ماذا بعد
(2)
استيقظتُ على صوت أمي يناديني:
- ناهد! ناهد! كفاكِ نومًا، صلاة العصر تقترب.
شعرت بجسدي ثقيلًا، وجفنيَّ يرفضان أن يفارقا بعضهما فقد تكالب عليهما الفكر والحيرة، فأنجبا السهر وهروب النوم لكن لا مفر من الاستيقاظ.
انطلق صوتي:
- حاضر يا أمي، أنا قادمة.
دفعتُ نفسي من فوق السرير حتى لا تستسلم له ثانية، فالتقت عيناي بالساعة المعلقة في الصالة، وجدت أن ميعاد أذان العصر قد اقترب كثيرًا.
- سأصلي الظهر يا أمي، وألحق بك حالًا في المطبخ.
- أسرعي، الوقتُ يداهمك.
- حاضر، حاضر يا أمي.
بعد الصلاة لحقتُ بأمي في المطبخ لأساعدها في إعداد الطعام فقد اقترب موعد وصول أبي، حاولت أن أتحدث مع أمي، أن أنقل لها أحلامي ومخاوفي، طيبت أمي خاطري، وحاولت تهدئتي، وبث الطمأنينة في صدري، لكن هذا لم يحدث، لا مفرَّ، فلن أستطيع الحكم على مجهول لا أعلمه، اتخذت قراري بالانتظار حتى ألتقي به.
رأيته للمرة الأولى في حديقة النادي، باتفاق بين الأب والخطيب على الموعد ليتعرف كل منا على الآخر، لأول مرة تجولت مع شاب، تحدثت معه عن قرب، خجلي أو قلة خبرتي، لست أدري أيهما سيطر على اللقاء، كلمات من مواضيع شتى، هكذا دار الحوار بيننا حتى سمعنا صوت أخي سمير يخترق الهواء فيصمت الحوار، وسمير ما زال ينادي:
- الغذاء، الغذاء.
عدت معه إلى حيث تجلس أسرتي، ومر اليوم سريعًا مع عينين تنظران هنا وهناك، وابتسامة رسمتها فوق ثغري لأخفي حيرتي، وشعور يخطرني أن لا جديد، لم يتحرك شيء داخلي رغم محاولة محمود - هذا اسمه- أن يكون لطيفًا معي، فارق العمر واضح من ملامحه وفي وقاره وتصرفاته، لعلها ميزة ليحتويني كما أخطرتني أمي، ربما أكون مخطئة في تقييمي له، قررت أن أستمع لصوت العقل المتمثل في أبي وأمي فهما أكثر خبرة، وهما أكثر الناس حبًّا لي وخوفًا عليَّ، بل وأكثر الناس سعادة بسعادتي، وبناءً عليه وافقت على محمود وأخطرت أبي وأمي بذلك، فكانت سعادتهما لا توصف.
أبلغ أبي محمود بموافقتي، وتبادلا التهاني والدعاء والأماني بزيجة طيبة سعيدة، وأتمَّا كافة الاتفاقات الخاصة بالزواج وما يتصل به من مهر ومؤخر وأثاث وكافة ما يحتاجه المنزل، انتهاءً بترتيبات يوم الزفاف.
بدأتُ أولى خطوات الخطوبة؛ ذهبتُ مع أمي ومحمود وأمه إلى الصاغة لشراء الشبكة، جلست أمي بعيدًا كما أخطرها أبي، فالشبكة هدية العريس لعروسه - هذا ما سمعته من أبي وهو يتحدث مع محمود- ووقفت أمه بجواري، أخرج الصائغ بعض المشغولات الذهبية كي أختار منها، لاحظ محمود كثرة تدخلات أمه عند الاختيار، فنظر لها كي تصمت، ثم أمرها أن تجلس بجوار أمي.
لم يعجبني تصرفه لكني قلت في نفسي هو أعلم بوالدته، وحاولتُ ألا ألقي للأمر بالًا، حاولتُ أن أنتقي الأقل ثمنًا والأفضل في الشكل قدر المستطاع، وقبل أن نتفق على الشراء أخذت المصوغات وذهبت لأمه للأخذ برأيها حتى لا تكون في نفسها حاجة مما حدث بينها وبين ابنها، باركت الأمر وباركته أمي، وحاول محمود أن يعيد اختيار مصوغات أغلى ثمنًا لكني أقنعته أن الاختيار ليس بالقيمة ولكن بفرحة صاحبها باختياره، وبالبساطة والرقة.
