راحت أولانّا تومئُ برأسها تناغمًا مع مقطوعة الموسيقا "الحياةُ العليا" في راديو السيارة. يدُها فوق فخذ أودينيبو؛ ترفعها كلما أرادَ أن ينقلَ ذراعَ الحركة، ثم تعيدها ثانيةً، وتضحكُ حين يغيظُها بأنها أفروديت المُحيّرة. بهجةٌ أن تجلسَ إلى جواره، ونوافذُ السيارة مفتوحةٌ والهواءُ مُشبَّعٌ بالغبار مع إيقاعات ريكس لاوسون الحالمة. كان لديه محاضرة سيلقيها خلال ساعتين، لكنه أصرَّ على توصيلها إلى مطار إنيوجو. ورغم أنها ادعّتِ الاعتراض، إلا أنها كانت تودُّه أن يفعل. حينما كانا يسيران عبر الطرق الضيقة التي تخترق هضبة ميليكين، حيث أخدودٌ عميق من جهة، وتلٌّ شديدُ الانحدار من الجهة الأخرى، لم تخبره أنه يقود بسرعة عالية بعض الشيء. ولم تنظر حتى إلى اللوحة المكتوبة على جانب الطريق بخط اليد في حروف خشنة: أنْ تصلَ متأخرًا أفضلُ من أنْ تصلَ مرحومًا .
حين اقتربا من المطار غمرها الإحباطُ من رؤية أجسام الطائرات الملساء وهي تشرعُ لأعلى. صفَّ سيارتَه أسفل المدخل وأحاط الحمّالون بالسيارة ينادون: "صاح؟ مدام؟ هل لديكما حقائب؟" لكن أولانا بالكاد كانت تسمعهم لأنه جذبها نحوه.
"لا أستطيعُ الانتظارَ يا نكيم،" قال وشفتاه تضغطان على شفتيها. مذاقُها مثل مَربّى البرتقال. ودّت أن تخبره أنها أيضًا لا تطيقُ صبرًا للسفر إلى نسوكا، لكنه يعلم ذلك على كل حال، كما أن لسانه كان في فمها، فشعرت بدفء جديد بين ساقيها.
أطلقت سيارةٌ نفيرَها. ونادى حمّالٌ: "ها، هذا المكان للتحميل، أوه! فقط للتحميل."
أخيرًا تركها أودينيبو تمضي ووثب من السيارة ليأخذ حقيبتها من الصندوق، ثم حملها لها حتى شباك التذاكر. "رحلة سعيدة، إيجي أوما،" قال.
"قُدْ بحذر،" قالت.
نظرتْ إليه وهو يبتعد، رجلٌ ذو بنية متينة، في بنطال كاكي وقميص قصير الأكمام يبدو مُحمّصًا من فرط الكي. يدفع ساقيه للأمام بثقة متعجرفة: مشيةُ شخصٍ لا يسأل عن الطريق واثقًا من أنه سوف يصل بطريقة ما. بعدما قاد سيارته مبتعدًا، أطرقتْ برأسها وتشممت نفسَها. كانت، على نحو خاطف، قد عطّرت نفسَها في الصباح بعطره "أولد سبايس" ، ولم تخبره كيلا يضحك. لن يفهم خرافةَ أن تأخذ نفحةً منه معها. كأنما العطر يقدرُ، لبرهة على الأقل، أن يخمدَ أسئلتها ويجعلها تشبهه قليلاً، يجعلها مطمئنةً قليلاً، وأقل تساؤلاً قليلاً.
استدارات لبائعة التذاكر وكتبت اسمَها على ورقة صغيرة. "مساء الخير. من فضلك، تذكرة ذهاب فقط إلى لاجوس."
"أوزوبيا؟" أشرق وجهُ موظفة التذاكر ذو البثور بابتسامة واسعة. "ابنة الشيخ أوزوبيا؟"
"نعم."
"أوه! حسنًا جدًا، مدام. سأطلب إلى الحمّال أن يأخذك إلى قاعة كبار الزوار." وتلفتتِ الموظفةُ حولها. "إكينّا! أين هذا الولد الأحمق؟ إيكيّنا!"
هزّت أولانا رأسها وابتسمت. "لا، لا داعي لذلك." وابتسمت مجددًا، مؤكدةً أنها لا تود الذهابَ إلى قاعة كبار الزوار.
كانت قاعة الانتظار العامة مزدحمة. جلست أولانا في مواجهة ثلاثة أطفال في ملابسَ رثّة وشباشبَ، كانوا يقهقهون على نحو متقطع بينما أبوهم يرمقهم بنظرات متجهمة. وامرأةٌ عجوز بوجهٍ متغضن كريه، جدتهم، تجلس جوار أولانا، وتقبض على حقيبتها فيما تدمدمُ لنفسها. كان بوسع أولانا شم رائحة عفونة ردائها؛ لابد أنه انتُزع من صندوق ثياب قديم لهذه المناسبة. حينما أعلن صوتٌ عن وصول رحلة الخطوط النيجيرية، قفز الأبُ لأعلى ثم عاد وجلس.
"لابد أنك تنتظرُ شخصًا ما." قالت أولانا بالإيبو.
"نعم، موانّي م، شقيقي قادمٌ من أعالي البحار بعد أربع سنوات من التعلّم هناك. "ثمة نبرةٌ ريفية قوية بلهجته الأويرية.
"إيه!" قالت أولانا. كانت تود أن تسأله من أين شقيقه كان قادمًا وماذا درس، لكنها لم تفعل. ربما هو نفسه لا يعلم.
استدارات الجدة لأولانا. "إنه أولُّ مَن سافرَ للخارج في قريتنا لاجي، وجهزت عشيرتُنا رقصةً من أجله. سوف تقابلنا فرقة الراقصين في إكيديورو." ابتسمتْ بفخر فبدت أسنانُها الصفراء. نبرتها الريفية كانت أقوى؛ ومن العسير استيعاب كل شيء قالته. "صديقاتي يشعرن بالغيرة، لكن هل خطأي أن أبناءهن يمتلكون عقولاً خاوية بينما ابني فاز بمنحة زمالة الأوروبيين البيض؟"
إعلانٌ عن وصول رحلة أخرى فهتف الأبُ: "شيري! إنها رحلته، إنها رحلته!"
نهض الأطفالُ فأمرهم أبوهم أن يجلسوا ثم وقف هو. وقبضتِ الجدةُ على حقيبتها إلى بطنها. شاهدتْ أولانا الطائرةَ تهبط. لمستِ الأرضَ، وبمجرد أن درجتْ في مهبط الطائرات، صرختِ الجدةُ وألقت بحقيبتها.
فزعتْ أولانا. "ماذا هناك؟ ماذا هناك؟"
"ماما!" قال الأب.
"لماذا لا تقف؟" سألتِ الجدةُ، وكلتا يديها معقودتان حول رأسها في يأس. "تشي م!" يا إلهي! ياللمصيبة!" إلى أين ستأخذ ابني الآن؟ هل خدعني الناس؟"
"ماما، سوف تقف،" قالت أولانا. هكذا تفعل الطائرةُ عند الهبوط. التقطتِ الحقيبةَ ووضعتْ يد الحقيبة القديمة المتصلب جلدها في يدها. "سوف تقف،" قالت ثانية.
لم تهدأ المرأةُ حتى توقفتِ الطائرةُ فأرسلت الجدة يدها وتمتمت بشيء حول هؤلاء الحمقى الذين أساءوا تصميم الطائرة. شاهدت أولانا العائلة تسرع نحو بوابة الوصول. وحينما مشت بعد دقائق نحو بوابتها الخاصة، نظرت للخلف ثانية آملةً أن تلمحَ هذا الابن العائد من وراء البحار. لكنها لم تفلح.
كانت رحلتها كثيرة المطبّات. الرجل الجالس جوارها كان يأكل زبد الكولا المُرّة، يمضغ بصوت عال، وحينما استدار لها ليتجاذب الحديث معها، أزاحت ببطء نفسها حتى التصقت بجدار الطائرة.
"يجب وحسب أن أخبرك أنكِ جميلة جدًّا،" قال.
ابتسمتْ وشكرته وأبقت عينيها على جريدتها. سوف يضحك أودينيبو حين تخبره عن هذا الرجل، بالطريقة نفسها التي يضحك بها دائمًا على معجبيها، بثقته المفرطة بالنفس. كان ذلك ما جذبها إليه أول مرة منذ عامين في أحد أيام يونيو في إبادان، ذلك اليوم الممطر الذي تدثر بألوان إندينجو الغسقية رغم أنها كانت الظهيرة. كانت عائدة للوطن من لندن في عطلتها. وكانت على علاقة حقيقية مع محمد. لم تلحظ أودينيبو أول الأمر، واقفًا أمامها في الصف خارج مسرح الجامعة ليشتري تذكرة. كان من الممكن ألا تلحظه أبدًا لو لم يقف وراءها رجلٌ أبيضُ ذو شعر فضي، ولو لم تُشر بائعةُ التذاكر للرجل الأبيض بأن يتقدم للأمام. "دعني أساعدك هنا يا سيدي،" قالت البائعةُ، بتلك النبرة الكوميدية المفتعلة "البيضاء" التي يحب غير المتعلمين افتعالَها.
انزعجت أولانا لكن ليس كثيرًا، لأنها تعلم أن الطابور يتحرك بسرعة في كل حال. لذا اندهشت من الثورة التي اندلعت من رجل يرتدي سفاري بُنيّ ويمسك كتابًا: أودينيبو. مشي للأمام، وأعاد الرجلَ الأبيض للطابور ثم صرخ في بائعة التذاكر. "أيتها الجاهلةُ التعسة! أترين الرجلَ الأبيض أفضلَ من قومك؟ يجب أن تقدمي اعتذارًا لكل شخص يقف في هذا الطابور! فورًا!."
