AmanyAlsagheer

Share to Social Media

4 *
*** ابتسمت بسمة في مرح وهي تلقى التحية على زميلاتها متجهةً بخطواتٍ سريعة إلى مدرج المحاضرات ترافقها منى والتي بدت صامتةً متجهمة، وعلى ملامحها إرهاقٌ يوحي بأنها لم تنل قسطًا وافرًا من النوم..
تفضلان دائمًا الابتعاد عن الزحام، لذا انتقت بسمة مكانًا في آخر المدرج وجلست مفسحةً لمنى مكانًا بجوارها..
ساد الصمت لحظات.. كانت بسمة تدرك منذ أن وقعت عيناها على منى أن الـ"د. عمرو"قد أخلف مواعيده مرةً أخرى لليوم الرابع على التوالي.. كل هذا التجهم والاكتئاب على وجهها لا يوحي إلا بذلك..
فضّلت في الأيام السابقة عدم مناقشة الأمر خاصةً ومنى تلوذ بالصمت معظم الوقت، إلا أنها بدأت تشعر بالقلق عليها من هذا التعلق الزائد عن الحد..
رمقتها بنظرةٍ جانبية، ثم قالت: هل تعلمين ما يتردد في ذهني الآن؟
مطت منى شفيها وقالت بضيق: أني حمقاء.. حسنًا.. أعرف هذا.. ماذا هناك أيضًا؟
ضحكت بسمة على الرغم منها وهزت رأسها نافيةً ثم قالت: كلا.. هو شيءٌ آخر..
نظرت لها منى بصمتٍ وتساؤل، فسحبت دفترها من أمامها وخطت.. "الحب مغامرةٌ كبرى.. إبحارٌ ضد التيارِ”
تطلعت منى إلى ما كتبته بينما تكمل في خفوتٍ وجدية: وعلى من يخوض مغامرةٍ كهذه أن يكون قويًا.. وصبورًا.
تنهدت منى وقالت بخفوتٍ مماثل: سأحاول.. أعدك حقًا بأن أحاول.
كان المحاضر قد دلف إلى المدرج معلنًا انتهاء الأحاديث الجانبية، فصمت الجميع وبدأت المحاضرة.

***********************

*** جهدٌ كبير ذلك الذي بذله عمرو خلال الأيام الماضية في المستشفى الجديد.. وعلى الرغم من أن العمل كان شاقًا ومرهقًا، إلا أنه كان سعيدًا بما يفعل، بل إنه شعر أن حماسه ونشاطه تجاه العمل قد تجددا بالفعل.. يكفي أنه يرى ويتعامل كل يومٍ مع وجوهٍ جديدة في مكانٍ جديد، ثم إن شخصيته القوية ومرحة الدائم قد جذبا إليه الجميع على نحوٍ جعلهم يرحبون به وبوجوده..
كانوا يسمونه في البداية "الطبيب الجديد"، لكنهم لم يلبثوا أن أطلقوا عليه فيما بينهم لقب "الطبيب المبتسم" وبالذات الممرضات اللاتي لم يعد لديهن حديثٌ سوى ابتسامة د. عمرو.. وسامة د. عمرو.. أناقة د. عمرو!
هو نفسه لم يكن يعلم بهذا اللقب، حتى أنه ذات مرة كان مارًا بأحد أقسام المستشفى عندما سمع الممرضات تتحدثن عمن يسمى "الطبيب المبتسم".. آثار الأمر فضوله فاقترب منهن وسأل ببساطة: ومن يكون هذا الطبيب المبتسم؟
انتفضت الممرضات وامتقعت وجوههن عندما وجدنه أمامهن وحدقن فيه ببلاهة، وبالطبع لم يقدرن على التفوه بحرفٍ واحد مما جعله يسأل مرة أخرى في دهشة: ماذا حدث؟!
أخيرًا استطاعت إحداهن أن تقول في كلماتٍ مرتبكةٍ مبعثرة: لا.. لا شيء يا دكتور.. لا شيء.
قالتها وابتعدت هي وزميلاتها في سرعة على نحوٍ أدهشه أكثر، فهز كتفه وعاد يواصل طريقه وهو يحرك أصابعه بجور رأسه مشيرًا بتلك الحركة التي تعني أنهن مختلاتٌ عقليًا أو ما شابه..
كان أهم ما حرص عليه هو أن يُنهي عمله قبل الساعة الخامسة مساءً، بعدها يستقل سيارته وينطلق بها بعيدًا.. إلى أبعد مناطق شواطئ البحر عن العمران..
