روبرت بار
كانت السيدة "جون فوردر" في منأى عن توقع أيَّ شر قد يحلُّ في تمام التاسعة، كانت تغني مبتهجة وهي تقوم بواجباتها الصباحية في أنحاء المنزل، ولم يخطر لها ببالٍ أن الساعة التي حلّت يتذيلها شؤم منغَّص، سيقلب حياتها رأسًا على عقب قبل أن تحل ساعة أخرى!
كان زوجها الشاب -كعادته كلَّ صباح- يعمل في الحديقة قبل أن يتوجَّه إلى مكتبه. توقعَت استعداده لينطلق في أي لحظة. سمعَت صرير البوابة الأمامية، أعقبه بعض الكلمات الغاضبة. فساورَها القلق، وهمَّت بتفقُّد ما يدور عبر الستائر المفتوحة لنافذة في مقدمة المنزل، عندما سمعت صوتَ إطلاق نارٍ من مسدس، هرِعت نحوَ الباب وقد اُعْتصر قلبها بشدة. ولما فتحت الباب، رأت زوجها مُلقًى على وجهه على العشب دون حراك، وقد انثنت ذراعه اليمنى تحته، وبصرت رجلًا يحاول فتح قفل البوابة الأمامية باضطرابٍ شديد، ويحمل في يده مسدسًا لم يزَل الدخان عالقًا بفوهته.
كثيرًا ما تنقلب حياة البشر بأبسط الأشياء. كان الرجل قد أحكم غلق البوابة الأمامية خشية تطفُّلِ المارة. وكان ارتفاع السور حائلًا دون رؤية العابرين ما جرى، ومانعًا أيضًا هروبَ الرجل.
أطلقَت السيدة فوردر صرخات أثارَت أهل الحي، فاحتشدوا قبل أن يفرَّ الجاني، وكان في وسط المحتشدين شرطي، فتعذَّر الهرب. رصاصة واحدة فقط قد أُطلِقَت، اخترقت جسد الضحية جون فوردر. لكنه لم يلقَ حتفه بل كان مُلقًى على العشب مغشيًّا عليه. حُمل إلى داخل المنزل، واستُدعي طبيب الأسرة. واستَدعى الطبيبُ متخصصًا آخرَ ليُعاونه، وتشاورا معًا في الأمر. وهدَّأا قليلًا من رَوع الزوجة المذهولة. فالحالة يراودها أمل كجناحي فراشة أمام عاصفة!
أضحى الجاني "والتر رادنور" قيد الاحتجاز، وتعلَّق مصيره بمصير ضحيته. فلم يكن أحدٌ في المدينة كلِّها -باستثناء الزوجة- يتمنَّى تعافيَ فوردر أكثرَ منه! فإذا مات.. سيُرفَض إطلاق سراحه بكفالة، أما إذا ظهرَت عليه بوادر تعافٍ، فسيحظى بحرية مؤقتة على الأقل.
كان وراء الجريمة صراعٌ من رحم تناحر سياسي بائس. كان يرى "والتر رادنور" أنَّه الأجدر في المطالبة بأحد المناصب، فرجع بخُفي حُنَيْن وعزا ذلك -سواء أكان هذا صحيحًا أم لا- إلى دسائسِ جون فوردر الخفيَّة. وأثناء مغادرته لمنزله صباحًا، لم تكن نيته قتلَ خَصمِه، لكنهما ما إن التقيا جرى ما جرى مشادات كلامية، وكان المسدس جاهزًا في جيب بنطاله الخلفي!
كان رادنور يحظى بدعمٍ سياسي قوي؛ فلم يتخيَّل أن يُهجَر هكذا بعد ذُيوع ما فعل في المدينة! لم تكُنِ الحياة آمنة عندما حدثت تلك الواقعة بقدرِ ما صارت بعدها، وكان الكثير من الرجال ممن سبق لهم إطلاقُ النار على ضحاياهم يمشون في الطرقات في حريةٍ تامّة. إلّا أن هذه الواقعةَ أتت على نحو مغاير لما جرت عليه العادة في الاغتيال. لقد أطلق "رادنور" النار على رجلٍ أعزلَ في حديقة منزله الأمامية وعلى مرأًى من زوجته تقريبًا! كما أنه لمْ يمنح ضحيته فرصةً للنجاة. فلو كان فوردر يحمل مسدسًا ولو كان فارغًا، لَمَا بدا وضعُ "رادنور" بهذا السوء؛ ففي هذه الحالة كان من الممكن أن تبرر فعلته كونها دفاعًا عن النفس، كما أن أصدقاء الجاني بلا شكٍّ سيدَّعون أن الضحية أبرز سلاحه أولًا. لذا أدرك رادنور أن تقاريرَ حزبه السياسي أخذت تسدل ستائر الخذلان، وأن الذعر قد بلغ بأهل المدينة مبلغًا مما اعتبروه جريمةً ارتكبت بدم بارد.