حدقت أولانا فيه، في قوس حاجبيه وراء النظارة، في متانة جيده، وراحتْ تفكر في أقل الطرق إيلامًا لفكّ ارتباطها بمحمد. ربما أدركت أن أودينيبو كان مختلفًا. حتى ولو لم يتكلم، قَصّةُ شعره وحدها أنبأت بذلك، وقوفه في تلك الهالة العالية. لكن شيئًا بهيًّا لا تخطئه العين كان يميزه كذلك؛ لم يكن من هؤلاء الذين يتوسلون الضجيجَ ليثبتوا تطرّفهم. ابتسمت وقالت: "برافو!" وهو يمر من جوارها، وكان هذا هو التصرف الأكثر جرأة في حياتها، المرة الأولى التي تسعى للفت نظر رجل. وقف وقدم نفسَه لها. "اسمي أودينيبو."
"أنا أولانا،" قالت. وفيما بعد سوف تخبره أن ثمة سحرًا طقطق في الهواء، وهو سوف يخبرها أن رغبته في تلك اللحظة كانت حادة جدًّا حتى أن ما بين فخذيه قد آلمه.
حينما أحسّتْ أخيرًا بتلك الرغبة، كانت دهشتها لا توصف. لم تكن تعلم أن القوة الدافعة عند الرجل يمكن أن تتعطل بالذاكرة، حتى أنها من الممكن أن تتوازن في مكان لا يمكنها التفكير به أو تذكّره لكن فقط يمكنها أن تحسَّه. القوة والحدّة لم تَخْبُ بعد سنتين، ولا خففت دهشتُها من ثقته بالنفس ومبدئية أخلاقه. لكنها خشيت أن يكون ذلك بسبب أن علاقتهما كانت تتم على رشفات متقطعة: كانت تراه حينما تعود إلى الوطن في إجازاتها؛ يكتبان لبعضهما البعض؛ ويتكلمان في الهاتف. والآن وقد عادت إلى نيجيريا سوف يعيشان معًا، ولم تكن تعرف كيف أمكنه ألا يبدي بعض التردد. كان مُصّرًا تمامًا.
نظرت إلى الغيوم خارج نافذتها، تمرقُ سريعًا كثيفةً وضبابية، وبدت لها تلك الغيومُ هشّةً وقابلةً للكسر.
لم ترغب أولانا في تناول العشاء مع أبويها، خاصة بعدما دعوا الشيخ أوكونجي. لكن أمها دخلت غرفتها ورجتها أن تشاركهم؛ ليس كلَّ يوم يدعوان في بيتهم وزيرًا للمالية، وكان هذا العشاء مُهمًّا أكثرَ بسبب عقْدِ البناية الذي يريده أبوها. "بيكو، البسي شيئا جميلاً. كاينين سوف ترتدي أيضًا شيئًا مميزًا،" قالت أمها وأضافت، كأنما ذِكرها أختها التوأم يُشَرعن كلّ شيء.
الآن، تبسط أولانا فوطتها فوق ركبتيها وتبتسم للذي يقدم لها صحنًا به نصف ثمرة أفوكادو. زيُّه الأبيضُ كان مُنشًى وكذا بنطاله فبدا كأنما مصنوعٌ من الورق المقوى.
"أشكرك يا ماكسويل،" قالت.
"عفوًا يا خالة،" تمتم ماكسويل، وابتعد بصينيته.
نظرت أولانا إلى الطاولة. أبواها يركزان نظريهما على الشيخ أوكونجي، يومئان بحماس وهو يحكي قصةً عن اجتماع حديث مع رئيس الوزراء باليوا. كانت كاينين تنتظر صحنَها بتعبيرها العبوس، كأنما تسخر من الأفوكادو. لم يشكر ماكسويل أحدٌ منهم. تمنت أولانا لو أنهم فعلوا؛ مجرد شيء بسيط بوسعهم فعله ليعبروا عن تواضعهم مع الناس الذين يخدمونهم. اقترحت ذلك مرةً؛ فقال أبوها إنه يدفع لهم مرتبات مجزية، وقالت أمها إن شكرهم سوف يعطيهم مجالاً للتطاول، بينما كاينين، كالعادة، لم تقل شيئًا، فقط تعبيرٌ ضَجِر على وجهها.
"هذا أفضل أفوكادو أتذوقه منذ وقت طويل،" قال الرئيس أوكونجي.
"إنه من أحد مزارعنا،" قالت أمها. "تلك القريبة من آسابا."
"سأجعل الخادم يضع بعضًا منه في حقيبة من أجلك،" قال الأب.
"ممتاز،" قال الشيخ أوكونجي. "أولانا، آمل أن تكوني مستمتعة بصحنك، ايه؟ تحدقين فيه كأنما هو شيء يعض." ضحك، بقهقهة من القلب، وسرعان ما ضحك أبواها أيضًا.
"إنه لذيذ جدًّا." نظرت أولانا لأعلى. كان ثمة شيء لزج في ابتسامة الشيخ. الأسبوع الماضي، حينما دفع بطاقته عنوة في يدها في نادي إكويي، أقلقتها هذه الابتسامة لأن حركة شفتيه بدت كأنما تملأ فمه باللعاب الذي يهدد بأن يسيل على ذقنه.
"آمل أنكِ فكرت في المجيء ومشاركتنا في الوزارة يا أولانا. نحتاج عقولاً من الطراز الأول مثل عقلك،" قال الشيخ أوكونجي.
"كم شخصا يُمنح وظيفةً من وزير المالية شخصيًّا." قالت أمها، بينما أضاءت ابتسامتها وجهها البيضاوي المتقن ذا البشرة السوداء، وجه شديد التماثل، حتى أن صديقاتها ينادينها بـ "الفن".
خفضت أولانا ملعقتها في الصحن. "قررتُ أن أذهب إلى نسوكا. سأرحل خلال أسبوعين."
رأت الطريقة التي ضمَّ بها والدُها شفتيه. وتركت أمُّها يدَها مُعلّقةً في الهواء لبرهة، كأنما الخبر أكثرُ تراجيدية من أن يسمح لها بمواصلة رشِّ الملح. "ظننتُ أنكِ لم تقرري بعد،" قالت أمها.
"لا أستطيع أن أهدر المزيد من الوقت وإلا سوف يعطون المنحة لشخص آخر." قالت أولانا.
"نسوكا؟ هل هذا صحيح؟ هل قررتِ الانتقالَ إلى نسوكا؟" سأل الشيخ أوكونجي.
""نعم قدمتُ طلبًا لوظيفة مدربة في قسم علم النفس وحصلت عليها." قالت أولانا. هي تفضل الأفوكادو عادة دون ملح، لكنه بلا طعم اليوم، مثير للغثيان تقريبًا.
"أوه، إذن سوف تتركينا في لاجوس،" قال الشيخ أوكونجي. بدا وجهه كأنما يذوب، ويُطوَى على نفسه. ثم استدار وسأل، على نحو باشٍّ، "وماذا عنك يا كاينين؟"
نظرتْ كاينين في عينيه تمامًا، بتلك التحديقة الخاوية من أي تعبير، فارغة مسطحة، وعدائية تقريبًا.
" فعلاً ماذا عني؟" رفعت حاجبيها. "أنا أيضًا سوف أضعُ الدرجة التي حصلت عليها حديثًا في مكانها المناسب. سوف أنتقل إلى بورت هاركورت لأتابع أعمال أبي هناك."
تمنت أولانا لو تظل تحتفظ بتلك الإشراقات، اللحظات التي تقدر أن تخمن فيمَ تفكر كاينين. حينما كانتا في المدرسة الابتدائية، كانتا أحيانًا تنظران إلى بعضهما البعض وتضحكان، دون أن تتكلما، لأنهما فكرتا في نفس النكتة. تشكُّ أن كاينين مازالت تمتلك تلك الإشراقات الآن، منذ توقفتا عن الكلام معًا. لم تعودا تتكلمان حول أي شيء.
"إذن كاينين سوف تباشر مصنع الأسمنت؟" سأل الشيخ أوكونجي، ملتفتًا إلى والدها.
"ستشرفُ على كل شيء في الشرق، المصانعُ واستثماراتنا الجديدة في النفط. فلديها عينٌ ممتازة في الأعمال."
"مَن يقول إنك خسرت كونك أبًا لابنتين توأم هو كاذب،" قال الشيخ.
"كاينين ليست فقط مثل ابن ولد، بل بمثابة اثنين،" قال الأب. نظر إلى كاينين فنظرت بعيدًا، كأنما لا يعنيها الفخر في عينيه، وركزت أولانا نظرها في صحنها بسرعة لكيلا يلحظ أحدهما أنها ظلت تتأملهما. كان الصحن أنيقًا، لونه أخضر فاتح، في مثل لون الأفوكادو.
لماذا لا تأتون جميعكم إلى بيتي في عطلة نهاية الأسبوع، إيه؟" سأل الشيخ أوكونجي. "ولو حتى لتختبروا حساء السمك بالفلفل الذي يقدمه طاهيي الخاص. هو من نيمبي؛ ويعرف ماذا يصنع بالسمك الطازج."
قهقه والداها عاليًا. ولم تدرك أولانا ما هو المضحك، لكنها كانت نكتة السيد الوزير.
"يبدو هذا رائعًا،" قال أبوها.
"سيكون لطيفا أن نذهب قبل سفر أولانا إلى نسوكا،" قالت الأم.
شعرت أولانا بتوتر طفيف، شعور بأن بشرتها تشُكُّها. "كنت أودُّ أن أشارككم، لكنني لن أكون هنا هذا الويك اند."
"لن تكوني هنا؟" سأل أبوها. وتساءلت إذا ما كان تعبير عينيها أظهر إحباطَها. وتساءلت أيضًا كيف لأبويها أن يعدا الوزير بشيء يخصها في مقابل عقد. هل وعداه بوضوح، أم ضمنيًّا؟
"خططتُ للذهاب إلى كانو، لرؤية الخال مبيزي والعائلة، وأيضًا محمد،" قالت.
أطبق أبوها على الأفوكادو: "مفهوم."
رشفت أولانا الماء وصمتت.
