زهراء
كان يومًا هادئًا كسائر الأيام التي اعتادت عليها،عاشت ضمن روتين لا ينتهي ولكنها أخلصت في عملها وزواجها وفي تربيتها لولدها فما كانت تقوم به كانت تفعله بحب فلم تيأس من إعادة نفس السيناريو كل يوم، تركت ابنها الرضيع أمانة في الروضة بعد أن استودعته الباريء الحافظ من كل سوء.
استقلت سيارتها بجوار والدتها مديرة المدرسة التي كانت تعمل بها معلمة لعلوم البيئة تحب تلاميذها ويحبونها، كان الكون هادئًا ومنظر الجبل أمامها والطبيعة الخضراء التي أحاطت به جعلت قلبها ينشرج لبداية يوم جديد، وصلت إلي المدرسة التي تبعد شارعين عن الروضة وبضعة مترات عن الجبل صفت سيارتها وترجلت هي ووالدتها كل منهمن مستعدة لأداء مهمتها علي أكمل وجه.
خفتت الأصوات جميعها فلم تعد تسمع سوي صوت القنبلة الذي دوي فجأة ومن بعدها لم تعد تسمع شيئًا، انبطح المارة وانتشر الغبار فغطي أرجاء المكان حتي وصل إلي عنان السماء وانكبت هي علي الأرض دون أن تدري ماذا الذي يحدث وماذا دار.
ثوانٍ مرت حتي عاد اللغط من جديد رفعت رأسها الذي آلمها ووجهها الذي ملأه الغبار تنظر حولها بهلع، صراخ لا تعرف مصدره وصوت رجل يبحث عن ولده الذي اختفي وسيارة انطلق انذارها اثر ارتطام شيء بها ولكنها لم تفكر سوي بوالدتها أين هي وماذا حل بها.
بحثت بعينيها فلم تجدها فقفزت من مكانها تدور حول السيارة فوجدتها منكبة هي الأخري علي الأرض، ساعدتها علي النهوض ونفضت الغبار عن عباءتها وقد عادت السكينة إلي قلبها حين قال البعض أن القنبلة كانت وراء الجبل ولم تمس أحد بسوء، تنفست بأريحية وتقدمت والدتها إلي المدرسة لتطمئن علي أطفالها لدقائق كانت تفصلهم عن تلك المدرعات التي اقتحمت المكان وترجل منها رجال ملثمين بأسلحتهم فأحاطوا المكان من حولها، طمأنوا الجمع أنهم قوات الشرطة الخاصة وأنهم هنا لمساعدتهم حيث قال قائدهم كلمتان لا ثالث لهما باقتضاب وبصوتٍ عالٍ أسمع الجميع:
- إلي الجبل.
لم تعرف هذا الأمر أكان لمن يتبعه من القوات تلك أم للجميع حتي وجدت هؤلاء الذين يحملون الأسلحة يدفعون المدنيين ناحية الجبل بهدف حمايتهم، فكرت أية حماية تلك تدفعهم نحو مكان القنبلة فاستوقفت واحدًا منهم وقالت له بهلع:
- ولكن ولدي بالروضة يجب أن أتي به، أريده أن يكون معي.
لم يعرف محدثها معني أن يكون قلب أم مكلوم أو حتي قلق، فقال لها ببرود:
- أخبري القائد...
التفتت حولها فوجدته في المقدمة يوجه الناس إلي حيث عليهم الذهاب والمنطقة مطوقة بقواته فلا يمكنها الفرار، أمسكت والدتها يدها وأخبرتها أن عليها الاستمرار حتي لا يصيبها أذي، كانت دائمًا تعارض حيطة والدتها وتعتبرها زائدة عن الحد وفي هذا الموقف بالتحديد لم تستطع الصمت فولدها فلذة كبدها بعيدًا عنها ولا تعلم ما الذي سيصيبه، تركت والدتها خلفها ولم تلتفت إلي حديثها وتقدمت نحو القائد فأخبرته بمشكلتها فقابلها ببرود كسابقه دون أن ينظر إليها:
- اسمعي سيدتي، هناك حرب علي وشك الاندلاع ويجب علينا تأمين المدنيين ووضعهم في منطقة آمنة في الجبل، ولدك بأمان أينما كان طالما أنه ليس في العراء.
