أبطالي بعيدين كل البعد عن زمننا هذا فهو زمن مليء بكل شيء جميل ونزيه، لم يسمع أحدًا في زمننا هذا عن هذه الأشياء.
أبطالي من مدينة صغيرة يسكنها التواضع والجمال والكرم ترّبوا على الأصول والأخلاق والقوة مهما واجهتهم المصائب يستقبلونها بكل قوة وشجاعة.
نيرة طفلة عمرها ست سنوات تتمتع بالبراءة فهي تعيش مع والدتها ووالدها إنه تاجر كبير، وفي يوم طلبت والدتها من الأب الذهاب معه لشراء بعض الأغراض فصممت نيرة أن تذهب معهم ولكن الأم رفضت بشدةٍ وصممت أن تبقى نيرة في المنزل مع المربية الخاصة بها لِتُنهي واجباتها حتى تعود، كان قلبها يشعر أن هُناك شيئًا ما سيحدث، أثناء سيرهم بالسيارة إلى السوق انقلبت السيارة في حادثٍ مرير على الطريق وتوفت والدة نيرة بمجرد وصولها المستشفى وكانت حالة والدها صعبة جدًا؛ لذلك طلب من إحدى الممرضات أن تتصل بشخص وتطلب منه أن يأتي إلى المستشفى سريعًا، وأتى الشخص بمجرد أن حدثتهُ الممرضة وعلم الخبر فهو أمجد زوج أخت زوجتهُ وصديقه الوحيد وكان في صدمة وذهول فعزيز صديق دربه وأخوه، فنظر إليه عزيز وقال له اقترب مني أُريد أن أتحدث معك حديثي الأخير يا أخي فترقرقت الدموع في عينا أمجد رغمًا عنه جلس بجانب عزيز وربت على يده وهو ينظر إلى الأرض.
قال عزيز: أنظر إليّ يا أمجد لقد توفت آمال وأنا أعلم أني ذاهب إليها ولا يوجد لدي أحدًا غيرك فأنت أخي وصديقي الوحيد، ابنتي نيرة لم يعد لديها أحد غيرك أنت وخالتها فأنا أوصيك على ابنتي أنت تعلم جيدًا ثقتي فيكَ وفي زوجتك فهي كانت نعم الأخت والأم لآمال وأعلم أنها سوف تكون أم لابنتي، المحامي سوف يحضر فأنا طلبت منه نقل كل تجارتي وأموالي باسمك يا أخي أمانة عندك لتربية وتعليم ابنتي فقاطعه أمجد بنبرة حزينة
قائلًا: نيرة مثل ابنتي تمامًا أموالها محفوظة حتى تكبر لن ألمسها
قال عزيز: هذه وصيتي لك أن تتعلم ابنتي بأموال والدها وألا تكون حملًا على أحد فرجاءً نفذ ليّ وصيتي وقدم لنيرة في مدرسة داخلية وهي ستقضي معكم العطلة فقط حتى لا تكون حملًا عليك أنت وأسرتك بالرغم من معرفتي بحبكم الشديد لها لكن رجاءً نفذ طلبي نيرة سوف تصل بعد قليل مع المربية سأُخبرها بقراري بخصوص المدرسة الداخلية لا تقلق
فرد أمجد أعدك يا أخي فهي أمانة معي
ابتسم إليه عزيز في صمت.
لحظات ودخلت نيرة، قالت: أبي وذهبت إلى والدها تحتضنه فشعر بالألم ولكنه صمت ومسك كفها الصغير وقال لها يا زهرة حياتنا أنا ووالدتك اعلمي جيدًا أننا نُحبكِ يا ابنتي العزيزة فتساءلت نيرة ماذا بكَ يا أبي وأين أمي فقال لها بعد أن تنهد تنهيدة طويلة والدتكِ ذهبت إلى ربّ السماء فهي الآن كنجمة في السماء تنظر إليكِ وتراكِ دائمًا
أمجد واقف في صمت مع دموعه التي تهبطُ في صمت هي الأخرى فترد قائلة في بُكاء شديد ألن أرى وجه أمي مرة ثانيةً يا أبي؟
فرد عليها سوف تريّ أُمكِ في المساء عندما تَنظرين إلى السماء ستظهر نجمة مضيئة فهي والدتكِ يا ابنتي ولكن الآن أريد أن اتحدث معكِ فأنا مريض لفترة ولن تستطيعي العيش وحدكِ في منزلنا من بعد الآن فأنتِ ستنتقلينَ للعيش مع خالتكِ فتحية وعمكِ أمجد وأولادهم بضعة أيام حتى يقدم لكِ عمكِ أمجد في المدرسة الداخلية حتى تتعلمي كما كانت تحلم والدتكِ بذلك وأنا صممت أن تكوني في مدرسة داخلية حتى لا تكوني حملًا على عمكِ يا ابنتي فأرجو منكِ أن تكوني طفلة مطيعة وأنا أعدكِ عندما يتم شفائي سوف أزوركِ ونقضي الإجازة معًا في بيت عمك أمجد.