انتقلوا بعد العشاء إلى البلكون لاحتساء الخمر. كانت أولانا تحبُّ هذا الطقس البعد-عشائي، وكانت تبتعد عن أبويها والضيوف لتقف عند الدرابزين المطل على المصابيح العالية التي تضيء الطريق بالأسفل، مشّعةٌ جدًا حتى أن حمام السباحة يبدو كأنه من الفضة وكذا شجرات الخبيزة والبوجاينفيلا المتسلقة تتمدد مصقولة مشعّةً بألوانها الحمراء والزهرية. في المرة الأولى والوحيدة التي زارها فيها أودينيبو في لاجوس، وقفا يتأملان حوض السباحة في الأسفل، وألقى أودينيبو سدادة قارورة من الفلين وظل يرقبها وهي تغطس في الماء. شرب الكثير من البراندي وحينما قال والدها إن فكرة تشييد جامعة نسوكا سخيفة، لأن نيجيريا لم تكن مستعدة لجامعة أهلية، وإن قبول دعم من جامعة أمريكية- بدلاً من جامعة حقيقية في بريطانيا- هو حماقة صريحة، رفع صوته للرد. ظنت أولانا أنه سيكتشف أن أباها يريد وحسب أن يغيظه ليريه أنه لم يعجب بمحاضِر كبير من نسوكا. ظنت أنه سوف يمرر كلمات أبيها. لكن هذا الصوت علا وعلا وهو يجادل قائلاً إن جامعة نسوكا حرّة من التأثير الاستعماري، وقد غمزته عدة مرات لتشير له بأن يتوقف، ولابد أنه لم يلحظ لأن البلكون كان معتمًا. وفي الأخير رن الهاتف وكان على الحديث أن ينتهي. النظرة في عيون أبويها كانت مزيجًا من الاحترام والحنق، استطاعت أولانا أن تدرك ذلك، لكن هذا لم يمنعهما من إخبارها أن أودينيبو مجنون ويسيء إليها، وأنه ليس إلا واحدًا من رجال الجامعة المتهورين الذين يتكلمون ويتكلمون حتى يصاب الجميع بالصداع دون أن يفهم أحدٌ شيئًا مما يقولون.
"يا لها من ليلة لطيفة،" قال الوزير من ورائها. استدارات أولانا. ولم تعرف متى دخل أبواها وكاينين وتركوها مع الشيخ وحدها.
"نعم،" قالت.
وقف أمامها الشيخ أوكونجي. كانت بدلته مطعمة بخيوط ذهبية حول العنق. نظرت إلى عنقه، تكسوه حلقاتٌ من الدهن، وتخيلته وهو يفكك الطبقات من حوله عند الاستحمام.
"ماذا عن الغد؟ هناك حفل كوكتيل في فندق إكوي،" قال. "أريدكم جميعًا أن تلتقوا ببعض المغتربين. هم يبحثون عن أرض وأستطيع أن أنسق لهم أن يشتروا من أبيك بخمسة أو ستة أضعاف السعر."
"غدًا عليَّ واجب خيري في كنيسة سانت فينسينت دي بول." اقترب الشيخ أوكونجي. "لا أقدر على إبعادك عن تفكيري." قال، وقد هبَّ رذاذُ الخمر واستقر فوق وجهه.
"معذرة لست أبادلك مشاعرك يا رئيس."
"أنا وحسب لا أقدر على عدم التفكير فيكِ،" قال ثانية. "انظري، ليس عليك العمل في الوزارة. أستطيع أن أجعلك تسافرين، تسافرين حيث تشائين، وسوف أؤثث لك شقة أينما أردتِ." جذبها إليه، ولبرهة لم تفعل أولانا شيئًا، ترنح جسدها نحوه. كانت معتادة على ذلك، أن يتحرش بها رجال يسيرون في سحابة مبللة من عطور مجهولة، يفترضون أنها ملكهم بما أنهم ذوو نفوذ ويجدونها جميلة. دفعته للخلف، أخيرًا، وشعرت بغثيان غامض لأن يديها غطستا في صدره الطري. "توقف عن ذلك يا رئيس."
أغمض عينيه. "أحبك، صدقيني. أنا بالفعل أحبك."
تسللت من حضنه ودلفت للداخل. صوت والديها كان خافتًا من غرفة المعيشة. وقبل أن تصعد إلى الأعلى توقفت لتستنشق الزهور الذابلة في مزهرية فوق طاولة جانبية جوار السلم، كأنما تعرف أن عطرها سوف يخبو. غرفتها كانت ذات سمت غربيّ، الخشبُ بدرجات لون دافئة، الأثاثُ المكسو بالجلد، السجادة الخمرية من الحائط للحائط تحتضن قدميها، الفراغات الواسعة التي جعلت كاينين تسمي غرفتيهما شققًا. نسخة جريدة "حياة لاجوس" كانت ما تزال فوق سريرها؛ التقطتها، ونظرت إلى صورتها مع أمها، في الصفحة الخامسة، وجهاهما كانا يسكوهما الرضا والإعجاب بالنفس، في حفل الكوكتيل الذي أقامه المبعوث السامي البريطاني. كانت أمها تجذبها نحوها بينما المصور يقترب؛ بعد ذلك، بعدما خبا ضوء الفلاش، نادت أولانا المصور ورجته ألا ينشر الصورة. نظر إليها باستغراب. الآن تدرك كم كان سخيفًا أن تطلب ذلك؛ بالطبع لم يكن أبدًا ليفهم عدم الارتياح الذي لازمها بسبب حياة أبويها البراقة.
كانت في سريرها تقرأ حينما طرقت أمُّها الباب ودخلت.
"أوه، تقرأين،" قالت الأم. كانت تحمل لفائفَ من القماش. "مضى الشيخ للتو. وقال إنني يجب أن أحييك."
ودّت أولانا أن تسألها ما إذا كانا قد وعداه بعلاقة معها، لكنها أدركت أنها أبدًا لن تقوى على السؤال. "ما هذه الأشياء؟"
"قبل أن يمضي أمرَ الشيخُ سائقَه أن يجلبها من السيارة. إنها أحدث تصميمات في أوروبا. انظري؟ جميلة جدًا، آي فوكوا؟"
تحسست أولانا القماش بين أصابعها. "نعم، جميلة جدًا."
"هل شاهدتِ ما كان يرتديه اليوم؟ أصلية! إيزيجبو!" جلست أمها جوارها. "وتعرفين، يقولون إنه لا يلبس الشيء مرتين أبدًا؟ يعطيها لخدمه بمجرد أن يلبسها."
تخيلت أولانا الصناديق الخشبية الخاصة بخدمه الفقراء ممتلئة بالمتنافر من الثياب، الخدم الذين هي واثقة أنهم لا يتقاضون الكثير كل شهر، وهم يمتلكون ملابس من صديريات وبدلات لن يلبسوها مطلقًا. كانت متعبة. الحديث مع أمها أتعبها.
"أي قطعة تريدين، نني؟ سوف أصنع لك ولكاينين تنورة طويلة وبلوزة."
"لا، لا تشغلي بالك يا ماما. اصنعي شيئًا لكِ أنت. أنا لن ألبس أقمشة غالية في نسوكا."
مررت الأم إصبعها على الكومود جوار السرير. "تلك الخادمة لا تنظف الأثاث جيدًّا. هل تظن أنني أدفع لها لكي تلعب؟"
وضعت أولانا كتابها جانبًا. أرادت أمها أن تقول شيئًا. تقدر أن تخمن ذلك، الابتسامة الساكنة، الإيماءات الرسمية، كانت مجرد بداية.
"وإذن كيف حال أودينيبو؟" سألت الأم أخيرًا.
"بخير."
تنهدت أمها، بتلك الطريقة المبالغ فيها التي تعني أنها تمنت أن تقول أولانا شيئًا. "هل تعتقدين أن سفرتك إلى نسوكا حركة موفقة؟ موفقة جدًا؟"
"لم أكن واثقة من شيء مثل هذا."
"لكن هل ستكونين مرتاحة هناك؟" نطقت أمها مرتاحة بكتفين متخاذلين، وابتسمت أولانا لأن أمها كانت تتصور بيت أودينيبو الجامعي التقليدي، بغرفه الخشنة وأثاثه البسيط وأرضيته العارية من السجاد.
"سأكون بخير،" قالت.
"تستطيعين أن تجدي عملاً هنا في لاجوس وتسافرين لترينه في عطلات نهاية الأسبوع."
"لا أود العمل في لاجوس. أريد العمل في الجامعة، وأريد العيش معه."
نظرت إليها الأمُ برهةً طويلة قليلاً قبل أن تنهض وتقول بصوت منخفض ومجروح: "تصبحين على خير يا ابنتي."
شخصت أولانا في الباب. كانت معتادةً على استنكار أمها؛ وهي على أي حال قد ساهمت في كل قراراتها الكبرى: حينما اختارت الحرمان أسبوعين بدلاً من الاعتذار لمعلمتها لإصرارها أن الدروس في برتينيكا كانت متناقضة؛ حينما شاركت في حركة الطلبة لاستقلال إبادان؛ حينما رفضت الزواج من ابن إجوي أكابو، وفيما بعد، ابن الشيخ أكارو. وما تزال، في كل وقت، ذلك الاستنكار يجعلها تود أن تعتذر، لتصلح الأمر على نحو ما.
كانت نائمة تقريبًا حينما طرقت كاينين الباب. "إذن سوف تمدين ساقيك لهذا الفيل في مقابل عقد بابا؟" قالت كاينين.
جلست أولانا في الفراش، مندهشة. لم تعد تذكر المرة الأخيرة التي دخلت فيها كاينين غرفتها.
"بابا حَرفيا جذبني خارج الفيراندا، حتى نتركك وحدك مع الوزير المهندم،" قالت كاينين. "فهل ستمنحين بابا العقد إذن؟"
"هو لم يقل. لكنه لن يخسر. بابا سوف يعطيه عشرة بالمائة مع هذا."
"العشرة بالمائة هي النسبة الثابتة، لكن الزيادة دائماً مفيدة. بقية المساهمين ربما ليس لديهم ابنة جميلة." مطّت كاينين الكلمة حتى بدت كأنها حلوى لزجة جمـ-ـيـ-لـة. كانت تقلب في نسخة "حياة لاجوس"، روبها الحريري معقود بقوة حول خصرها النحيل. "الميزة في أن تكوني الابنة غير الجميلة هو أن أحدًا لن يستخدمك كطُعْم جنسيّ."