لم يملأ حديثه جعبتها فأجهشت بالبكاء.
- لا يهمني الأمان ذاك أنا أريده بجانبي إن كان قدرنا الموت نموت معًا
فلم يستمع هو الآخر وأمر الضابط الذي وقف خلفه أن يصحبها لداخل النفق الذي سيمكث فيه هؤلاء المدنيين، صرخت أن "ولدي" فلم يبالي لها أحد كان كلٌ يفكر في حاله وماذا سيفعل، وضعها الضابط في الداخل وتركها ورحل فحاولت الخروج وراءه فأمسكتها والدتها من ذراعها قائلة بحدة:
- هذه المرة سيقتلك بكل تأكيد ولن تريَ ولدك مرةً أخري، اهدأي حتي نحسن التصرف.
وافقها البعض ممن جلس بجانبها فجلست ابنتها بجانبها منخرطة في البكاء تفكر في حال ولدها، أهو بخير أجائع هو أم تركوه ورحلوا من خوفهم وإن كانوا بجانبه هل اقتربت منه مربيته واحتضنته لتهدئ من روعه أم تركوه يعاني الخوف وحده أيشعر بالأمان!
درة
خرجت بملل علي غير عادتها فقد ضاقت ذرعًا من تحكم والدها وتعسفه معها محاولته للسيطرة علي حياتها وإملاء الأوامر عليها جعلتها تحاول الهرب من الواقع بشيء آخر أقرب إلي روحها وهو التصوير، أخذت ماكينة التصوير وحين كانت علي وشك الخروج استوقفها والدها ليقول لها أن عليها المكوث بالمنزل اليوم فالأمن بالخارج ليس مستتبًا فقالت له بغضب:
- أبي أنا لست ضابطًا بالجيش تملي عليه أوامرك أنا ابنتك، عليك أن تفكر بطريقة جديدة لنتعامل بها معًا.
وتركته وراءها، فكرت بالهرب من المنزل لسنوات ولكنها في كل مرة كانت تتذكر والدتها التي تركتهم وراءها ورحلت كان يؤلمها قلبها وتتراجع فلن تؤلم قلب والدها مرة أخري حتي وإن كان متعسفًا معها.
راحت تصوِر الجبل والطبيعة من حوله حيث الزهور والأشجار وبعد عدة دقائق عادت روحها إليها وكان مؤشر سعادتها قد وصل للذروة فلا أَحب إليها من التصوير ثم أخذت تصور شقوق الجبل وتقاطعها مع الشمس، الأماكن التي تنزل منها الشلالات في الخريف والتي جفت حاليًا مخلفةً وراءها خضارٌ لا بأس به، حين توقف العالم من حولها ودوي صوت القنبلة.
وقعت علي الأرض وارتطم وجهها بحجارة ففقدت وعيها، دقائق أخري حتي عادت للحياة واستعادت وعيها نظرت حولها فوجدت ماكينة التصوير خاصتها محطمة بجانبها والغبار يغطيها ولا أحد بجانبها تسأله عما يحدث فغطي الغبار الأخضر واليابس من حولها.
تملكها الرعب فخبأت نفسها بسرعة داخل شق من شقوق الجبل حين وجدت المدرعات قد وقفت علي مقربة منها وبدأوا بدفع المدنيين نحو الجبل من الناحية الأخرى. ظلت مكانها ولم تتمكن من الحراك خوفًا أكان عليها الاستماع لحديث والدها حين أمرها ألا ترحل ولكن أيفيد الندم حاليًا مكثت لثوانٍ ولم يراها أحد فاطمأنت قليلًا وكانت علي وشك الخروج فقررت أن تعود للمنزل وتحتضن والدها وتعِده بألا تعصي أمره مرة أخري حين سمعت صوتًا فوقها من أين يأتي لم تعرف فنظرت لتجد ذات الأشخاص باللباس الأسود يتدلون بحبال من أعلي الجبل قاصدين أسفله حيث استقرت هي.
