صديقة المتوحد
عزيز ياقوت
الإهـــــــداء
إلى هادى الذى بداخلى.. أنت لست وحدك.
الدكتور نبيه عبد الرحيم من قصة الوريث الإذاعية..
الممرضة سماح من قصة رؤيا مبتورة الإذاعية..
رامى كامل من قصة التحفة الملعونة الإذاعية..
مجدى الإلهامى من قصة قرين الإلهام الإذاعية..
"عزيزتى ثريا ساكنة الثريا.. أستبقت أجلى.. فلقد نسينى الناس فنبذتهم.. وأتعبونى فأرهقتهم.. وأتهمونى فتجنبتهم.. و سأغادر هذه الدنيا غير مأسوف على أو عليهم."
هبت أحدى السيدات فى العقد السادس من العمر من مقعدها أمام غرفة المرضى فى أحدى المستشفيات فور رؤيتها للطبيب و هو يخرج منها و هتفت به:
- كيف حاله الأن يا دكتور؟؟ أرجوك أخبرنى؟؟
حاول الطبيب الشاب تهدئة روعها و هو يقول:
- أطمئنى يا سيدتى.. سوف يكون بخير.. أنه يحتاج فقط إلى بعض الوقت حتى يتجاوز مرحلة الخطر.
فزعت السيدة للكلمة فكررتها فى صدمة:
- مرحلة الخطر؟!
قال الطبيب فى هدوء بعد أن رأى تأثير كلمته عليها: - ليس خطرا بالمعنى الحرفى.. أقصد أنه يحتاج إلى الوقت حتى يستعيد وعيه.. و عندها سيصبح كل شىئ على ما يرام.
مسحت السيدة وجهه بعينيها كأنما تحاول أن تتبين صدق حديثه..
فأردف قائلا:
-أطمئنى.. سوف يصبح كل شىء على ما يرام.. أ أنتى والدته؟؟
أجابت السيدة فى أسى:
- بل خالته.. خالته التى أنشغلت عنه.. كلنا أنشغلنا عنه.
و فى تلك اللحظة أندفع شاب يعدو مسرعا فى أتجاهها هاتفا:
- ماذا هناك يا خالة؟؟ ماذا حدث لهادى؟؟
أمسكت المرأة الشاب من ملابسه و صرخت فيه فجأة:
- أين كنت؟؟ أخيك بين الحياة و الموت.. كم مرة أخبرتك أن تتصل به و تسأل عنه.. ضاع الفتى.. ضاع الفتى.
قال الشاب فى توتر محاولا كبح جماحها:
-أهدئى يا خالة و أخبرينى ماذا حدث؟؟
و كان يبدو كأن المرأة لم تسمع حرفا مما قال و هى تضرب على صدرها براحتها صائحة:
-ماذا سأقول لأختى عندما أقابلها فى الآخرة؟؟ ماذا سأقول لها؟؟ أضعت ولدك؟؟ و عندما تسألنى أين كنتى ماذا سأجيب؟؟
ثم ألتفتت إلى الشاب فجأة و أمسكته من ملابسه مرة أخرى فى عنف و هى تصرخ:
- و عندما تسألنى أين كان أخيه بماذا سأجيب؟؟ أين كان الجميع بماذا سأجيب؟؟
أنتزع الشاب يديها من على قميصه بصعوبة و هو يقول: أرجوكى أهدئى يا خالة.. دعينى أعرف ماذا حدث لهادى؟؟
ثم وقع بصره على الطبيب كأنما راه فجأة فقال بنبرة حرج: معذرة يا دكتور.. لم أنتبه لك فى البداية.
ثم قدم يده تجاه الطبيب و أستطرد: أنا مازن محمود شقيق هادى.
صافحه الطبيب و هو يقول: لا عليك يا سيدى لا داعى للأعتذار.. أنا الدكتور نبيه عبد الرحيم.. الطبيب الذى أستقبل الحالة.
سأل مازن فى قلق: كيف حالة هادى الأن؟؟ و ماذا حدث له؟؟
أندفعت خالته فجأة صائحة: هادى بين الحياة و الموت.. و نحن السبب.. نحن السبب.. أه يا هادى يا قطعة من قلبى.. نجه يا رب نجه.
