AmanyAlsagheer

Share to Social Media

* 5 *
*** وقفت بسمة في المعمل تجري أحد التجارب وسط مجموعةٍ من زميلاتها.. وكالعادة، كان الجميع يتحركون في نشاط ويتناقشون حول التجارب التي يجرونها، وأحيانًا يتبادلون خلسةً العبارات المرحة الضاحكة في صوتٍ خفيض..
أما منى فبدت غير رائقة المزاج على الإطلاق وهي تقف في أحد الأركان تتابع خطوات تجربتها في صمتٍ شارد..
وفي فضول، مالت أمل على أذن بسمة وهمست: بسمة.. ماذا بها منى؟
قالت بسمة دون أن ترفع عينها عما تجريه: وماذا بها؟
هزت كتفها وأجابت : لست أدري.. لكنها لا تبدو طبيعية.
نظرت بسمة إلى حيث تقف منى ثم قالت: لماذا تعتقدين هذا يا أمل؟ أنا أراها طبيعيةً للغاية.
قالت أمل في إصرار: كلا.. لا تبدو كذلك.. منى التي لا تكف حديثًا ومرحًا لم تنطق بكلمةٍ واحدة مع أيٍّ منا حتى أنتِ منذ الصباح، وتبدو مكتئبةً إلى حدٍ غير عادي.. وليس اليوم فقط، بل منذ عدة أيام.
تنهدت بسمة ومطت شفتيها ولم تدر حقًا بم تجيب.. فالحقيقة أن ما تعانيه منى الآن لا يُحكى ولا يُقال.. ليس لأنه سرًا، بل لأنه لا يُعقل ولا يُصدق..
ظلت على صمتها لحظات تبحث في عقلها عن مبررٍ منطقي يمكنها قوله، فلم تجد سوى أن تقول: في الحقيقة، لست أدري بالضبط.. كلنا الآن متوترون لأن نتائج اختبارات الفصل الدراسي الأول على وشك الظهور، هذا إلى جانب قلقنا الزائد من مادة "علم السموم" والتي كان اختبارها النظري غايةً في الصعوبة والغباء.. أنت نفسك تشاجرت مرتين اليوم فقط، إحداهما مع أستاذ الكمياء الحيوية السخيف الذي يتحاشى رئيس القسم نفسه التشاجر معه حتى لا تنفجر مرارته.
عقدت أمل حاجبيها في ضيقٍ وقالت معترضة: بسمة.. أنت تعلمين أنه...
قاطعتها بسمة: نعم أعلم أنه سخيفٌ وعصبي، ومستفزٌ أيضًا.. لكننا اعتدنا طباعه واعتدنا ألا نجعله يستفزنا منعًا للمشاكل، ورغم ذلك فقد نجح في استفزازك.. لماذا؟ لأن الأعصاب كلها مشدودةٌ ولا تحتمل المزيد.
عادت أمل تتابع خطوات تجربتها مستمعةً لـبسمة وهي تكمل: أعتقد أن منى أيضًا كذلك.. وربما صدر منا شيءٌ ضايقها دون أن ندري.. وربما الأمر لا يتعلق بنا.. من الممكن أن تكون هناك مشكلةً شخصية.
قالت جملتها الأخيرة وهي تتنهد، لكنها لم تلبث أن أكملت بسرعة: وربما مشكلةٌ عائلية.. لا أعرف بالضبط ولا أحد يعرف.
تساءلت أمل: وماذا لو سألناها مباشرة؟
أجابت بسمة سريعًا: لو كانت تريد التحدث لأحدٍ لفعلت منذ البداية.
تطلعت كلتاهما إلى منى والتي انهمكت في معايرة أحد المحاليل، ثم قالت بسمة في خفوت: لكني سأحاول.
أومأت أمل برأسها في استحسان، قبل أن تنهمك كلٌ منهما في تجربتها مرة أخرى.. وبعد عدة دقائق، كانت بسمة قد أنهت عملها بعد أن حصلت على نتائج جيدة، فاتجهت إلى حيث تقف منى وقالت في مرح: أين أنت الآن؟
قالت منى وهي تسكب محتويات أنبوب الاختبار الذي تحمله في الحوض: هنا.
ارتفع حاجبا بسمة وقالت في دهشة: لِمَ سكبت الأنبوب؟ مازلتِ تحتاجينه لإكمال التجربة.
