سامي شاب في مقتبل العمر يدرس في السنة النهائية للمرحلة الثانوية، وهذا العام يحضر لنيل شهادته، و الدخول إلى الجامعة، وهو حلم ينتظره منذ سنوات، ولكن شاءت الأقدار أن يدخل سامي إلى المستشفى بعد تعرضه لحادث سير مأساويّ.
اليوم سامي ملقى على سريره في المستشفى يائساً حزيناً، وقد منعه الأطباء من الجلوس، أو التحرك. عليه أنْ يبقى ملقى على ظهره، وكان بجنبه مريض آخر يجلس على السرير الثاني، و هذا المريض يسمح له طبيبه بالجلوس مدّة ساعة واحدة فقط في اليوم، لتأتي الممرضة، وترجعه في وضعية الاستلقاء، ولقد أصبح سامي و هذا المريض الذي يُدْعى عماد صديقان يتحدثان مع بعضهما، و يتجاذبان أطراف الحديث حتى لا يشعرا بالملل.
كان سامي محبطاً و تعيساً، وكلّ أحلامه ضاعت بسبب هذا الحادث، وهو لا يستطيع النظر إلى من حوله، ولكنّ صديقه عماد المريض و زميله في الغرفة يحاول دائماً تشجيعه، وإزالة الهم عنه، ولأنّ عماد كان بإمكانه الجلوس ساعة واحدة في اليوم، وذلك وقت العصر. وكان سريره بجانب النافدة، لذلك كان يخفف عن صديقه سامي وجعه و ألمه بأن يحكي له عن المظاهر الخارجية. وكيف يمشي الناس، ويتجلون خارج المستشفى؟ واعتاد سامي على هذه الساعة الجميلة و عماد يحكي له ما يحدث بالخارج.
وفي صباح يوم آخر في المستشفى، تأتي الممرضة لمراقبة حالة المريضين كالعادة، فيسألها سامي عن الجوّ بالخارج، فتخبره أنّ الجوّ بارد جدّاً بعد تساقط الثلوج ليلة أمس، والثلوج متراكمة في كل مكان، فينتظر سامي ساعة جلوس صديقه، ليحكي له أحوال الناس من النافدة، فيخبره عماد بكل حماس أنّ المدينة اكتست حلة بيضاء، وجميع الناس يرتدون معاطف صوفية، وقفازات، ويلعبون بالثلج، وهناك الكثير من الأطفال قد اجتمعوا وقاموا بصناعة رجل الثلج، وهم يلتقطون الصور بجانبه، والأشجار الخضراء أصبحت بيضاء، كأنّها أثمرت فاكهة بيضاء، فقام سامي يضحك ويمازح صديقه: هل تحب أن أذهب و أقطف لك بعضًا من هذه الثمار؟! ونسى الصديقان همّهُما و ألمهما للحظات قبل أن يستلقي عماد مجدداً على سريره، فالساعة تمضي بسرعة.
و مضت الأيام هكذا، وانتهى فصل الشتاء ، وجاء فصل الربيع، واليوم أتى الطبيب بخبر مفرح لسامي يخبره بأنّ بداية من الغد سيسمح له بالجلوس لمدة ساعة أيضاً، وأنّه في تحسن مستمر، وجسمه يتفاعل مع الأدوية، وهكذا سيتمكن بعد العلاج من الخروج ماشيًا على أقدامه.
يسرّ عماد بخبر صديقه الجميل، ويقترح عليه أن يحكي له ما يحدث من النافدة لآخر مرّة، و بعد اليوم سيستمتعان معاً بالمشاهد الخلابة، و المناظر الممتعة، التي كان عماد يصفها لصديقه دائماً.
يقول عماد لصديقه: اليومُ مشمس و جميل فنحن في فصل الربيع، والجوّ معتدل، والساحة اكتست حلّة زاهية بألوان عذراء، فالأشجار خضراء، وهناك الأزهار بألوان مختلفة: الحمراء والصفراء، والناس يتجولون حول هذا المكان الجميل، وتوجد نافورة مياه وسط الحديقة، والكثير من الأطفال يلعبون ويسرحون.
قضى عماد وسامي هذه الأمسية في بهجة وسرور، فَرِحَا بتحسن حالته الصحية، منتظرين اليوم الثاني بكلّ لهفة و فضول. وفي صباح اليوم الموالي يستيقظ سامي على صراخ الممرضة التي تنادي الأطباء بصوت حزين، وتتسارع الممرضات بالدخول إلى الغرفة، وسامي ملقى على سريره لا يفهم ما يحصل حتى سمع الدكتور يقول: إنّا لله و إنّ إليه راجعون؛ ودخل في حزن عميق وألم كبير لفراق صديقه، و نسي موضوع تحسن صحته، إلى أن جاءت ساعة العصر، الساعة الممتعة التي يدخل فيها مع صديقه عالم الأحلام، عالم ينسون فيه الهموم و الآلام.
وجاءت الممرضة كعادتها، لكنَّ مريضها قد مات و سريره مازال فارغاً، فتجلس بالقرب من سامي تحاول تخفيف الحزن عليه، ويطلب منها سامي أن تنقله إلى سرير صديقه، فهو مجاور للنافدة التي تطل على عالمهما، وفعلاً نادت الممرضة من يساعدها في نقل سامي إلى السرير المجاور، ومساعدته في الجلوس لمدة ساعة كما سمح له الطبيب.
تركت الممرضة سامي في الغرفة لوحده، وقد أغمض عينيه، لم يستطع فتحهما للنظر من النافدة، و قد اتفقا البارحة على المشاهدة معاً، وهو اليوم وحده، ثم استجمع قواه، وفتح عينيه، وصرخ بأعلى صوته ينادي الممرضة.
أسرعت الممرضة إليه، وسألها مباشرة: هل هذه هي النافدة التي كان يُطل منها زميلي عماد يوميّا، فأجابته الممرضة بنعم، فقال لها أنّ صديقه كان يحكي له عن مناظر جذابة وناس كثيرين يتجولون في حديقة حول بركة جميلة، وعن أشياء و أشياء كثيرة، ولكن هذه النافدة تطل على ممر داخلي في المستشفى.
أخبرت الممرضة سامي حينها أنّ عماد كان أعمى ولا يرى شيئاً، فبهت سامي و اندهش وعرف أنّ عماد كان يحاول إسعاده وإبعاد الهموم عنه، ولم يشك يوماً بعدم قدرته على النظر.
كان عماد متفائلاً مبتسماً رغم إعاقته، و أراد مساعدة سامي، ليتخطى صدمته، ويواصل حياته، ويغرس في قلبه الإيمان والصبر بالرغم من أنّ حالته كان ميؤوساً منها، ولكنه كان إيجابياً، وعاش آخر أيامه سعيداً، و ناشراً سعادته إلى كل من حوله، وبقى سامي يتذكر عماد بروح مقاومة، وقلب صابر، و إيمان قوي حتى جاء اليوم الذي خرج فيه من المستشفى، وعاد مجدداً لمدرسته لمتابعة دراسته.