لم تطل فترة الخطوبة، استغرقت عدة شهور فقط، مرت بصورة روتينية كسمة العلاقة منذ بدايتها، وكلما أردتُ أن أنطلق كالطفلة وقف وقاره حائلًا، وانشغل الجميع سريعًا بشراء الأثاث وكل ما تحتاجه شقة الزوجية، بمجهود شاق كل يوم في الشارع للشراء، أو في الشقة للفرش، وبين الحين والآخر تتذكر أمي شيئًا نسيناه فنعود للبحث من جديد، لم يبخل أبي ومنح بسخاء، فكل شيء أطلبه مجاب، كان يقول لأمي دائمًا:
- دعيها تختار ماتريد.
بعد وقت قصير من فترة الخطوبة لم أتمكن من معرفة شخصية محمود فيه جيدًا، وجدت نفسي عروسًا في ثوب زفافها الأبيض، وكلما حاولت أن أرقص مع زميلاتي وأصدقائي أو أغني معهم جذبني محمود برفق، فأجدني أستسلم لرغبته، وتضيع من بين أصابعي لحظات كنت أحلم بها، وأكتفي بالفُرجة على الجميع يرقصون ويغنون ويضحكون، حتى وجدتني في السيارة معه متجهين إلى عش الزوجية.
بدأت حياتي الجديدة مع محمود، حاول أن يرضيني على طريقته وليس كما أريد، فهو يأتي بكل أنواع الطعام المحببة لنفسي، نخرج سويًّا للأماكن التي يحبها أو يرى أنها أكثر وقارًا لكن هذا آخر شيء أرغب فيه؛ فأنا أبحث عن المشاعر وعن الجنون والمرح، حاولت أن أتقرب وأتودد إليه، فواجبي قد أصبح المحافظة على هذا البيت وبث روح الحب والسعادة فيه، أن أجعله صورة لما رأيته في بيت أبي، أو في أحلامي، ففي مخيلتي صور كثيرة من الغزل بين الأحبة وددت لو تحققت في بيتي ومع زوجي.
- بدأت مصروفات البيت تزداد مع الغلاء.
هكذا قال واشتكى دائمًا زوجي، تراجعت كلمات الغزل القليلة التي كان يطرب أذنيَّ بها في أثناء الخطوبة وبعد الزفاف مباشرة إلى الخلف، نضب معينها حتى اختفت وتلاشت، تبدلت إلى أوامر وتعليمات حتى في أقوى لحظات المشاعر والتقارب، حاولتُ أن أروي أرضه بحبي، لعل فيها بعضًا من بذور الحب الذي أبحث عنه فتنبت لي ولو قليلًا من المشاعر ففشلت، حاولت مرات ومرات لكنني لم أحصد سوي اللوم في مواقف عدة، استسلمت بجسدي وبتصرفاتي معه، وتجرعت الصبر دواء.اقترح بعض الأصدقاء عليه السفر معهم لإحدى دول الخليج، حيث المرتبات المرتفعة فرصة لبناء مستقبل له ولأولاده القادمين، هكذا أخبروه وأغروه، تغلغلت الفكرة في عقله، وتشبثت جذورها بصدره، فأنبتت رغبة أكيدة في الرحيل بأي ثمن، لم يكن يستمع لما أقوله من رأي في أي أمر يخصنا ويخص مستقبلنا، لأنه يشعر أن خبرته الحياتية وعقله يتميزان على عقلي.طلب إجازة بدون مرتب، ولما تم رفضها قدم استقالته، أصبح الأمر واقعًا أو مفروضًا، ركبتُ الطائرة لأول مرة في حياتي، لم اشعر بمتعتها ولا مشاكل الإقلاع أو الهبوط، فقط شعرتُ باليتم في هذه اللحظة، فزوجي ما زلت أشعر بالقلق تجاهه، بالخوف مما هو قادم معه، ويزيد من قلقي سفر يباعد بيني وبين أمي وهي سلواي وملاذي، يباعد بيني وبين أخي وأبي، يباعد بيني وبين وطني والذكريات، نظرتُ عبر زجاج النافذة، سحاب أبيض أشبه بالقطن، سقطت عبرتي رغمًا عني فوق خدي، رأتني المضيفة وهي تقدم لي مشروبًا، خبرتها تؤكد أن هناك مشكلة، ربتت على كتفي، ذكرتني بأن للكون ربًّا يدبر الأمر، أخذ محمود الأمر على أنه مجاملة أو مزحة من المضيفة، شكرها، ابتسمتُ أنا لها بسمة الحزين، تنهدتُ، انشرح صدري لكلمات المضيفة، وظللت أردد بصوت خافت:
- يا رب، يا رب!