فقالت له حسنًا يا أبي فابتسم لها أحسنتِ وقبَّل يدها وبعد دقائق دقَّ باب الغرفة ودخل المحامي فطلب عزيز من أمجد أن يأخذ نيرة معه خارج الغرفة لبعض الوقت فقال لها أمجد هيا يا نيرة تعالي معيّ لقد اشتقت إليكِ كثيرًا فتمسكت في يده وخرجت معه حتى يُنهي عزيز كل شيء مع المحامي.
طلب عزيز من أمجد أن يأخذ نيرة ويذهب وينهي إجراءات دفن زوجته في مدافن العائلة ووصى أيضًا أن يدفن بجانبها.
أخذ أمجد نيرة وذهب إلى بيته ولا يعلم كيف يخبر زوجته بخبر وفاة أختها، وآمال في مقام ابنتها ربتها على يدها ومازلت في عينيها طفلتها
بعد دقائق وصلت نيرة البيت استقبلتها خالتها فتحية بفرحة كبيرة وقالت لها أين والدتك فردت نيرة قائلة أمي نجمة في السماء فضحكت فتحية
وقالت: لم أفهم منكِ شيء يا بنت ونظرت إلى زوجها فهو صامت لا يتكلم فقالت: ماذا حدث يا أمجد فقال أين كمال ووداد نادِي عليهم ليسلموا على نيرة فنادت عليهم فحضر كمال وهو بالغ من العمر اربعة عشر عامًا ووداد تبلغ من العمر أحد عشر عامًا.
قال لها أمجد: سلمي على إخوتكِ يا نيرة، مازالت نيرة أنظارها متعلقة بكمال نظرت إليه وهي صامتة ، قال أمجد لوداد: سلّمي على أختكِ نيرة، ثُم وجه كلامه إلى كمال قائلًا تعالى يا بني فأنا أريدك في شيء، ثم توجه إلى غرفة المكتب فأخبره كُل ما حدث وبلغه أن نيرة أمانة تركها والدها لهم وطلب منه أن يأخذها هي ووداد ويخرجوا إلى الحديقة حتى يخبر والدته، فطلب كمال من نيرة ووداد أن يخرجوا ليجلسوا في حديقة المنزل قامت وداد تلعب وأخذت معها نيرة وظل كمال جالسًا في مكانه ينظر إلى نيرة بعطف وحنان فخرجوا جميعًا إلى الحديقة وفتحية تنظر إلى زوجها وتنتظر أن يحكي ماذا حدث فجلس بجانبها وهو يفرك يده وقال لها تعالي إلى صدري فابتسمت له واستندت على صدره برأسها فربت عليها بيده وبنبرة صوت ضعيفة يملؤها الحزن قال لها طفلتك الصغيرة آمال في ذمة الله فادعِ لها بالرحمة يا فتحية، لم تتمالك نفسها وصوت بكائها كان يملأ المدينة كلها، ظل أمجد يحضتنها ويمسكها بيديه الاثنين ولكنها سقطت على الأرض من انهيارها وهي تقول آمال يا طفلتي آه يا قلبي، طفلتي ذهبت يا أمجد فقال لها وهو يبكي هذا أمر الله يافتحية أرجوكِ تماسكِ من أجل أطفالنا، أراد الله إعطاءنا ثلاثة أطفال يافتحية؛ فنيرة في أمانتتا الآن فهي تحتاج أن نكون أمامها ثابتين لأن عزيز حالته متأخرة وأيامه معدودة، يا فتحية نحن أملها الوحيد لقد أصبحنا بيتها وعائلتها، فنظرت له وقالت باكية آه على حظك يا نيرة، فربت على رأسها وقبّلها محاولًا تهدأتها.
في حديقه المنزل كمال يحاول أن يهدأ نيرة من بكاءها الشديد بعد سماع صوت صراخ خالتها، ظل مُمسكًا يدها وظل يربت على كفها الصغير الناعم ويقول لها اهدأي كل شيء سيكون على مايرام فاطمئن قلبها ونظرت له نظرة طفلة بريئة عيناها مليئة بالخوف وعلامة إستفهام على ملامحها.
ما هذا ما الذي يحدث فأنا لا أعلم شيء.
