مع اقتراب أذان الفجر، تعالت صرخات زوجته، وما عادت كلمات أخيه الأكبر تطمئنه، حتى تزامن بكاء مولوده مع صعود المؤذن إلى المئذنة، فرفع يده ناظرًا إلى السماء، شاكرًا الله بصوت عالٍ، وهرول ملبيًا النداء "حي على الصلاة"، قبل أن يعلم جنسَ مولوده، أول خلفته. عاد من الصلاة مهرولًا ملهوفًا، وعندما سأله أخوه عن تسمية المولود، أجابه:
-إن كانت صبية، سأسميها فجر.. وإن كان غلامًا، سأسميه بلالًا، على اسم سيدنا بلال بن رباح مؤذن النبي عليه الصلاة والسلام.
دخلا البيت، فكانت أختهما الصغرى أول من بشَّرتهما بالصبي! استقبلتهما أمهما بالزغاريد، وحملت حفيدها إلى ولدها، فأخذه على ذراعه متهيِّبًا ومبتسمًا، قبَّله في جبهته، ثم صار يرقيه ويؤذِّن في أذنه، ثم قال وهو يلهث:
-إنه ولدي بلال صفي الدين أبو الهاشم.
ولد بلال بن الجزار صفي الدين الذي ييلغ من العمر ٢٥ عاماً ويعمل في أحد المذابح في حي من أحياء القاهرة، على مسافة ليست ببعيدة عن القلعة، مقر حكم السلطان، في عام ١٤٩٠ م، تحت حكم دولة المماليك الشراكسة البرجية، وبالتحديد في أيام حكم السلطان الأشرف سيف الدين قايتباي.
ناول صفي المولود لجدته، ودخل لزوجه يطمئن عليها.
وفي اليوم السابع لولده، ذبح له العقيقة بنفسه، وأوْلَم بها لأهل الحي، وكانت ليلة بهيجة، أحياها أخوه الأكبر ومشايخ المساجد القريبة، مجوِّدين للقرآن ومرددين ذكر الله، ثم ودعه أخوه وأخته عائدين إلى مستقرهما في إحدى قرى الشرقية، لكن صفي أصر على بقاء أمه لأيام أُخر، على وعد بأن يعود بها بنفسه إلى قريتها.
لم تطل الأيام، ووفى بوعده، لكنه عاد للقرية حاملًا نعشها على كتفه، وكأنها كانت تنتظر بلالًا لتودع الدنيا بفرحتها به، أو كأنها أودعته روحها، وتركت جسدها للتراب. بعد الأربعين، حسب عادات المصريين منذ الأزل، قسم الأخوة ميراثَ أمهم فيما بينهم، وكان قطعة أرض وقليل من الأموال والذهب. عرض أخوه الأكبر أن يشتري منه قطعة الأرض الموروثة من أبيهم وأمهم، فهو الساكن للقرية القادر على زراعتها، وصفي قد استقر في القاهرة ونسي الزراعة والفلاحة. ارتضى صفي كلام أخيه، وباع نصيبه له، وعاد إلى القاهرة وقد فقد أهم ما كان يربطه بقريته، أمه وأرضه. قرر مع زوجته أن يشتري أرضًا في قرية العقرب، في ضواحي القاهرة، يضع فيها المبلغ الذي باع به أرضه، ثم أوكل إلى أحد المزارعين مهمة الاعتناء بها مقابل جزء من المحصول.
ست سنوات مرت، استطاع فيها صفي أن يحقق ما حلم به، فصارت له مزرعة للمواشي من الأبقار والجاموس، وأثمرت أرضه الزراعية، وبنى لنفسه بيتًا بجوارها. يتذكر ذلك التاريخ جيدًا، إذ كان يوم وفاة السلطان قايتباي، الثامن من أغسطس عام ١٤٩٦م، حين قرر صفي أن يترك عمله في المذبح، وذهب إلى فخري تاجر الأقمشة والحرير، وكان شابًا في الخامسة والثلاثين، ورث التجارة عن أبيه، وتعرَّف به صفي من المذبح، فهو رجل خيِّر، يذبح الذبائح كل عيد أو مناسبة، ليوزع على المحتاجين اللحوم والأقمشة. طلب منه أن يبحث معه عن دكان، فاختار له دكانًا معروضًا للإيجار بالقرب من دكانه، ففتح صفي الدين دكان جزارته، في نفس اليوم الذي احتفل السلطان الناصر محمد بن الأشرف قايتباي بتوليه السلطنة. كانت زوجته تضاحكه دومًا بأن أحداث حياته مرتبطة بأخبار السلاطين، فكان يهز رأسه ويضحك، ثم يقول: لعل في ذلك حكمة.
لم تستقر الأحوال في السنوات التالية، إذ زادت الضرائب، وافتقر الخلائق، وعُزل ابن الأشرف قايتباي، وتولى بدلا منه السلطان الظاهر أبو سعيد قانصوه، ثم عُزل، وتولى ابن الأشرف قايتباي السلطنة للمرة الثانية.
في أول أيام عيد الأضحى عام ١٤٩٩م، وكان لا يزال عهدُ السلطان الظاهر قانصوه الأشرفي، ذبح صفي الدين أضحية التاجر فخري، وكانت عجلًا سمينًا، احتاج ذبحه مساعدة العاملين معه، والتاجر فخري واقف يرقب الذبح وهو شارد يبدو عليه القلق. أنهى صفي نحر العجل، وانتظر حتى استكان على الأرض، ثم تركه لصبيانه يسلخونه، وأخذ كرسيًّا في يده متجهًا إلى فخري، فجلس بجواره يسأله عن أحواله، وينوي أن يؤجل ثمن العجل إن كان هذا ما يشغله. فخري تاجر ثري، ومن الصعب أن يتعسر لدرجة تأجيل ثمن الأضحية، لكن مَن يدري؟ فهذه الأيام تزداد صعوبة، تحت حكم سلاطين يتقاتلون على العرش ويقسون على الناس. أجابه فخري عاجزًا عن إخفاء قلقه، بأنه ينتظر قافلة جديدة محملة بالأقمشة والحرير آتية من الصين، وكان لها أن تصل منذ يومين، وإلى الآن لا أخبار عنها. طمأنه صفي ببعض كلمات، هو نفسه غير مقتنع بها، لكنه ختم كلماته بأن الذبيحة عظيمة هذا العام، وبالتأكيد ستملأ بيته بالبركة، فلا داعي بعد ذلك للقلق.
تم توزيع ثلث العجل، فأشار فخري لصفيِّ أن يكمل العطاء طالما يجيء من يطلبه، حتى انتهى اللحم ولم يبق منه إلا رطلان وأطايب أخرى قد أوصى بها من قبل، فسارع صفي يلفها ويناولها لفخري، الذي ضحك، فقال له: لابد أن تأكل منها يا رجل.
