
"ألا يمكنك أن تقول شيئا آخر؟"
"صاح؟"
"غنِّ لي أغنيةً."
"صاح؟"
"غنّ أغنيةً. ما الأغاني التي تعرفها؟ غنِّ!" خلع السيد نظارته. حاجباه كانا مقطبين، وجادين. راح آجوو يغني أغنيةً قديمة تعلمها في حقل أبيه. قلبه يضربُ صدرَه بشدة فيؤلمه. "نزوجبو نزوجبو إنييمبا، إيني..."
في البدء كان يغني بصوت خفيض، لكن السيد راح يدق بقلمه على المنضدة ويقول "أعلى!" فرفع صوتَه، والسيد ما زال يقول "أعلى!" حتى راح يصرخ. وبعدما غنى مراتٍ ومرات لدقائق عدة، سأله السيدُ أن يتوقف. "حسنٌ، حسنٌ،" قال. "هل تستطيع عمل الشاي؟"
"لا، يا صاح. لكنني أتعلم سريعًا،" قال آجوو. كان الغناءُ قد حرّرَ شيئًا داخله، فأصبح يتنفس بسهولة وقلبه ما عاد يضربه. واقتنع أن السيد مجنون.
"آكلُ معظمَ الوقت في نادي هيئة التدريس. ربما يجب أن أجلبَ المزيد من الطعام للبيت بما أنك هنا."
"صاح، بوسعي أن أطهو."
"أتطهو؟"
"أومأ آجوو. كان قد أمضى مساءاتٍ كثيرةً يراقبُ أمَّه وهي تطهو. يشعلُ لها النارَ، أو يؤججُ الجمراتِ حين تخبو. كان يقشّر حبّات البطاطا والمنيهوت ويكسرها، وكم نفخ قشورَ الأرز ونقّاه، التقط السُّوسَ من الفول، وقشَّر البصل، وطحنَ الفلفل الأسود. وحين كانت أمه تمرض بالسعال كان يتمنى أنه يكون هو، وليس آنيوليكا، مَن يطهو. لم يخبر أحدًا بهذا أبدًا، ولا حتى آنيوليكا؛ فقد كانت تقول له إنه قضى وقتًا طويلاً بين نساء يطهون، وقد لن تنمو له لحيةٌ أبدًا لو استمر على ذلك.
"حسنٌ، بوسعك إذن أن تطهو طعامَك،" قال السيد. "اكتبْ قائمةً بما تحتاج إليه."
"حاضر يا صاح."
"قد لا تعرف كيف تذهب إلى السوق، أوَ تعرف؟ سوف أطلب إلى جومو أن يريك."
"جومو، يا صاح؟"
"جومو هو الذي يعتني بالحديقة. يأتي ثلاث مرات في الأسبوع. رجلٌ مرح، شاهدته مرّةً يتحدث إلى شجرة حَب الملوك." توقف السيد. "سوف يأتي غدًا، على أية حال."
بعدها، كتب آجوو قائمةً بصنوف الطعام ثم أعطاها السيد. حدّق السيد إلى القائمة برهةً. "خلطٌ عجيب،" قالها بالإنجليزية. "أعتقد أنهم سوف يعلمونك في المدرسة أن تستخدم المزيد من حروف العِلَّة."
لم يحب آجوو ذاك الملمحَ الساخر في وجه السيد. "نحتاجُ بعضَ الخشب يا صاح،" قال.
"خشب؟"
"لكتبك، يا صاح. حتى يمكنني أن أنظّمها."
"آه، نعم، أرفف. أظن بوسعنا أن نثبت المزيدَ من الأرفف في مكان ما، ربما في الدهليز. سوف أتحدث مع أحدهم في الورشة."
"أجل يا صاح."
"أودينيبو. نادِني أودينيبو."
شَخَصَ آجوو فيه بشكّ. "صاح؟"
"اسمي ليس صاح. نادني أودينيبو."
"نعم يا صاح."
"سوف يكون اسمي دائما هو أودينيبو. "سيدي" كلمة استبدادية. بوسعك أن تغدو غدا السيد."
"نعم يا صاح- أودينيبو."
كان آجوو بالحق يفضل صاح، تلك الطاقةُ الهشّة داخل الكلمة، وحينما أتى رجلان من الورشة بعد عدة أيام ليركّبوا الأرففَ في الدهليز، أخبرهم أن عليهما أن ينتظرا صاح حتى يعود إلى البيت؛ فهو لم يقدر أن يوقّع على الورقة البيضاء المطبوعة. قال "صاح" بفخر.
"إنه صبيٌّ من الخدم القرويين،" قال أحد الرجلين هامسًا، فنظر آجوو إلى وجه الرجل وتمتم يلعنه ويدعو عليه بأن يُصابَ بإسهال حادٍّ مدى الحياة هو وكلُّ ذُريّته. وبينما كان يُرتّب كتبَ السيد وعدَ نفسَه، بصوت عال، أن يتعلم كيف يوقّع نماذج الأوراق.