يمرُّ الوقت ولمْ يزَل فوردر بين الحياة والموت. وباتَ من المؤكَّد في نظر الجميع أنه سيموت متأثرًا بإصابته، لكن القانون كان يشترط أن يموتَ الرجل بعد مهاجمته بوقتٍ محدد ليُحاكَم مُهاجمُه بتهمة القتل، وشارفت المدةُ التي حدَّدها القانون على الانقضاء ولم يَمُت فوردر بعد. وفي هذه الأثناء جرى من فظائع الأحداث ما استحوذ على الاهتمام الذي كان منصبًّا على مأساة "فوردر"!
مرَّضَت السيدة فوردر زوجَها وآنست الأمل في تعافيه. أقلُّ من عام قد مرَّ على زواجهما، وكلاهما يغدق الآخر بحبه! أصبح حبها لزوجها يملك ناصيتها، وخشي الأطباءُ إخبارَها بأن الحالة ميئوس منها تمامًا؛ تجنبًا لما قد يصيبها إذا ما علمت الحقيقة. تملكها كُره ذلك الرجل الذي سبَّب كلَّ هذا البؤس، حتى إنها عندما تحدَّثَت ذاتَ مرة مع أخيها، المحامي البارز في الولاية، رأى في عينَيها نظرةَ الجنون، وتخوَّفَ من الأمر بشدة. أصرَّ الأطباء -خوفًا من اعتلالِ صحتها- على أن تمشي كلَّ يوم لبعض الوقت، لكنها رفضت الخروج، وظلت تتمشى وحدها ذهابًا وإيابًا في ممرٍّ طويل في الحديقة المهجورة. وذات يوم سمعت من وراء السور محادثةً أخذت بناصيتها نحوه في فزع. سمعت صوتًا يقول:
- هذا منزل "فوردر" الذي أطلَق والتر رادنور النارَ عليه وراء هذا السور مباشرة.
سأل صوتٌ آخَر:
- حقًّا؟
ثُم أردف:
- أعتقد أن قلق رادنور سيكون بالغًا هذا الأسبوع.
رد الأول:
- بالتأكيد منذ البداية.
قال الثاني:
- هذا صحيح، فإذا انقضى هذا الأسبوع وفوردر لازال حيًّا، فسيُفلت رادنور من حبل المشنقة، أما إذا مات فوردر هذا الأسبوع؛ فسيتعقَّد الأمر؛ وقتها سينظر في هذه القضيةَ القاضي "برنت" المعروف في جميع أنحاء الولاية بإصدار أحكام الإعدام. وهو لا يتهاونُ مع هذا النوع من الجرائم، ولا شك أنه سيحكم على رادنور بالإعدام، وأنه سيُقنع المحلَّفين بذلك. أقول لك إن رادنور سيكون أسعدَ مَن في هذه المدينة صباحَ الأحد القادم إذا ظل فوردر حيًّا، وأعتقد أن أصدقاءه مستعدُّون لدفع الكفالة، وأنه سيُطلَق سراحه فور ذلك.
غادر الشخصان بعدما قادهما الفضول لتفحص المنزل، تاركين السيدة فوردر واقفةً مكانها تُحدق والصخب في عقلها لا يهدأ، ويداها مقبوضتان بشدةٍ بعدما أحكمهما التوتر. وبعد أن تمالكت نفسَها أسرعت إلى المنزل وأرسلت لأخيها، ولما وصل وجدَها تَسرع خطوها جيئةً وذهابًا في الغرفة، فقال:
- كيف حال جون اليوم؟
أجابته:
- لم يزَلْ كما هو، لم يزَل كما هو!
ثم أردفت:
- يتسرب الأمل مني في عافيته، لم يعد يعرفني!
