"رأيتُ الشهيدَ النحيل الذي وجهه صارمٌ وهو طيب
وفي جذعه ميلان خفيفٌ كمن ينطحُ الريح نحو الأمام
ويرفع كتفيهِ كاللامبالي أو المتهيب وينطقُ بالحقِ يوم الخصام
ويرسمُ طفلاً يسمّيه حنظلة وهو يعقد كفيه من خلفه
فيلخص لا قصّة الناس منذ احتلال فلسطين
بل حالة منذ آدم يعرفها الخلق
ليست سكوتاً وليست كلاماً
وليست قتالاً وليست سلاماً
إذا وقع الظلمُ لف الغموض نوايا الشهيد
فللموت تغطية فذةٌ يتحير فيها الجنود
يدورون حول قتيلٍ ولا يعرفون متى وبأي عقاب لهم سيعود
يخافون من نصرهم وهو باق سؤالاً يلح عليهم
على كل قابيل يبكي بصدقٍ أمام الجسد
جعلتُ الحياة حياتي أنا بيديَّ مهددةً للأبد
ويظلُّ الصبي وكفاه من خلفه جسدا للوعيد
مسيحاً بدون وسامة تمثاله الذهبي
يخشن كفيه شغل النجارة نحت البشارة من سنديان عنيد
وفي ثوبه رقعة شعره واقف كأشعة شمس
مُلخصة أو خطوط تدل عليها
ورجلاهُ أكبر من أي أرض يسير إليها
سوى بلد في الخيال البعيد "
_ تميم البرغوثي
عزيزي القارئ إسمح لي أن أقدم لك نفسي .. أنا وأعوذ بالله من كلمة إسمي "حنظلة"
إسم أبي مش ضروري .. أمي إسمها نكبة وأختي الصغيرة فاطمة .. نمرة رجلي ما بعرف لأني دايماً حافي تاريخ الولادة ولدت في 5 حزيران 6٧ .. جنسيتي أنا مش فلسطيني مش أردني مش كويتي مش لبناني مش مصري مش حدا .. إلخ ..
بإختصار معيش هوية ولا ناوي أتجنس محسوبك إنسان عربي وبس.
عدتُ من العدم باحثً عنكِ يا فلسطين لكي أعرف متى العودة .. لم ابحث عنكِ في أرضك ولا في شعبكِ ولا في قدسِك الشريف .. بال في ذوات شعوبنا العربية فهل مازلتِ تكمُنين بداخلهم؟
وهل مازال يدير العربي ظهره لكِ حتى رآني ظنن منه أنني الذي أدير ظهري؟
ومتى العودة واللقاء يا سيدة كل المدن؟
أسئلة كثيرة تحوم في عقلي تثقل كاهلِ الصغير جعلت الشيب يغزو شعري كما غزا الغزاة أرضِك .. أنا متعب بحق يا فلسطين وكلما خطوت خطوة في الأوطان ظفر الهلاك بي على حال العرب بعروبتهم
فإن تحرير فلسطين مرتبط ارتباطاً وطيتاً بتحرير العرب لأنفسهم من كل أغلال الظلم فهل هذا ممكن أم أن الآتي ظلمات!!
عدتً من العدم يا فلسطين فأنا لست مرتبط بمكانٍ أو زمانٍ أنا حاضرً في كل الأماكن والأزمنة عدتُ باحثً عن الأجوبة .. لماذا أراكِ في كل شيء عدى رؤيتِك محررة!!
يا فلسطين أنا حنظلة فماذا أقول لـ ناجي العلي؟
في صباح الثاني عشر من شهر ديسمبر/كانون الأول عام "٢٠١٠" وتحت أشعة الشمس الدافئة قابعًا في إحدى بقاع شبه جزيرة سيناء المجيدة وتحديداً في مدينة طور سيناء المقدسة وكعادته يجلس وحيداً شارداً على سفح "جبل موسى" في لحظة من لحظات التجلي ينظر بإتجاه الأفق هامسً متى اللقاء والعودة؟
ثم ينادي منادي من بعيد يا حنظلة يا حنظلة يا حنظلة!!