وهناك، يجلس على الرمال أمام الشاطئ ليتأمل غروب الشمس مستمتعًا بحقيقة أنه في كل مناطق الدنيا شيء، وأمام البحر شيءٌ آخر.. شيءٌ آخر تمامًا..
أحب هذا كثيرًا واعتبره أفضل شيءٍ حققه بوجوده هنا..
في صباح اليوم الرابع، وصل مبكرًا كعادته واتجه مباشرةً لمكتبه.. وهناك، خلع سترته وعلقها جانبًا ثم ارتدى معطفه الأبيض وطالع بعض التقارير الطبية في اهتمامٍ استمر لدقائق، ثم لم يلبث أن أودعها أحد أدراج المكتب قائلًا: حسنًا.. الأمور تسير على نحوٍ جيد حتى الآن.
التقط سماعته الطبية وهمّ بالمغادرة لمباشرة عمله، لكن من إن امتدت يده ليفتح الباب حتى وجده يُفتح أمامه ليطل رجلٌ ذو وجهٍ باسم وعينين بنيتين، يميل جسده إلى الامتلاء رغم طول قامته، ويُبقي شعره قصيرًا جدًا وكأنه خرج لتوه من صفوف الجيش.. كان يقف بهدوء وعلى وجهه ابتسامةٌ واسعة..
هتف عمرو مندهشًا: باسل؟!
دلف باسل إلى الداخل وهو يقول بذات الابتسامة: مفاجأة.. أليس كذلك؟!
ابتسم عمرو بدوره وصافحه بحرارة قائلًا: بالتأكيد يا رجل.. مفاجأةٌ سارة بالتأكيد.. متى وصلت؟
وحمل صوته نبرةً مستغربة وهو يكمل: ولِمَ أتيت؟!
ضحك باسل وقال: هكذا أنت دائمًا يا عمرو.. جادٌ إلى درجة تثير الغيظ.. المفروض أن ترحب بي أولًا ثم تسأل فيما بعد
جذبه عمرو نحو أحد مقاعد المكتب ليجلس، ثم قال في مرح: ها أنا ذا قد رحبت بك.. والآن أجب عن سؤالي.
هز باسل رأسه متظاهرًا بالأسف وهو يقول: يا له من ترحيب!
ثم استعاد ابتسامته واستطرد في مرح: ولكن قل لي.. لِمَ ازددت وسامةً هكذا؟ يبدو أن جو الإسكندرية يناسبك كثيرًا.
قال عمرو ضاحكًا: أما أنت فقد ازددت بدانةً في الواقع، بعد أن أصبحت كسولًا ولم تعد تمارس الرياضة بانتظام.
تطلع باسل إلى جسده وعقد حاجبيه وهو يقول: حقًا؟! لكني لم أعد أُكثر من الطعام، ولم أتناول شيئًا منذ...
قاطعه عمرو متسائلًا: ثلاث دقائق؟!
ضحك باسل وقال: بل منذ مساء أمس وأقسم على ذلك.
بابتسامةٍ قال عمرو: يبدو أنني سأضطر إذًا لدعوتك على الإفطار.
ثم أردف قبل أن يُبدي باسل ترحيبه بالدعوة: بشرط.. أن تخبرني عن سبب وجودك المفاجئ.
اقترب منه باسل وخفض صوته وقال بلهجة من يفشي سرًا خطيرًا: أتيت لأساعدك.
انتظر عمرو أن يتابع حديثه، لكنه لفظ هاتين الكلمتين وصمت، فقال هو: و .. ؟!
- فقط.
- فقط؟
- أجل.
- باسل.. تحدث بجدية.
قال باسل ضاحكًا: أنا جادٌ تمامًا، وقد أتيت فعلًا لمساعدتك.. هاتفني المدير أمس وكلفني بذلك.. قال إنه لا يشك في قدراتك ومهارتك، لكنه يريد إنجاز العمل هنا في أسرع وقتٍ ممكن فقسم القلب هناك اختل بدونك.
قال عمرو متعجبًا: لكنى عرضت عليك الأمر من قبل ورفضت بكل نذالة.
هز باسل كتفه وقال: في الواقع.. كان الوضع حينها مختلفًا.
- وما الذي جدّ في الأمر وغير رأيك؟
أشار باسل بسبابته قائلًا: أولًا.. في المرة الأولى كنت سأصبح المسئول الأول والأخير، وأنت تعلم أنني لا أفضل ذلك.. أما الآن فأنا هنا للمساعدة فقط، ثم أنني أثق تمامًا أنك قادرٌ على إنجاز العمل بدوني.