واصلت منى سكب محتويات أدواتها وهي تقول: ومن قال أني أريد إكمالها.
ظلت بسمة تتطلع إليها بدهشة لحظات، ثم سألتها: هل ستعيدينها؟
أجابتها منى بلا انفعال: لن أكملها.. ولن أعيدها.
- ولماذا؟!
سألتها بسمة بدهشةٍ أكبر، فردت في عصبية وهي تضع أدواتها في حقيبتها: لأني لا أريد.
ثم استطردت وقد عاد صوتها إلى جموده: هل انتهيت من عملك؟
أومأت بسمة برأسها إيجابًا، فعادت تقول: هيا بنا إذًا.
- أنا لم أرتب أدواتي بعد.
- حسنًا.. سأنتظرك في الخارج.
طالعتها بسمة وهي تغادر بخطواتٍ سريعة، ثم هزت رأسها وحدثت نفسها في خفوت قائلة: لقد تدهور حالك كثيرًا يا منى، ويا ليتني أستطيع فعل شيء.
اتجهت إلى حيث تركت أدواتها مغمغمة: والكارثة أن مسبب المشكلة أصلًا لا يعرف حتى كونه كذلك.. شخصٌ يمارس حياته الطبيعية دون أن يدري أن هناك من تأثرت حياتها كلها لمجرد أنها لم تعد تراه!
تنهدت في عمق وهي ترتب أدواتها في حقيبتها كي تلحق بها آملةً ألّا يستمر هذا الوضع كثيرًا.
أما منى، فقد هبطت إلى ساحة الكلية شاعرةً أنها لم تعش يومًا بهذا الطول الممل قط، وأنها لا تطيق البقاء في هذا المكان ولو لثوانٍ.. كادت قدماها تقودانها بالفعل إلى خارج الجامعة لولا أن تذكرت قولها لبسمة بأنها ستنتظرها، فعادت تجلس في ضيق على أحد المقاعد الرخامية في ساحة الكلية في انتظارها..
كان الوقت متأخرًا نوعًا.. الجو بارد وقد خلت ساحة الكلية أو كادت من الطلبة.. ورغم ارتجافها بردًا، شعرت منى أنها ارتاحت لهذا الجو الصامت فتركت المقعد وافترشت معطفها أرضًا على الرصيف، ثم جلست مستندةً بظهرها على جذع أحد الأشجار..
استرخت في جلستها هذه على نحوٍ ذكرها بجلستها أمام نافذة حجرتها.. وكما تفعل دائمًا، رفعت عينيها تتأمل السماء.. لكنها لم ترَ سوى السحب والغيوم التي تجمعت بشدة حاجبةً ضوء الشمس ومنذرةً بهطول المطر..
أضفى هذا المزيد من الكآبة على الجو على نحوٍ ناسب حالتها النفسية كثيرًا فاسترخت أكثر ومارست هوايتها الأثيرة..
الشرود..
ابتلعها شرودها ببساطة، فنسيت أنها في الكلية وأنها تنتظر بسمة وأن السماء قد تمطر في أي لحظة، واقتحم عقلها شيءٌ واحدٌ فقط..
عمرو..
وهذا يعني أن لا شيء في الدنيا كلها يمكن أن يجد له مكانًا الآن وسط أفكارها..
عمرو.. أين أنت؟
لماذا لا أجدك؟
لماذا لم أعد أراك؟
انطلقت أسئلتها بلا إجابة حاملةً دموعًا ترقرقت بها عيناها..
لم تكن تؤرقها الفترة البسيطة المنصرمة قدر ما تؤرقها الفترة التالية التي تنتظرها..
أهي أيامٌ أخرى أم أسابيع؟ أم تُراها شهور؟
انقبض قلبها من مجرد الاحتمال، فأفلتت دمعةٌ وفرت لا تلوي على شيء..
بأصابع مرتجفة بردًا وانفعالًا، مدت يدها لتمسحها مطلقةً تنهيدةً حارة خرجت من أعمق أعماقها ودفعتها إلى الغرق أكثر وأكثر في أفكارها..
- منى !!!
انتزعها ذلك الهتاف بغتةً من شرودها يحمله صوت بسمة، فالتفتت لتجدها تقترب في سرعة وهي تصنع من معطفها مظلةً فوق رأسها بينما المطر ينهال بشدة..