جلسا أمام دكان صفي، وبعد قليل دخل عليهما الطفل بلال يلبس جلبابه الجديد، فقبَّله أبوه، وأعطاه فخري العيدية، ثم عاود الحديث عن تأخر قافلته في الطريق، فالبضائع المحملة ليست بأمانٍ كافٍ، وقاطعو الطرق يستولون على البضائع كل حين، فلذلك ندفع المال لجلب الحراس، ولكن قد يكون عدد قاطعي الطريق أكثر، فيلجأ الحراس لإعطائهم جزءٍ من البضائع أو الاشتباك معهم وهذا ما أخشاه، فعاملي يعقوب مع القافلة، وهو ما لن أعوِّضه.
قطع صفي حديثه قائلًا بصوت عالٍ:
- بإذن الله سوف تطمئن قريبا على بضاعتك وعلى عاملك.
وما إن مرت بضع ساعات، حتى وصلت قافلته، ناقصة من البضائع كعادة القوافل في ذلك الوقت، ولكنها تامة السلامة لعمَّالها، فكبَّر صفي وصاح: يا بركة الذبيحة الحلال!
لم تستقر الأحوال مع تعاقب سلاطين المماليك الجراكسة بعد السلطان قانصوه الأشرفي، فما استمر حكمه إلا عامين، خلفه السلطان الأشرف أبو النصر جانبلاط، الذي حكم لعام واحد من ١٥٠٠ م الى ١٥٠١م، ثم خلفه السلطان العادل أبو النصر سيف الدين طومان باي. لكن السلطان العادل ذاك هرب في بداية توليه السلطنة، فالمماليك لم يحضروا معه صلاة الجمعة، متجاهلين دعوته لهم، ففهمها طومان وسيطر الخوف عليه. وبعد نحو مائة يوم من استمرار هروبه، بويع الملك الأشرف قانصوه الغوري، رغم ما يشاع عن أنه يخشى تولي السلطنة اتقاءً لغدر المماليك الطامعين في العرش، لكنه ظل يبحث عن السلطان العادل أبو النصر الهارب، حتى عثر عليه في ميدان الرميلة، وقطع رأسه عام ١٥٠١م ودفنه بقبةٍ جهة المطبخ السلطاني، أطلق عليها قبة الملك العادل طومان باي، ليثير هذا الخبر اللغط والتساؤلات في الشوارع والأسواق حول حكم قانصوه الغوري وشخصيته. وصفه التاجر فخري بالجبان الخائن، كان دائمًا يتحدث عن غدر المماليك وطمعهم في السلطة، وصفي الدين يحذره من ذلك الكلام، حتى لا يشي به أحد فيُنكَّل به، فيضحك فخري ويقول:
- ما دمت أعطيهم الجباية وأكسوهم، فلا تقلق، فلن يصدقوا جرابيعهم.
في حكم الغوري ساءت الأخبار أكثر، وكأن اللعنة حلت عليه وأبت أن يهنأ بالعرش، حيث أن طائفة من المماليك الجلبان توجهوا إلى بيت فخر الدين كاتب المماليك الذي في الأزبكية وأحرقوه ونهبوا ما فيه ثم توجهوا إلى بيت شمس الدين أبي المنصور مباشر العادل فنهبوا ما فيه ثم توجهوا إلى بيت قرقماس المقري المحتسب وبيت أزبك النصراني والي القاهرة فنهبوا ما فيهما، ثم توجهوا إلى بيت عبد العظيم الصيرفي وبيت يونس نقيب الجيش فنهبوا ما فيهما وساد الاضطراب. ومن جهة أخرى كان الناس يتحدثون عن المستكشف البرتغالي فاسكو دي جاما، الذي استعان بالبحار العماني أحمد بن ماجد، وهو ذو خبرة في اتجاهات الرياح والملاحة، فأرشد سفنهم إلى مدينة كاليكوت الهندية عن طريق جديد، صاروا يدعونه رأس الرجاء الصالح، وحظيت هذه الرحلة بمباركة بابا الكنيسة الكاثوليكية (الإسكندر السادس) الذي أصرَّ على وضع الصليب على رايات وأشرعة السفن لتتشبه الرحلة بالحملات الصليبية، حيث بدأت الأخبار تصل عام١٥٠١م بأن البرتغاليين وعلى رأسهم بيدرو ألفاريز كابرال قصفوا مدينة كاليكوت الهندية، للتأثير على تجارة التوابل التي تربط الهند بمصر والبندقية، فتضاءلت التجارة، وارتفعت الأسعار في مصر بسبب هذا القصف. لم يكتف البرتغاليون، وجاءت الأخبار في عام ١٥٠٣م بسرقة سفينة مصرية أثناء عودتها من الهند، وبعدها بعام دمر البرتغاليون ١٧ سفينة عربية في ميناء بانان الهندي، فاستشاط غضب الغوري، وأرسل مبعوثًا إلى البابا في شخص البابا الأكبر لدير سانت كاترين في سيناء، محذرًا إياه أنه في حال عدم وقف حماقات وخراب البرتغاليين المسيحيين، فسوف يحل الخراب على الأماكن المقدسة المسيحية في بلاد الشام، وعلى المسيحيين الذين يعيشون في محيطه.
في نفس العام، عمل الفينيسيون، الذين تقاسموا المصالح المشتركة مع المماليك في تجارة التوابل ورغبوا في القضاء على التحدي البرتغالي، بتشجيع المماليك لإقامة تحالف مع دولة البندقية ضد البرتغاليين. حاول المماليك منع الملاحة البرتغالية، ولكن ظل البرتغاليون يحاصرون البحر الأحمر، وسرقوا سفن التجار العرب، تحت قيادة فاسكو دي جاما، الذي عاد مرة أخرى إلى الهند منذ عام ١٥٠٢ م، وقام باحتجاز سفينة في طريقها إلى مكة المكرمة في خليج عمان، تحمل على متنها ٧٠٠ من الحجاج، وقام بحرقها. كرر الأمر مع سفينة بضائع عائدة من مكة، فسلب بضائعها، وأحرق كل من فيها،٣٨٠ راكبًا، وقتل الصيادين ومثَّل بجثثهم، ثم اتجه إلى شرق أفريقيا، فهدم قرابة ٣٠٠ مسجد، فأمر السلطان الغوري عام ١٥٠٥ م بخروج أول حملة ضد البرتغاليين، تحت قيادة الأمير حسين الكردي.
ومع الحرب، انتشر الطاعون في مصر، وظل يحصد أرواح عشرات الآلاف من الناس، حتى بلغ عدد الموتى في يوم واحد ما يقارب أربعة آلاف، ومنهم كانت أسرة يوسف، ابن خالة بلال، لينتقل يوسف وحيدًا مع أسرة صفي الدين ومع معارفهم ككل الفارين من الوباء إلى الصحراء، ونصبوا الخيام فيها، وانهارت حركة البيع والشراء وأغلقت الدكاكين وكثرت الجثث في الشوارع، وخطب الشيوخ في الناس بوقف المعاصي والتقرب إلى الله، فلا نزل بلاء إلا بمعصية ولا رفع إلا بتوبة، فامتلأت المساجد بالمصلين، وأبطل الغوري الضرائب، وكف الجلبان عن نهبهم للناس، حتى زال الوباء وعادت الحياة لطبيعتها.