في الأسابيع التالية، الأسابيع التي فحص فيها كلَّ ركنٍ من أركان البيت، حيث اكتشف أن خلية نحل عشّشت في شجرة الجوز وأن الفراشات كانت تتلاقى في الفناء الأمامي حينما تكون الشمس في أوْجها، كان حريصًا كلَّ الحرص على تعلُّم إيقاع حياة السيد. كلَّ صباح يلتقط جريدتَي التايمز اليومية والرينيسانس اللتين يتركهما الموزّعُ خارج الباب، يطويهما ويضعهما على الطاولة جوار شاي السيد وخبزه. ويكون قد غسل السيارة الأوبل ريثما يُنهي السيدُ إفطارَه، وحينما يعود السيد من عمله، وفي أثناء قيلولته، ينظف السيارة مرة أخرى من الغبار قبل أن يمضي السيد إلى ملاعب التنس. يتحرك بسكون تام في الأيام التي يعتكف فيها السيد في المكتبة لساعات. حينما يخطو السيد في الدهليز متكلِّمًا بصوت عال، يجب أن يكون واثقًا أن الماء الساخن جاهزٌ للشاي. يجلو الأرضياتِ يوميًّا. ويمسحُ النوافذَ حتى تتلألأ تحت شمس الظهيرة، ويأخذ حذره للشقوق الدقيقة في بانيو الاستحمام، يجلو الأطباقَ الصغيرة التي قُدّمت فيها المكسراتُ لأصدقاء السيد. زائران على الأقل كلَّ يوم في غرفة المعيشة، الفونوغراف يشغّلُ على موسيقى خافتة تشبه الفلوت، خافتة جدًّا لدرجة أن يصلَ صوتُ الحديث والضحك وقرع الكؤوس إلى آجوو في المطبخ أو في الدهليز وهو يكوي ملابس السيد.
كان يودُّ أن يفعلَ المزيد، يودُّ أن يحقق كلَّ سبب يجعلُ السيدَ يُبقيه، لذلك كوى في أحد الأيام جوربَ السيد. لم تكن تبدو مكرمشة، تلك الجوارب السوداء المخططة، لكنه فكر أنها ستبدو مفرودةً أكثر بالكي. هسهست المكواةُ ولمّا رفعها وجد أن نصف الجوربَ قد التصق بها. تجمّد الصبيُّ. كان السيد عند مائدة الطعام، على وشك إنهاء إفطاره، وقد يأتي في أية لحظة الآن ليأخذ جوربه وحذاءه وكذا الملفات على الرفِّ ثم يمضي إلى عمله. أراد آجوو أن يُخفي الجوربَ تحت الكرسي ثم يرتقي الدرج بسرعة ليجلب جوربًا آخر، لكن ساقيه لم تقويا على الحركة. وقف هناك يحمل الجورب المحروق، وهو يعلم أن السيد سوف يضبطه هكذا.
"حرقتَ جوربي، أليس كذلك؟" سأل السيد. "أيها الجاهلُ الغبيّ."
" الجاهل الغبي" انسابت من فمه مثل الموسيقى.
"آسف يا صاح، آسف يا صاح!"
"أخبرتُك ألا تنادني بيا سيدي." التقطَ السيدُ الملفَّ من الرف. "لقد تأخرت."
"صاح؟ هل أحضر جوربًا آخر؟" سأل آجوو. لكن السيدَ كان بالفعل قد انتعل الحذاءَ، دون جورب، وأسرع للخارج. سمعه آجوو يديرُ السيارةَ ويتحركُ بعيدًا. شعرَ بصدره ثقيلاً، لم يعرف لماذا كوى الجوربَ، لماذا لم يكوِ ببساطة بدلةَ الصيد السفاري. إنها الأرواح الشريرة. الأرواح الشريرة جعلته يفعل هذا. إنها تختبئ في كل مكان وتترصد. حينما مرِضَ بالحمى، ومرّةً حين سقط من على الشجرة، مسحتْ أمُّه جسمَه بـ أوكيوما، وهي تتمتم: "سوف نهزمُها، لن نجعلَها تنتصر."
خرج إلى الفناء الأمامي، عَبَر الأحجار المرصوصة حول المرج الملوّن. الأرواحُ الشريرة لن تنتصر. لن يدعها تغلبه. كانت هناك بقعةُ أرضٍ مستديرةٌ في منتصف المرج غيرُ مزروعة بالعشب، كأنها جزيرةٌ في بحر أخضر، تنتصب بمنتصفها نخلةٌ نحيلة. لم يكن آجوو قد رأى من قبل نخلةً بهذا القِصََر، ولا واحدة تنتظمُ أوراقُها على هذا النحو المُتقن. لم تبدُ قويةً بما يكفي لحمل الثمار، لا تبدو مفيدةً، مثل معظم النباتات هنا. التقط حجرًا وألقاه في البقعة الخاوية. مساحةٌ كبيرة ومُهدرة. في قريته يَفلحُ الناسُ كلَّ بقعةٍ مهما كانت صغيرة خارج بيوتهم ويزرعون خضروات وأعشابًا مفيدة. لم تحتَج جدتُه إلى زراعة عشبها المفضَّل، آريجبي، لأنه كان ينمو شيطانيًّا في كل مكان. اعتادتْ أن تقولَ إن آريجبي يرقّق قلبَ الرجل. كانت الثانيةَ بين زوجاتٍ ثلاثٍ فلم تكن ذات مكانةٍ مميزة كأن تكون الأولى أو الأخيرة، ولذا كانت قبل أن تطلب من زوجها أي شيء تطهو له بطاطا متبّلة بعصيدة الآريجبي. ودائما ما كان يأتي بنتائج طيبة. ربما ينفع مع السيد.
تجوّل آجوو للبحث عن الآريجبي. بحثَ بين الزهور الحمراء، وأسفل شجرة الجوز ذات خلايا النحل المعششة في الأغصان، في شجرة الليمون التي تزحفُ على جزعها لأعلى وأسفل جيوشُ النمل الأسود. وشجر الببو التي ثمارُها الناضجة مُنقّطةٌ بثقوب مناقير الطيور. لكن الأرضَ كانت نظيفةً، بلا أعشاب؛ كان جومو يتقن عمله في انتزاع الأعشاب كلها، ولا شيءَ غير مسموح بوجوده كان موجودًا.