- وثانيًا؟
- في الواقع...
صمت متحرجًا، فابتسم عمرو وقال: هيا.. تكلم.. أعلم أنه سيكون السبب الحقيقي.
- بصراحة.. لقد وافقت بناءً على رغبة خطيبتي.
اتسعت ابتسامة عمرو على نحوٍ يوحي أنه توقع شيئًا مشابهًا، بينما تابع باسل: كنت أحدثها عن الأمر فوجدتها تحمست بشدة.. إن خالتها تعيش هنا في الإسكندرية وهي تريد زيارتها منذ وقتٍ طويل.. وبوجودي هنا أنا أيضًا، سيكون بإمكاننا التنزه وقضاء بعض الوقت معًا.. وصلت هي مساء أمس ووصلت لتوي.. جئتك من محطة القطار مباشرة.
رفع عمرو أحد حاجبيه وقال: أها.. التنزه وقضاء وقتٍ ممتع.. جميل.. تُرى هل أتخيل الأمر أم أنك لم تضع العمل هنا في قائمة مهامك؟
- عمرو.. وا صديقي العزيز.. ستسمح لي بالذهاب من حينٍ لآخر بالتأكيد.
- هكذا إذًا!
قالها عمرو وهو يعقد ذراعيه أمام صدره، ثم أردف مداعبًا: دعني أفكر.
- هيا يا عمرو.. أرجوك.
ابتسم عمرو، ثم ربّت على كتفه وقال: حسنًا يا صديقي.. اذهب واقضي وقتك مع خطيبتك ودع لي العمل هنا فبصراحة، لا داعي لوجودك أصلًا.
ثم غمز بعينه وهو يكمل: ولا تقلق.. لن يعرف المدير شيئًا.
هتف باسل في حرارة: هذا هو صديقي العزيز.
صمت لحظات ثم تنحنح في حرج، فقال عمرو: ماذا هناك أيضًا أيها الطماع؟
- في الواقع...
قاطعه عمرو ضاحكًا: تحدث مباشرةً بدون "في الواقع" هذه أرجوك.. بدأت أخاف من تلك الكلمة فدائمًا تليها كارثة.
- أريد أن أستعير سيارتك قليلًا.
قال عمرو ببساطة: لا بأس.
ثم رفع سبابته أمام وجهه مردفًا: على أن تعود قبل الخامسة.
تهللت أسارير باسل وقال: لك هذا.
تطلع عمرو إلى ساعته ثم قال: لقد أضعت من وقتي عشر دقائق كاملة.. هيا اذهب.
ثم أشار بيده مكملًا: المفتاح في جيب السترة الجلدية المعلقة هناك.
تحرك باسل بحماس ليأخذ المفتاح، فالتقط عمرو سماعته الطبية وتحرك يغادر المكتب.. لكن، ما إن خطا خارجه حتى وجد باسل يهتف: يا إلهي.. عمرو.. ما هذا؟!
التفت إليه متسائلا: ماذا هناك؟
طالعه باسل بدهشة للحظات، ثم لم تلبث أن ارتسمت على شفتيه ابتسامةٌ عابثة، فاقترب منه عمرو وعاد يسأل: ألم تجد المفاتيح؟
قال باسل وابتسامته تتسع: بلى.. لكني وجدت معها شيئًا آخر.
بدا على وجه عمرو التساؤل مجددًا، فغمز باسل بعينه وقال: ألا تعرف أي شيءٍ ثمين وضعته في جيب سترتك.
ثم رفع يده يلوح أمام عينيّ عمرو بورقةٍ صغيرة مطوية قائلًا: كهذه مثلًا.
تطلع عمرو إلى الورقة في دهشة وكأنه يراها لأول مرة، ثم لم يلبث أن تذكرها فجأة، فانعقد حاجبيه في ضيق واختطفها من يد باسل هاتفًا في استنكار: باسل.. أتبحث عن المفتاح أم تفتش في جيوبي؟!
قال باسل بهدوء: لم أفتش إطلاقًا.. لقد وجدتها في أول جيبٍ مددت فيه يدي.
نظر له عمرو في ضيق وهو يستطرد: لامست أصابعي فجأة ورقةً ناعمة الملمس أثارت فضولي، فأخرجتها لأرى ماهيتها بالضبط.