وفي عام ١٥٠٧م، دخل أسطول من عشرين سفينة برتغالية إلى البحر الأحمر، وداهم البضائع القادمة من الهند، فكانت القاصمة للتجارة المملوكية الهندية. خرجت حملة الأمير حسين الكردي بأسطول مسلح إلى الهند، بالتحالف مع سلطنة الكجرات المسلمة، ذات القوة البحرية الهائلة، واستطاعا معا هزيمة أسطول لورينكو دي الميدا، بقيادة ابن نائب الملك البرتغالي للهند، في معركة شاول عام ١٥٠٨ م.
فقام على إثر ذلك معركة ديو عام ١٥٠٩ م، حيث قاتل البرتغاليون بقيادة نائب الملك الذي يسعى للانتقام لمقتل ابنه والإفراج عن السجناء الذين أسروا في معركة شاول. كانت حربًا انتقامية عنيفة، نجحوا فيها وقضوا على أسطول المماليك الجنوبي، فقد خرجت أوروبا في ذلك الحين من ظلام العصور الوسطى، باحثة عن النهضة، وتطورت أسلحتهم، واستطاع البرتغاليون فرض نفوذهم في أرض البرازيل والعالم الجديد وصارت لهم هيبة بين الدول، بينما المماليك غارقون في صراعاتهم حول كرسي السلطنة.
معارك المماليك مع البرتغاليين عرقلت تجارة البحر الأحمر بالكامل، فقل المعروض وارتفع السعر، وصار الوضع الداخلي في مصر مُزريًا. وفي مكان آخر، ظهرت الدولة الصفوية الشيعية في إيران والعراق، تزامنًا مع حكم السلطان قانصوه الغوري عام ١٥٠١ م، وتطلع الصفويون نحو الشام، فهاجموا حامية ملطية تابعة للمماليك عام ١٥٠٧ م، فكان على الغوري حشد قواته لحرب الصفويين. ولكن قبل تحرك القوة من القاهرة، أتته رسل الشاه إسماعيل الصفوي يقدمون الاعتذار عما حدث قائلين إنه كان بالخطأ وما كان يجب أن يحدث، فتقبل الغوري الاعتذار، خاصةً أن إسماعيل الصفوي حذَّره من وجود جواسيس حوله يتجسسون لصالح دولة العثمانيين. ولكن مع انشغاله بحرب البرتغاليين، أتته الأخبار بأن الصفويين عادوا لتلك الهجمات، فلم يكن في إمكانه إلا أن أرسل لهم أمير عشرة، ليأمرهم بالانسحاب ويهددهم بالعقاب.
لم يجد الغوري وسيلة لإعداد جيوشه وجلب المزيد من المماليك وإرضائهم لضمان ولائهم وعدم تمردهم عليه، مثلما حدث من قبل حين أشاعوا الفوضى في الشوارع والأسواق في عام ١٥٠١م، إلا بجمع خراج عشرة أشهر مقدمًا، وفرض الضرائب الجمركية على التجار، والتلاعب بالعملة لتستفيد الدولة على حساب الناس. ومع كل هذا الإنفاق على المماليك الجدد، تمرد بعض المماليك القرانيص القدامى، فحاول إرضاءهم أيضا بالمال والسلطة. أحس المماليك باحتياج الغوري لهم وعجزه عن إغضابهم، فاشتد اعتداؤهم على الناس وعلى بضائعهم، وسلب ما لا يحق لهم، مطمئنين إلى عجزه عن معاقبتهم. الضحية كانوا المصريين، الذين يئسوا من كثرة رفع الشكاوى إلى الدوادار الكبير، مما دفع البعض للمقاومة بأنفسهم والتصدي للجلبان، لكن نكل بهم الجلبان بقوتهم وأسلحتهم، ولم يتصد لهم ويحاول منعهم إلا الأمير طومان باي الجركسي الأصل، الذي زعم الناس أنه يئس هو الآخر من عمه السلطان الغوري.
كان عمه هو من قدمه إلى الأشرف قايتباي، فعينه من جملة مماليكه الكتابية، ثم أعتقه قايتباي عندما اعتلى العرش، وتدرج طومان باي في السلطة مع بداية حكم عمه الغوري، الذي مكَّنه من الإمارة على رأس عشر فرسان، بعدما كان جدارًا أيام حكم السلطان الناصر محمد بن قايتباي، يعاون السلطان في ملبسه، ثم خاصكيًا من خاصة خدم السلطان وحرس قصره، ليصبح بعدها أمير طبلخانة يرأس أربعين فارسًا، ومنها إلى تقدمة ألف فارس، إلى أن توفي الأمير أزدمر بن علي باي الدوادار الكبير عام ١٥٠٧م، فأقرَّه الغوري بمنصب دوادار كبير، حيث يبلِّغ الرسائل للسلطان ويقدم إليه المظالم، ومن هنا بدأ طومان باي يتعرف على مشاكل الناس، وبدأ يدافع عنهم، بعدما يئس من كثرة تقديم الشكاوى إلى الغوري. لكنه لم يستطع منع المماليك الجلبان عن نهبهم، ومع كثرة التصدي لهم وحدوث مشاجرات معهم قام الغوري بنقله من الدوادارية إلى الاستادارية العالية، كي يكون المشرف على حاشية السلطان وخدمه، وذلك في شهر ١٢ عام ١٥٠٨ م، فلم يمنع هذا المنصب الرفيع طومان عن مناصرته للناس والتصدي للمماليك الجلبان، وكان دائمًا يُصبِّر الناس بأن القادم سيكون أفضل، ويعطيهم الأمل في الغد.
ولكن رغم كل الضرر الذي لحق بالناس، لم تتوقف الأرزاق، وهناك من ازداد ربحه بسبب الزيادة المفاجئة في الأسعار، وكان منهم صفي الدين، الذي زاد سعر بضاعته، ولأنه يبيع لحوم مزرعته الخاصة، فقد قفزت أرباحه قفزة قوية، فتمكن من شراء دكانه، والدكان الملاصق له، الذي مات صاحبه في الوباء وأولاده يتمنون بيعه ليقسموا المال عليهم، فينفعهم في تلك الضائقة المحيطة بالجميع. وعلى العكس تمامًا، ساءت أحوال فخري، فزيادة أسعار الأقمشة والحرير لا تناسب الفقر الذي أطبق على الناس، فقل زبائنه بشكل ملحوظ، فالمال المتاح أولى به البطون وليس غالي الثياب، فكسدت تجارته وخلا دكانه من الناس، وخلا وجهه من البسمة التي عرفه بها جيرانه دومًا.