(3)
كانت البدايات ثقيلة ومرهقة علينا ككل البدايات في الغربة؛ فكل الحكايات من الأقارب والأصدقاء ممن هاجروا قبلنا، أو سافروا سعيًا وراء العمل والوظيفة قابلتهم نفس المصاعب، وكانت أولى هذه المصاعب ارتفاع قيمة إيجار السكن، مما جعلنا نستقر في شقة صغيرة مكونة من حجرة وحيدة وصالة، ملحق بها حمام، ومطبخ يتسع لفرد واحد أو فردين على الأكثر للوقوف داخله، حاول محمود أن يطمأنني:
- هذا وضع مؤقت.
نظرت له نظرة عتاب ولوم، وقلت له:
- كانت بلادنا جميلة، وكان يمكننا أن نتعايش مع الدخل الممنوح لك.
- إن شاء الله تتحسنن الأوضاع، وتثبت لك الأيام صحة قراري.
ارتفاع درجة الحرارة أصابني بالإرهاق وبعض أمراض الرأس كالصداع المزمن، وحساسية العين، متغيرات كثيرة أخرى أجهدتني، تماسكت، كنت أردد في نفسي دومًا "لعله خير، لعله خير".
وكان مما جعلني أصبر وأرضى بالغربة هو الهروب من المعيشة في بيت عائلة محمود، حيث عانيت كثيرًا من ذلك، لم أكن أتوقع أن ما تراه عيني في الأفلام عن (السلايف والعدايل والحموات) أمر واقع وليس خيال مؤلف، وازداد الأمر سوءً بوجود أخت لمحمود تجاوزت الأربعين من عمرها ولم تتزوج، فأخرجت عقدها النفسية على هذه الصغيرة التي تزوجت أخاها، كنت أخاف منها ومن مكائدها بأحيان كثيرة، في نهاية الأمر استسلمت لواقعي، وحمدت الله على ذلك.
عمل محمود بجد، ادَّخر أكبر قدرٍ من راتبه، حرم نفسه وحرمنا من أشياء كثيرة، منها ما هو أساسي، فعاتبته ولكن رده جاهز:
- لتأمين مستقبلنا سريعًا والعودة للوطن.
أمان الفلاح في الأرض، هذا ما ورثه عن والده؛ لذا كلما تمكن من توفير مال أرسله إلى إخوته لشراء بعض القراريط رغم عدم قناعتي بهذا المبدأ؛ فالعمر قصير ولا يتكرر، إذا لم يسعد الإنسان نفسه ومن حوله سيبقى أثر المعاناة في النفس حتى تفنى، وهناك أيام ولحظات إن لم نعشها لا تُعوض لكن رأيي هواء لا يُرى.
توفيت حماتي أثناء سفرنا ولم يحضر محمود جنازتها، هذا جزء من ضريبة الغربة كما يقول، وعاودته ذكريات وفاة أبيه عندما كان طالبًا في الجامعة.
******
كلما مرَّ الوقت لاحظتُ أن محمود يزداد نهمًا وشراهة لجمع المال ويزداد كسلًا، معادلة عكسية ومعاناة، وبأي فرصة يمكنه التمارض مع صرف الراتب لا يتأخر عنها، بررتُ له بعض تصرفاته هذه للهروب من التفكير في أيامنا القادمة، ولما أصابتني بعض الآلام والأعراض التي لم أستطع تفسيرها تحدثتُ مع أمي تليفونيًّا، فأخبرتني أن هناك خبرًا سعيدًا، وأكدت كلماتها الطبيبة التي زرتها، حيث أبلغتني بقدوم ضيفٍ جديد، سأصبح أمًّا، أصابني الفرح والقلق، طلبت من محمود حضور أمي، فالولادة البكرية صعبة، كنت أسمع ذلك دائمًا مع ما يدُور برأسي من حكايات الولادة، وبعد معاناة وافق على ذلك.