سألها:
- وما رأي الطبيبَين؟
ردت:
- أوه، كيف لي أن أخبرك؟ يراودني الشك، لكن عندما يأتيان في المرة القادمة سأُصرُّ على معرفة ما يخفيان، لكن أخبرني: هل سيُفلت الجاني من العقاب حقًّا إذا مر هذا الأسبوع ولا زال جون حيًا؟
سألها:
- ماذا تقصدين؟
قالت:
- هل قانون الولاية يقضي أنه إذا عاش زوجي حتى نهايةِ هذا الأسبوع، فلن يُحاكَم الجاني بتهمة القتل؟
رد أخوها:
- لن يُحاكَم بتهمة القتل، لكنه قد لا يُحاكم بتهمة القتل حتى لو مات جون الآن. لا شك أن أصدقاءه سيُحاولون جعل القضية حالة قتل غير متعمد كما هي، ومع ذلك أشك في نجاحهم؛ خاصة أن قضيته سينظر فيها القاضي برنت، لكن إذا ظل جون حيًّا بعد الساعة الثانية عشرة يوم السبت القادم، فقانون الولاية يقضي بما قلتِ. وعندئذٍ ستكون أقصى عقوبة هي عقوبة السَّجن لسنوات في أحد سجون الولاية، ولن يقضي منها سنة واحدة إذا فاز حزبُه بانتخابات الولاية القادمة وهذا ما يبدو محتملًا.
قالت ومرارة الظلم تبكيها:
- أحقًا ندَّعي التحضُّر في ولايةٍ بها مثل هذا العوار في تشريعاتها؟
هز أخوها كتفَيه، وقال:
- لا أُعوِّل كثيرًا على تَحضُّرنا، هذه الأشياء يتكرر حدوثها دائمًا.
أخذت الزوجة تسرع خطوها في الغرفة مجددًا، بينما يحاول أخوها أن يُهدئَها، صاحت:
- إنه من العار ألا يُعاقَب مُرتكَب جريمةٍ كهذه!
- أختي العزيزة، لا تتركي الثأر يُعميكِ، وتذكَّري أنه مهما حدث للجاني.. فلن يجلب ذلك لزوجك نفعًا ولا ضرًا.
صاحت باكية:
- الثأر!
ثُم التفتَت إلى أخيها فجأةً وقالت:
- أقسم بالله إني قاتلة الجاني إذا أفلتَ من العقاب!
أمسكَ أخوها عن قول أي شيء آخر لأخته وهي في حالتها تلك، وانصرف بعد ما اجتهد في تهدئتها.
وفي صباح يوم السبت، واجهَت السيدة فوردر الطبيبَين قائلة:
- إن الترقُّب يقتلني، أصدقوني القول الآن، هل هناك أمل في تعافي زوجي؟
نظر كلٌّ من الطبيبين إلى الآخر. ثُم قال أكبرهما:
- أعتقد أنه لا جَدْوَى من تركك في هذا الترقُّب. ليس هناك أيُّ أمل في تعافي زوجك. ربما يعيش لأسبوعٍ أو لشهر، أو قد يموت في أيِّ لحظة.
قالت السيدة فوردر بهدوء استنكره الرجلان اللذان كانا يعرفان مدى انفعالِها الشديد خلال الفترة الماضية:
- شكرًا لكما أيها السيدان.. أعتقد أنه كان من الأفضل أن أعرف.
جلسَت طَوال فترة ما بعد الظهيرة بجوار سرير زوجها الغائب عن الوعي الذي بالكاد يتنفَّس. ألقى صراعه مع الموت بظلاله على ملامحَ وجهه فغيرها.
استأذنت الممرضةُ لمغادرة الغرفة لدقائقَ قليلة، فوافقَت في صمتٍ الزوجةُ التي كانت تنتظر هذا الطلب. وعندما انصرفَت الممرضة، قبَّلَت السيدة فوردر زوجَها ببكاء حار. وهمسَت والدموع تخنقها:
- جون، ستتفهَّم الأمر بالتأكيد.
ثُم ضمَّت وجه زوجها إلى صدرها، وكأنها تعانقه بقلبها عناقًا أخيرًا فارق الحياة بعده مختنقًا!
استدعَت السيدة فوردر الممرضةَ واستدعت الطبيبين اللذين كانا يتوقَّعان ما حدث.
صُعق الجاني عندما بلغه الخبر. وأدرك الجميع أن الرجل هالكٌ لا محالة! وأسهمَ هلاكه أكثرَ من أيِّ حدث آخر وقع في الولاية في جعلِ الحياة أكثرَ أمنًا من ذي قبل في هذا الكومنولث.