***** ****** ******
القاهرة سوق كبير للحرف، لها حارات تتجمع فيها دكاكين كل تخصص منها، فتلك منطقة النحاسين، وأخرى للدباغة، وغيرها للصاغة، والفحامين والحدادين والسقَّايين وهكذا، ولكل منها كُبراء كشيوخ الطوائف، لهم مهام اختبار واعتماد الحرفي، بعد تدربه على يد الكبار في مجاله، لهم كلمة مسموعة بين أهل الحرفة، وتواصل بمجلس السلطنة وأحيانًا بالسلطان ذاته. كل المهن في أرجاء مصر كانت لها أسواقها وقوانينها المتوارثة، كسوق الصيادين لبيع أدوات الصيد، وسوق السمَّاكين لبيع رزق البحر من أسماك وكابوريا وغيرها، وسوق العطارين لبيع التوابل والعطور والبخور والأعشاب الطبية، وكان هناك أمكنة لبيع الكتب والمجلدات، وبالطبع كان هناك سوق الرقيق والسلاح، وفيه يباع المماليك الجدد والجواري، وكذلك كانت الأسواق المختلطة متواجدة أيضًا.
كل تلك الأسواق تأثرت حركتها، بسبب ما حدث من صراعات وحروب، فازدهر منها ما يخدم مصالحه، وركد ما هو متعلق بأرزاق عموم الناس. زاد الارتباك ما قام به السلطان الغوري من ضرب العملة الجديدة، فصار الباعة لا يقبلون إلا العملة الجديدة التي نقش عليها ما يشبه النافذة، وليس مع الناس سوى تلك العتيقة، فصارت السلع تباع بسعرين، وساد الدينار وتاه الدرهم والنقود الفضية، كما كثر ضرب النقود النحاسية، وورد للسوق الكثير من عملة البندقية الذهبية (دوكات البندقية) استخدمها التجار لشراء السلع والبضائع من خارج مصر.
اشتدت الأزمة، ومن كان يشتري قنطارًا صار يشتري الأرطال، ومن كان يجلب لدكانه من الطيب ألف منٍّ صار يكتفي بربع ذلك أو أقل. حتى تجار الغلال، صار بيعهم بدلًا من الأردب صاعًا، وبدل الصاع قدحًا، وبدل القدح مكوكًا، إلا مما رخص ثمنه يستبدل به الناس ما كانوا يوسعون على بيوتهم به، فما عاد بإمكانهم إلا الاكتفاء بإشباع البطون، واكتفى كذلك زبائن القماش بالأشبار بدلًا من الأذرع، يستبدلون الثوب لطفل ضاقت عليه ملابسه، لكن لا مجال للثياب الجديدة للجميع.
ازداد الأمر سوءًا فوق سوئه بحلول عام ١٥١١ م، حين وقعت في يد الغوري رسائل من الشاه إسماعيل الصفوي لملوك أوروبا، يستحثهم فيها على حرب المماليك والعثمانيين، فتبع ذلك قرار من القاضي المحتسب بركات بن موسى زين الدين، والمعروف باسم الزيني بركات بتفرقة بين المال الجديد والقديم في الميزان، فارتفعت التكلفة على الناس بأكثر مما هي عليه، تستفيد من ذلك الدولة ويختنق الناس أكثر وأكثر.
وفي عام ١٥١٢ م أتى الغوري خبر وفاة بايزيد خان الثاني بن محمد الفاتح سلطان العثمانيين، ودفنه في مسجد بايزيد في إسطنبول، فعلى الفور أمر الغوري بصلاة الغائب عليه في كل مساجد القاهرة والجامع الأزهر وجامع ابن طولون، وصلى هو عليه في قلعة الجبل باكيًا وناعيًا. بقي سليم الأول ابن بايزيد الثاني، الذي انقلب على حكم أبيه بدعم من الإنكشارية وخاقان شبه جزيرة القرم، واضطر أبوه للتنازل له عن الحكم قبل وفاته، على عرش سلطنة العثمانيين، وعلم الغوري بعزمه على محاربة الصفويين، فأوقف استعداداته لمحاربتهم.
في نفس ذلك العام، تمكن بلال بن صفي الدين من حرفة الجزارة، بعدما صار شابًا. وبعد أن أتم الذبح والسلخ والتقطيع بمهارة، أمره والده بأن يردد خلفه قائلًا: اللهم لك الحمد كما أنعمت عليَّ ورزقتني بالمال، وخففت عني محنتي، وأعطيتني من فضلك وكرمك، عهدًا ووعدًا يا ربي أن لا أغش أبدًا في تجارتي، وأن أساعد المحتاج بقدر المستطاع، وإن مسّني طمع بعكس ذلك فارحمني واقبضني إليك راضيًا عني وأدخلني جنتك برحمتك.
- يكفيك يا ولدي حب الناس ومعرفتهم، أنت ولدي الوحيد ودائما أعتز بك، وليس أحب إليّ من أن أراك محبوبًا من الجميع، مثل التاجر فخري.
كان بلال قد بدأ عمله منذ أسابيع قليلة، ما بين البيع في الدكان، وجلب الماشية من مزرعة أبيه وذبحها، يساعده ابن خالته وصديقه يوسف. حين أثار الجلبان الشغب والفزع في الأسواق، تصايح الناس معترضين على أفعالهم، حتى وصلوا إلى دكان صفي الدين. تقدم أحدهم طالبًا الجباية منه، فرد صفي بصوت عالٍ:
- الأمر قد زاد عن حده، ألا تتقون خالقكم فيما تنهبون منا؟!
اقترب آخر، ورد عليه مستقويًا:
- هذا مقابل أن نحميك أنت والرعاع من بائعي السوق، فإياك وأن يعلو صوتك، أو تنسى الأدب!!
نظر صفي في عين الجندي، وقال منفعلًا:
- أي أدب هذا تتحدث عنه، وأي حماية؟ الأوباش كل يوم يقتلون أحدكم أو يسرقون دكاكيننا، الحال يسوء يومًا بعد يوم، وسأرفع شكواي لله كي يخلصنا من ظلمكم. لا، لن أدفع لكم إلا ما فرض الزيني بركات، ولا زيادة.
ما إن أنهى كلامه، حتى انهال الاثنان عليه ضربًا وأسقطوه أرضًا، فصرخ بلال متقدمًا للدفاع عن أبيه، وسط تجمع عدد من المتفرجين، فركله أحدهم صائحًا في الجموع:
- فليكن هذا الجزار عبرةً لمن يظن أن له صوتًا يرفعه في وجوهنا!
فزع بلال، لكن أمسك الناس به يمنعونه، فلو حاول الدفاع عن أبيه سيقتلونه معه. سالت دماء صفي، فأفلت بلال صارخًا، وأسرع إلى داخل الدكان مخرجًا سكينًا حادًا، فاستدار له بعضهم مشهرين سيوفهم، لكن صوت المنادي صدح يقول مكررًا:
- وصل العادل المحبوب الأمير طومان باي.
أفسحت الجموع للأمير، ونزل طومان باي من على فرسه متجهًا نحو الجلبان غاضبًا وقابضًا بيده اليمنى على سيفه قائلًا:
- ماذا تفعلون؟! من أمركم بفعل ذلك، أترفعون سيوفكم على شيخ كبير، تلك فعلة الأنذال؟!