في لقائهما الأول، حيَّا آجوو جومو فأومأ الأخيرُ برأسه واستمر في العمل دون كلمة. كان رجلاً صغيرًا ذا جسد جاف وذابل أشعر آجوو أنه بحاجة إلى أن يُروَى أكثر من النباتات التي يدرسها الرجل بمنجله المعدني. أخيرًا، نظر جومو لآجوو، قائلاً: "آفا م بو جومو،" كأنما آجوو لا يعرف اسمه. "بعض الناس ينادونني كينياتّا، مثل اسم الرجل العظيم في كينيا. أنا قنّاص."
لم يعرف آجوو بما يجيب لأن جومو كان ينظر مباشرة في عينيه، كأنما يتوقع أن يسمع شيئًا مميزًا من آجوو.
"ما أنواع الحيوانات التي تقتلها؟" سأل آجوو. ابتسم جومو ابتسامة عريضة كأنما كان يتوقع السؤال الذي كان يريد بالضبط، ثم راح يتكلم عن الصيد الذي مارسه. جلس آجوو على الدرجات التي تُفضي إلى الفناء الخلفي ثم بدأ ينصت. منذ اليوم الأول، لم يصدق حكايات جومو- عن معاركه بيديه المجردتين مع نمر وعن قتْله قردًا بطلقة واحدة- لكنه أحب الاستماع إلى تلك الحكايا، وكان يؤجل غسيل ملابس السيد للأيام التي كان جومو يحضر فيها ليجلس في الخارج بينما يعمل جومو. كان جومو يتحرك بخطوات بطيئة محسوبة. تنقيبه الأرض، رِيّه، فلاحته، كلها بدت مليئة بحكمة جليلة. كان ينظر لأعلى في منتصف تشذيبه السياج ويقول: "هذا لحمٌ طيب،" ثم يمضي صوب حقيبته المصنوعة من جلد الماعز المعلقة خلف دراجته لينقّب عن منجنيقه. مرّة، ضرب يمامةً كانت تقف على شجيرة جوز بحجر صغير، ثم لفها في أوراق الشجر، ووضعها في حقيبته.
"لا تذهب إلى تلك الحقيبة إلا حينما أكون موجودًا،" أخبر آجوو. "فربما تجد رأسَ آدميٍّ بها."
ضحك آجوو لكنه لم يكن يشك كليّة في كلام جومو. تمنى كثيرًا لو أن جومو يأتي للعمل اليوم. كان جومو أفضل شخص يمكنه سؤاله بالفعل عن الآريجبي، ليسأله النصيحة عن كيف يسترضي السيد.
خرج من البيت، إلى الشارع، وتفقد النباتات على جانبي الطريق حتى رأى أوراق شجر مشعثة جوار جذر صنوبرة. لم يكن قد شمّ شيئًا حريفًا يشبه حدّة رائحة الآريجبي في الطعام الذي أحضره السيد معه من نادي هيئة التدريس؛ سوف يطهو به لحمًا بالخضروات ويقدمه للسيد مع بعض الأرز، وبعد ذلك يقرأ تميمته. "أرجوك لا تُعيدني إلى البيت يا صاح، سوف أعمل المزيد لأعوِّضَ الجوربَ المحترق. سوف أكسب مالاً لأدفع ثمنه." لا يعرف حقيقةً ما العمل الذي بوسعه أن يعمله ليكسب ثمن الجورب، لكنه خطط أن يخبر السيد بهذا على أية حال.
إذا رقّق الآريجبي قلب السيد، فسوف يزرع المزيد من هذا العشب في الفناء الخلفي. سوف يخبر السيد أن بوسعه الاعتناء بالحديقة حتى بداية المدرسة، بما أن المديرة قد أخبرت السيد أنه لا يمكنه أن يلتحق في منتصف العام. ربما كان قد أسرف في الأمل. ما الجدوى من التفكير في حديقة من الأعشاب إذا ما سأله السيد أن يرحل، إذا لم يسامحه السيد بشأن الجورب المحترق؟ دخل المطبخ سريعًا، وضع الآريجبي فوق طاولة العمل، وأحضر بعض الأرز.
بعد ساعات، شعرَ باضطرابٍ في مَعِدَتِه حين سمعَ سيارةَ السيد: صوتُ انسحاق الحصى ثم طنينُ الموتور قبل أن تتوقف في الجراج. وقف جوار إناء الخضر، يُقلِّب دائريًّا، قابضًا على المغرفة بنفس قوة التشنجات في معدته. هل سيطلب منه السيدُ الرحيل قبل أن يتمكن من إطعامه؟ وبمَ سيخبرُ أسرته؟
"مساء الخير يا صاح- أودينيبو،" قال، حتى قبل أن يدخل السيدُ المطبخ.
"أجل، أجل،" قال السيد. كان يحمل مجموعةً من الكتب فوق صدره بيدٍ، وبالأخرى يمسك حقيبته. اندفع آجوو لحمْل الكتب. "صاح؟ هل تأكل؟" سأله بالإنجليزية.
"آكل ماذا؟"
"تقلصات معدة آجوو ازدادت عنفًا. خشي أن تقفز من صدره وهو ينحني ليضع الكتب فوق طاولة الطعام. "خضارٌ باللحم، يا صاح."
"خضارٌ باللحم؟"
"نعم يا صاح. خضارٌ طيب جددًّا، يا صاح."