عادت برعب للشق الذي أخفي جسدها عمن بالخارج وهي تفكر لماذا يتدلون بحبال من أعلي الجبل حين كان يمكنهم الدخول مع المدرعات، ما الذي يحدث ومن الذي فجر قنبلة بالجوار أهي الحرب حين قطع تفكيرها أصوات اطلاق النار التي دارت بالخارج.
كانت تريد أن تصرخ ولم تكن تريد أي شيء في هذا الوقت بالتحديد سوي والدها ولكنها كتمت أنفاسها ودعت الله ألا يصيبها مكروه قبل أن تعتذر إليه وتقبل يده، توقف اطلاق النار فجأة كما بدأ وسمعت أصوات الرجال بالخارج أحدهم يقول:
- لنرحل من هنا؟
لماذا أتوا ولماذا هم راحلون، أيتحدثون بلسان بلدها فلماذا يقاتلون قوات الجيش التي تحميهم، لم تجد إجابة ولم تجد من يجيب فأخرجت رأسها حين سمعت السكون قد عم من حولها فلم تجد كائنًا حيًا سواها وكل من كانوا يتدلون من الجبل جثثهم ملقاة أمامها علي الأرض وقد صعدت أرواحهم التي كانت تحركهم منذ قليل إلي بارئها.
جلست علي الأرض تشهق وتبكي لم تحتمل منظر الدماء ولم تستطع الرحيل كيف سترحل وكيف إذا واجهها هؤلاء المسلحون، توقفت عن البكاء بعد برهة وأمرت نفسها أن تتحلي بالشجاعة كما كان يقول لها والدها دائمًا فوقفت حين وجدت الأسلحة لازالت بجانب مالكيها.
علمت أن قتلهم كان بهدف الفساد ولكن من يفعل ذلك وللمرة الثانية لم تجد من يجيب، اقتربت من إحدى الجثث ونزعت عنه قناعه بشجاعة تامة وجمعت شعرها ووضعت القناع علي وجهها ثم نزعت عنه سترته وارتدتها فناسبتها إلي حد ما ثم أخذت سلاحه وقبل أن ترحل شكرته وأغلقت عينيه ودعت لشهيد وطنها بالرحمة ورحلت.
احتضنت البندقية وفكرت هنا للمرة الأولي كيف ستدافع عن نفسها، بالطبع علَمها والدها السياسي المحنك أن تستخدم سلاحًا من قبل ولكنه لم يضعها في موقف كهذا ولم يطلب منها أن تقتل نفسًا فكيف الآن ستقتل دفاعًا عن نفسها.
ارتجف جسدها وعادت للبكاء وهي تمشي للأمام وتنظر وراءها بعد كل خطوة للتأكد أنه لا أحد وراءها ولكنها نست أن تنظر أمامها حين اصطدمت بذاك الجسد.
ذُعِرت فنظرت أمامها محاولة ألا تصرخ فكان من أمامها يرتدي نفس ملابسها فعلمت أنه في نفس صفها ولن يؤذيها ولكنها شهقت حين شهر سلاحه أمام وجهها مستعدًا للإطلاق، كانت تريد الصراخ البكاء الهرب أن تجد شقًا آخر لتختبئ فيه ولكن لا شيء فلم تتحرك، عم السكون حولها مرة أخري بعد أن دوي صوت الرصاصة.
أغمضت عينيها بقوة ثم فتحتها وتساءلت أمِت أم لا زلت علي قيد الحياة حين اقترب منها الضابط الذي أطلق النار علي غريمها صارخًا في وجهها بعد أن أمسكها من ياقتها:
- لمَ لم تطلق أيها الغبي؟ أكنت تنتظر أن يقتلك؟
لم ترد ولم ينطلق حديثًا يساعدها من بين شفتيها فظلت تنظر إلي الضابط الذي يصرخ فيها بفراغ بعد أن رأت جثمان الملثم الذي قتله خلفها، وعلي بعد أمتار حيث قُتل الضباط وقف بعض من زملائهم يرفعون أجسادهم إلي سيارة تبين من شكلها أنها مُعدة للمفقودين فظلت علي صمتها تتابع ما يحدث حولها حتي جاء من وراءها شخص قائلاً بأمر:
- يجب أن نرحل حالًا.