ركل أحدهم برجله قائلًا بغضب:
- حسابي معكم سيكون عسيرًا، اُغربوا عن وجهي وإلا قتلتكم.
كاد أحد كبارهم يرد، فسبقه طومان باي مقاطعًا:
- اِخرس ولا تتحدث، فوالله ما يمنعني عنكم سوى السلطان قانصوه.. نفذوا الأمر وإلا قمت بقطع أرجلكم وألسنتكم.
أسرعوا مبتعدين عنه، ودخل طومان دكان صفي، حيث حمله الناس مستغلين انشغال الجلبان بالأمير، ووقف ينظر لصفي الدين متأثرًا وحائرًا. دخل فخري، وقد سمع بما حدث، فصار يسكب الماء ويزيل الدم من على رأس ووجه صفي وهو يبكيه، فاقترب طومان، وركع على ركبتيه يقبِّل رأس صفي..
- أنا آسف يا عم، أخبرني الجند فجئت مسرعًا، لكن من الواضح أنني تأخرت كثيرًا!
رد بلال وهو يبكي:
- كادوا يقتلون أبي، ليس في قلوبهم رحمة!
قال طومان:
- أيها الشاب، لا تقلق ولا تبكي، فوالدك سيكون بخير.
التفت إلى أحد جنوده، وأمره بالإسراع لإحضار الطبيب، ثم التفت إلى بلال يسأله عن اسمه، ثم طلب منه أن يحمل أباه إلى بيته، على أن يلحق به الطبيب. وضع يده على كتف صفي، وقال:
- وعد مني، كل من شارك في هذا الفعل سينال جزاءه.
تلفَّظ صفي بصوت ضعيف شاكرًا طومان، فربَّت على كتفيه، ثم نهض آمرًا اثنين من جنوده بمساعدتهم وحمايتهم لحين وصلوهم لبيت صفي، ثم ركب فرسه منطلقًا.
عندما أوشك حاملو صفي على بلوغ بيته، أسرع بلال متقدمًا يطرق باب البيت. فتحت الخادمة، ورأت الدماء على وجه سيدها فصرخت، فهرولت أمه ترى ماذا هناك، فما إن رأت زوجها على هيئته تلك، لم تتمالك نفسها، صرخت عاليًا، وكادت تسقط لولا أن أدركها بلال. تسنَّد صفي على بلال وفخري، حتى وضعاه على فراشه، فصارت زوجه تبكي وتتساءل عما حدث له، فربت بلال على كتفها قائلًا بأقصى ما استطاع من التماسك أمامها:
- يا أمي، ها هو أمامك ينظر إليكِ ويحادثكِ، فاهدئي قليلًا. كل ما في الأمر أن المرتزقة من جنود قانصوه أرادوا الجباية، فرفض زوجك الشجاع أن يدعهم يسرقونه، فاعتدوا عليه وقد كانوا كثرة، لكن الأمير الشجاع طومان باي أنقذنا من شرهم، وسارع في طلب الطبيب لمداواة أبي، وأظنه على وشك الوصول.
أخذت تربت على يده، وتردد حسبي الله ونعم الوكيل، ودمعها لا يتوقف، حتى وصل الطبيب فخرجت تنتظر، وبقي معه ابنه وصديق عمره. أخبرهم الطبيب أن حالته تحتاج للمتابعة، وعليه ألا يبذل أي جهد أو حركة حتى يتماثل للشفاء التام، وأنه سوف يأتي ليطهر جرحه يوميًا، كي لا يصيبه القيح.
حرص بلال على تنفيذ تعليمات الطبيب، بينما أمه تعتني بتغذية زوجها وتدليله. ومن جانبه، لم يكن بمقدور صفي الدين أي معاندة، فاستسلم للراحة التي يحتاجها بدنه وقلبه معًا، فما حدث له لم يكن هيِّنًا وما خطر بباله طوال هذا العمر أن يرى يومًا كذاك اليوم. مر يومان من الواقعة، وإذا بطارق يطرق الباب، فهتفت الخادمة تسأل من الطارق، فرد من بالباب: أنا طومان باي!
هب بلال من مكانه مذهولًا، حتى طرق طومان الباب مرة أخرى، ونادى: ألا يود أحد هنا مقابلتي؟.. حسنًا، قد جئت للاطمئنان على الجزار صفي، فهل هو بخير؟
أفاق بلال من ذهوله وهرع نحو الباب يفتحه، فإذ بطومان باي ومعه جنديين..
- معذرة سيدي الأمير، لقد ألجمتني المفاجأة!
ابتسم طومان قائلًا في تبسُّط:
- لا عليك، أخبرني عن أبيك، كيف حاله؟
- أظن أنه سيكون بحال أفضل، عندما يدخل بيتنا قائد شجاع مثلك، ويراك بعينه أمامه.
قاطعه طومان:
- هل ستتركني بالخارج طويلًا؟
فضحك بلال ومعه طومان ومن معه، ثم دخل طومان البيت وحده، وسط ترحيب من بلال وأمه، وأدخلاه على صفي، الذي حاول النهوض من رقاده، ولكن جسده لم يساعده، فمنعه طومان وقال:
- استرح، فما جئت لأشق عليك، بل جئت معتذرًا ولكي أطمئن على حالتك.
- كل الشكر لك أيها الأمير رفيع الخلق، وكل التقدير لخطوتك الغالية إلى دارنا، أنا بخير وأتحسن بنعمة من الله!
أخرج طومان من جيبه زجاجة عطر، أعطاها مبتسمًا لصفي قائلا:
- هذه هدية متواضعة لجزارنا الحبيب، دمت وأسرتك في صحة وعافية. أنا أحب العطر، وقد كان النبي يحبه من بين متاع الدنيا، فلم أجد أسمى من العطر أقدمه لك، عساه يبهجك.
أخذها صفي من يده وقال:
- هذا من كرم قائدنا العادل طومان باي.
ثم فرت دموعه رغم إرادته، فأردف طومان:
- من اليوم لا تقلقوا، فلا أحد قد يفكر في التعرض لكم، لقد وبختهم وعاملتهم بأشد قسوة، وأنذرتهم، وأود أن تقبل اعتذاري وتكون راضيًا!
- وكيف لا وأنت من أنقذتني من هلاك محقق؟ بل وأتيتني في بيتي، فلا أعلم إن كنت أحلم أم هذه حقيقة، فما كان لمثلي أن يدخل بيته أمير عظيم مثلك.
قطع طومان حديثه:
- أنت وأمثالك من أهل مصر أمانة في عنقي، عاهدت الله أن أكون عونًا لكم لا عليكم.
تنهد في ضيق وأكمل:
- أعلم أن الأمر يزداد سوءًا، ولكن الفرج قادم في موعد عند الله، ليس ببعيد.