مرت الشهور، لم أر ما كنت أحلم به، أو ما كنت أراه في الأفلام من فرحة الزوج وربته على بطن زوجته ومحادثة الجنين، لم أسمع تلك العبارات الشهيرة مثل: لا تتحركي، لا تبذلي مجهودًا، استريحي.
صور كثيرة ومشاهد كانت عالقة بمخيلتي وجدتها سرابًا.
بدأ محمود يترك عمله لأيام طويلة، يجلس في البيت لأيام، ثم يعود إلى العمل أيام أخرى، ازدادت فترات وجوده بالبيت، وخلال فترة الحمل كانت له مواقف غريبة لا تُنسى تركت أثرًا سيئًا في نفسي؛ فذات يوم طلب مني - وأنا في الشهر السابع من الحمل- الخروج لشراء احتياجات المنزل، نظرت إليه، فوجدته جالسًا بعد أن أشاح بوجهه عني وناظرًا للتلفاز، هذا يعني الخروج وحدي، كالعادة لا يعيرني ولا كلماتي اهتمامًا، آثرت السلامة، أقرب سوبر ماركت على بعد كيلو مترين، يمكنني السير إليه، أحتاج الحديث مع نفسي، أو أحتاج الهدوء لحظات، وبالطبع لن أتمكن من العودة سيرًا محملة بالمشتريات، استقللت تاكسي وعلى باب المنزل أخذت أفرغ محتويات التاكسي، ساعدني في ذلك السائق، لاحظ أحد الجيران المشتريات وكمية الحقائب ومحتوياتها الثقيلة وبطني المنتفخ، فقطب وجهه، هو مصري مثلنا وصديق لمحمود، سألني بغضب:
- أين محمود؟
- بالداخل.
- هل هو مريض؟
- لا، هو بخير.
ظهرت على وجهه علامات التعجب والامتعاض، طلب مني بصيغة الآمر ترك كل شيء والصعود للمنزل، حاولتُ الرفض أو المساعدة فرفض بقوة، ازداد جرح صدري من عطف الغريب وقسوة الزوج.
بعد أيام قلائل من هذه الواقعة أخطرني محمود أنه دعا أصدقاءه المصريين لتناول الغداء في بيتنا، عددهم يتجاوز الخمس عشرة رجل، من أين المال وهو دائم الشكوى ولم يذهب للعمل منذ مدة؟ ألا يرى ما أعانيه؟!
شعرتُ كأنه يتفنن في النيل مني، ولكن لماذا يفعل ذلك؟
أعددت الطعام بنفسي رغم ما كنت أعانيه من آلام الحمل، يجب ألا يشعر أحد من الأصدقاء أو الجيران معاناتي، تؤلمني نظرات الشفقة حين أجدها منهم ولا أجدها من زوجي، شكرني الجميع، مدحوا طعامي، كلمات الشكر بخل بها محمود كعادته، لم ينطق بكلمة، قام البعض يساعدني في جمع الأطباق وبقايا الغداء، فتحرك محرجًا معهم، هذه طبيعته دائمًا معي.
(4)
حضرت أمي قبل الولادة بفترة وجيزة، كنت قد أخفيت عنها ما أعانيه وما يفعله محمود معي، فلا أريد أن أرى الحزن في عيني أمي أو أبي لكن ما أخفيته أظهره هو بقسوة تصرفاته وكلماته.
ذات مرة طهوتُ لنا صينية من البطاطس باللحم - وجبةٌ أجيد طهوها- ترحيبًا بأمي، وقبل أن يتذوقها صرخ:
- ما هذه البطاطس؟
انبرت أمي ترد عليه في هدوء ممزوج بالدهشة:
- جميلة، وطعمها لذيذ.
- طعمها ليس سائغًا، ابنتك لا يمكنها عمل أي شيء.
بدأت علامات الضيق تظهر على وجه أمي وهي ترد عليه:
- ناهد أستاذة في الطبخ.
- الدلع هو ما صنع ذلك.