من يجب أن يرحل ولمَ؟ أسترحل معهم كأنها واحدة منهم وحين يكتشف أحد منهم ذلك يضعونها أمام الجميع ويطلقون عليها الرصاص حيث سيعتبرونها خائنة أم ترفع القناع لتخبرهم أنها مدنية ليسوقوها مع من ساقوهم أمامها من قبل إلي حيث لا يعلم أحد سوي الله.كالعادة لم تجد إجابة ولم تجد سوي يدٌ تدفعها بين الحين والآخر لتتحرك إلي الأمام مع الجمع الذي لا تدري من أين جاء أو إلي أين يذهب ولسانها معقود لا ينطق فراحت تتحرك كالورقة لا تعلم أين ستسقط.
ليلي
جلست داخل الخيمة التي جمعت أجزاءها مع أخيها ولفت جسدها الهزيل بوشاح بلاستيكي لتحمي نفسها من البرد حين استهزأ منها أخيها فأخرجت له لسانها وقالت بحنق:
- أريني ماذا ستفعل أنت؟ أعندك غطاء؟
اقترب منها فبعثر شعرها القصير فضربته وضحك الاثنان، كانا رغم الفقر وقلة الحيلة يعرفان أن هناك نعمًا لا تعد ولا تحصي أنعم الله عليهم بها فكانت تكفيهم ليكملا أيامهما بهناء.
- أشعر أنني أعيش مع أخي الصغير
كان ينكش هدوءها ليتصارع الاثنان ككل ليلة فيدفأ جسدهما ليناما ، قامت إليه بعد أن نفضت الوشاح عنها وكانت علي وشك ملاكمته حين التف إليها حاملًا ذاك الغطاء القطني الذي تبين من غلافه أنه جديد، ابتعدت للوراء ثم سألته باستنكار:
- من أين لك بهذا ونحن لا نملك ثمن طعامنا.
ترك أخيها الغطاء واقترب منها بحنو.
- أتعلمين عني سوءًا ليلي، لقد أشفق ذاك الرجل علي حالي واشتراه وأعطاني إياه.
كانت علي وشك التذمر فرغم ضيق الحال لم تكن تقبل العطايا من أحد فاستوقفها قائلًا:
- ليلي لم أعد أتحمل أن أراك كل ليلة ترتجفين، أرجوك دعينا نقبل تلك المساعدة فأنا لن أستطيع أن أوفر لك هذا الترف حاليًا.
احتضنته وترقرقت عيني كلاهما بالدموع، كان كمال رجلًا شهمًا وشابًا سويًا لم يكمل تعليمه إثر موت والديه فوجدا نفسيهما بالشارع بعد أن ألقي بهما صاحب المنزل إلي الخارج.
وقد تراكم عليهما دين الايجار دون مال ودون متاع فلم يجد عملًا يستطيع أن يسد به جوعه ولا حتي جوع أخته الصغيرة التي ربَت نفسها علي مصارعة الأسود وملاكمة الوحوش حتي لا يطمع أحد بجسدها لكونها فتاة فكانت مشاعرها جافة عن أخيها، كانت لها مبادئها التي لم تتخلي عنها لأسابيع عاشا فيها في خيمة وسط العراء في الشارع إلا أنها لم تقبل المساعدة فكانت علي يقين أنها سوف تقف علي قدميها هي وأخيها معًا دون مساعدة من أحد.
التف كلاهما في الغطاء معًا وشعرا بالدفء الذي قد نسيا طعمه منذ وقت طويل فشكرته ليلي وقبلته من جبينه ونام الاثنان دون أن يرف لهما جفن تلك الليلة ولكنهما استيقظا علي صوت تلك القنبلة، صرخت ليلي فاحتضنها كمال حتي مرت بعض الدقائق التي فقد فيها كلاهما حواسه من الخوف.
بعد أن عاد كمال إلي رشده طمأنها ثم أخبرها أنه سيخرج ليري ماذا يحدث فأمسكت ذراعه وتوسلته ألا يفعل كان قلبها يؤلمها ولم تطمئن لخروجه ولكنه صمم أن يخرج وأن تظل هي بالداخل حتي يعود ومن دون مقدمات كثيرة تركها، دقائق مرت كلهب يأكل قلبها علي أخيها رغم قِصر المدة إلا أنها لم تكن مطمئنة فهمَت بالخروج خلفه حين دلف وهو يلهث بخوف:
- هيا بنا نرحل من هنا.
