كثيرةٌ هي الأحداث التي عاصرها الإمام الجليل محمد بن إسماعيل البخاري -رضي الله- عنه منذ مولده وحتى رحيله. وقد ولد الإمام البخاري بعد وفاة هارون الرشيد بعام واحد، وعاصر عشرة من خلفاء بني العباس، أربعة منهم في العصر العباسي وهم:
• الأمين بن هارون الرشيد.
• المأمون بن هارون.
• المعتصم بالله بن هارون.
• الواثق بالله هارون بن المعتصم.
وستة من العصر العباسي وهم:
• المتوكل على الله بن المعتصم.
• المنتصر بالله بن المتوكل.
• المستعين بالله بن المعتصم.
• المعتز بن المتوكل.
• المهتدي بالله بن الواثق بالله.
• المعتمد على الله بن المتوكل.
كانت الدولة العباسية حينها مترامية الأطراف تمتد رقعتها من أقصى خراسان وحدود السند شرقًا إلى المحيط الأطلسي غربًا ومن بحر العرب جنوبًا إلى بحر قزوين والبحر الأسود وحدود القوقاز شمالًا ويعود الفضل في فتح هذه البلاد الشاسعة للأمويين الذين حملوا الراية، ونشروا الإسلام في الخافقين ولم يستطع العباسيون أن يفتحوا من البلاد إلا قليلًا ولم يضيفوا إلى رقعة الدولة شيء كبير، وإنما عملوا على توحيد أركان الدولة، وتثبيت ملك الإسلام للبلاد المفتوحة من قبلهم وتحصين الثغور حتى لا يطمع الروم بمهاجمتها كما عملوا على ضبط النظام في الداخل، وقمع الخارجين وغزو الروم والهند باستمرار.
وفي العصر الثاني اعتور الحكم شيء من الضعف وفقد الخليفة الكثير من مكانته في حين حافظ عليها خلفاء العصر الأول وذلك بسبب قوة العناصر الغير عربية الطامعة في الحكم وكثرة الحروب والثورات الداخلية ونبوغ بدع جديدة، وقيام طوائف عديدة ناوشت سلطان الدولة في مناطق متفرقة وعلى فترات متلاحقة مما سبب وهنأ في بنيان الدولة يشتد تارة ويخف أخرى.
وقد ضمت الدولة الإسلامية أجناسًا مختلفة وأعراقًا متنوعة من عرب وفرس وروم وترك وهنود وبربر وغجر وغيرهم.
وقد حمل كل أجناس من موروثاته وبيئته وتاريخه وعقائده وعاداته وتقاليده الشيء الكثير واجتمعت كل هذه الأجناس والاختلافات في بوتقة واحدة تحت هيمنة الدولة الإسلامية وفريق من هذا الخليط لم يستطع أن يتخلص من عقائده من موروثاته.
وكان للعنصر الفارسي أثر بارز في هذا الصدد حيث أن الفرس دخلوا منذ قيام الدولة العباسية في الحكم، ووصلوا إلى مركز القرار فيها، وكذلك فإنهم حملوا معهم أفكارهم ومعتقداتهم بما في بعضها من زندقة وإلحاد، ناهيك عما يكنه قبيل منهم من أضغان وأحقاد على الإسلام الذي فرق مُلك فارس وطوح بحضارتهم، ولمعرفتهم بعجزهم عن مناوءة الحكم الإسلامي وتحقيق النصر عليه، لجأوا إلى الدس والمكيدة للإسلام قاصدين تشتيت شمله فجعل بعضهم يولد نِحَلًا وعقائد من تعاليم زرداشت ويبثها في صفوف السماعين إليهم، ليثني بعض ضعاف النفوس إليهم، فكان من ذلك المزدكية والمانوية والديصانية وغيرها، وانتشرت هنا وهناك مبتدعة كفرة هم من بقايا عقائد الفرس كالراوندية والخرمية والزنادقة، ولم يتوان الخلفاء حيال هؤلاء، وتصدوا لتلك البدع الضالة وشهروا السيف ضد كل من أظهر الردة والإلحاد وأصر عليه، وطاردوا جموعهم وفلوا صفوفهم كذلك هناك مبتدعة آخرون، خرجوا من جسد الأمة الإسلامية نتيجة المغالاة في الفكر وسوء الفهم.