تحول الضيق إلى غضب على وجه أمي، ثم نظرت في عيني كأنها تسألني:
منذ متى يعاملك هكذا؟ ولماذا؟ لكنني فضلت الصمت من أجلها، دخلتُ الحجرة، بكيت وبكيت، دخلت أمي ورائي الحجرة، نظرت لدموعي ووجهي المنفطر، ثم عادت لمحمود، حاولت أن تتماسك وتحافظ على هدوئها وهي تتحدث معه:
- هل حدث شيء بينكما؟ هل قصرت ناهد معك؟
- من الواضح أنكم لم تعلموها تحمل المسؤولية
ضغطت أمي على نفسها وهي ترد عليه لتحافظ على هدوئها:
- ماذا فعلت؟ هل عدت يومًا من العمل ولم تجد الطعام جاهزًا؟ هل وجدت المنزل يومًا غير مرتب ونظيف؟
- لا تطيعني وتصرفاتها....
كلماته لم تعجب أمي، وحججه واهية، لم تستطع تمالك نفسها وهي ترد عليه، خاصة بعد ما رأت بعينها وسمعت بأذنها مواقفه معي منذ جاءت، بدأ الغضب واضحًا في نبرة صوتِها:
- اسمع يا محمود؛ لو كانت ناهد لا تعجبك سأعود بها إلى مصرالآن، بيت أبيها مفتوح.
ظن أن أمي تهدد فقط.
- حاولي حضرتك أن تُفهميها ماذا يعني الزوج والبيت وال....
قاطعته أمي في حدة:
- أنا أعرف ابنتي جيدًا، أنت لا تريدها.
تركته في الصالة وانطلقت إلى داخل الحجرة، وبصوت مرتفع كي تصل كلماتها إليه قالت وهي تنظر نحو باب الحجرة:
- إذا كنت لا ترغبين العيش معه فاجمعي حاجياتك ولنعد.
أصابني التوتر والمفاجأة من كلمات أمي، وضعتُ يدي على بطني، شعر محمود بجدية الحديث، حاول تهدئة أمي فأصرت، أمام تردُّدي والخوف البادي على وجهي تراجعت أمي، وهي تتوعد، تراجعًا تكتيكيًّا كما يقال.
***
طوال فترة إقامة أمي معنا لم يتوقف محمود عن الشكوى من ضيق المعيشة وقلة الرزق، لاحظتُ كلماته في صمت، جرحتني كثيرًا، وظللتُ متماسكة رغم أني لم أفهم مغزاها، ألم المخاض حضر، أسرعت أمي بي إلى المستشفى، لم يحضر رغم أن أمي هاتفته، استمر في عمله لنهاية اليوم، أيام قليلة تلك التي يعمل فيها، رزقت بنتًا أشبه بي، هكذا قالت أمي والممرضة، لم تكن فرحته كما توقعت، هل لأنها بنت؟! أم لأنه لا يُريد تحمل المسؤولية؟
مرت عشرة أيام منذ يوم الولادة، فاجأني محمود بطلبه أن أعمل مدرسة فأنا حاصلةٌ على مؤهل جامعي يؤهلني لذلك، وهناك حاجة لي في المدارس، وفرصة عمل لا يجب أن تضيع، وراتبي سيكون ضعف راتبه، بخلاف فرصة الدروس الخصوصية، رفضتُ بشدة في بادئ الأمر لأسباب كثيرة أهمها ابنتي، وجلوسه الدائم في المنزل بلا عمل، ظروفي الصحية، وكعادته كان الرد جاهزًا:
- أمك موجودة، وهناك حضانة بجوار منزلنا يقوم على إدارتها مصريون، تعتني بالأطفال جيدًا.
فهمتُ مقصده من الشكوى الدائمة أمام أمي التي كشرت عن أنيابها، فاضطررت للرضوخ لطلبه منعًا لحدوث أي مشكلة أخرى مع أمي التي يزداد الحزن في عينيها يومًا بعد يوم على حال ابنتها وما تعانيه، حاولت أمي منعي لكني أقنعتها، أو ظننت ذلك فتوقيتُ طلبه لم يكن منطقيًّا أبدًا.