قال صفي بدموع انهمرت من عينه:
- بعد حسرتي التي لا يعلمها إلا الله، وإهانتي أمام المارة بدون وجه حق، وسحلي أمام عيني ولدي… لا عليك سيدي، فمجيئك أثلج صدري وأذهب حزني وأحل الرباط عن عنقي، وكأنك يا طومان استبدلت الغضب في قلبي بهالة من السعادة والرضا والاطمئنان، فوجودك هنا وإن كان للإحسان، فأنا أشعر بالنصر.
قبَّل طومان باي رأسه، ثم قال:
- اسمح لي بالانصراف، وبأن أكرر الزيارة لبيتك الطيب.
سارع بلال بالرد هذه المرة:
- بل نلزمك بها وعدًا أن تكرر الزيارة سيدي الأمير، فوالله ما رأيت العافية في وجه أبي منذ ذاك اليوم، إلا بحضورك!
خرج بلال مع الأمير طومان باي، حتى ركب فرسه. التفت طومان إلى بلال وقال:
- يا بلال، قد رأيتك وفي يدك سكين، فهل كنت لتقتل أحدهم؟ ألم تخشَ بأسهم؟
- بلى يا سيدي، وبأسهم لشديد، لكنني لم أفكر سوى في إنقاذ أبي، يهون على قلبي بأسهم وغدرهم إذ أرى والدي يُسحل ويُنكل به، فوالله لولا مجيئك لقضي الأمر على نحوٍ آخر.
هز طومان رأسه موافقًا ومعجبًا، ثم مال إليه وقال في نبرة هادئة ناصحة:
- نعم الشاب أنت! ولكن خذها مني نصيحة عسى أن تنفعك.. أمسك عليك اندفاعك، واخنق عليك شجاعتك، وعرقل قوتك، حتى تترصد لعدوك وتتمكن منه. فإنك حينذاك تهجم وتركض وتفترس ولا ترحم. لا تغرنك الشجاعة والقوة، فأخذ الحق من خسيس لا يكون إلا بحكمة، فهو دومًا يستقوى بحاشية حوله، فإن طُعن تخلوا عنه وشُل تفكيرهم. سلام عليك يا عزيز النفس.
دخل بلال على والديه مهرولًا فرحًا، فضحكت أمه قائلة:
- لك أن تفرح يا ولدي، فزيارة طومان باي لبيتنا فخر وسعادة لا توصف.
هز والده رأسَه موافقًا، وكان قد شد عزمه وجلس في مكانه:
- حقًا إنه لشرف عظيم. لقد أزاح همي وهوَّن عليَّ، وما كنت لأصدق أن مثله يكترث بنا!
هتف بلال:
- يا أبي، أين زجاجة العطر النفيسة هديته؟
ناولها إياه، فوضع قطرة منها على إصبعه، مسح بها وجهه وصدره، ثم أخذ نفسًا عميقًا، وقال منتشيًا:
- يا لها من رائحة! إنها لعطر سلاطين.
فضحك والداه، ثم قاطعهما طرق على الباب، فأسرع بلال يفتح لفخري الذي جاء ومعه يوسف ابن خالة بلال. رحب بهما في مرح، وأدخلهما غرفة الضيافة الأمامية، حتى تُتِمَ أمه تحميمَ أبيه.
- ما هذه الرائحة يا بلال، هذا عطر ثمين!
ضحك بلال، وردَّ مفتخرًا ومبتهجًا:
- إنه هدية الأمير طومان باي لأبي، وقد استوليت على قطرة واحدة منه.
حكى بلال تفاصيل زيارة طومان باي لهم، ثم سمعوا نداء أبيه، فتنحنح فخري ودخلوا عليه. وكعادة يوسف وحماسه، اندفع يقول إنه لو كان موجودًا، لتصدى لهم ولو ذبحوه مثل الماشية. وكزه فخري، كي يراعي صديقه بلال ولا يجرحه، فضحك يوسف مكملًا:
- لكن في تلك الحال لم يكن طومان ليزوركم، وأرى أنكم تفضلون زيارة طومان على أي اختيار ولو كان الثمن غاليًا.
تضاحكوا جميعًا، ودار الحديث عن طومان ومحاولاته، وكان فخري غير متفائل بمستقبل طومان، لكنه غيَّر الحديث متطرقًا إلى غلق دكان صفي، قائلًا إنه يجب فتحه، وخاصةً أن بلال صار قادرًا على إدارته. تردد صفي، يخشى على ابنه تعرض الجلبان، لكنه رأى الحماس مشوبًا بالتردد على وجه ابنه، فأخذ نفسًا عميقًا وأخذ برهة يفكر أن ابنه صار شابًا، وجب عليه النزول لمعترك الحياة، ومجابهة واقعه القاسي، عساه يفيده ويكون له سندًا قبل أن ينقضي العمر، ففتح عينيه ونظر في وجوه الثلاثة، ثم ابتسم قائلًا:
- على بركة الله
وما إن أتى الصباح، حتى جهزت أم بلال فطورًا ساخنًا
لابنها، ورأت في عينه شغفًا وحماسًا لم ترهم من قبل، وكأنه لا يخشى أحدًا، لكنها لم تستطع إخفاء مخاوفها من الجلبان، فقبَّلها بلال جبهتها ويدها، وطمأنها مستشهدًا بزيارة طومان لهم، فصارت تُبَخره، وأخذت في ترديد الأدعية.
أنهى فطوره، ووقف عند باب حجرة أبيه، وناداه هامسًا، لكنه كان نائمًا، أو هو ظنه كذلك، بينما الأب لا يريد أن يرى ابنه وجومه وخوفه عليه. همس طالبًا منه الدعاء رغم ظنه بنومه، ثم توجه إلى الباب تودعه أمه بالرقية والبخور، وهو يحاول مضاحكتها وتخفيف الأمر.
- يا أمي، لا يخاف من الناس مَن لا يزال يفوح بعطر الأمير!
حاولت الابتسام، وربتت على كتفه، وتوكَّل هو على الله متخذًا طريقه لباب رزقه.
حين دخل السوق، وجد الأحاديث بين الناس لم تزل عمَّا حدث في دكان صفي الجزار، وما كان من الأمير طومان الشجاع، الذي لم يكن نجدة وقت الحادث فقط، بل عرف الجميع بزيارة الأمير لبيت الجزار صفي الدين، وتعجب بلال من نبرة البعض الحاسدة، وكأنهم يتجاهلون كل ما يعانيه أبوه، ولا يرون إلا رفاهية زيارة الأمير! وحين فتح بلال الدكان، شعر بالسعادة وبعودة الحياة إلى رئتيه، وتذكر كلمة التاجر فخري الدائمة مع كل أزمة : "الحياة يجب أن تمضي ولا تتوقف عند محنة" هي أحداث من صنع الله وسنمر بها مهما حاولنا إبعاد أنفسنا عنها، فالرضى بها طاعة والسخط عليها كربة وعسر. حمد الله، وأرسل لصبيان الدكان حتى يعودوا للعمل، وبدأ يأتنّس بجيرانه من التجار الذين يدخلون عليه مرحبين بعودة فتح الجزارة، متسائلين عن والده، ومتطرقين إلى الحديث عن ضيافة طومان باي في بيتهم، فداخله اطمئنان وإحساس بالسند أزاح قلقه، وبدأ يندمج في العمل باجتهاد.