ووقعوا في الضلال كالشيعة من الرافضة والمرجئة والمجسمة والمعطلة وغيرهم، لكن أبرز ما يميز هذه الحقبة من الناحية العقدية بروز نجم المعتزلة والقول بخلق القرآن بحيث سيطرت هذه البدعة على عقول ثلاثة من خلفاء بني العباس، فلقد سعى الخلفاء جميعًا على تقريب العلماء والفقهاء والمفكرين منهم وأدنوهم إليهم، ورفعوا مكانتهم وكان من بين هؤلاء المعتزلة الذين تأثروا بالفكر اليوناني، واشتهروا بقوة الحجة وإعمال العقل، وتسليطه على كل شيء حتى النصوص النقلية، التي أولوها حتى أخرجوها عن مرادها ولم يستطع هؤلاء أن يدخلوا أفكارهم على الخلفاء العباسيين الأوائل، الذين لزموا السنة ونصروا أهلها، وعندما جاء المأمون والذي نشطت في عهد حركة التعريب، واطّلع على الكتب المترجمة عن الثقافة اليونان والهنود وغيرهم، ولمح المعتزلة منه ذلك فاقتربوا منه، وأحاطوا به وأكثروا مجالسته ولم النقاش بينهم حتى وجد في نفسه هوى لما يحملونه وأعجب بتفكيرهم وراح يجاهر بمذهبهم وبقربهم منه ويدنيهم ويعادي من يعاديهم والأسوأ من ذلك أنه حمل الأمة على مذهبهم الفاسد ووجه إلى أمراء الأمصار لحمل الناس إليه، ودعا كبار فقهاء الأمة ومحدثيها للإقرار بعقيدة الاعتزال ومن رفض ذلك آذاه وضربه وسجنه، فتعمقت الفتنة وازدادت المحنة وجاء المعتصم وتابع مسيرة أخيه المأمون وعمل بوصيته، وفي أول عهده امتحن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، وضُرب بالسياط فلم تلِن له قناة وصبر وصابر وانتصر الحق والإمام، وخلف المعتصم ابنه الواثق، الذي ورث الحكم وورث معه المحنة، واستولى عليه موقد نارها أحمد بن داود وحمله على التشدد في محنة الناس بخلق القرآن، فكان شديد البأس في ذلك أول حكمه وخفض منه في آخره، ويقال: إنه رجع عن هذه المقالة قبل وفاته، ولما احتضر أمر بالبسط فطويت وألصق خده بالتراب وجعل يقول: يامن لا يزول ملكه ارحم من قد زال ملكه!
ثم استخلف المتوكل على الله فأظهر السنة وتكلم بها في مجلسه وكتب إلى الآفاق برفع المحنة، وبسط السنة ونصر أهلها وزجر عن القول بخلق القرآن واستقدم المحدثين إلى سامراء وأجزل صلاتهم وردوا أحاديث الرؤية والصفات وأطلق من تبقى من الاعتقال ممن امتنع عن القول بخلق القرآن، فانطفأت المحنة التي دامت زهاء خمس عشرة سنة، وماتت ومات موقد نارها والقائلون بها، وبقي الإسلام شامخًا ولم يسلم الإمام البخاري من هذه الفتنة.
وقد شهد القرن الثالث الهجري تطورات وانجازات علمية بالغة الأهمية، وقد شملت هذه النهضة العديد من أنواع العلوم والمعارف وكانت امتدادًا زاخرًا للحركة العلمية فيما قبلها من القرنين وتشرف بحملها الخلفاء والأمراء والقادة والوزراء والسادة والموالي وسائر فئات المسلمين من كبير وصغير وغني وفقير وما إلى ذلك وقد بذل العلماء في ذلك الحين جهودًا جبارة وبذلوا جُل ما بوسعهم وعانوا الأمرّين ووضعوا أموالهم وأولادهم في تصرف العلم، وطافوا البلاد وقاموا برحلات واسعة شاسعة لملاقاة العلماء والنهل من علمهم.
وانصب الاهتمام الأكبر على العلوم ال فبرز جماهير من كبار أئمة الإسلام في التفسير والقراءات والحديث وعلومه والفقه وأصوله والمغازي والسير والفتوح والتواريخ والأخبار وعلوم العربية والنحو والشعر والأدب.
وفي هذا العصر تكاملت المذاهب الفقهية الأربعة وامتدت دوحة الفقه ووضعت فيه الكتب والمصنفات وبرزت في سمائه أسماء ضخمة وفقهاء عظام.
ويُعَد هذا العصر من أزهى عصور السنة وأسعدها بأكابر علماء الحديث وأساطين الرواية ونقاد الأخبار ومصنفي الآثار الذين وضعوا فيها المصنفات في مختلف فروعها وأنواعها.
ففي هذا القرن المبارك تم تصنيف كتب السنة التي عليها مع القرآن مدار الإسلام وفي مقدمتها الصحيحان والسنن الأربعة ومسند أحمد وسنن الدرامي ومصنف عبد الرزاق ومصنف ابن أبي شيبة وغير ذلك من كتب السنن والمسانيد التي تفوت الحصر، وصنفت كتب العلل والجرح والتعديل والسؤالات وتراجم الرجال العامة، وتراجم الثقات والضعفاء والمتروكين وكتب الطبقات والأسماء والكنى والوفيات وميزت الأحاديث الصحيحة من الضعيفة والموضوعة وغير ذلك مما يحمي السنن ويحرسها وينفي الدغل عنها، وكذلك صنفت كتب في التفسير مثل تفاسير: عبد الرزاق الصغاني وإسحاق بن رهاوية وعثمان ابن أبي شيبة وأخيه أبي بكر والإمام البخاري وابن ماجه والنسائي والطبري.
**********************