عدة أيام من العمل سقطتُ بعدها مغشيا عليَّ، أسرعت أمي بي إلى المشفى، نزيف حاد، ضعف عام، أجريت جراحة لإيقاف النزيف، زيارات محمود لي في المشفى كانت نادرة، اكتفى أحيانًا بمكالمات هاتفية قصيرة يطمئن بها على صحتي، حتى إنه ذات صباح رن هاتفي المحمول؛ كان بعيدًا عن متناول يدي، وكانت أمي في حجرة الممرضات تستفسر عن بعض الأدوية فقمت لأحضره، وفي طريق عودتي إلى السرير وأثناء محادثتي له أصابتني إغماءة، وسقطت أرضًا مغشيًا عليَّ، أحدث سقوطي ضجة لا بُدَّ أنه سمعها عبر الهاتف، لم يهرول ليطمئن عليَّ، أو ليعرف ماذا حدث، انتظر حتى ميعاد الزيارة في المساء، لم يسألني عن الأمر رغم أن آثار السقوط والكدمات واضحة وضوح الشمس، ظلت أمي معي حتى تعافيت، ثم قررت الرحيل وكلُّها ألم على ابنتها، إذا كان هذا حاله في أضعف لحظاتها، فما عساه يفعل وهي بكامل عافيتها؟!
صاحبها الهم في رحلتها، وقررت عدم إخطار الأب حتى لا يحدث ما لا يحمد عقباه.
******
طلب محمود مني بعد شفائي العودة للعمل، فوافقتُ هربًا من البيت أو لعلي أعود سريعًا لحضن أمي الذي دائما أفتقده كثيرًا، وحضن أبي وحرصه وخوفه على ابنته الوحيدة، بعد أن أجمع معه المال الذي يرضيه، كنتُ أترك ابنتي فلذة كبدي، قطعة مني في الحضانة، كم كانت صرختها تمزق صدري في بادئ الأمر حتى اعتدت على ذلك!
دخلتُ الدوامة، لم أهنأ بمرتبي لحظات، وضع محمود يده عليه منذ أول وهلة بحجة استثماره لتأمين مستقبلنا ومستقبل ابنتنا.
(5)
مرت الأيام عليَّ متشابهة ومملة، سقطت منها كل العواطف والأحلام؛ زوجٌ جاف وبعض أصدقاء الزوج وعائلاتهم ممن يحملون ابتسامات مزيفة، أو واجب يؤدى هنا أو هناك، كنتُ دائمًا أخاف أصدقاء الغربة لِما سمعتُ أو قرأت عن حكاياتهم، حاولتُ الهروب دائمًا إلى الأطفال في كل تجمُّع، فرحتهم وابتساماتهم تعيد للقلب بعض الحياة، لا زيف لا كآبة لا حكايا ليس لها منفعة، فقط جنون وضحكات رنانة، وبراءة كنت أمني نفسي بها دائمًا.
بدأت أرفُضُ بعض الأشياء، بدأت أعترض على بعض مواقفه، بدأت شخصيتي الحقيقية تظهر بعد أن ضاقت ذرعًا مما يفعل، وبعد أن رأت أن الاختباء خلف عباءته كما كانت أمي تفعل لن يجلب لي سوى المزيد من التعاسة والألم.
****
حملتُ مرة أخرى، لا أعرف كيف؛ فقد اتخذتُ كافة التدابير والاحتياطات لكنها إرادة الله، وبعد فترة حملٍ شاقة جدًّا بين الضعف البدني والعمل لساعات طويلة، وأعمال المنزل، وتربية دعاء طفلتي؛ وضعت طفلة ثانية.
- بنت مرة أخرى؟!
قالها محمود بتهكم شديد، سألته:
- ماذا سنسمي المولودة؟
أشاح بوجهه عني وهو يردد:
- اختاري أي اسم..
زادت حدته معي بعد الولادة كأني أذنبت أو ارتكبت جرمًا حين أنجبت البنت، وكأنني أنجبتها وحدي، وكأنَّ العلم الحديث لم يثبت أن نوعية الجنين من ظهر الأب وليست الأم سوى وعاء، كان يمنى نفسه بولي للعهد يخلد اسمه ويرث أرضه.
اعتدت على كل شيء أكرهه من زوجي، زادت حدة اعتراضي، أصبت بالجمود نحوه من داخلي، أظهرتُ دائمًا صلابة وأخفيت دمعي داخلي، مشاهد الحب التي رأيتها بين أبي وأمي ولم أعش لحظةً منها صارت سوطًا يسقطُ على صدري فأصرخ ألمًا في صمت، تحملتُ مسؤولية الأطفال، والأمراض النفسية التي يعاني منها زوجي وأعاني منها أنا أيضًا، منعتني ثقافة المجتمع من الهروب من هذا السجان غليظ المشاعر، فهو مجتمعٌ يعتبرُ الطلاق سبَّة فوق جبين الزوجة، وتطال الأبناء أيضًا خاصة البنات، حيثُ يرفض البعض الزواج منهن بحجة أن الأم مطلقة.