صمتت كاينين لبرهة؛ بدا أنها مركزة انتباهها على مقالة في الجريدة. ثم نظرت لأعلى. "ريتشارد سيذهب إلى نسوكا أيضًا. تلقى منحة، وسوف يقوم بكتابة كتابه هناك."
"أوه، حسنٌ. هذا سيعني أنك ستمضين بعض الوقت في نسوكا؟"
تجاهلت كاينين السؤال. "ريتشارد لا يعرف أي إنسان في نسوكا لذا يمكنك أن تقدميه إلى حبيبك الثوريّ."
ابتسمت أولانا. "الحبيب الثوري"ّ. الكلمات التي يمكن أن تقولها كاينين بوجه مباشر! "سوف أقدمهما لبعضهما البعض،" قالت. لم تحب أولانا أبدًا أيًّا من أصدقاء كاينين الشباب كما لم ترتح أبدًا إلى أن كاينين كانت تواعد الكثير من الرجال البيض في إنجلترا. يوترها تنازلُهم المُقنّع الطفيف، وشرعيتهم الزائفة. لكنها لم تأخذ نفس رد الفعل تجاه ريتشارد تشرشل حينما دعته كاينين للعشاء. ربما لأنه لم يكن لديه ذلك الشعور بالتفوق، حين يظن الإنجليز أنهم يفهمون الأفارقةَ أكثر مما يفهم الأفارقةُ أنفسهم، وبدلاً من ذلك كان لديه عدم ثقة محببة بنفسه- تقريبًا خجل. أو ربما لأن أبويها تجاهلاه، لم يحتفيا به لأنه لم يكن يعرف أيًّا ممن يستحقون أن يُعرفوا.
"أعتقد أن ريتشارد سوف يعجبه بيت أودينيبو،" قالت أولانا. في المساء يشبه ناديًّا دبلوماسيًّا. أول الأمر كان يدعو أفارقةً لأن الجامعة ملأى بالأجانب، وكان يريد للأفارقة أن يحظوا بفرصة التشارك الاجتماعيّ فيما بينهم. في البدء كانت لقاءات بايوب BYOB ، لكنه الآن يسألهم أن يتشاركوا في دفع بعض المال، ثم يشتري كل أسبوع مشروبات ويلتقون في منزله" توقفت أولانا. كانت كاينين تنظر إليها نظرة باردة، كأنما خرقت قاعدتهما غير المنطوقة وتحاول أن تبدأ ثرثرة كسول.
استدارت كاينين نحو الباب. "متى ترحلين إلى كانو؟"
"غدا." كانت أولانا تود أن تبقى كاينين معها، تجلس على سريرها وتجذب وسادة على حجرها وتنم وتضحك طوال الليل.
"تصحبك السلامة، جي أوفيوما. انقلي تحياتي للعمة والعم في آريزي."
"سوف أفعل،" قالت أولانا، رغم أن كاينين كانت بالفعل قد غادرت وأغلقت الباب. أنصتت إلى خطوات كاينين على سجادة الردهة. ها هما الآن تعيشان في البيت نفسه من جديد بعدما عادتا من إنجلترا، وأدركت أولانا اتساع المساحة التي غدت بينهما. كاينين كانت دائمًا الطفلة المنسحبة، المراهقة الشكاءة، الفتاة، التي لأنها أبدا لم تحاول إسعاد والديها، تركت لأولانا هذا الواجب. لكنهما كانتا قريبتين من بعضهما رغم ذلك. اعتادتا أن تكونا صديقتين. وتساءلت متى تغير كل ذلك. قبل ذهابهما إلى إنجلترا، بالتأكيد، بما أنهما لم يكن لهما أبدا الأصدقاء أنفسهم في لندن. ربما كان ذلك أثناء سنوات المدرسة الثانوية في هيثجروف. ربما قبل ذلك حتى. لا شيء حدث- لا شجارات، لا حوادث معينة- كل ما هنالك أنهما انفصلتا، لكنها كانت كاينين التي وضعت نفسها بقوة في مكان قصيّ حتى أنهما لا يمكنهما الاقتراب معًا مجددًا.
اختارت أولانا ألا تطير إلى كانو. كانت تحب الجلوس جوار نافذة القطار لتشاهد الغابات الكثيفة وهي تنزاح جوارها، المسطحات المعشوشبة المنبسطة، الماشية وهي تؤرجح أذيالها بينما يرعاها بدو عاريو الصدور. حين وصلت كانو صدمها مجددًا كم هي مختلفة عن لاجوس، عن نسوكا، عن بلدتها الأم أوموناتشي، كم هو الشمال بوجه عام مختلفٌ عن الجنوب. هنا كانت الرمال ناعمة، رمادية، مُلوَّحة بالشمس، لا تشبه الأرض الحمراء الثقيلة في بلدتها؛ الأشجار مشذبة، لا تشبه الانفجار الأخضر المتدفق الذي يلقي بظلاله على الطريق إلى أوموناتشي. هنا، أميال من الأراضي المنبسطة تمتد وتمتد، تحثُّ العينَ على أن تلقي بمداها أبعد قليلاً، حتى تلتقي بالسماء البيضاء الفضية.
استقلّت تاكسي من محطة القطار وطلبت إلى السائق أن يتوقف عند السوق أولاً، حتى يمكنها أن تسلم على الخال مبيزي .
في طرقات السوق الضيقة، ناورت خطاها بين أولاد صغار يرفعون حمولات ضخمة فوق رؤوسهم، نساء تساوم الباعة، بائعين ينادون. محل التسجيلات كانت تنطلق منه موسيقى حية صاخبة، فأبطأت السير قليلاً كي تدندن مع أغنية بوبي بينسون "سائق التاكسي" قبل أن تسرع إلى كشك الخال. أرففه كانت مرصوصة بالدلاء وأدوات المنزل.
"أوماليشا!" قال حينما رآها. هكذا كان يدعو أمها أيضا- الجميلة. "كنتِ ببالي. كنت أعلم أنك ستأتين لزيارتنا قريبًا."
"خالي، مساء الخير."
"تعانقا. أراحت أولانا رأسها فوق كتفه؛ فاحت منه رائحة عرق، رائحة هواء السوق المفتوح، رائحة الأواني المنسقة فوق الأرفف الخشبية المغبرة.
كان من الصعب تخيل أن الخال مبيزي وأمها قد كبرا سويًّا، شقيق وشقيقة. ليس فقط بسبب أن وجه الخال ذا البشرة الفاتحة لا يحمل شيئًا من جمال أمها، بل لأن شيئًا من الترابية كان يشوبه. أحيانًا كانت أولانا تتساءل ما إذا كانت ستعجب به كما تفعل إذا لم يكن مختلفًا هكذا عن أمها.
كلما زارته، كان الخالُ يجلس معها في الفناء بعد العشاء ويخبرها بآخر أخبار العائلة: ابنة خالها غير المتزوجة كانت حاملاً، وكان يريدها أن تأتي لتعيش معه ليتجنب مكائد القرية؛ ابن الأخ مات هنا في كانو وكان يبحث عن أرخص الطرق ليعيد الجثمان إلى البلدة. أو كان يحكي لها عن الأحوال السياسية: ما الذي كان ينظمه اتحاد الإيبو، المعارضة، المناقشات. كانوا يعقدون الاجتماعات في هذا الفناء. جلست هناك عدة مرات، ومازالت تذكر اجتماعًا تكلم فيه رجال ونساء ثائرون حول مدارس الشمال التي لم تقبل أطفال الإيبو. نهض الخال مبيزي ودق الأرض بقدميه. "ندي آني! قومي! سوف نبني مدرستنا الخاصة! سوف نجمع أموالاً ونبني مدرسة تخصّنا!" بعد كلمته شاركت أولانا الجمعَ في التصفيق إعلانًا عن موافقتها، هاتفةً: "كلام جميل! هكذا يكون القول!" لكنها كانت قلقة لأن بناء مدرسة شيءٌ عسيرٌ. ربما الأكثر عمليةً هو محاولة إقناع الشماليين بقبول أطفال الإيبو.
لكنْ، الآن، بعد مرور سنوات قليلة، في التاكسي على طريق المطار، كانت تمر بمدرسة الإيبو الأساسية المتحدة. كان وقت الفسحة وفناء المدرسة مليء بالأطفال. الأولاد كانوا يلعبون كرة القدم في فرق مختلفة في الفناء نفسه، لذلك كانت هناك كرات كثيرة تطير في الهواء، وتساءلت أولانا كيف يميز كل فريق كرتَه الخاصة. ثم مجموعات من البنات بالقرب من الطريق يلعبن أوجا وسويل، يصفقن بإيقاع وهن يحجلن على ساق واحدة ثم على الأخرى. قبل أن يقف التاكسي خارج مجموعة البنايات في سابون جاري، رأت أولانا الخالة إيفيكا جالسة جوار كشكها على جانب الطريق. مسحت الخالة يديها في ثوبها واحتضنت أولانا، ثم رجعت إلى الوراء لتنظر إلى أولانا، ثم احتضنتها من جديد. "أولاناتنا!"
"خالتي! كيدو؟"
"أنا الآن بخير بعدما رأيتك."
"ألم تعد آريزي بعد من درس الخياطة؟"
"سوف تعود في أية لحظة الآن."
"كيف حالها؟" أو ما-أجاكوا؟ "هل يسير درس الخياطة جيدًا؟"
"البيت مليء بالباترونات التي قصتها."
"وماذا عن أودينتشيزو وإيكيني؟"
"هما هناك. زارانا الأسبوع الماضي وسألا عنك."
