الأرجح أنها بائعة هوى..
هذا ما انتهى إليه تفكيرى وابتهج به الضبع بداخلى..
ولكن كيف؟
بائعة هوى تعنى عاهرة، والعاهرة لابد أن ينعكس عُهرها عليها، ينعكس على ظاهرها وباطنها، فلا تبدو راقية المظهر والجوهر مثل الدكتورة نغم، أو نغم كما تصر أن أناديها، والحقيقة أنها راقية المظهر والجوهر لدرجة تدير الرأس، ومعلوم أن العُهر والرُقى لا يجتمعان..
إذن فهى كما خمنت من قبل، عاهرة تنتحل صفة أستاذة جامعة، أو أستاذة جامعة عاهرة.. أو ربما من باب حسن الظن.. هى امرأة مريضة نفسيا تعانى أزمة ما، تعانى مثلا المراهقة المتأخرة، أو ذلك الاضطراب الذى يصيب بعض النساء حال اقترابهن من سن الأربعين، سن اليأس كما يطلقون عليه، وتشتد أزمة المرأة كلما امتلكت من المال والفراغ ما لا تعرف كيف تنفقه.. أو ربما تعانى....
وجاء عم بشير، خادمى النوبى المخلص الذى تجاوز الثمانين، ولكنه وافر الصحة جم النشاط.. جاء ينتزعنى من أفكارى:
ـ رئيس العمال يقول أن كل شئ فى الفيللا محتاج لإصلاح
ـ لا يهم.. المهم أن تنتهوا فى أسرع وقت
ـ أمرك
وانصرف وبصرى يلاحقه.. كعادتى.. فالرجل بقامته الفارعة وبشرته الفاحمة وعينيه الحمراوين، يثير فى نفسى بعضا من ذكرياتى المؤلمة، ذكريات مرتبطة بشكل أو بآخر بعطر الأوركيد، منها ذكرى معه شخصيا، ذكرى منذ طفولتى البعيدة، وللأسف هى إحدى أزمات رجولتى.
ما أسوأها أزمة يا يوسف.. وما أسوأ ذكرياتك!
ولعل بصرى كان يلاحقه كى أتذكر ما كنت أريد أن أقوله له:
ـ عم بشير.. هل من مكان هادئ أخلو فيه لنفسى بعيدا عن صخب العمال؟
ـ حجرة النوم.. لن يبدأوا العمل بها إلا غدا
فى الحقيقة كنت أريد الخلوة كى أتواصل مع نغم عبر الفيسبوك، فمنذ التعارف الأول عليه لم نتواصل، أو بالأصح كلما تصفحت الفيسبوك لا أجدها.
ولكن بطء الانترنت أثار أعصابى، ثم توقف تماما، لأجد نفسى تلقائيا أغرق فى التفكير فيها، حتى جاء بشير ينتزعنى ثانية:
ـ الجناينى وصل ويريد أن يعمل حالا
ـ طبعا تعرف أهم شئ سيفعله يا عم بشير؟
ـ طبعا.. زهرة الأوركيد.. سأجعله يزرعها فى كل شبر من الحديقة
وهذه المرة الزهرة هى التى انتزعتنى من أفكارى، أثارت فى نفسى الذكريات الجميلة والمؤلمة فى آنٍ واحد، ذكريات بعيدة تضرب بجذورها فى أعماق طفولتى، ولكن آه من الجوانب المؤلمة فى الذكريات، كلما حاولت أن أدفنها فى عقلى الباطن أو فى منطقة اللاوعى، تأتى أشياء كثيرة لتبعثها، على رأسها زهرة الأوركيد أو عطرها، أو أى شيئ يرتبط بها من قريب أو بعيد، فيستعيد عقلى الواعى كل ما هو مؤلم من الذكريات، ثم أبدأ أعذب نفسى بها، أو أتلذذ بتعذيب نفسى بها، أعذب نفسى بأن أثير بها رغبتى للتقيؤ.. تماما كما أفعل الآن!
لماذا إذن أريد زراعتها فى الحديقة؟ .... لا أدرى!
إنها احدى عجائب أزمتى.. أو مأساتى!!
وهرعت فورا لدورة المياه أفرغ معدتى، ثم عدت لبشير الذى اعتاد منى ذلك، وكان قد تركنى وخرج ثم عاد يقول:
ـ مهندس شركة حمامات السباحة وصل وفى انتظار سعادتك عند الحمام
فذهبنا إليه ووقفنا نتحدث، وأنسانى الكلام نوبة القئ.. أو تناسيتها.. ولكن عندما عدت أختلى بنفسى، عاودتنى أشد، أو فى الحقيقة أنا الذى استدعيتها بملء إرادتى، نعم استدعيتها بملء إرادتى! إنها العجيبة الأخرى التى حيرت أطبائى، وإن لم أصارحهم مطلقا أن لها علاقة بما حدث لى فى طفولتى.
ثم هرعت ثانية لدورة المياه، ولكن لم يكن بمعدتى ما أفرغه!
ثم عاد الإنترنت يعمل، فهربت للفيسبوك، وكالعادة لم تكن متواجدة، لا أدى لماذا كلما التمستها لا أجدها، ولماذا منشوراتها أو مشاركاتها على صفحتها قليلة جدا، أو نادرة، ولا تدل مطلقا أن عقلية صاحبتها عقلية أستاذة جامعة، فجميع منشوراتها ساذجة من تلك التى تثير الملل، مثلا عبارات تقليدية كـ (صباحكم خير) أو (نهاركم سعيد) .. أو أقوال مستهلكة مثل ( الذكرى ناقوس يدق فى عالم النسيان ) وهكذا! أيضا لماذا لا ترد على رسائلى لها على الخاص، رغم أن الخاص وكما تصر هو وسيلتنا الوحيدة للتواصل..
ولم أجد بدًا من كتابة الرسالة المختصرة التى أكتبها لها عندما لا أجدها: ( أين أنت ومتى سنلتقى) .
ثم عاد الإنترنت ينقطع، فأغلقت اللاب غيظا، وجاء بشير ربما للمرة العاشرة، فصرخت فيه قبل أن يفتح فمه:
ـ عم بشير.. أنت تعرف بالضبط ما المطلوب عمله فى الفيللا، أما أنا فسأذهب حالا للمنزل، وإياك أن تتصل بى إلا للضرورة.. مفهوم؟
ـ مفهوم.. فقط كنت أريد أن أعرف ما لون فرش حجرة النوم الذى تريده
ـ نفس اللون القديم يا عم بشير.. الأحمر
وتركته وانطلقت إلى شقتى بشارع جمال عبد الناصر، وفى الطريق رن هاتفى، فحسبته هو.. لكنها كانت ابنتى نورا:
ـ بابا حبيبى.. أين أنت؟
ـ فى طريقى للمنزل
ـ هايل.. سأزورك فى المساء
ـ أهلا وسهلا يا حبيبتى.. ولكن فى أية ساعة بالضبط؟
ولم ترد لأنها.. وكعادتها.. بادرت بإنهاء المكالمة، عادة بغيضة تثير أعصابى وتجعلنى من شدة الغيظ أعاود الاتصال بها لأصب جام غضبى عليها، وأحيانا لألعنها، ألعنها هى وجيلها كله أنه جيل فاسد لا يعرف أبسط قواعد الذوق والأدب، وبالفعل اتصلت بها، ولكن لم ألعنها، فقط وبختها حتى أبكيتها، وإن كنت أعلم تمام العلم أن ذلك لن يردعها عن عادتها البغيضة.