"سوف أتذوقُ بعضها إذًا."
"أجل يا صاح!"
"نادني أودينيبو!" قالها السيد على نحو خاطفٍ قبل أن يدخل ليأخذ حمّامَ الظهيرة.
بعدما قدم آجوو الطعام، وقف جوار باب المطبخ، يراقب السيد وهو يتناول الشوكة الأولى وبها الأرز والخضروات، ثم أخذ ثانيةً، ثم هتف، "ممتاز، يا رَجُلي."
ظهر آجوو من خلف الباب. "صاح؟ أستطيع أن أزرع الأعشاب في حديقة صغيرة. لكي أطهو المزيد من الخضروات مثل هذه."
"حديقة؟" توقف السيد ليرتشف بعض الماء ثم قلب صفحة الجريدة. "لا، لا، لا. الخارج هو إقليم جومو، والداخل هو إقليمك. تقسيم العمالة، يا رجلي الطيب. إذا احتجنا أعشابًا، سوف نسأل جومو أن يعتني بها." أحبَّ آجوو نبرةَ صوت "تقسيم العمالة، ورجلي الطيب"، اللتين نُطقتا بالإنجليزية.
"نعم يا صاح،" قال، رغم أنه كان بالفعل قد حدّد أية بقعة ستكون الأفضل لحديقة الأعشاب: بالقرب من "ربع الغلام" حيث لا يذهب السيد أبدًا. لم يستطع أن يستأمن جومو على حديقة الأعشاب وكان سيفلحها بنفسه حينما يكون السيد بالخارج، وبهذه الطريقة، سوف لن ينفد آريجبي أبدًا، عشب الغفران. ليس إلا في المساء حينما اكتشف آجوو أن السيد كان لابد قد نسي أمر الجورب المحترق قبل أن يعود إلى المنزل بكثير.
أدرك آجوو المزيد من الأشياء. لم يكن خادمًا عاديًا؛ ذاك أن خادم جارهم دكتور أوكيكي لم يكن ينام في سرير وفي غرفة، بل على أرضية المطبخ. والولد الخادم في نهاية الشارع الذي يذهب معه آجوو للسوق لا يقرر أبدًا أي طعام سيطهو، هو يطهو ما يؤمَر أن يطهوه. وليس لديهم أسياد أو سيدات يعطونهم كتبًا وهم يقولون: "هذا الكتاب ممتاز، ممتاز وحسب."
لم يفهم آجوو معظم الجُمل في الكتب، لكنه كان يتباهى بقراءتها. كما لم يفهم تمامًا أحاديث السيد وأصدقائه، لكنه كان ينصت على أية حال فسمع أن العالم ينبغي أن يفعل المزيد من أجل السُّود الذين قُتلوا في شاربيفيل ، وأن طائرة التجسس التي أُسقطت في روسيا كانت تخدم في السلاح الأمريكيّ، وأن ديجول تصرف على نحو أخرق في الجزائر، وأن الأمم المتحدة لن تقدر أبدًا على التخلص من تشومبي في كاتانجا. أحيانا كان السيد يقف ويرفع كأسه وصوته- "نخب هذا الأمريكي الأسود الذي قاد جامعة المسيسيبي!"، "نخب سيلان وأول امرأة تغدو رئيسة وزراء في العالم!"، "نخب كوبا التي ضربت الأمريكان في أرضهم!"- وكان آجوو يستمتع بقرع قناني البيرة مع الكؤوس، وقرع الكؤوس مع الكؤوس، وقرع القناني مع القناني.
يأتي المزيد من الأصدقاء في عطلات نهاية الأسبوع، وحينما يدخل آجوو ليقدم المشروبات كان السيد يقدمه لهم أحيانًا، بالإنجليزية طبعًا. "آجوو يساعدني في البيت. ولد ذكي جدًّا." ويستمر آجوو في فتح زجاجات البيرة والكوكا بصمت، بينما يشعر أن توهج الزهو يتسرب لأعلى من أطراف أصابع قدميه. كان يحب بالأخص أن يقدمه السيد للأجانب، مثل السيد جونسون، الذي أتى من الكاريبي ويتلعثم في الكلام، أو البروفيسور ليمان، الأمريكي الصارم الذي له عينان خضراوان لاذعتان في مثل لون ورقة شجر طازجة. ارتعب آجوو حين رآه للمرة الأولى لأنه كان يتصور أن الأرواح الشريرة وحدها هي التي لها عيونٌ في لون العشب الأخضر.
سرعان ما عرف الأصدقاء المعتادين فيحضر لهم مشروباتهم قبل أن يطلب منه السيد أن يفعل. كان هناك د.باتيل، الرجل الهندي الذي يشرب بيرة الجينا الذهبية مخلوطة بالكوكاكولا. يناديه السيد بـ دوك . وحينما يحضر آجوو جوز الكولا كان السيد يقول: "دوك، أنت تعرف أن جوز الكولا لا يفهمُ الإنجليزية،" ثم يمضي في مباركة جوز الكولا بلغة الإيبو. وكان د.باتيل يضحك في كل مرة، بسعادة غامرة، مائلاً للخلف على الأريكة، ومطوِّحًا ساقيه القصيرتين لأعلى كأنما هي نكتةٌ لم يسمعها من قبل. بعد أن يكسر السيدُ جوزةَ الكولا ثم يوزع الصحون الصغيرة، يأخذ د.باتيل نصيبه ويدسه في جيب قميصه؛ لم يره آجوو يأكل واحدة من قبل أبدًا.