"وكيف تعاملهما ميدوجوري؟ هل هناك تجارة ما؟"
"لم يقولا إنهما يتضوران جوعًا،" قالت الخالة إيفيكا، باستهجان طفيف. فحصت أولانا الوجه الجامد وتمنت، في لحظة شعور بالذنب، أن تكون الخالة إيفيكا أمها. كانت الخالة إيفيكا مثل أمها، على أية حال، بما أن ثدييها هما اللتان أطعمتاها هي وكاينين حينما جفَّ ثديا أمها بعد مولدهما بوقت قصير. كاينين اعتادت أن تقول إن ثديي أمها لم يجفَّا أبدًا، لكنها أعطت طفلتيها لمُرضعة كيلا يتهدل ثدياها.
"تعالي، آدا آنيا،" قالت الخالة. "تعالي ندخل." سحبت مصراع الكشك الخشبي لأسفل، لتغطي البضاعة المرصوصة بعناية من علب الكبريت، واللبان، والحلوى، والسجائر، والمنظفات، ثم حملت حقيبة أولانا وقادتها داخل الفناء. كان الكوخ الضيق غير مطلي. والملابس التي ما تزال معلقة لتجف، نشفت، كأنما حمصتها شمس الظهيرة. إطارات سيارات قديمة، تلك التي يلعب بها الأطفال، كانت مكومة تحت شجرة الكيوكا. كانت أولانا تعلم أن الهدوء الساكن للفناء سوف يتبدد حالاً، حينما يعود الأطفال من المدرسة. العائلات سوف تترك الأبواب مشرعة والفيراندات والمطابخ سوف تصطخب بالثرثرة. أسرة الخال مبيزي تسكن في غرفتين. في الأولى كانت هناك أرائك بالية تُدفع في الليل على الجوانب لتجهيز الغرفة لفرش الحصير، أفرغت أولانا الأشياء التي أحضرتها- خبز، أحذية، قوارير زبد- بينما وقفت الخالة إيفيكا تراقبها ويداها خلف ظهرها. "دعي شخصًا آخر يفعل. ربما شخص آخر يفعلها عنك،" قالت الخالة.
"بعد ذلك بدقائق دخلت آريزي البيت فشدت أولانا نفسها لتقف بصلابة حتى لا يوقعها عناق آريزي.
"أختاه! كان يجب أن تُعْلمينا بحضورك! على الأقل كنا مسحنا الفناء على نحو أفضل! آه يا أختاه! آرو أماكاجي! تبدين جيدة! ثمة قصص أحكيها لك، أوه!"
كانت آريزي تضحك، فيهتز جسدها الممتلئ، وذراعاها المستديرتان. ضمتها بقوة. شعرت أولانا أن الأمور في موضعها، في الوضع الذي قصدوا أن تكون فيه، وأنهم حتى ولو تعثروا أحيانًا لبرهة، في النهاية سوف يعودون معًا من جديد. لهذا السبب ذهبت إلى كانو: هذا السلام الصافي. حينما بدأت عينا الخالة إيفيكا تدور في الفناء، عرفت أولانا أنها تبحث عن دجاجة مناسبة. كانت الخالة تذبح واحدة دائمًا حينما تزورهم، حتى ولو كانت آخر ما لديها، تخطر بمهل حول الفناء، ريشها معلّم بلون مرشوش أو ببقعتين من اللون الأحمر لتمييزها عن دجاجات الجيران، المربوط في أجنحتها قصاقيص من القماش بألوان مختلفة. لم تعد أولانا ترفض الدجاج، كما لم تعد تستنكر أن ينام الخال والخالة مبيزي على الحصير، جوار العديد من الأقارب الذين يبدو أنهم يقيمون لديهم، ليتركا لها سريرهما لتنام عليه.
مشت الخالة عَرَضًا نحو دجاجة بُنية، وبسرعة قبضت عليها، ثم ناولتها لآريزي لتذبحها في الفناء الخلفي. جلستا خارج المطبخ حتى تنتهي آريزي من نتفها ونفخت الخالة إيفيكا القشر من الأرز. كانت هناك جارة تطهو الذرة، وكلما كان الماء يفور ينسكب على الموقد فيهسهس اللهب. الأطفال يلعبون في الفناء الآن، يثيرون الغبار الأبيض، ويصرخون. واندلعت معركة تحت شجرة الكيوكا، وسمعت أولانا طفلاً يشتم آخر بالإيبو: "أمك عاهرة!"
بدأت الشمس في السماء تتحول إلى اللون الأحمر، قبل أن تبدأ في الهبوط، حينما عاد الخال مبيزي البيت. نادى على أولانا لتحيي صديقه عبد الملك. كانت قابلت رجل الهاوسا مرة من قبل؛ يبيع الشباشب الجلدية في السوق جوار كشك الخال مبيزي، كانت قد اشترت بعضها وأخذتها إلى إنجلترا لكنها لم ترتد أيًّا منها لأن وقتئذ كان منتصف الشتاء.
"أولاناتنا قد نالت للتو درجة الماجستير. درجة الماجستير في جامعة لندن! ليست يسيرة!" قال الخال مبيزي بفخر.
"برافو،" قال عبد الملك. ثم فتح حقيبته وأخرج زوجًا من الشباشب وحملها لها، تجعد وجهه الصغير بابتسامة، أسنانه مبقعة بجوز الكولا والتبغ وبأشياء أخرى لا تعرفها أولانا، بقع بمختلف
درجات الأصفر والبني. بدا كأنما هو الذي يتلقى هدية؛ بدا عليه ذلك التعبير على الناس الذين يشعرون أن التعليم معجزة، بتلك الثقة الهادئة التي أبدًا لم تكن هناك.
أخذت الشبشب بكلتا يديها. "شكرًا لك، عبد الملك. شكرًا لك."
أشار عبد الملك على القَرعة الناضجة على شجرة الكيوكا وقال: "تعالي إلى بيتنا. زوجتي تطهو حساء الكيوكا جميل جدًّا."
"أوه، سوف آتي، المرة القادمة،" قالت أولانا.
تمتم بمزيد من التهنئات قبل أن يجلس في الفيراندا مع الخال مبيزي، وسطل من قصب السكر أمامهما. قضما ورميا القشر الأخضر الجاف ثم مصَّا عصير اللب الأبيض، يتكلمان بالهاوسا ويضحكان. ويبصقان القصب الممصوص في التراب. جلست أولانا معهما برهة، لكن لهجتهما بالهاوسا كانت سريعة جدًّا، وأصعب من أن تُتابع. تمنت إن كانت أكثر طلاقة في الهاوسا واليوريوبا، مثل خالها وخالتها وأبناء خالها أيضًا، هو الشيء الذي تقايض به لغتيها الفرنسية واللاتينية.
في المطبخ، كانت آريزي تقطع الدجاجة والخالة إيفيكا تغسل الأرز. عرضت عليهما الشبشب الهدية ولبسته؛ الشرائط الحمراء المطوية جعلت قدميها تبدوان أنحف، وأكثر أنوثة.
"جميل جدًّا،" قالت الخالة. "سوف أشكره."
جلست أولانا على الكرسي القصير وتجنبت النظر إلى بيض الصراصير، كبسولات سوداء ناعمة، محشورة في كل أركان الطاولة. كانت جارة لهم تشعل نارًا بالأخشاب في أحد الأركان، ورغم الفتحات المائلة في السقف كان الدخان يملأ المطبخ.
"آي ماكاوا، أسرتها تأكل يوميًّا سمكًا مملحًا،" قالت آريزي، وهي تومئ صوب جارتهم بشفتين مضمومتين. "لا أدري ما إذا كان أطفالها التعساء يعرفون حتى طعم اللحم." ألقت آريزا رأسها إلى الوراء وضحكت.
اختلست أولانا النظر للمرأة. كانت من الإيجوا ولم تفهم لهجة آريزي الإيبو. "ربما يحبون السمك المملح،" قالت.
"أو دي إيجرو! يحبونه بالفعل! هل تعرفين كم هو رخيص هذا الشيء؟" كانت آريزي ما تزال تضحك وهي تتلفت للمرأة. "إبيبا، أخبرُ أختي الكبرى أن حساءك دائمًا له رائحة شهية."
توقفت المرأة عن النفخ في خشب النار وابتسمت، ابتسامة فاهمة، فتساءلت أولانا ما إذا كانت المرأة قد فهمت الإيبو لكنها اختارت أن تساير دعابة آريزي. كانت لآريزي نزعةٌ انفعالية مؤذية لكن مرحة تجعل الناس يغفرون لها.
"إذن يا أختاه سوف تنتقلين إلى نسوكا لتتزوجي أودينيبو؟" سألت آريزي.
"لا أدري عن الزواج بعد. أريد وحسب أن أكون بجواره، وأريد أن أُدرّس."
كانت عينا آريزي المستديرتان حائرتين ومعجبتين. "وحدهن النساء اللواتي قرأن كتبًا كثيرة مثلك يستطعن قول مثل هذا يا أختاه. إذا امرأةٌ مثلي ممن لا يعرفن الكتب انتظرت طويلاً جدًّا، ستنتهي صلاحيتها." توقفت آريزي وهي تزيل البيضة نصف الشفافة الباهتة من بطن الدجاجة. "أريد زوجًا اليوم وغدًا، أوه! زميلاتي كلهن غادرنني وذهبن إلى بيوت الأزواج."
"أنت صغيرة،" قالت أولانا. "يجب أن تركزي على الخياطة الآن."
"هل ستمنحني الخياطة طفلاً؟ حتى لو كنت أكملت المدرسة، كنت سأظل بحاجة إلى طفل."
"لا داعي للعجلة يا آري." تمنت أولانا لو تستطيع زحزحة الكرسي القصير جهة الباب، من أجل بعض الهواء النظيف. لكنها لم تشأ أن تدرك الخالة أو آريزي أو حتى الجارة أن الدخان يؤذي عينيها وحلقها أو أن مرأى بيض الصراصير يصيبها بالغثيان. ودّت أن تبدو معتادة على كل ذلك، على هذه الحياة.
"أعرف أنك ستتزوجين أودينيبو يا أختاه، لكن بأمانة لست واثقة أنني أريدك أن تتزوجي رجلاً من آبا. رجال الآبا دميمون، كاي! فقط لو كان محمد من إيبو، كنت آكل شعري إذا لم تتزوجيه. لم أر رجلاً أكثر منه وسامةً."
