نجاهد في الحياة؛ لأجل الوصول لأسمى الرغبات والأهداف؛ فتتجسد راحةٌ بعد الظفر
لا أعلم من أي جزء يمكن أن أستهل كلامي، و أفرد حكايتي، على نحو يدعو للتأمل والتفكير عندكم، لكن أردت أن أعبر فيكون التعبير مناسبًا لما تراه عين عقولكم؛ فتهبُّ وتنتفض لما يُقال.
كنت أحمل اسما يدعو للفرحة الغامرة و الآمال الطيبة، فيناديني أبي وهو مفعم بالحياة؛ لأبتسم من نغم نطقه لاسمي على صوته، فكان اسمي جُلنار.
كنت أبلغ من العمر خمسة عشر عاما. أعلم أنني صغيرة جدًا بأنظاركم، لكن بنظرتي أنا، أظل أكبرًا. كان لي شقيق واحد فقط، كان مُجدًّا في دراسته نابغا، فيظهر ذلك من درجاته العالية التي حصدها بالثانوية.
لم تكن ظروفنا المادية جيدة؛ فكان أجر والدي منخفضا حيث لا يكفينا، ثمانون جنيهًا فقط لا تلبي احتياجاتنا كلها؛ مما جعله منخرطًا بالجمعيات؛ ليتمكن من جمع بعض المساعدات التى سرعان ما تنفذ فيستلف من أصحابه المال؛ ليعين نفسه على متطلباتنا بالحياة التي لا تتوقف مطلقاً .
أتذكر أنني حصلت على مجموعٍ جيد، فكان تحصيل تعب وجهد من كل مشوراي الدراسي تقريبا. لم أكن مجدة طبعا مثل أخي لأصل إلى مرتبته أو أفوقه، لكنها كانت علامات مشرفة تزيد من حماسي الدراسي وطلب العلم. كانت فرحة أمي و أبي ظاهرة على وجهيهما، أنظارهما لا تكف عن شكري وإرسال التحيا عبر النسمات، فكانا يخبران كل من يلقونه عني؛ فأزيد غبطةً.
لاشك أنهما يسعدان بمشاركة الناس فرحتهما بي؛ فكنت بفكرهما، أروع ابنة.
كان انتقالي للسنة الثانية جيدًا، لكن... لم يكن بتلك الصورة الحسنة؛ فلقد تغير مزاجي للأسوء حينها. كنت أغضب لأسباب تافهة، فأصرخ بوجه أمي معاتبة. كانت تطلب مساعدتي لقضاء حاجيات المنزل من تنظيف أو ترتيب فكنت أرفض بشدة؛ فأتركها و أنصرف، لأدعها تقوم بكل شيء بمفردها غير مبالية.
لا أدري لمَ أصبحت الدراسة بالنسبة لي كابوسًا بالنهار. كنت أحمل الكتب لأدرس، فيبدأ عقلي باستحضار صوت الأستاذ وهو يشرح، فأشعر بتكاسل، فتبدو عيوني من وهنها مغلقة؛ فيصدر من دماغي صوت أشبه بصوت طنين الذباب، لأدع الكتب و أرميها بعيدا حتى تهدأ نفسي و يعود الاستقرار إلى كياني وأنام.
كنت أُأدي صلواتي لحبي للطاعات، ورغم كبر سني، إلا أنني لم أكن أُأَدي فرض الصلاة كما ينبغي، فأترك بعضها و أُأَدي البعض؛ فكنت مستهترة متكاسلة بشكلٍ لم أتقبله. كنت أدرس القرآن بغرفتي فأنزوي، فأحفظ منه ما تيسر حتى شارفت على حفظه كله. كانت جدتي امرأة كبيرة بالسن، لكنها واعية لما يحدث في الحياة ولي، فأشارت لأمي أن تأخذني لإمام مسجد صالح ليرى ما بي. أخذ يقرأ على الماء بعضًا من آيات القرآن لأشربه؛ لكنني لم أُرِدْ. كان لرؤية الإمام هنا بُعدٌ لم نصله مطلقا، فقد أيقن أنني قد تناولت شيئًا سُحِر، وسرتُ على شيء مسحور كذلك، وقد كان.
كان الأمر أشبه بحكاية خرافية لم أرد تصديقها. آثار السحر باتت تظهر على نفسي فكنت أشعر بعدة آلام متفرقة تنتابني بيدي و رأسي؛ فأنزعج. كانت محاولات الرقات لفك السحر عني تلوذ بالفشل، ولعل حالتي المستعصية هذه؛ زادت من غضبي وعصبيتي.
كنت أرتاد على الأطباء فأزورهم واحدا واحدا؛ حتى أصبحت أكثر شهرة من فناني زماننا، لكن دون جدوى، و لعل حالتي من الحالات النادرة التى يصعب تشخيصها عند طبيب؛ فبقيت سنة ونصف وأنا بتلك الحال متعبة، لا أقدر على فعل شيء بالحياة سوى النظر.