يلتفت حنظلة في هوادة حتى يستطيع تحديد من أي إتجاه يأتي الصوت إنه "فاروق" غلام الحادية عشرة عاماً صديقي المقرب، وقف حنظلة في غلظة وسار نحو حافة الجبل بقرب الممشى الجبلي حتى يصبح فاروق على مرمى النظر
صاح قائلاً: أنا هنا يا فاروق ألم أخبرك أنني في الخلوة ولا أريد أن يزعجني شيء على الإطلاق
فاروق: أعلم هذا يا فتى لكن الشيخ صادق والقس بطران طلبوا مني الذهاب إليك ولا أعود بدونك، هم لن يتناولون الفطور إلا في وجودك
وحين سمع حنظلة ما قاله أسرع مهرولاً ليجلب حقيبته وأيضاً يحتضن "العنزة رشيدة"
تسارعا الفتيان عبر الممشى الجبلي حتى لا يتأخرون ويزيد الوقت وقتاً، وعند وصولهم إلى جوار الدير المقدس وجد الشيخ صادق والقس بطران مازالا في إنتظار قدومهم.
قال حنظلة وهو يلتقط أنفاسه: أعتذر لكما على التأخير لكن كنت أعتقد أنكما سوف تذهبان إلى المشوار السري الذي لا تودون أن أعرفه لذلك وجدت أنها فرصة مثالية للذهاب إلى سفح الجبل.
رد القس بطران : لا عليك يا حنظلة فإن ظمئ الصبر يرتوي بعذابة النهاية فلا بأس ببعض من الإنتظار، وأما عن المشوار فتم تأجيله بعد أن يصلي الشيخ صادق صلاة العصر وبعدها ننطلق في رعاية الرب.
حنظلة: تبهرني فلسفتك الحكيمة أيها القس بطران لك في كل موقف حكمة وفلسفة خاصة تضع بها بصماتك أينما كنت وحينما تتحدث، لكن هل مازلتم مصرون على كتمان سر المشوار إياه؟
رد الشيخ صادق: لا تستعجل فما هو بثمن الأن يصبح في الغد لا يجد من يبتاعه، وكفانا حديث وهي نبدأ في تناول الطعام.
******
حان وقت الصلاة المرتقبة مقاطعة الحديث الدائر بين القس بطران والشيخ صادق انتفض القس من جلسته وبادر في الأخذ بيد صديقه العجوز حتى يستعد للذهاب للمسجد وإمامة المصلين.
وقال القس مازحاً: بسرعتك هذا أيها العجوز سنصل إلى المسجد عند بزوغ الفجر ولن يجد المصلين من يحنو عليهم بالإمامة غيرك.
رد الشيخ قائلاً: أتعتقد أنني مثلك أيها الكاهل الأشيب؟ أنا مازلت في عز شبابي والدور والباقي عليك
سار الصديقان يتعجزان على بعضهم البعض وتعلو ضحكاتهم مصاحبة معها السعال الطفيف، وانتظر القس صديقة حتى أنهى الصلاة وذهبوا إلى وجهتهم المنشودة.
وفي الجانب الآخر ذهب حنظلة وبرفقته فاروق والعنزة رشيدة لكي يحصدو البرسيم الحجازي حتى يطعم الغنم،
وعند المساء عاد الشيخ صادق والقس بطران مصطحبان حفيد الشيخ صادق الذي عاد للتو من الخدمة العسكر في إجازة قد تدوم إلى أسبوعين، دخلوا جميعاً المنزل
نادى الشيخ صادق فاروق لكي يبحث عن حنظلة ليرحب "بـ علي"
وأصر الشيخ قائلاً: لكن لا تخبره بأن علي قد جاء من الخدمة فقط قل له أن الشيخ صادق يريدك أن تأتي لإستقبال الضيوف.