"أودينيبو ليس دميمًا. للوسامةِ أوجهٌ متعددة،" قالت أولانا.
مثل نسبية دمامة القرود، إينوي، قولي له ذلك لكي يشعر بارتياح، إن للوسامة أوجهًا متعددة."
"رجال الآبا ليسوا دميمين،" قالت الخالة إيفيكا. "عشيرتي من هناك على كل حال."
"وهل لا تشبه عشيرتُك القرود؟" قالت آريزي.
"اسمك الكامل هو آريزينديكوانيم، أليس كذلك؟ لقد انحدرتِ من عشيرة أمك. لذا ربما تشبهين القردَ أيضًا،" تمتمت الخالة.
ضحكت أولانا. "وإذن لماذا تقولين زواج-زواج؟ هل قابلتِ مَن راق لك؟ أم أبحث لك عن أشقاء محمد؟"
"لا، لا!" لوّحت آريزي بيديها في الهواء برعب مازح. "بابا يقتلني لو عرف أنني أنظر إلى رجل من الهاوسا."
"أبوك سوف يقتل جثمانًا، لأنني سأبدأ بقتلك أولاً،" قالت الخالة، ونهضت بوعاء الأرز المغسول.
"هناك شخص يا أختاه،" اقتربت آريزي من أولانا. "لكنني لست واثقة إذا كان انتبه إليّ، أوه."
"لماذا تهمسان؟" سألت الخالة إيفيكا.
"هل أتحدثُ إليكِ؟ ألا ترينني أتحدثُ إلى أختي الكبرى؟" سألت آريزي أمَّها. لكنها رفعت صوتها كأنما تكمل. "اسمه ناكوانزي وهو من الجوار، من أوجيدي. يعمل في خطوط السكك الحديدية. لكنه لم يخبرني بأي شيء. لا أعرف إن كان يهتم بي بما يكفي."
"إذا كان لا ينظر إليك بما يكفي، فلابد لديه مشكلةٌ في عينيه." قالت الخالة إيفيكا.
"هل رأيتم يا ناس هذه المرأة؟ أليس بوسعي التحدث مع أختي الكبرى في سلام؟" أدارت آريزي عينيها، لكن كان واضحًا أنها ابتهجت، وربما استغلت هذه الفرصة لتخبر أمها عن ناكوانزي.
في هذه الليلة، وبينما أولانا ترقد على فراش الخال والخالة، نظرت آريزي عبر ستارة رقيقة مُعلّقة على حبل مُدلى من مساميرَ على الحائط. لم يكن الحبل مشدودًا، فكانت الستارة مرخيةً من المنتصف. شاهدت حركة علو الصدر وانخفاضه المصاحب لتنفس آريزي وتخيلت ما الذي يحدث؛ أن آريزي وشقيقاها، أودينتشيزو وإيكيني، يرون أبوهم عبر الستارة، يسمعون الصوت الذي ربما يحمل ألمًا مخيفًا لطفل، فيما فخذا أبيهم يتحركان وذراعا أمهم تقبضان عليهما. لم تسمع أبدًا أبويها وهما يتضاجعان، ولا حتى لمحت أيَّ إشارة أنهما فعلا. لأنها كانت دائمًا مفصولة عنهما بردهات تزداد طولاً وكثافةً للسجاجيد كلما انتقلوا من بيت إلى بيت. حينما انتقلوا إلى بيتهم الحالي، بغرفه العشر، اختار أبواها لأول مرة غرفتي نوم مختلفتين. "أحتاجُ إلى خزانة ثياب بأكملها، سيكون لطيفًا أن يزورَني أبوكِ!" قالت أمها. لكن ضحكة البنات التي أطلقتها أمُّها لم تقنع أولانا. التصنّع في علاقة أبويها كان مخجلاً أكثر حينما تكون هنا في كانو.
كانت النافذة فوقها مشرعة، هواء الليل الساكن محمّل بكثافة بروائح بالوعات الصرف الصحي خلف البيت، حيث يفرغ الناس دلاءَ مراحيضهم. وسرعان وصل مسمعها الثرثرة المكتومة لرجال البلدية الليليين وهم ينظفون البالوعات؛ سقطت في النوم وهي تسمع خربشات معاويلهم فيما يعملون، تحت حجاب الليل.
لم يتحرك الشحاذون خارج بوابات بيت عائلة محمد حين رأوا أولانا، ظلوا جالسين على الأرض، متكئين على حوائط البنايات الطينية. الذباب يجثم فوقهم في أسراب كثيفة، حتى بدت صديرياتهم المهترئة البيضاء مبقعةً بلطخ سوداء. أرادت أولانا أن تضع بعض المال في أوعيتهم ثم قررت ألا تفعل. لو كانت رجلاً كانوا سينادونها ويمدون للأمام أوعية الشحاذة، فتطير سُحبُ الذباب تطنُّ في الهواء.
تعرف عليها أحد البوابين ففتح البوابة. "أهلا مدام."
"شكرا يا سول. كيف حالك؟"
"تذكرين اسمي يا سيدتي!" أشرقَ وجهُه. "شكرا لك سيدتي. أنا بخير يا مدام."
"وأسرتك؟"
"بخير سيدتي، بمشيئة الله."
"هل عاد سيدك من أمريكا؟"
"نعم سيدتي. تفضلي. سوف أرسل من يناديه."
كانت سيارة محمد الاسبور الحمراء مصفوفةً أمام الفناء الرمليّ الممتد، لكن ما جذب انتباه أولانا كان المنزل: تلك البساطةُ الرشيقة للسطح المستوي. جلست في الفيراندا.
"أجمل المفاجآت!"
رفعت بصرها وكان محمد هناك، في صديرية بيضاء، يبتسم لها. كان لشفتيه استدارة شهوانية، الشفة التي قبلتها مرة في تلك الأيام حينما كانت تقضي معظم عطلات نهاية الأسبوع في كانو، تأكل الأرز بأصابعها في بيته، وتشاهده وهو يلعب البولو في نادي الطيران، ويقرأ عليها أشعاره الرديئة التي يكتبها فيها.
"تبدو بخير،" أخبرته وهما يتعانقان. "لم أكن واثقة أنك عدت من أمريكا."
"خططت أن آتي إلى لاجوس لأراك." رجع محمد إلى الوراء ينظر إليها. كان ثمة انحناء في رأسه، وضيق في عينيه، بما يعني أن أملاً خبيئًا مازال لديه.
"سوف أرحل إلى نسوكا،" قالت.
"إذن سوف تصبحين أخيرًا مثقفة وتتزوجين محاضِرك."
"مَن تكلم عن الزواج؟ وكيف حال جانيت؟ هل اسمها جانيت؟ فأنا أخلط بين نسائك الأمريكيات."
رفع محمد أحد حاجبيه، ولم تقاوم إعجابها ببشرته التي في لون الكارميل. كانت دائما تغيظه بكونه أجمل منها.
"ماذا فعلتِ بشعرك؟ سألها. "لا يناسبك هذا مطلقًا. أهكذا يريدك مُحاضر الجامعة، مثل المرأة الشجرة؟"
لمست أولانا شعرها، المضفر حديثًا بحبال سوداء.
"خالتي عملته لي. أحبه هكذا كثيرًا."
"أنا لم أحبه. أفضل باروكاتك." اقترب محمد واحتضنها ثانية. حينما أحست بذراعيه تضيقان حولها، دفعته بعيدًا.
"لن تتركيني أقبلك."
"لا،" قالت، رغم انه لم يكن سؤالاً. "لم تخبرني عن جانيت-جان."
"جان. هذا يعني إذًا أنني لن أراكِ مجددًا حين تسافرين نسوكا."
"بالتأكيد سوف أراك."
"أعرف أن محاضر الجامعة خاصتك مجنون، لذا لن آتي إلى نسوكا." ضحك محمد. جسده الطويل النحيل وأصابعه الفتيلية وشت بهشاشته، برقته. "هل تريدين مشروبًا خفيفًا؟ أم بعض النبيذ؟"
"لديك خمور في هذا البيت؟ لابد أن يخبر أحدهم عمَّك عن ذلك،" قالت أولانا تمازحه.
دق محمد الجرسَ وسأل الخادمَ أن يحضر بعض المشروبات. بعد ذلك، راح يفكر ويحكُّ إبهامَه في سبابتِه. "أحيانًا أشعر أن حياتي ماضيةٌ إلى لا مكان. أسافرُ وأركبُ سياراتٍ مستوردة، وتتبعني النساء. لكن هناك شيئًا مفقودًا، شيء ما ليس مضبوطًا. أتعرفين؟" كانت تنظر إليه؛ وتعرف إلامَ يرمي بذلك. لكن عندما قال: "أتمنى ألا تتغير الأشياء،" شعرت بأن شيئًا ما يمسُّها، يغازلها.
"سوف تجد امرأةً مناسبة،" قالت بلين.
"هراء،" قال، وفيما يجلسان جوار بعضهما يشربان الكوكا، استعاد الألم في وجهه الذي يتعمق فقط حينما تخبره أن عليها أن تنهي الأمر فورًا لأنها لا تريد ألا تكون مخلصة له. كانت تتوقع أن يقاوم، هي تعرف جيدًّا إلى أي مدى يحبها، لكنها صُدمت حينما اخبرها أن تمضي فورًا وتنام مع أودينيبو مادامت لم تتركه: محمد، الذي غالبًا ما كان يمزح قليلاً من كونه سليل مجاهدين مقدسين، التجسيد الكامل للذكورة الصافية. ربما لهذا كانت عاطفتها نحوه ممزوجة بالامتنان، الامتنان الأنانيّ. كان بوسعه أن يجعل انفصالهما أكثر صعوبة عليها؛ كان يقدر أن يتركها لتشعر بتأنيب الضمير كثيرًا.
وضعت كأسها. "هيا نخرج بالسيارة. أكره أن أزور كانو وأجلس فقط لأشاهد الأسمنت القبيح وحوائط السابون جاري. أود أن أرى تمثال الطمي العتيق وأدور من جديد حول حوائط المدينة الجميلة."