انتقلت للثالث الإعدادي، و حالي على حالها. كانت نتائجي بالفصل الأول ضعيفًا، وذلك ما لم يمنحنِ فرصة لأدرس اختصاصا جيدا. تلاشت آمالي؛ فأصبحَت مجرد أوهام على أوهام تراكمت، فكنت أنا الضحية التي لا تملك قدرة حتى للدفاع عن نفسها، أو الخروج من مأزق حقيقي كبير لا أقدره.
تعب سنوات الدراسة قد تلاشى، فصرت وكأنني لم أدرس شيئا ولم أتعلم. كنت أود أن أكون ظابطة بالأمن، ولعلني قد وجدتني لا أصلح لذلك بسبب درجاتي ذاك.
كان لي أقارب نوابغ، فكان اثنان منهم أطباء، و البقية شارفوا أن يصيروا علماء من شدة ذكائهم، وأنا لازلت أجتر العلم جرا لعل ذلك ينفع. ولعل المقارنة هنا واضحة، فمجموعي كان صفرا مقارنة بهم؛ فكنت أخجل عند رؤيتهم فأسير ورأسي منتكسة حتى أمر عليهم بسلام وأمان.
كانت أمي تناديني ب(حضرة الظابط)، فأشعر براحة غريبة وغبطة، لكنها سرعان ما تنتهي لأعود إلى واقعي فأخجل.
لذلك؛ كنت أحاول الاختباء من جدتي، وأبي؛ حتى لا يشعرا بخيبة أمل يذكرونها حينما يروني .
وددت أن أرتاح من كل ذلك. لقد تملك التعب ذاتي؛ فصرت كمن لا روح له، فنُزهت مني روحي حتى تنازلتْ عني و بقيت أصارع الحياة و عِنادها. كنت أبحث في نفسي عن عدة حلول لجعل ما أنا عليه يزول، أو يتغير، فأسألها و أجيبها بنفسي؛ لتبقى الأجوبة غامضة لا تحمل ما يساعدني على إزالة الركود والفشل، ولعل فكرة البحث عن عمل شريف يليق بي؛ هو الجواب الشافي لما يدور بعقلي، فتزول المصائب عني.
رغم بحثي المستمر عن عمل حسن؛ إلا أنني لم أفلح. كنت أحاور كل شخص ألقاه، عن نفسي ومستواي العلمي؛ فيلقي مباشرة طلبي بعيدا فأنصرف يائسة. هم يرفضون درجتي العلمية الضعيفة، فمستوى الإعدادية لا يُمكِّنُني من الولوج لعالم العمل بسهولة. كنت أبحث وأجوب الشركات والمؤسسات و غيرها، دون جدوى، حتى أُبلغت أن هناك مصنعٌ لإنتاج الملابس يبحث عن عاملين، ولا يشترط المؤهل العلمي، لهذا وبعد عناء البحث الطويل؛ ذهبت للمصنع، و الغريب أن المدير وافق مباشرة على توظيفي. إنها الفرحة التى تغمر القلب كوني عثرت بالنهاية على ما يُشعرني بأنني فرد منتج بالمجتمع وقادر على العطاء ككل إنسان. أنا الآن أعمل، وقد مر شهر على ذلك، وأنا الآن أيضا أساعد أبي في الحياة، فأنفق من راتبي الشهري لتعتدل معيشتنا فنطمئن. أصبحتُ راشدة. عملٌ حقق لي الكثير من الأحلام التى كانت عصية التحقيق، ولعل من عمد بسحر لي مرتاح البال وأنا أحترق، أو ربما هو العكس تماما؛ فبالنهاية أصبحتُ أنا جلنار بعد سنة من ذلك بأفضل حال و أفضل معيشة، فما أفلحَ الساحرُ، وما هنأ بحياته.
يعاني الجميع ويكدون بالحياة ويكافحون؛ لأجل أن ينالوا مراتبا عالية من العلم. إنهم يجتهدون فيجازيهم الله على صبرهم؛ فيكون الرضا و الحمد بأنفسهم ظاهرا. لكن هناك غيرهم من سلطت عليهم الحياة أهوالها فيستغلون سبل الحياة بأبشع الطرق؛ فيكون السحر وسيلة لقتل سعادة البشر، فتذهب عنهم، ويسكن نفوسهم الرعب و الجزع بسب مشاعر الغيرة والحقد.
بالنهاية، لا تقتصر العملية هنا على السحر فحسب، لكنها مشاعر متحجرة غُرست عبر الزمن فشوهت مظاهر الناس؛ فباتوا يظهرون كمجرمين يعبثون بحياة الناس وأحوالهم حتى الشبع .