ثم أخذ يُحرك يده في الهواء بحركاتٍ متموجة وهو يكمل متصنعًا الهيام: وما إن فتحتها حتى وجدت تلك الكلمة الخالدة.. الكلمة الساحرة التي أنبأتني بأنك مازلت بشريًا ولم تتحول بعد إلى آلةٍ للعمل.. ولكن قل لي يا عفريت، أهذا أمرٌ حديث أم أنك تلعب بذيلك من ورائي منذ وقتٍ طويل؟
ردد عمرو في دهشة: ذيلي!!
ثم هز رأسه نافيًا وقال في عصبية: أنت لا تفهم شيئًا.. الأمر بعيدٌ تمامًا عما ذهب إليه تصورك.
تطلع باسل إليه وقال عابثًا: حقًا.. ما الأمر إذًا.. أكثر من هذا؟!
- الأمر أن لا شيء.. هذه الورقة لا تخصني أصلًا.
بدت الدهشة على وجه باسل و عمرو يكمل: لقد وجدتها صدفةً على سيارتي.
أطلق باسل ضحكةً عالية وقال: وطبعًا سقطت عليها من السماء.. أليس كذلك؟!
عاد يضحك على نحوٍ استفز عمرو فزفر في غيظ وكاد يهتف بعبارةٍ عصبيةٍ أخرى، لكنه أحس أن الأمر عسير التصديق بالفعل فالتقط نفسًا عميقًا ليقول بصوتٍ أكثر هدوءًا: لم تسقط من السماء بالتأكيد، ولكني لا أعرف من أين أتت بالتحديد.. لقد وجدتها على سيارتي و...
قاطعه باسل ضاحكًا: عمرو.. أنا لست ساذجًا إلى هذا الحد.
حافظ عمرو على هدوئه وقال: صدقني.. هذا ما حدث بالفعل.
طالعه باسل لحظاتٍ في صمت، ثم قال: حسنًا.. هل لي أن أراها ثانيةً.
قالها وهو يمد يده بالفعل، فتردد عمرو لوهلة، ثم لم يلبث أن أعطاها له..
فتح باسل الورقة المطوية وجلس على أول مقعدٍ صادفه يتأملها وتألقت في عينه نظرة إعجابٍ وهو يقول: يا للأناقة.
ثم رفع عينيه إلى عمرو وقال: هذه الورقة وجدتها صدفة؟
أومأ عمرو برأسه إيجابًا في صبر.. فعاد باسل يقول: إذًا هي لا تخصك.
ابتسم عمرو قائلًا: بالضبط.
نظر باسل إلى عينيه وقال في بطء: ماذا إذًا لو... مزقناها هكذا.
قالها وأصابعه تتحرك وكأنه يهم بتمزيقها فعلًا و...
ووجد عمرو نفسه يهتف: كلا.
كان من الواضح أن باسل يعابثه فقد أطلق ضحكةً عالية وقال: كنت أعلم أن هذا سيكون رد فعلك.. لست أدري لِمَ تخفي الأمر كأنه جريمة.. إنه أجمل شيءٍ في الوجود يا صديقي العزيز.
ثم اقترب من عمرو وأمسك كتفيه وهو يستطرد بانفعال: هل تعلم.. أنا سعيدٌ للغاية من أجلك وأتحرق شوقًا لأعرف منك كافة التفاصيل، ولكن الوقت غير مناسب.. سأذهب الآن وستخبرني بكل شيءٍ فيما بعد.. اتفقنا؟
لم يجد عمرو ما يقوله.. كما أن باسل لم يمنحه فرصةً ليقل شيئًا، فقد افترض موافقةً ضمنية وأكمل في سرعة وهو يمد يده له بالورقة: اتفقنا.. إلى اللقاء.
ثم لوح بيده مغادرًا في سرعة..
ظل عمرو واقفًا حيث هو يتطلع إلى الورقة مغمغمًا: أي مأزقٍ هذا.
التقط نفسًا عميقًا وهو يستطرد في خفوت: ورغم ذلك، مازلت أشعر أنني أريد الاحتفاظ بك.
قالها وهو يعيدها إلى جيب سترته في عناية، ثم يتطلع إلى ساعته قائلًا: لقد أضعت الكثير من وقتي حقًا يا باسل.
وبذهن غير صافٍ، غادر مكتبه ليباشر عمله.. وطوال اليوم لم يكف عقله عن السؤال: هل الورقة لا تخصه حقًا؟!

*********************
1 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.