"أحيانًا تشبهين الناس البيض، طريقتهم البلهاء في التحديق بالأشياء."
"صحيح؟"
"إنها دعابة. كيف ستتعلمين ألا تأخذي كل شيء بجدية إذا ما عشتِ مع ذلك البروفيسور المجنون؟" نهض محمد. "تعالي، يجب أولاً أن نمر بأمي لتحييها."
حينما تجاوزا بوابة صغيرة في الخلف ثم ولجا الفناء الذي يؤدي إلى غرفة أمه، تذكرت أولانا الذعرَ الذي اعتادت أن تشعر به حينما تأتي هنا. قاعة الاستقبال كانت كما هي، بحوائطها المطلية بالذهب وسجاجيدها الفارسية السميكة والرسومات المحفورة على السقوف المكشوفة. بدت والدة محمد كما هي أيضًا، بحلقٍ في أنفها ووشاح فضي حول رأسها. كانت متأنقة إلى الدرجة التي تجعل أولانا تتساءل ما إذا كانت غير مرتاحة، تأخذ زينتها كل يوم ثم ببساطة تجلس في المنزل. لكن المرأة المسنّة لم يكن لها ذاك التعبير المحافظ، لم تكن تتحدث بحدّة وعيناها مركزتان على مكانٍ ما بين وجه أولانا واللوحة المحفورة باليد. بدلاً من ذلك نهضت واحتضنت أولانا.
"تبدين جميلة جدا يا عزيزتي. لا تجعلي الشمسَ تفسدُ بشرتَك."
"نا جودي، شكرًا لك يا حاجّة،" قالت أولانا، متسائلة كيف للناس أن يديروا زرَّ العاطفة فتحًا وإغلاقًا، أن يربطوا المشاعر أو يحرروها.
"لم أعد تلك المرأةَ من الإيبو التي وددتَ أن تتزوجها فتلطخ بها سلالتَك بدم مُلحد،" قالت أولانا، وهما يركبان سيارة محمد البورش الحمراء. "لذلك أنا الآن صديقة."
"كنت سأتزوجك في كل حال، وهي تعلم ذلك. اختياراتها لم تكن تهم."
ربما ليس في أول الأمر، لكن ماذا عما بعد؟ ماذا بعدما تمرُّ عشر سنوات على زواجنا؟"
"أبواكِ شعرا بالشعور ذاته كما فعلتْ." استدار محمد لينظر إليها. "لماذا نتحدث عن ذلك الآن؟" ثمة لمحةٌ حزينة بعينيه. أو ربما خُيِّل إليها. ربما أرادت هي أن يبدو حزينًا على عدم زواجهما. لم تتمن أن تتزوجه أبدًا، لكنها تستمتع بإمعان النظر في الأشياء التي لم يفعلا ولن يفعلاها.
"أعتذرُ،" قالت. "ليس من شيء تعتذرين عنه." أخذ محمد يدها بيده. أصدرت السيارة صوتًا مزعجًا وهما يتجاوزان البوابات. "غبارٌ كثيف في العادم. هذه السيارات لم تُصمم لمناطقنا."
"كان عليك شراء بيجو قوية."
"نعم، كان يجب أن أفعل."
حدّقت أولانا في الشحاذين وآنيتهم المغطاة بالذباب. كان الهواء مشبعًا برائحة أوراق الشجر الحريفة.
"أنا لا أشبه الشعوب البيضاء،" قالت بهدوء.
رمقها محمد بنظرة. "بالطبع لا تشبهينهم. أنت قوميةٌ وطنية، وقريبًا سوف تتزوجين محاضرك المقاتلَ من أجل الحرية."
تساءلت أولانا ما إذا كان أسلوب محمد يخفي وراءه سخريةً حقيقية. كانت يدها مازالت في يده وتساءلت أيضًا، ما إذا كان يجد صعوبة في قيادة السيارة بيد واحدة.
سافرت أولانا إلى نسوكا في يوم سبت عاصف، وفي اليوم التالي غادر أودينيبو إلى مؤتمر رياضيات في جامعة إبادان. لم يكن ليسافر لو لم يكن المؤتمر متمحورًا حول عمل مُشْرِفه، الرياضيّ الأمريكي الأسود ديفيد بلاكويل.
"إنه أعظمُ عالم رياضيات على قيد الحياة، هو الأعظم،" قال. "لماذا لا تأتين معي، نكيم؟ ليس سوى أسبوع واحد."
قالت أولانا كلا؛ أرادت لنفسها فرصة للاستقرار بينما لا يكون موجودًا، لكي تُطَمْئِنَ مخاوفها في غيابه. أول ما فعلته بعدما مضى هو أن أطاحتْ بالزهور البلاستيكية الحمراء والبيضاء على الطاولة المركزية.
بدا آجوو مذعورًا. "لكن يا ماه، ما زالت بحال جيدة!"
خرجتْ وتبعها للخارج حيث الزنابق الأفريقية زهرية اللون، الريّانة بالماء بفضل جومو، ثم سألت آجوو أن يقطف بعضًا منها. علمته مقدار الماء الذي يوضع في المزهرية. نظر آجوو إلى الزهور وهزَّ رأسَه، كأنما لا يصدقُ حمقَها. "لكنها ميتة، ماه. الأخرى لا تموت."
"نعم، لكن هذه أفضل، فا ماكالي،" قالت أولانا.
"أفضل كيف، ماه؟" يرد عليها دائما بالإنجليزية حينما تكلمه بالإيبو، كأنما يرى أن محادثتها له بالإيبو إهانة يجب أن يدافع عن نفسه ضدها بإصراره على التحدث بالإنجليزية.
"أفضلُ وحسب،" قالت، وقد أدركت أنها لا تعرف كيف تشرح له لماذا الزهورُ الطبيعية أجملُ من البلاستيكية. فيما بعد، حينما شاهدتِ الزهورَ البلاستيك في خزينة المطبخ، لم تندهش. احتفظ آجوو بها، بالطريقة نفسها التي يحتفظ بها بكراتين السكر، وفلين الزجاجات، وحتى قشور البطاطا. هذا ينتج بسبب انعدام امتلاك الكثير، تعرفُ ذلك، الفقر يجعلك غير قادر على أن ترمي بالأشياء، حتى غير المفيدة. لذا حينما كانت معه في المطبخ، حدثته عن ضرورة الاحتفاظ بالأشياء المفيدة وحسب، وتمنت ألا يسألها وكيف تكون الزهورُ الطبيعية مفيدةً إذًا. سألته أن ينظف الخزانات ويفرش الرفوف بجرائد قديمة، وبينما يعمل وقفت على مقربة وسألته عن عائلته. كان من الصعب تصورهم لأنه، بمفرداته القليلة، وصف كل واحد منهم بـ"جيد جدًّا". ذهبت معه إلى السوق، وبعدما اشتريا مستلزمات البيت، اشترت له مشطًا وقميصًا. علمته كيف يطهو الأرز المقلي مع الفلفل الأخضر والجزر المبشور، وطلبت إليه ألا يطهو البقول إلا بعدما تتبرعم، وألا يغمر الأشياء في الزيت، وألا يكون شحيحًا في الملح أيضًا. ورغم أنها لاحظت رائحة جسده منذ رأته للمرة الأولى، إلا أنها تركت بعض الأيام تمر قبل أن تعطيه بودرة معطرة لإبطيه وسألته أن يستخدم ملء غطاءين من الديتول في ماء استحمامه. بدا مبسوطًا حينما شم البودرة، وتساءلت ما إذا كان سيدرك أنه عطر حريمي. تساءلت أيضًا كيف يفكر بها. كانت هناك عاطفة واضحة، لكن شيئًا من التفكير الصامت أيضًا كان في عينيه، كأنما يحمل لها شيئًا. وكانت قلقة.
بدأ أخيرًا يتحدث معها بالإيبو يوم راحت ترتب الصور على الحائط. اندفع برصٌ من وراء الإطار الخشبي لصورة أودينيبو وهو في روب التخرج، فهتف آجوو، "إجبوكوالا! لا تقتليه!"
"ماذا؟" استدارت لتنظر إليه في الأسفل من على الكرسي الذي كانت تقف فوقه.
"إذا قتلته سوف تصابين بألم في المعدة،" قال. وجدت لهجته الأوبي مضحكةً، كأنما يبصق الكلمات من فمه.
"بالطبع لن نقتله. دعنا نعلق الصورة على الحائط."
"نعم، ماه،" قال، ثم راح يحكي لها، بالإيبو، كيف أن شقيقته صارعت ألمًا فظيعًا بالمعدة بعد قتلها برصًا.
حينما عاد أودينيبو كان قد قلَّ شعورُ أولانا بأنها زائرة؛ جذبها بقوة، قبّلها، ضغطها إليه.
"يجب أن تأكل أولاً،" قالت.
"أعرف ماذا أريد أن آكل."
ضحكت. شعرت بسعادة طفولية.
"ما الذي حدث هنا؟" سأل أودينيبو وهو ينظر حوله في الغرفة. "كل الكتب على هذا الرف؟"
"كتبُك الأقدم في الغرفة الثانية. أحتاج مساحةً لكتبي.
"إيزي أكوا؟ لقد احتللتِ المكان بالفعل، أليس كذلك؟ قال أودينيبو وهو يضحك.
"اذهبْ واستحمْ،" قالت.
"وماذا عن عطر الزهور لدى رَجُلي الطيب؟"
"أعطيته بودرة عطرية. ألم تلحظ رائحة جسده؟"
"إنها رائحة القرويين. كانت رائحتي هكذا حتى غادرت آبا لألتحق بالمدرسة الثانوية. لكن أنّى تعرفين أنت هذه الأشياء!" كانت نبرة إغاظة رقيقة بصوته. لكن يديه لم تكونا رقيقتين. كانتا تفكان أزرار بلوزتها، تحرران نهديها من السوتيان. لم تكن واثقة كم من الوقت مضى، لكنها كانت متورطة في الفراش مع أودينيبو، دافئةً وعارية، حينما طرق آجوو الباب ليقول إن لديهم زوّارًا.