كان هناك بروفيسور إيزيكا الطويلُ النحيفُ، بصوت أجش يتكلم كأنه يهمس. دائمًا يخلع نظارته ويمسكها في مواجهة الضوء كي يتأكد أن آجوو قد غسلها جيدًّا. وأحيانًا كان يحضر معه قنينة الجينز، وفي أحيان أخرى كان يطلب الشاي ثم يمضي في فحص إناء السكر وعلبة الحليب، متمتمًا: "قدرات البكتريا فائقةُ القوة."
وكان هناك أوكيوما، الذي كان يأتي أكثر ويمكث مدةً أطول. يبدو الأصغر سنًّا بينهم، يرتدي دائما شورت، وله شعر كثيف بفرق على جانب فيبدو شعره أعلى من شعر السيد. بدا مجعدًا وخشناً عكس شعر السيد، كأنما أوكيوما لا يحب تمشيطه. أوكيوما يشرب الفانتا. وكان في بعض الأمسيات يقرأ أشعاره حاملاً رزمة من الورق، ينظر آجوو عبر باب المطبخ ويرى كل الضيوف ينظرون إليه، ووجوههم نصف مجمدة، كأنما لا يجسرون على التنفس. بعد ذلك يصفق السيد ويقول بصوت عال: "هذا صوتُ جلينا الجديد!"، ويستمر التصفيق حتى يقول أوكيوما بحسم: "هذا يكفي!"
وكانت هناك الآنسة آديبايو، التي تشرب البراندي مثل السيد ولم تكن تشبه ما تخيله آجوو عن نساء الجامعة. كانت العمة قد أخبرته القليل عن نساء الجامعة. تعرف لأنها تعمل عاملةَ نظافة في كلية العلوم أثناء النهار، ونادلةً في نادي أعضاء هيئة التدريس في المساء؛ أيضًا، في بعض الأحيان، كان المحاضرون يدفعون لها مقابل أن تنظف بيوتهم. قالت له إن نساء الجامعة يحتفظن بصور لأيام دراستهن في بريطانيا وأمريكا في براويز فوق الرفوف. في الإفطار يأكلن بيضًا نصفَ مسلوق، حتى أن الصفار يتراقص في الطبق، يضعن باروكات شعر طويل مفرود، ويرتدين فساتين طويلة ماكسي تحتك بكواحلهن. وحكت له مرة عن زوجين في حفل كوكتيل، الرجل في بدلة أنيقة بلون الكريم، والسيدة في فستان أخضر. التفت كل الحضور ليشاهدهما يمشيان يدًا في يدٍ، وفجأة أطاحت الرياح بباروكة السيدة عن رأسها. كانت المرأةُ صلعاء. هن يستخدمن أمشاطًا ساخنة لفرد شعرهن، تقول العمة، لأنهن يردن أن يبدون مثل البيضاوات، رغم إن الأمشاط الساخنة تنتهي بحرق شعرهن تمامًا.
راح آجوو يتخيل المرأة الصلعاء: جميلةٌ لها أنفٌ عال، ليس مثل الأنوف المفلطحة المفطوسة التي اعتاد عليها. تخيل الهدوء، الرقّة، لنوع من النساء لهن عطسة، ضحكة، وطريقة حديث في نعومة ريشة الدجاجة الداخلية الملاصقة للجلد. لكن النساء اللواتي كن يزرن السيد، وأولئك اللواتي شاهدهن في السوبر ماركت والشوارع كن مختلفات. معظمهن يرتدين باروكات (القليلات منهن عقدن شعرهن في ضفائر أو عقصنه بحبال)، لكنهن لم يكن رقيقات. كن صاخبات. وأصخبهن كانت الآنسة آديبايو. لم تكن امرأة إيبو؛ خمن آجوو هذا من اسمها، حتى ولو لم يكن صادفها في السوق مع خادمتها الصغيرة وسمعهما تتحدثان بسرعة وعلى نحو غير مفهوم بلهجة اليوروبا. سألته يومها أن ينتظر كي توصله إلى البيت، لكنه شكرها وقال إنه مازالت أمامه أشياء باقية ليشتريها وسوف يأخذ تاكسي، رغم أنه كان قد أنهى تسوقه. لم يشأ أن يركب سيارتها، كما لم يحب صوتها الذي يعلو على صوت السيد في غرفة المعيشة، مُتحديّةً ومُجادلة. دائمًا ما كان يقاوم رغبته المُلحّة في أن يرفع صوته من وراء باب المطبخ ليقول لها اخرسي، سيما حين كانت تقول للسيد "يا سُفسطائي". لم يكن يعرف ما معنى كلمة سفسطائي، لكنه لم يحب أن تنادي السيد هكذا. ولا حتى أحب طريقة نظرها إلى السيد. وحتى حينما يتكلم شخص ما ويكون من المفترض أن تركز عليه النظر، كانت عيناها على السيد. في إحدى ليالي الأحد أسقط أوكيوما كأسه ودخل آجوو لينظف الشظايا التي سقطت على الأرض. أخذ وقتا في التنظيف. كان الحديث أوضح بالنسبة إليه من هنا وكان من اليسير تمييز ما يقوله البروفيسور إيزيكا. من المستحيل تمييز ما يقول من المطبخ.
"في الحقيقة يجب أن يكون لدينا حركةٌ أفريقية موسَّعة للرد على ما يحدث في الجنوب الأمريكيّ" قال البروفيسور إيزيكا.
قاطعه السيد. "تعرف، الحركة الأفريقية، الأفريكانيزم ، أصلا فكرة أوروبية."
"أنت تحيدُ عن الموضوع،" قال البروفيسور إيزيكا، وهز رأسه بطريقته المتعالية المعتادة.