وبعد مرور أسبوع على عودة فتح الدكان، اشتدت الحمى على صفي الدين واشتكى من ألم في رأسه، وأتى الطبيب، فعرف أن الحادثة لم تمر بخير، وطلب منهم الصبر وتشجيع صفي، فربما يجتازها بمعجزة من الله، ثم أمرهم بنقله للبيمارستان. لكنها كانت بضع دقائق بعد ذهاب الطبيب، وأعلنت صرخة زوجته موت رفيق عمرها، ثم لم ينقطع البكاء في الدار.
حرص أصدقاء بلال على المرور عليه في الدكان يؤازرونه وينعون والده، وهو صامت لا يفعل إلا أن يشكرهم حين يقومون منصرفين. وحين حانت خلوة لبلال بيوسف ابن خالته، همس له:
- أريد أن أنتقم لوالدي يا يوسف.
- ماذا تقول؟!
- أكره الجلبان معدومي الرحمة والإنسانية، والله إن سنحت لي الفرصة سأقتلهم جميعا وأذبحهم مثلما تذبح البهيمة.
فكر يوسف متأملًا صاحبه، ثم ضيَّق عينيه وقال:
- وأنا معك وفي ظهرك. لكن عليك أن تعرف أن هذا الطريق لا رجوع منه، فخذ وقتك في التفكير.
- بل لقد فكرت وقررت.
شدت يد يوسف على يد بلال، متعاهدين على الترصد بمن تجبَّروا وتسببوا في موت صفي الدين، ثم قال يوسف:
- عسى أن يذهب الشك إلى الأوباش، فهم من يجترؤون من حين لآخر على قتل المماليك.
انتظم بلال في فتح دكان والده، وبدأ هو ويوسف يترصدان أفراد المجموعة التي ساهمت في قتل صفي الدين، ويراقبان الأماكن التي يرتادونها، حتى أتى يومٌ، تَبِعا فيه واحدًا منهم، وانتظراه حتى قضى سهرته في إحدى الحانات، يتجرع البوظة ويبلغ به السكر مبلغه. تلثما، وانتظرا على حصانيهما، حتى خرج يترنح، وركب دابته، فتبعه بلال ويوسف حتى دخل إلى الأزقة الخالية، ولكزا حصانيهما مسرعين، حتى لحقا به وطعنه بلال من الخلف فسقط صريعًا، فنادى يوسف بلالًا أن هيا لنهرب، وإذا بوقع حوافر حصان يصل آذانهما، وأحد أتباع المماليك يصيح:
- لصوص..أوباش..اِلحقوا بهم.
قفز بلال فوق حصانه وأسرعا بالفرار، قبل أن يجتمع الناس على صراخ ذلك المملوكي. ابتعدا قدر الإمكان، ثم تركا الحصانين في إحدى الحارات، ليعودا في الطريق الذي يحفظانه عن ظهر قلب، وهرولا هما على أقدامهما، حتى يراوغا أي مطارد يريد اللحاق بهما.
وحين أتى الصباح، نزل بلال يفتح دكانه في موعده المعتاد، وإن كان لم يذق النوم في ليلته. أنصت للقيل والقال، فوجد الناس يتحاكون بأن الأوباش قتلوا واحدًا من الجلبان، فاستراح خاطره، وبدأ عمله في نشاط وحماس، وهو يسمع بعض المتسوقين والتجار المظلومين يرددون في فرحة: "اللهم اضرب الظالمين بالظالمين".
الأمر لم يكن هينًا على الجلبان، فازداد تنكيلهم بالتجار والمتسوقين، وأخذوا الجباية على غير موعدها، وأثاروا الرعب والفزع في الأسواق، يترأسهم المملوك الثاني الذي ضرب صفي الدين، لكز بلال يوسفَ حتى ينتبه له، لكنه لم يفهم تصنع بلال الهدوء حتى رحلوا.
_ يبدو أن لدينا صيدًا الليلة.
_ ماذا تقصد؟
_ ثأر أبي لم يكتمل هذا الذي كان يصرخ في الناس منذ قليل شارك في ضرب أبي.
_ يجب أن نحذر يا بلال السوق يغلى كما ترى والجلبان منتشرين!
_ لا يهمني سأفعلها الليلة، هل ستأتي معي؟
_ بالطبع أنا معك حتى أتأكد من عودتك سالمًا.
حذرًا انتظرا الفرصة المناسبة وهم مختبئين عن أعينهم، أخرج يوسف بلالًا من شروده وقال:
_ انظر! إنه من ننتظره ساقه القدر إلينا.. لقد تأخر عن مجموعته وركع يتقيئ وفي يده زجاجة النبيذ.
أسرعا الخطى وبلال يتذكر أباه، لكن يد يوسف كانت أسبق من يده، ووجد المملوك صريعا بين يديه، وانتابه مزيج من الغضب والحزن!
_ اعذرني يا بلال هو ثأري كما هو ثأرك.
_ لماذا يا يوسف أنا لم أهدأ بعد؟
_ ليس هذا هو المكان المناسب للمعاتبة يا صديقي يجب أن نرحل قبل أن يتم الإمساك بنا.
هرولا إلى الأزقة واختفيا في الظلام.
كان يوسف محقًا من أجل مكانته عند والد بلال، لقد كان بمثابة الابن له.
وعاد الجلبان للسلب والبغى على الناس بل وقاموا ذات ليلة بالترصد لمجموعة من الأوباش وقتلوهم جميعًا. رد عليهم الأوباش بقتل عدد من جنودهم في شمال وجنوب مصر، فعمَّت الفوضى لعدة أسابيع، ولم يكن أمام الناس إلا الدعاء على المماليك وتمني زوال حكمهم بلا رجعة، حتى وصل دعاؤهم إلى قانصوه الغوري، وعلم بسخط الناس عليه لدرجة تجرؤ البعض بالدعاء عليه في العلن. وبدلًا من أن يبحث عن قاتل الجلبان، أو يحاول إرجاع الاستقرار في المحروسة واحتواء الموقف، أمر جنده بإلقاء القبض على كل من يقول كلمة مشينة في حقه أو يدعو عليه، حتى المجاذيب لم يسلموا من رجاله، فعاد الناس للصمت رغم الجور، خوفًا من جور أشد.