بين كل هذه المشاعر المؤلمة والأجواء المحيطة التي لا تبشر بخير، حاولتُ أن أبحث لي عن شعاع ضوءٍ خافت أهتدي به في طريقي، يعيد ولو جزءًا بسيطًا من روحي التي بعثرتها الأيام، يعيد شيئًا من الحياة لحياتي الزوجية التي لا أرى مهربًا منها.
- إنجاب الولد، هذا هو الحل، أشياء كثيرة ستتغير.
هذا ما حدَّثتني به نفسي ووجدت فيه ضالتي، أعدت المحاولة، حملتُ، فرحت بتوفيق الله لي، رفضت أن أعرف نوع الجنين حتى ألد، وأقسمت على الطبيبة ألا تُخطرني أو تخطر أحدًا، أوهمت الجميع أني سألد الولد، أن ما أشعر به في هذا الحمل يختلف عن سابقيه، تغير سلوك محمود بعض الشيء، كنت فرحة بهذا التغير رغم أنه تغير طفيف لا يُغني ولا يسمن من جوع لكنه منح منزلي بعض الهدوء طيلة تسعة أشهر، وعلى خلاف ما حدث في الولادتين السابقتين ذهب معي إلى المشفى بعد أن تركتُ ابنتيَّ عند إحدى الجارات، دخلتُ حجرة الولادة وانتظر هو خارجها، سمع صراخ المولود، التصق بالباب في انتظار خروج أي فرد من الطاقم الطبي، وما إن خرجت الممرضه لتهنئه:
- مبروك، بنت جميلة.
استشاط غضبًا وانتفض خارجًا من المشفى وهو يتمتم بكلمات لم تسمعها الممرضة لكنها شعرت بتعاطفٍ كبيرٍ مع الأم التي كانت وحيدة في تلك اللحظة، حيث لم تستطع أمي السفر وحضور عملية الولادة، بعد أن استشعرت رفضه للمولودة - وكم قابلت مثل هذا من قبل- رأيت في عين الممرضة عندما عادت تفاصيل ما حدث، سألتُها بسخرية:
- هل رحل؟
- لم تدرِ الممرضة بماذا تجيب، فقالت في تلعثم:
- سيحضر بعض المستلزمات لكم وسيعود.
هكذا حاولت تبسيط الموقف والتقليل من آثاره على نفسي، فابتسمتُ وما زالت السخرية على وجهي وأنا ابتلع مرارة ما حدث وما سيحدث مستقبلًا، ثم رددتُ:
- لن يعود الآن، ربما يأتي يوم خروجي من هنا، أو حينما أعود للمنزل.
******
ظلت الممرضة ترعاني متعاطفةً مع حالتي ووحدتي حتى استعدت بعضًا من عافيتي، قررتُ بعد استشارة الأطباء العودة للمنزل، اتصلت بمحمود للحضور لمساعدتي في إنهاء إجراءات المستشفى.
لن يستطيع الحضور بحجة أنه في العمل ولا يستطيع تركه، كان هذا رده وعليَّ إنهاء الإجراءات وحدي، فعلتها، ثم استقللت سيارة أجرة إلى المنزل، كنتُ على يقين أنه لن يأتي وإن كنت أتمنى أن يخيبَ ظني، عدت للمنزل بعد أن فقدت آخر أمل لي في حياة هادئة، وأظلَمَ آخر قنديل كنت أحلم أن يضيء لي ظلمة أيامي.
ازدادت معاملته لي سوءً، حاصرني الحزن والهم وأحكمت خيوطه قبضتها على ذاتي، أطلقت وسادتي صرخة بعد أن امتلأت بدموعي لكني قررت ألا يسمعها أحد، وازدادت معاملتي له نديةً يومًا بعد يوم؛ كان أول شيء فعلته فصل ذمتي المالية عنه، فلم أعد أمنحُه راتبي يتصرف فيه كيفما شاء، هذا ما كان ظاهرًا له لكن داخلي تمنى الموت مرات عديدة، أو الخلاص من هذا الزوج لكني كنت أتراجع عن أمنياتي خوفًا وحبًّا لبناتي، فمن لهن بعدي؟ هذا القاسي المتعجرف!