فقال لها متحدثًا في موضوعٍ آخر إنكِ تحبين الكريز صحيح؟ فتبسمت ومسحت دموعها بيدها وقالت له نعم أحبه كثيرًا فأمي دائمًا تقول لي أنّي حتى لو أكلت مزرعة كريز بمفردي لن أشبع منه أبدًا، ضحك كمال ووداد وضحكت نيرة وهي تنظر إليهم وقالت لكمال أين الكريز فقال لها: تعالي معي فأخذها إلى شجرة الكريز الموجودة خلف البيت آخر الحديقة وتسلق الشجرة وبدأ بهز غصون الشجرة بدأ الكريز في التساقط على الأرض ونيرة ووداد تقوما بجمعه، وهو ينظر إلى نيرة وهي سعيدة ويدعو ربه أنها تبتسم طوال حياتها فهي طفلة مسكينة سوف تشعر بألم الفقدان واليتم مبكرًا جدًا وهذا شعورٌ صعب عليها للغاية، ثم قال محدثًا نفسه هي الآن مسؤولة مني كأخ كبير لها مثل وداد تمامًا سأحاول أن أرسم ابتسامتها على وجهها دائمًا وأكون عونًا وسندًا لها فهي تستحق ذلك.
انتهى اليوم وأتى المساء وبعد العشاء فتحية أمرتهم أن يتجهوا إلى غرفهم ويناموا فقالت نيرة أنا لم أعتد النوم بمفردي كانت أمي تنام بجانبي فقالت لها فتحية ما رأيكِ أن تنام خالتكِ حبيبتكِ بجواركِ فقالت لها حسنًا فاحتضنتها فتحية وهي تشم رائحة أختها في صغيرتها، غضبت وداد وصممت هي الأخرى أن تنام في حضن والدتها فهي طفلة وهذه والدتها هي، فقالت لها فتحية تعالي يا جملتي فاليوم حظي جميل سأنام بجانب طفلَتَيّ واحتضنتهما حتى ناموا في سلام.
حل الصباح وذهبوا جميعًا إلى المدافن لاستقبال جثمان أختها فودعت أختها وطفلتها في يديها فنيرة واقفة لا تعلم ولا تفهم شيء فقالت ما هذا؟ ردت وداد هذه جُثمان أمكِ فغضبت نيرة وقالت لها أنتِ كاذبة أبي قال لي أن أمي نجمة في السماء قالت وداد لها إنه ضحك عليكِ فأنتِ طفلة لن تفهمي شيء.
نيرة بغضب شديد تدفع وداد فتقع على الأرض وتتسخ ملابسها ووجها بالتراب وتبدأ في الصراخ فيأتي كمال مسرعًا يمد يده لأخته ويحتضنها فتنظر لهم نيرة بغضب وتدرك أنها وحيدة فبدأت تتغير في أفعالها تحولت إلى طفلة شقية تكسر وتخرب أي شيء أمامها كانت دائمًا تصد كمال وترفض منه أي شيء، كان كمال مندهشًا من أفعالها وكان ينظر لها من بعيد ماذا حدث لها لماذا أصبحت حادة الطباع هكذا، متسائلًا نفسه لماذا تتجنب وجوده وحديثه معها؟
مرت الأيام حتى تحدث عمها أمجد معها وقال أن كل شيء جاهز والمدرسة تنتظرها غدًا، أتى الصباح والكل ودع نيرة بحزن فهي كانت بهجة البيت ولكن وداد كانت سعيدة بمغادرة نيرة لأنها أخذت إهتمام الكل منها وهذا كان يزعج وداد دائمًا من نيرة.
تمسكت نيرة بيد عمها أمجد واتجهت معه نحو بوابة البيت ونظرت خلفها وجدت كمال ينظر إليها في صمت فعادت تنظر أمامها، فتح لها باب السيارة العم سعيد سواق أمجد وهو معهم منذ أعوام.
قال لها اركبِ يا صغيرة، فتبسمت له وصعدت إلى السيارة وبجانبها عمها أمجد متجهين إلى المدرسة الداخلية فهي قريبة من المدينة لذلك لم يستغرقوا وقتًا طويلًا في الوصول، كانت نيرة طوال الطريق تنظر من نافذة السيارة وأمجد ينظر لها ولا يعلم ماذا يقول لها فهو يعلم أنها طفلة ذكية جدًا يعلم أن بداخلها ألم فقدان وإحساس الوحدة واليتم فهو يعلم هذا الشعور جيدًا حين توفى أهله جميعًا بسبب حريق قام في منزلهم التهمت النار كل شيء أمامها، كان طفلًا صغيرًا يلعب مع الأطفال في الشارع فتنهد واستيقظ من ذكرياته المؤلمة واتبسم لها قائلًا لا تخافي يا نيرة فأنا بجانبكِ دائمًا، توقفت السيارة فنظرت إلى عمها أمجد
وقالت له هل وصلنا؟
فقال لها نعم.
فردت: حسنًا.
فنزَل ومد يده لها وقال: هيا بنا مدت يدها ونزلت من السيارة وهي تنظر إلى المبنى الضخم الذي أمامها وأسواره العالية فقال لها هيَّا يا نيرة فتحركت معه وهو ممسكًا يدها حتى وصلوا إلى بوابة المدرسة.