نظر أليها مازن فى ضيق ثم سحب الطبيب بعيدا عنها و هو يقول: أخبرنى ماذا حدث بالضبط يا دكتور؟
أرتبك الدكتورنبيه لحظات كأنما يحاول أن يستجمع أفكاره و هو يعدل منظاره الطبى على أنفه ثم أحذ نفسا عميقا و قال: لقد أستقبلنا حالة الأستاذ هادى مصابا بجرح عميق فى المعصم.. مشابه تماما لحالات حوادث الإنتحار.
شحب وجه مازن فجأة و هو يقول فى ذهول: إنتحار؟؟
هز الدكتور نبيه رأسه و أجاب: نعم.. لقد فقد الكثير من الدماء.. و لن أبالغ لو قلت أنه يحتاج إلى معجزة حتى يستعيد وعيه.
سأله مازن فى تردد: هل.. هل.. هل سينجو؟؟
أراد الدكتور نبيه أن يجيبه بما يحب أن يسمع.. لكنه لم يستطع..
و فى نفس اللحظة خرجت أحدى الممرضات من غرفة هادى فهتفت بها خالته: كيف حاله الأن يا أبنتى؟؟ بالله عليكى أصدقينى القول.
ربتت الممرضة على كتفها فى إشفاق و هى تقول: أطمئنى يا سيدتى أنه بخير.. فقط يحتاج إلى بعض الوقت.
نظرت إليها الخالة قائلة فى توسل: حقا يا بنيتى؟؟ أن وجهك ينطق بالسماحة.. أخبرينى بالحقيقة أقسمت عليكى بأطفالك الأبرياء.
نظرت أليها الممرضة فى شرود كأنما أعادتها كلمات المرأة إلى ذكرى قديمة ما لبثت أن نفضتها عن عقلها و هى تجيب: أطمئنى يا سيدتى.. سوف يصبح بخير أن شاء الله.
ثم أستطردت و هى تتحرك من أمامها: إذا تعذرتى فى أى شىء.. أسألى عنى فى غرفة التمريض.. قولى فقط أين سماح.
تمتت الخالة ببعض عبارات الشكر التى لم تلتقطها أذن سماح.. ثم ما لبث أن عاد لسانها بالدعاء و الأبتهال بنجاة هادى..هادى.. الروح المعلقة بين الحياة و الموت.. و الذى كان عقله فى غيبوبته يستعيد شريط عمره البالغ ستة و ثلاثون عاما.. منذ البداية
" عزيزتى ثريا ساكنة الثريا.. عمرى الأن ستة و ثلاثون عاما.. لكن لحظة ميلادى هى الأكثر ألما بالنسبة لى.. لأنها جرت خلفها كل اللحظات المؤلمة تباعا."
ولد هادى فى أسرة مستقرة لأب يعمل فى أحدى المهن الحرة.. و أم متوسطة التعليم أكتفت بدورها كربة منزل له و لأخيه الأكبر مازن.. كانت ولادته متعثرة للغاية كما أخبرته أمه.. لكنه عند نزوله بين يدي الطبيب.. كان سليما معافا.. يزن من الكيلوجرامات ما يحسده عليه أى طفل فى موضعه.. صوره التى رآها لطفولته عندما كبر.. كانت تقول أنه كان أسما على مسمى.. هادىء للغاية.. أو كما يقول عنه أحد أصدقاء والده كلما وصفه لأحد..
" هو هادى و شكله هادى و أسمه هادى"..
كان مليحا فى طلته.. طفل ذو شعر أسود ناعم.. عينين واسعتان زرقاوتان.. ورثهما عن جدته لأمه.. السنوات بينه و بين أخيه تبلغ ثلاث سنوات.. لكن التواصل الفعلى بينهما كان شبه منعدم.. حتى عندما شبا معا.. لحظات طفولته التى أختزنتها ذاكرته كانت قليلة جدا.. أنه يتذكر أول مرة فيها سمع صوته ينطق بكلمة.. أستيقظ فجـأة من على سريره فى أحدى الصباحات الشتوية الباردة.. و رفس عنه غطائه الثقيل.. و أتجه بمنامته الحمراء ذات الرسومات الكثيفة التى يرتديها إلى صالة المنزل و قال: صباح الخير.
و لا يتذكر حتى ماذا حدث بعدها..
يتذكر أيضا بكائه فى أول يوم دراسى له.. عندما ألبسته أمه بنطالا بنيا و قميصا شاحب اللون مع ربطة العنق التى لا يجيد عقدها إلى الأن.. و سلمته إلى أبيه الذى قال: هيا بنا.
يتبع....