لا، سأعيش من أجلهن ولهن، سأجعل من بسماتهن زادًا لي ويدًا تُربت على قلبي.
اكتمل مسلسل حياتي الباهتة فأصاب محمود مرض خطير، وما لبث أن هاجمته أمراض أخرى، وكأي امرأة أصيلة رافقته يوميًا للمشافي والأطباء؛ تحاليل وأشعة، ثم أعود لمتابعة البنات، واجباتهن المدرسية وكل ما يخصهن، رمضان والحر الشديد والصيام، وزيارات زوجي المتكررة يوميًّا في المشفى جعلتني أطلب من أخيه الذي يعمل بنفس البلد أن يساندني، وبخاصة أن منزله لا يبعد كثيرًا عن المشفى، رفض في بادئ الأمر، وتحت إلحاحي حضر لمؤازرة أخيه المريض، وبخني محمود، فكيف يحضر أخوه وسط هذا الحر والصيام والشمس؟!
طلب منه عدم الحضور ثانية.
- ألهم شعور ولنا شيء آخر؟! لا يتحمل الرجال الحر، وأنا أتحمل!
هكذا حدثتني نفسي غاضبة، قررتُ أن أضع ما تربيت عليه جانبًا وأتعامل بواقعية أكثر، وأن تكون زيارتي مرة واحدة يوميًّا بعد الإفطار فحسب، على أن أطمئن عليه نهارًا بالهاتف، ظللت شهورًا على هذه الحال صرفت فيها مدخراتي التي تبقت معي ولم تطلها يده، ثم صعدت روحه إلى خالقها بعد أن اختنقت روحي وكادت تتلاشى.
عدت أنا وهو جثتين إلى أرض الوطن، جثمانه في صندوق الطائرة وجثتي جالسة تتنفس فوق أحد مقاعدها، دفنتُه بكل أيامه التي مضت، وذكرياته التي قتلت روح الأنثى في نفسي، فكأنه لم يكن، لكني لم أستطع دفن مرارة تملأ حلقي من هذه الذكريات ولاتريد المغادرة.
احتضنتني أمي، أخفيت رأسي في صدرها حتى لا يرى أحد دمعي، رحب بي أبي ترحاب من رأى حبيبه بعد أن تاه منه في الصحراء وفقد الأمل في عودته، كم كنت أشتاق إليه!
رأيت في عينيه شعورًا بالذنب يُمزِّق جانبيه، رأيته جليًّا في ملامح وجهه وإن حاول الظهور متماسكًا قويًّا، عيناه تفضحانه دائمًا، تجاوزت الصدمة حدتها معي، قررتُ أن أبدأ أولى خطواتي للمحافظة على بيتي وأطفالي، فذهبت لأعمام البنات بحثًا عن حقوقهن، بحثًا عن مدخرات الغربة، لا أرغب في العودة ثانية لما كنت عليه.
اصطدمتُ بحائط فولاذي من الطمع والجشع وضياع كل شيء، حتى ميراث محمود من والده لم تبق منه سوى شقتي وجزء من الميراث على المشاع بين الجميع نظرًا لكوني لم ألد الولد، خاطبتُ فيهم الرحم واليتم، رفات الميت، فكان نصيبي مصمصة الشفاه من الحريم، وتلميحات أني لست في حاجة للأموال.
- مؤكد لديها مدخرات لا حصر لها من سنوات الغربة، والعمل بالخليج. هذا ما قالوه صراحة أو تلميحًا، خلطٌ غير مبرر - ليس له منطق- بين طلب الحق وعدم الاحتياج إليه، ونظرات اتهام لي من الرجال اعتقادًا أني استوليت على كل النقدية التي تركها المرحوم بمنزله رغم علمهم من أخيهم أني كنت أنفق على البيت والبنات من راتبي، وتبدَّل حالي في نظرهم من صاحبة حق إلى متهمة وطماعة رغم علمهم التام ببراءتي، اتهام بمنطق الهجوم خير وسيلة للدفاع، ضاع كل شيء في لحظة، أكمل محمود مسلسل تعذيبه لي حتى بعد وفاته، خرجت مني اللعنات، والدعاء عليه وعلى أهله رغمًا عني وعن طبيعتي المتسامحة دومًا.
يتبع...