شعرت بالدهشة وهي تنهض.. متى أطلقت السماء سراح كل هذه الأمطار؟!
وفي دهشةٍ أكبر هتفت بسمة: منى.. كيف تجلسين هكذا وبمنتهى الهدوء.. ستبتل ثيابك.
نظرت منى إلى ملابسها ثم قالت وهي تجذب بسمة إلى جوارها: ليس إلى هذا الحد.. يبدو أن أغصان الشجرة قد تلقت معظم قطرات المطر.
عدّلت بسمة من وضع معطفها فوق رأسها وقالت: هيا بنا إذًا.. التقطي معطفك ودعينا نرحل من هنا بسرعة قبل أن يشتد المطر أكثر.
انحنت منى لتلتقط معطفها ونفضته بقوة وهي تقول: لكنه الآن في أوج غزارته.. دعينا ننتظر بعض الوقت.
صمتت بسمة في موافقةٍ ضمنية استمرت لبضع دقائق وضعت منى خلالها معطفها فوق رأسها هي الأخرى عندما بدأت أغصان الشجرة تنفذ قطرات المطر بصورةٍ أكبر..
رمقتها بسمة بنظرةٍ جانبية وقالت: يبدو شكلك مضحكًا.
أطلقت منى ضحكةً قصيرةً خافتة وأشارت بيدها قائلة: لو كانت هناك مرآة، لوجدت شكلك أكثر إضحاكًا.
تصنعت بسمة الدهشة وقالت: يا إلهي.. أتضحكين فعلًا، أم أن هذا خداعٌ بصري؟
- خداعٌ بصري بالطبع.
قالتها منى وهي تبتسم..
- يا للهول.. وتبتسمين أيضًا.
- أما هذه فليست خداعًا بصريًا.
- ماذا إذًا؟
اقتربت منها منى وهمست: وهم.
ضحكت بسمة وقالت: لقد كنتُ محقةً في مخاوفي.. ستطيحين بالبرج الباقي في عقلي عما قريب.
قالت منى بدلال: لماذا يا بسمتي؟
تصنعت بسمة الحدة قائلة: كُفي عن مخاطبتي بهذا الاسم.. أشعر كلما سمعته أنني طبق أرزٍ على مائدة.
ضحكت منى بشدة هذه المرة، فشاركتها بسمة الضحك وقد أسعدها أنها استطاعت أن تخرجها من تجهمها ولو قليلًا..
تجمعت حولهما العديد من الزميلات والكل يحاول الاحتماء من الأمطار بأي شيء، لكن الحديث الدائر لم يكن عن الطقس أو الأمطار، بل عن نتائج الاختبارات التي هي على وشك الظهور..
عاد لمنى تجهمها ثانيةً والقلق يعصف بها.. لم يكن اختبار "علم السموم" جيدًا على الإطلاق، ويقلقها بشدة أن تتعثر في هذه المادة للمرة الأولى في سنوات دراستها التي كللتها باجتهادها الدائم..
مالت على بسمة وقالت: متى بالضبط؟
كانت بسمة تعلم بالطبع عما تسأل، فأجابت باقتضاب: ربما يومين أو ثلاثة.
اغتصبت ابتسامةً وقالت: جميل.
لكن لسان حالها كان يقول بوضوح.. "هذا ما كان ينقصني"!

***************

*** تألق قرص الشمس الغارب بلونه الأحمر الناري من بين السحاب، ومضى يتحرك ببطءٍ شديد نحو الأفق صابغًا السماء وسحابها من حوله بأضوائه الحمراء الرائعة، والتي عكستها مياه البحر وأمواجه الثائرة في منظرٍ خلاب..
وهناك، وعلى مسافةٍ قريبة من الشاطئ، جلس عمرو يداعب الرمال بيده وعيناه شاردتان تتطلعان إلى مالا نهاية.. تتابعان الشمس وأضواءها الغاربة التي تجاهد لتفسح لنفسها طريقًا بين الغيوم.. تتأملان البحر وأمواجه الثائرة التي تنشأ من العدم وتتحرك بكل قوتها وعنفوانها مندفعةً نحو الشاطئ إلى حيث تنتهي رحلتها، فتختفي لتنشأ من جديد..