"قد تكون فكرةً أوروبية،" قالت ميس آديبايو، "لكنْ في الصورة الأشمل، نحن كلنا من العِرْق نفسه."
"ما هي الصورةُ الأشمل؟" سأل السيد. "الصورةُ الأشمل للرجل الأبيض! ألا ترين أننا لسنا متشابهين تمامًا إلا بالنسبة للعيون البيضاء؟" لاحظ آجوو أن صوت السيد كان يعلو، ومع الجرعة الثالثة من البراندي بدأ يسير بكأسه، يميل للأمام حتى كان يجلس على الحرف الأمامي للمقعد. في عمق الليل، حينما كان السيد في فراشه، كان آجوو يجلس على نفس المقعد ذي المسندين متخيلاً نفسه يتحدث الإنجليزية بطلاقة، متحدثًا إلى ضيوف خياليين، مستخدمًا كلمات مثل: التحرير من الاستعمار، الحركة الأفريقية، مُقلِّدًا صوت السيد، ثم يتزحزح ويتزحزح حتى يغدو أيضًا على حافة المقعد.
"بالطبع كلنا متشابهون، جميعنا نقع تحت القمع الأبيض،" قالت الآنسة آديبايو بجفاء. "الحركة الأفريقية هي ببساطة الاستجابةُ الأكثرُ حساسيةً."
"بالطبع، بالطبع، لكن فكرتي هي أن الهويةَ الحقيقية الموثوق بها للأفارقة هي القِبَيلة،" قال السيد. "أنا لست نيجيريًّا لأن رجلاً أبيضَ خلق نيجيريا وأعطاني الهُوية. أنا أسْودُ لأن الرجلَ الأبيض شرّعَ أن يكون الأسودُ مختلفًا قدر الإمكان عن الأبيض الذي مثله. لكنني من إيبو قبل أن يأتي الرجلُ الأبيض."
زمجر البروفيسور إيزيكا وهز رأسه، وتقاطعت الساقان النحيفتان. "لكنك انتبهت أنك إيبو بسبب الرجل الأبيض. فكرة الحركة الإيبوية ذاتها جاءت فقط من أجل مواجهة السيطرة البيضاء. لابد أن ترى أن القبلية كما هي الآن منتجٌ استعماريّ كشعب وكعِرق." أعاد البروفيسور إيزيكا عقْد ساقيه.
"فكرة حركة الإيبو وُجدت من قَبل الرجل الأبيض بكثير!" هتف السيد. "اذهبوا واسألوا الأكبر سنًّا في قريتكم عن تاريخكم."
"المشكلة هي أن أودينيبو قِبليٌّ ميئوسٌ منه، لابد أن نحافظ عليه هادئًا،" قالت الآنسة آديبايو. ثم فعلتْ ما أفزع آجوو: نهضت ضاحكةً ومشت نحو السيد ثم ضغطت على شفتيه تُغلقهما. ووقفت هناك فيما بدا له وقتًا طويلاً، يدها على فمه. تخيل آجوو لعاب السيد الممزوج بالبراندي يمس أصابعها. تصلّب وهو يلملم شظايا الزجاج. وتمنى لو لم يبقَ السيدُ هكذا يهز رأسه كأنما كان الأمر كله دعابةً كبرى.
أصبحت الآنسة آديبايو بعد ذلك مصدرَ تهديد. بدأت تبدو أكثر فأكثر مثل خفاش الفاكهة، بوجهها الضئيل وبشرتها العَكِرة وفساتينها المطبوعة التي تتماوج حول جسدها مثل الأجنحة. كان آجوو يقدم شرابها آخرَ الضيوف ويقضي دقائقَ طويلةً في تجفيف يديه في فوطة الصحون قبل أن يفتح لها الباب لتدخل. كان قلقًا من أن تتزوج السيد وتُحضِر للبيت خادمتَها التي تتكلم اليوروبا فتدمر حوض أعشابه وتخبره عما يطهو وما لا يطهو. حتى سمع السيد وأوكيوما يتحدثان.
"لا يبدو عليها أنها تود الرجوع لبيتها اليوم،" قال أوكيوما. "نويوك م، هل أنت متأكد أنك لا تخطط أن تفعل معها شيئًا؟"
"لا تقل تُرهات."
"إذا فعلتَ لن يعرف أحدٌ في لندن."
"انظرْ، انظر"
"أعلم أنك غيرُ مهتمٍ بها، لكن الذي ما يزال يحيرني هو ما الذي يجذب تلك النساء إليك."
ضحك أوكيوما وارتاح آجوو. لم يكن يريد الآنسة آديبايو- أو أية امرأة- أن تأتي لتتطفل وتزعج حياتهما. في بعض الأمسيات، حينما يكون الزوار قد غادروا بالفعل، كان يجلس على أرضية غرفة المعيشة وينصت إلى السيد. كان السيد يتحدث معظم الوقت عن أشياء لا يفهمها آجوو، كأنما البراندي يجعله ينسى أن آجوو ليس أحد زواره. لكن هذا لا يهم. كل ما كان آجوو يحتاج إليه هو هذا الصوت العميق، النغم في الإنجليزية الممزوجة بالإيبوية، ووميض النظّارات السميكة.
كانت قد مضت أربعة شهور له مع السيد حينما أخبره: "سيدةٌ خاصة سوف تأتي في الويك اند. خاصة جدًّا. لابد أن تتأكد من نظافة البيت. وسوف أطلبُ الطعامَ من النادي."
"لكن يا صاح، بوسعي أن أطهو،" قال آجوو بنبرة حزينة.