قال علي: مازال ذاك الفتى يحب أن يجلس بمفرده!! ربما سيجد حنظلة على سفح الجبل أو بجوار البئر القديم، أمره غريب جداً ذلك الفتى.
رد الشيخ قائلاً: من شاب على شيء يا ولدي، هذا هو حنظلة وهذه هي طباعه منذ أن التقيت به للمرة الأولى حين كنت ذاهباً للمعبر لتوديع أحد الأصدقاء الفلسطينيين وجده يقف وحيداً شارداً عاقدًا يده خلف ظهري ينظر نحو المعبر وأتذكر جيداً المحادثة التي دارت بيننا
قلت له: يا غلام ماذا تفعل وحيداً هنا؟
ليجيب دون أن يستدير: لا شيء فقط أنظر للخلود
تعجبت حينها وقلت : حسناً ما إسمك يا ولدي وما إسم أباك أو من أي قبيلة أنت ؟!
قال متنهداً: إسمي حنظلة وأبي ليس من الضرورة أن تعرف وإسم أمي نكبة وأختي الصغيرة فاطمة ولدتُ في الخامس من يونيو/ حزيران عام١٩٦٧ عربي الأصل عديم الهوية.
رد فعل الفتى البارد جعلني أشعر بأنه يمر بمأزق ما وقلت : حسناً يا ولدي لا عليك من كل هذا هل يمكنك أن تستدير وتقبل دعوتي للعشاء في منزلي المتواضع؟
حنظلة : حسناً لقد قبلت دعوتك وأقدم لك أعتذاري لأنني كنت أتحدث معك وأنا أدير ظهري.
ومنذ ذلك الحين وتلك اللحظة أصبح حنظلة رفيقي وابني لم نفترق أبداً .. لكن هذا لم يمنعني حينها من البحث عن عائلة الفتى لكن لم أجد له عائلة هنا أو في فلسطين حتى سأمت من البحث الذي مر لعدة سنوات وقلت في نفسي أنه سيظل معي حتى يظهر له نسب أو أياً كان يدل على جذوره.
وأكمل الشيخ قائلاً : لا تعرف ماذا يريد وبماذا يفكره إلا إذا أراد هو ذلك .. وحين يخونني لساني وأسأله عن ماضيه إما أن يلتزم الصمت أو أن يقول لي كلماته المعتادة.
" إسمي حنظلة وأبي ليس من الضرورة أن تعرف وإسم أمي نكبة وأختي الصغيرة فاطمة ولدتُ في الخامس من يونيو/ حزيران عام١٩٦٧ عربي الأصل عديم الهوية."
ويشهد الله أن ذاك الغلام منذ المرة الأولى التي لمست قدمه تراب هذه المدينة إصطحب معه الخير الوفير .. المحاصيل الزراعية التي نعتني بها ليلاً ونهاراً حفاظاً عليها من التلف المستمر، منذ قدومه دقت بداخلها بركات الله بشكل مبهر أصبحت تسد إحتياجات أهل المدينة خلافاً عن المخزون الوفير، والغنم الذي كان يلد مولود "بطلوع الروح" أصبحت تلد وتلد من فترة لأخرى بعد أن اعتنى بهم الفتى.
وإذا تحدثنا عن التغيرات التي طرأت علينا منذ قدوم "حنظلة" صدقني يا ولدي ستشرق الشمس ونحن لم ننهي الحديث.
ذهب "فاروق" إلي حنظلة عند البئر القديم علماً بأن هذا هو المكان المفضل لحنظلة يمكث بجواره ليلاً مشعلاً الحطب للتدفئة مفترشاً الأرض وعيناه للأعلى يتأمل السماء والنجوم المطرزة بها شارداً كعادته في ملكوت السماوات هامسً ربما!! ربما!!
يقترب منه فاروق وهو يترنح على أنامل قدمه وحين دنا تحدث بصوت مبحوح حنظلة .. حنظلة