وعلى الرغم من صوت الأمواج العالي الذي يصم الآذان، شعر عمرو أنه يعيش أكثر لحظات حياته هدوءًا.. ثم إنه اليوم بالذات يشعر بارتياحٍ غامر.. لقد انتهى من عمله هنا أخيرًا وعلى أكمل وجه.. مازالت كلمات الشكر والمدح التي ألقاها مدير المستشفى الجديدة على مسامعه تتردد في أذنيه وهو يثني على عمله وكفاءته..
لقد حقق نجاحًا، وهذا بالنسبة له سببًا كافيًا ليشعر بالارتياح والرضا عن النفس.. ثم إنه سعيدٌ لأن الجو قد تحسن أخيرًا بعد موجة الطقس الباردة والأمطار والتي منعته من قضاء وقت الغروب بجوار الشاطئ طوال الثلاثة أيام الماضية، فطقس اليوم - رغم برودته - رائعٌ بكل المقاييس بالنسبة لسابقيه.. وها هو ذا يجلس على رمال الشاطئ الناعمة يودع المكان على ضوء الشمس الغاربة، بعد أن تصور أنه سيغادر الإسكندرية دون أن يزوره لمرةٍ أخيرة..
التقط نفسًا عميقًا من الهواء البارد فغمره شعورٌ عجيب بالاسترخاء ورغبةٌ عارمة في أن يستلقي على الرمال ويغمض عينيه..
لم يقاوم كثيرًا.. عقد أزرار معطفه واستلقى بالفعل على الرمال عاقدًا كفيه تحت رأسه..
ولدقائق عدة، بدا ساكنًا صامتًا ودفعات الهواء تداعب خصلات شعره الطويلة في نعومة، ثم لم يلبث أن قال محدثًا نفسه: يا له من جوٍ يحرك المشاعر.
ظهرت ابتسامةٌ على شفتيه وأردف: لو أن باسل معي الآن، لقال إنه لا ينقصني سوى أن تكون معي حبيبتي التي لا أعرفها والتي يصر على أنني أُخفي أمرها عنه.
تذكر أمرًا ما، فاعتدل ومد يده يبحث في جيوبه مغمغمًا: أين أنت يا أغرب شيءٍ وقعت عليه عيناي.
أخرج الورقة الصغيرة من حافظته وفضها متأملًا محتواها..
مرت عيناه على الكلمة مرارًا وتكرارًا..
"أحبك"
شعر بانفعالٍ ما يتحرك داخله لم يدرِ كنهه، فتعجب من نفسه..
طوى الورقة الصغيرة وضم عليها قبضته وعاد يستلقى أرضًا واضعًا يده الأخرى خلف رأسه..
وعلى أضواء الشمس المحتضرة، استغرق في التفكير..
لحظاتٌ مضت قبل أن يمط شفتيه قائلًا: تفسيري للموقف في غاية السذاجة.. لو أنها وُجدت خطأً على سيارتي لأدرك مرسلها هذا على الفور، وبالتالي ليس من المنطقي أن يتركها حيث هي.. المفترض أنه يريدها أن تصل إلى شخصٍ بعينه.. إلا إذا كنت أنا هذا الشخص!!
زفر في عمقٍ وقال محدثًا نفسه: تفسيرٌ أكثر سخافة.
عاد للتفكير محاولًا إيجاد تفسيرٍ أكثر منطقية، لكنه بدا له التفسير المنطقي الوحيد..
ارتسمت ابتسامةٌ هادئة على شفتيه وقال: يبدو أن هناك من يهتم بأمري.. ولكن من يا تُرى؟!
اعتدل ونفض الرمال عن يديه مكملًا: ربما أعرف فيما بعد، عندما يرسل... أقصد ترسل فتاتي الغامضة رسالتها الثانية.
كان على ثقةٍ بأنه لو كان المقصود حقًا بهذه الرسالة فستتكرر المحاولة.. كل ما عليه هو الانتظار..
بدأ الظلام ينتشر، فاتجه إلى سيارته المتوقفة على بعد أمتارٍ قليلة.. وقبل أن يستقلها التفت ليلقى نظرةً أخيرة على البحر والمكان كله ولسان حاله يقول.. سأفتقدك حقًا.

**********************
1 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.