"لقد عادت للتو من لندن، يا رجلي الطيب، وهي تُفضل الأرز بطريقة معينة. أرز مقلي، أعتقد، لستُ واثقًا أن بوسعك طهو شيء مناسب." استدار السيدُ ونظر بعيدًا.
"بوسعي عمل هذا يا صاح،" قال آجوو بسرعة، رغم أنه لا يعرف ما هو الأرز المقلي. "دعني أطهو الأرز، واجلبْ الدجاج من النادي."
"مفاوضةٌ بارعة،" قالها السيد بالإنجليزية. "حسنٌ، إذن. أنت تطهو الأرز."
"نعم يا صاح،" قال آجوو. بعد ذلك نظف الغرف ومسح الحمّام جيدًا، كما يفعل دائمًا، لكن السيد نظر وقال إنها لم تكن نظيفةً بما يكفي وخرج واشترى دورقًا آخر من مسحوق "فيم" وسأل، بحدّة، لماذا لم ينظف آجوو الفراغات بين البلاطات. نظفها آجوو ثانية. ظل يكشط الأرض حتى تساقطت قطراتُ العرق على جانبي وجهه، وحتى آلمته ذراعه. وفي أيام السبت وقف له بشيء من العداء بينما كان يطهو. لم يشكُ السيد من عمل آجوو من قبل. كلُّ هذا بسبب هذه المرأة، المرأة التي اعتبرها السيدُ أكثرَ خصوصيةً من أن يطهو لها. لأنها للتوّ عائدة من لندن.
حينما رنّ جرس الباب، تمتم يلعنها في سرّه بأن تتورم معدتها بأكل الغائط. سمع صوتَ السيد يعلو، منشرحًا على نحو طفوليّ، ثم أعقب ذلك صمت طويل، تخيل عناقهما، وجسدها القبيح يضغط جسد السيد. ثم سمع صوتها. ووقف ساكنًا. كان يظن أن إنجليزيةَ السيد لا أحد يضاهيها، لا البروفيسور إيزيكا الذي إنجليزيته بالكاد يسمعها المرء، ولا أوكيوما، الذي نطق الإنجليزية كأنما يتكلم إيبو، بنفس إيقاعها ووقفاتها، ولا باتيال الذي إنجليزيته مثل أغنية خافتة. ولا حتى الرجل الأبيض بروفيسور ليمان، الذي تخرج كلماته من أنفه باندفاع، لا يبدو في جلال السيد. إنجليزية السيد كانت موسيقا، لكن ما كان آجوو يستمع إليه الآن، من هذه المرأة، كان سِحرًا. ها هنا لسانٌ فائقٌ متعال، لغةٌ بيّنةٌ، نوع من الإنجليزية مثل الذي كان يستمع إليه في راديو السيد، ينساب بدقّة مقطعّة. ذكرّه بتقطيع البطاطا بسكين جديدة حادة، إتقان فائقٌ في كل شريحة.
"آجوو!" نادى السيد. "احضرْ الكوكا!"
خرج آجوو إلى غرفة المعيشة. رائحتها مثل جوز الهند. حياها، وخرجت منه "مساء الخير" مثل همهمة، وعيناه على الأرض.
"كيدو؟" سألتْ.
"أنا بخير يا ماه ." ما زال لا ينظر إليها. حينما فتح الزجاجة، ضحكت على شيء قاله السيد. وكان آجوو على وشك صبّ الكولا الباردة في كأسها حينما مسّت يده وقالت: "رابيوبا، لا تشغل بالك بذلك."
كانت يدها رطبة بعض الشيء. "نعم، ماه."
"أخبرني سيدك كيف أنك تعتني به جيدًّا، يا آجوو،" قالت. كلماتها الإيبو كانت أنعم من إنجليزيتها، وأحبطه كم تخرج الكلماتُ بسهولة من فمها. كان يتمنى أن تتعثر في نطق الإيبو؛ لم يكن يتوقع أن تتجاور إنجليزيةٌ متقنة هكذا مع إيبو متقنة بالقدر نفسه.
"نعم، يا ماه،" تمتم. عيناه كانتا ما تزالان مركزة على الأرض.
"ماذا طهوت لنا، يا رجلي الطيب؟" سأل السيد، كأنما لم يكن يعرف. كان يبدو أنيقًا على نحو مزعج.
"أجهّزُ السفرة الآن، صاح" قالها آجوو بالإنجليزية، ثم تمنى لو كان قد قال: سوف أجهز السُّفرة حالاً، لأنها تبدو أفضل، لأنها سوف تؤثر فيها أكثر. بينما كان يجهز المائدة، منع نفسه من اختلاس النظر لغرفة المعيشة، رغم أنه كان يسمع ضحكاتها وصوت السيد، بنبرته المتوترة الجديدة.
في الأخير نظر إليها وهي والسيد يجلسان إلى المائدة، وجهها البيضاوي كان ناعمًا مثل بيضة، له لون شهواني وفير يشبه لون الأرض المبللة بالمطر، عيناها واسعتان ومائلتان وبدت كأنما من المفترض ألا تمشي وألا تتكلم مثل الآخرين؛ يجب أن تكون في صندوق زجاجي مثل ذاك الذي في غرفة المكتبة، حيث الناس بوسعهم أن يبدوا إعجابهم بجسدها الغض ذي الانحناءات، لكنها سوف تبقى محفوظة من تلويث أصابعهم. شعرها طويل؛ كل ضفيرة مدلاة إلى عنقها كانت تنتهي بخصلة مزغبة ناعمة. كانت تبتسم بسهولة؛ أسنانها في نفس بياض عينيها. لم يدر كم مضى من الوقت وهو واقف يحدق فيها حتى قال السيد: "آجوو عادة يطهو أفضل من هذا بكثير. إنه يطهو خضارًا مدهشًا."