"ألا يمكنهم أن يرحلوا."
"تعالي، يا نكيم،" قال أودينيبو. "لا أطيق صبرًا حتى يقابلوكِ."
"دعنا نمكث هنا قليلاً." مررتْ يدها فوق شعر صدره الأجعد، لكنه قبّلها ونهض يفتش عن ملابسه الداخلية.
ارتدت أولانا ملابسها على غير رغبتها وخرجت إلى غرفة المعيشة.
"أصدقائي، أصدقائي،" هتف أودينيبو، بزهو مبالغ فيه، "وأخيرًا، هذه هي أولانا."
استدارت المرأةُ التي كانت تدير الراديو، وصافحت أولانا. "كيف حالك؟" سألت. رأسها كان ملفوفًا بعمامة برتقالية.
"بخير،" قالت أولانا. "لابد أنكِ لارا آديبايو."
"نعم،" قالت آنسة آديبايو. "لم يخبرنا أنكِ جميلة بشكل غير معقول."
رجعت أولانا خطوة إلى الوراء، مرتبكة للحظة. "سوف أعتبر هذه مجاملة."
"ويا لها من إنجليزية مضبوطة،" تمتمت آنسة آديبايو، بابتسامة آسفة، قبل أن تعود للراديو. كان لها جسدٌ مضغوط، ظهر مستقيم بدا أكثر استقامة في فستانها البرتقالي المطبوع، جسدُ مُحقّقةٍ لا يجرؤ أحد على مُساءلتها.
"اسمي أوكيوما،" قال رجلٌ ذو شعر أشعث غير ممشط. "كنت أظن أن صديقة أودينيبو كائنٌ بشريّ؛ لم يقل لنا أنكِ عروسُ البحر."
ضحكت أولانا، ممتنةً للدفء في تعبير أوكيوما ولطريقته في جذب يدها واحتفاظه بها في يده برهة طويلة قليلاً. بدا د.باتيل خجولاً وهو يقول: "لطيفٌ جدًا أن نراك أخيرًا،" وصافحها بروفيسور إيزيكا وأومأ ببعض ترفّع وهي تخبره أن درجتها العلمية في علم الاجتماع وليس في أحد العلوم المعروفة.
بعدما قدم آجوو المشروبات، رأت أولانا أودينيبو يرفع كأسَه إلى شفتيه وكل ما فكرت فيه هو كيف أن هاتين الشفتين كانتا مثبتتين حول حلمتها قبل دقائق. تحركت على نحو سِريٍّ حتى يمس باطنُ ذراعِها نهدَها ثم أغلقت عينيها لتستسلم لشكشكة الألم اللذيذ. أحيانًا يعضها أودينيبو بقسوة. تمنت لو غادر الضيوف.
"ألم يسمِّ ذلك المفكرُ الكبير هيجل أفريقيا أرضَ الطفولة؟" سأل البروفيسور إيزيكا، بنبرة عاطفية؟
"ربما أولئك الذين علقوا لافتة "ممنوع دخول الأفارقة والأطفال" على دور السينما في مومباسا قد قرأوا هيجل إذًا،" قال د.باتيل ثم قهقه.
"ليس بوسع أحدٍ أن يأخذَ هيجلَ على محمل الجِّد. هل قرأتَه جيدا؟ إنه مضحك. لكن هيوم وفولتير ولوك لديهم الشعور نفسه عن أفريقيا،" قال أودينيبو. "العظمةُ تتوقف على من أين أنتَ قادم. تمامًا مثلما كان الإسرائيليون يُسألون كيف يشعرون تجاه تجربة إيتشمان ، وقال أحدُهم إنه لا يفهم كيف يمكن لأي إنسان في أي زمن أن يرى النازيين عظماء. لكنهم كانوا عظماء، أليس كذلك؟ ومازالوا كذلك!" لوّحَ أودينيبو بيده، كفُّه للأعلى، وتذكّرت أولانا كيف قبضتْ تلك اليدُ على خصرها.
"الذي أخفق الناس في رؤيته هو التالي: إذا اهتمتْ أوروبا بأفريقيا أكثر، لم يكن الهولوكوست اليهوديُّ قد حدث،" قال أودينيبو. "باختصار، الحرب العالمية ما كانت اندلعت!"
"ماذا تقصد؟" سألت آنسة آديبايو. وعلّقت نظارتَها فوق شفتيها.
"كيف تسألين عمّ أعني؟ هو شيء شارحٌ نفسَه، بدايةً من شعب الهيريرو ." كان أودينيبو يتزحزح في كرسيه، وعلا صوته، وتساءلت أولانا ما إذا كان يذكر كم كانا صاخبيْن في الفراش، وكيف قال بعد ذلك ضاحكا: "إذا استمررنا هكذا في الليل، ربما نوقظ آجوو من النوم، يالرجلي المسكين."
"ها أنت تناورُ من جديد يا أودينيبو،" قالت الآنسة آديبايو. "أنت تقول إذا لم يقتلِ الرجالُ البيض الهيريرو، لم يكن الهولوكوست اليهودي؟ لا أرى علاقة أبدًا!"
"ألا ترين؟" سأل أودينيبو. لقد بدأوا دراساتهم العنصرية بالهيريرو وانتهوا باليهود. بالطبع هناك علاقة!"
"جدلُك غيرُ منطقيّ على الإطلاق أيها السفسطائي،" قالت الآنسة آديبايو، ثم وضعت ما كان متبقيًا في كأسها جانبًا.
"لكن الحرب الكونية كانت شيئًا سيِّئًا وشيئًا طيبًا أيضًا، كما يقول شعبنا." قال أوكيوما. "حاربَ شقيقُ أبي في بورما وعاد مُحمّلا بسؤال مشتعل: كيف لم يخبره أحدٌ من قبل أن الجنس الأبيض ليس خالدًا وأبديًّا؟"
ضحك الجميع. كان ثمة شيء معتاد بالأمر، كأنما اعتادوا على مثل هذه الحوارات ويعرفون متى يضحكون. ضحكت أولانا أيضا وشعرت لوهلةٍ أن ضحكتها بدت مختلفة، أكثر حِدّةً من ضحكاتهم.
في الأسابيع التالية، حينما بدأت تدريس كورس "مدخل علم النفس"، وبعدما انضمت لنادي أعضاء هيئة التدريس ولعبت التنس مع بقية المحاضرين، وبعدما دفعت آجوو إلى السوق وتمشت مع أودينيبو وشاركت في فعاليات كنيسة القديس فينسينت والقديس بولس، كانت قد بدأت في التعود على أصدقاء أودينيبو. كان أودينيبو يغيظها بقوله إن الناس الآن يأتون للزيارة لأنها هنا، وإن كلاً من أوكيوما وباتيل وقعا في غرامها، لأن أوكيوما كان حريصًا على قراءة قصائدَ يصفُ فيها ربّاتٍ كأنهن يشبهنها، وأما د.باتيل فكان يحكي قصصًا كثيرة عن أيامه في ماكيريري، راسمًا نفسَه مثقفًا تام النبالة.
راق د.باتيل لأولانا، لكنها كانت تترقب أكثر زيارة أوكيوما. شعره الأشعث وملابسه المجعدة وقصائده الدراماتيكية كانت تريحها. ولاحظتْ، مبكرًا، أن آراءه كانت تروق أكثر لأودينيبو، قائلاً: "هذا صوتُ جيلنا الجديد!" ولم تعرف ماذا تفعل إزاء تكبُّر بروفيسور إيزيكا الأجش، إزاء ثقته بأنه يعرف أكثر من أي شخص آخر لكنه يفضّل أن يقول القليل. ولا أيضًا كانت متأكدة من الآنسة آديبايو. كان من الأسهل لو أن آديبايو قد أظهرت بعض الغيرة، لكن الأمر بدا وكأن الآنسة آديبايو لا تراها تستحق المنافسة، بأساليبها غير المثقفة، ووجهها الجميل جدًّا وبلكنتها المُقلّدة العنيفة في نطق الإنجليزية. وجدت نفسها تتكلم أكثر حينما تكون الآنسة آديبايو موجودة، تُطلق آراءها بيأس وبرغبة في التأثير- نيكروما كان بالفعل يريد أن يتآمر على إفريقيا كلها، كان تكبّرًا من أمريكا أن تصرَّ على أن يُخرج السوفيتُ صورايخَهم من كوبا بينما صورايخُها الخاصة تبقى في تركيا، مذبحة شاربيفيل كانت وحسب مثالاً دراماتيكيًّا لمئات من السود تقتلهم حكومة جنوب إفريقيا كلَّ يوم- لكنها كانت تشك أن شيئًا من عدم الأصالة في كل أفكارها. وشكّت أن الآنسة آديبايو تعرف ذلك؛ ذاك أنها دائمًا حينما تبدأ في الحديث كانت آديبايو تلتقط جريدةً أو تصبّ كأسًا أخرى أو تذهب إلى التواليت. في الأخير يئست. لن تحب الآنسة آديبايو أبدًا والآنسة آديبايو لن تفكر أبدًا في حبها. ربما خمنت الآنسة آديبايو، من وجهها، أنها كانت تخشى الأشياء، أنها كانت غير واثقة، أنها لم تكن واحدة من هؤلاء الناس، ناس مثل أودينيبو. ناس مثل آديبايو نفسها، التي تقدر أن تنظر إلى شخص في عينيه وتخبره بهدوء أن جماله غير منطقي، التي حتى قدرت أن تستخدم عبارة مثل: جمال غير منطقي.
لكن، حينما رقدت في الفراش مع أودينيبو، والساق ملتفة بالساق، أدهشها كيف أن حياتها في نسوكا كانت كأنما غارقةٌ في شبكة من الريش الناعم، حتى في الأيام التي يحبس أودينيبو نفسه في مكتبه لساعات. كل مرة يقترح عليها أن يتزوجا، كانت تقول: لا. كانا سعيدين جدًّا، وغير مستقرين أيضًا، وكانت تريد حماية تلك الرابطة؛ تخاف أن يُسطّحها الزواجُ ويحوّلها إلى مجرد شراكة مملة.