كان فخري هذه المرة من الصامتين وعلى غير عادته، لا يذكر الغوري في السوق، حتى لا يشي به البصاصون جواسيس السلطان، ولكنه يفرغ ما كتم مع المقربين له، كمثل يوسف وبلال. عرف منهما أنهما اقتصا من قاتلي صفي الدين، ففرح فرحًا شديدًا ووصفهما بالشجعان، ولكنه رجاهما الهدوء وعدم التمادي في القتل، فالنفس بالنفس وقد قتلا اثنين، لا واحدًا. جادل الشابان، وأصرَّا أن الجلبان مفسدون في الأرض، وقتلهم جهاد، فتحول فخري إلى اللين وهو ينصحهما بالتريث كي لا تمسهما شبهة، وساعتها سيكون مصيرهما الشنق، وليس في ذلك مكسب لأحد. تبادل معهما الرأي حول قانصوه، الذي لا يهتم إلا بجمع الأموال، يكنز الكثير منها، وينفق على حماية نفسه، ولا يهتم بالعامة من الناس. المحتسب الزيني بركات كذلك وصفوه بكل صفات القبح، بينما طومان باي وحده يحاول إقناع واستعطاف عمه قانصوه بالإفراج عن المعتقلين لعودة الاستقرار، وحتى يشكره الناس، ولا تزال المحروسة في حالة من السخط بينما يتهدد البلد أكثر من عدو.
***** **** ******** *****
بعد أيام من ذلك الحوار، استجاب قانصوه أخيرًا وأطلق سراح المعتقلين، الذين اتعظوا وما عادوا يفكرون في الحديث بالسلب على السلطان قانصوه. في نفس الوقت، حاول قانصوه تهدئة الجلبان بدفع المزيد من الأموال لهم، فهدأت المصادمات، رغم حالة التوجس والغضب. وتزامنا مع تولي سليم الأول سلطنة العثمانيين، تطورت الأحداث بينه وبين الشاه إسماعيل الصفوي وبدأت الحرب بينهما، فبحث كلاهما عن مساعدة السلطان قانصوه، ولكن اِلتزم الغوري الحياد ولم يتدخل، فاعتبرها سليم الأول خيانة من الغوري له، وتوعد بمعاقبته، حيث لم يقصر العثمانيون في مساعدته من قبل في حربه ضد البرتغاليين، فكان عليه أن يرد الجميل.
اندلعت الحرب في يوم ٢٣ من أغسطس عام ١٥١٤م بين العثمانيين والصفويين في معركة جالديران، وانتصر العثمانيون، وخسر الصفويون فيها خسائر شنيعة على يد سليم الأول، فهرب من هرب وعلى رأسهم الشاه إسماعيل الصفوي. استولى جيش سليم على مدينة تبريز عاصمة الدولة الصفوية، وجعلها مركزًا لعملياته الحربية لعدة أيام، كما أسر زوجة إسماعيل الصفوي ومنحها لأحد جنوده، ولم يهدأ سليم بعدها إلا بإرسال الصدر الأعظم التابع له للهجوم على إمارة ذي القدر، التي تشكل المنطقة العازلة والتابعة لدولة المماليك، واستطاع السيطرة عليها، وقتل علاء الدولة في المعركة، فما عاد يفصله عن المماليك شيء، وقد صرَّح سليم بقراره الانتقام من دولة المماليك، ووصفهم بحلفاء الصفويين الشيعة.
كان سليم عند مسيرته نحو بلاد فارس، وقبل مواجهة الصفويين، قد أرسل لجده علاء الدولة أمير ذي القدر التركماني، لمساعدته في حرب الصفويين، حتى يتمكن من حماية قبر النبي في المدينة المنورة من نبشهم، ومن قيامهم بنشر المعتقدات الشيعية، واحتلالهم العديد من البلدان وتغيير معتقدها السني، وقتل ما يقارب المليون مسلم في بغداد وإيران وغيرها من المناطق التي سيطروا عليها. ولما برزت قوتهم، حاول قائد البرتغاليين "ألفونسو ألبوكرك" الاتحاد معهم لاحتلال المدينة المنورة، ومقايضتها بالقدس، فرفض علاء الدولة متعللًا بعدم قدرة جيشه على الدخول في النزاعات والحروب، خاصة وقوعه على حدود المماليك وتحت حمايتهم. ولكن حين بدأ الجيش العثماني رحلة الذهاب لمحاربة الصفويين، اشتبكت قوات علاء الدولة مع مؤخرة الجيش العثماني وحدثت بينهم مناوشات واشتباكات بسيطة، فتعاظم يقين سليم أن المماليك حلفاء للصفويين.
ومع ذلك، لم يبدأ بالقتال، بل أرسل للغوري يخبره بما فعل علاء الدولة، فرد عليه الغوري برسالة: "إن علاء الدولة عاصٍ، فإن ظفرت به فاقتله"، فأرسل سليم بعدها رأس علاء الدولة وابنه ووزيره مع الرسل إلى قانصوه في القاهرة.
وفي هذه الأثناء، لم يتغير الوضع تقريبًا في مصر، حيث الناس ساخطون من الجباية، وطومان يبذل قصارى جهده في إبعاد الجلبان عن إيذاء الناس، فيزداد حبُ الناس له. ولكن عندما شعر المماليك بنوايا ابن عثمان، وعرفوا بهجومه على إمارة ذي القدر وقتل علاء الدولة، عرفوا أن حربًا دامية مع العثمانيين على أبوابهم، وانشغل قانصوه بتجهيز جيش المماليك، فاستغلت عصابات من العربان ذلك الانشغال، وبدأوا يهاجمون الفلاحين ويسرقون محاصيلهم وربما بيوتهم، ويقتلون ويروِّعون الناس، ثم اعتدوا على عدد من المماليك وقتلوهم، فهنا فقط أرسل الغوري فرقًا تقتلهم وتقبض عليهم. ولكن زاد الأمر سوءًا، وثار العربان عليه، فعلى الفور كفَّ الغوري عن ملاحقتهم وقتلهم، وحاول أن يقربهم إليه، كما قام بالإفراج عن بعض المحبوسين منهم، والبعض الآخر أعفاه من الشنق.
رأى التاجر فخري هذه الفعلة رعبًا من الغوري أن يقوم العربان بإنشاء دولة بدوية تستقل عنه، وأنكر عليه أن أفرج عنهم، رغم أن فيهم من يستحق القتل والسجن، وقد أفتى المشايخ بقتلهم. ضحك يوسف متهكمًا، وقال لفخري إن الفتاوى صارت لصالح السلاطين فقط يا عم، ونحن فقط المُحرَّم علينا الدفاع عن أنفسنا ومخالفة أولي الأمر، فأسكته فخري زاجرًا جرأته، رافضًا أن يلقي بنفسه للتهلكة.
وعلى الرغم من استعدادات الغوري الجارية لمواجهة ابن عثمان وجيشه، إلا أنه سعى لتهدئة الأمر مع سليم، وأرسل إليه رسولًا يعرض عليه الصلح بينه وبين الشاه إسماعيل، فرفض السلطان سليم ووبخ رسل قانصوه، فاستمر الغوري في إعداد جيشه، بينما يبحث عن وسيط آخر للتصالح مع سليم، ويكتب له الرسائل مؤكدًا أنه لا علاقة بينه وبين الصفويين.