"إنه بلا طعم تمامًا، وهذا أفضل من الطعم الرديء، بالطبع،" قالت وابتسمت للسيد قبل أن تستدير لآجوو. "سوف أعلمك كيف تطهو الأرز جيدًّا، يا آجوو، دون استخدام كل هذا الزيت."
"نعم، ماه،" قال آجوو. كان قد اخترع ما تصور أنه الأرز المقلي، يحمّر الأرز في زيت الفول السوداني، وحداه نصفُ أملٍ أن هذا سوف يجعلهما يسرعان إلى التواليت. الآن، رغم ذلك، يريد أن يطهو وجبة متقنة، أرز الجولوف الشهي، أو خضاره المخصوص مع عشب آريجبي، لكي يريها كيف أنه يطهو جيدًّا. أجّل غسل الصحون حتى لا يطغى صوتُ الماء الجاري على صوتها. حينما قدّم لهما الشاي أخذ وقتًا في ترتيب البسكويت والأطباق لكي يتباطأ وينصتَ إليها، حتى قال السيد: "هكذا كل شيء على ما يرام، يا رجلي الطيب." اسمها أولانا. لكن السيد ذكره مرة واحدة؛ كان معظم الوقت يناديها نكيم، خاصتي . تكلما عن المعركة بين ساردونا ورئيس وزراء المنطقة الغربية، حينئذ ذكر السيد شيئًا حول الانتظار حتى تنتقل إلى نسوكا وأن المدة كلها أسابيع قليلة على كل حال. كتم آجوو أنفاسه لكي يتأكد أنه سمع بوضوح. السيد كان يضحك الآن ويقول: "لكننا سوف نعيش هنا معًا يا نكيم، وتستطيعين الاحتفاظ بشقة حي إلياس أيضًا."
كانت ستنتقل إلى نسوكا. كانت ستعيش في هذا البيت. ابتعد آجوو عن الباب وحملق في الإناء فوق الموقد. حياته سوف تتغير. سوف يتعلم طهو الأرز المقلي وسوف يستخدم زيتًا أقل ويأخذ أوامره منها. شعر بالحزن، لكن حزنه لم يكن كاملاً؛ كان مترقبًا وشغوفًا أيضًا، ثمة إثارة لم يفهمها أبدًا.
هذا المساء، كان يغسل ملابس السيد الكتانية في الفناء الخلفي، جوار شجرة الليمون، حينما رفع رأسه عن حوض الماء والصابون ورآها تقف عند الباب الخلفي تنظر إليه. أول الأمر كان واثقًا أن هذا من تخيلاته الخاصة، لأن الناس الذين يفكر فيهم أكثر يظهرون في خيالاته. طوال الوقت كانت له أحاديث تخيلية مع آنيوليكا، وأيضا بمجرد أن يلمس نفسه في الليل، كانت نيسيناتشي تظهر على نحو خاطف بابتسامة أسطورية على وجهها. لكن أولانّا كانت بالفعل عند الباب. راحت تمشي عبر الفناء صوبه. دثار فقط حول صدرها، وفيما كانت تمشي، تخيلها ثمرة جوز صفراء، جميلةً وناضجة.
"ماه؟ هل تريدين أي شيء؟" سألها. كان يعلم أنه لو وصل إليها ومس وجهها، سيكون ملمسه مثل الزبد، من ذلك النوع الذي يحضره السيد ويفض غلافه الورقي ثم يفرده على الخبز.
"دعني أساعدك في ذلك." وأشارت إلى ملاءة السريرة التي كان يشطفها، وببطء أخرج الملاءة يتقاطر منها الماء. أمسكت طرفًا منها ورجعت للخلف. "لفّ الطرفَ الذي معك بهذه الطريقة،" قالت.
لوى طرفَ الملاءة الذي معه يمينًا بينما هي لوت طرفها ليمينها، ثم نظرا إلى الماء المعصور وهو يتقاطر من الملاءة. كانت الملاءة زلقة.
"شكرا، ماه،" قال.
ابتسمت. ابتسامتها جعلته يشعر أنه يزداد طولاً. "أوه، انظرْ، شجرات الببو تلك، ثمراتها تقريبا نضجت. لوتيكوا، لا تنسَ أن تقطفها."
ثمة شيء مصقولٌ في صوتها؛ كانت تشبه الحجر الذي يرقد تمامًا تحت الينبوع المتفجر، سنوات وسنوات من الماء المندفع جعلته أملس، والنظر إليها كان يشبه اكتشاف ذلك الحجر، تنظر وأنت تعرف أن القليل جدًّا يشبهه. نظر إليها وهي تعود للداخل.
لم يكن يريد أن يشاركه أيُّ مخلوق في الاعتناء بالسيد، لم يُرد أن يختلَّ توازنُ حياته مع السيد، ومع هذا أصبح من غير المحتمل التفكير في عدم رؤيتها ثانية. فيما بعد، بعد الغداء، مشى على أطراف أصابعه إلى غرفة نوم السيد ووضع أذنه على الباب. كانت تأنُّ بصوت عال، أصواتٌ بدت لا تشبهها، أصواتٌ مُنفلتة ومثيرةٌ تخرج من الحلق. وقف هناك لوقت طويل، حتى سكن الأنين، وبعد ذلك عاد إلى غرفته.