استوقفته قائلة:
- ولكن إلي أين؟
- إلي أي مكان ربما يأوينا أي شخص في بيته حتي ينتهي ما يحدث.
- وما الذي يحدث؟
- لا أعلم إن كان هناك عدو من الخارج ولكن ما أعلمه أن هناك عدو بالداخل وإن لم نرحل سنُقتل..هيا.
أمسكها من ساعدها وخرج بجسده من الخيمة حين كانت تستوقفه من جديد، استقرت تلك الرصاصة في رأسه فمال هو علي الأرض ومالت الخيمة فوقها وفقدت وعيها لثوانٍ إثر رؤيتها لما حدث لأخيها، تصارعت الدماء في رأسها وهي نائمة رأت رأس أخيها يتفجر إلي أشلاء فعادت لوعيها لاهثة وظنت أنه كابوس سيء ولكنها وجدتها الحقيقة، أبعدت جزء الخيمة الذي مال فوقها بعنف ونظرت فإذا به ممدد علي الأرض بجانبها مبتسم كالنائم.
نظرت حولها وإذا بمن قتله لا يزال يبحث عن ضحية جديدة في نهاية الشارع الذي بدأ فيه بقتل أخيها فلم تفكر، اقتنصت سكينًا من تحت أنقاض خيمتها لم تعلم كيف وصلت إليه يدها ولكنها وقفت بغضب عيناها تصب الدموع وقلبها يقطر دمًا وفمها يصرخ كزئير.
نظر إليها قاتل أخيها حين كانت قد اقتربت منه لم تخيفها بندقيته كما أخافها أن تترك دم أخيها المراق دون أن تريحه ولكن ذاك القاتل أخافه زئيرها فتراجع ولم تمهله فرصة الفرار فدست السكين في قلبه وأخذت تحركها يمينًا ويسارًا وهي تصرخ ومن أمامها يئن حتي خر صريعًا بين يديها فلم تصدق فانهالت عليه بالطعنات حتي أنهكت جسدها، ألقت السكين بجانبه وركضت نحو جسد أخيها:
- انهض كمال لقد قتلته، انهض أخي لا تتركني وحدي.
ظلت تصرخ وما من أحد يحتضنها كما كان يفعل أخيها من قبل فكلما كانت تضيق بها الحياة كانت تركن إليه فإلي من ستركن من بعده وبمن ستحتمي حين تخور قواها، صرخت وصرخت ثم قبلته من جبينه وأغمضت عيناه ثم قالت بغضب:
- أقسم لك أن دمك لن يذهب سدًا.
حملت جسد أخيها الهزيل فوق جسدها الضعيف ومشت به عدة كيلومترات تبكي وتهتف للشهيد في شارع خلا من الحياة حتي وصلت لبيتها القديم فدقت بابه، فتح لها العجوز الذي طردها وأخيها من منزله بتوجس فقالت بهون:
- لقد مات أخي بعد أن رميت بنا إلي الشارع، كان من الممكن أن يكون علي قيد الحياة لو كان لنا سقفًا يحمينا من تلك النيران
رغم حبه للمال إلا أن ألم قلبه علي ما حدث لأخيها جعله يخرج من أجلها نظر حوله بترقب قبل أن يخرج بكامل جسده إليها فأمسك يدها لمساعدتها علي النهوض بعد أن خارت قواها فجلست علي الأرض بجانب جثمان أخيها فنفضت يده بعيداً وقالت بحنق:
- كل ما أريده منك هو جنازة تليق بأخي.
هز لها الرجل رأسه ومن فوره بدأ باجراءات تشييع جثمان الشهيد كفنوا جسده هو وإمام مسجد منطقتهم وخرج بعض الجيران أقوياء القلب لتشييعه بينما تراجع من خشي الخروج، وصولوا أمام قبره وأنزلوه حين صرخت أن "لا"، استوقفها إمام المسجد قائلًا:
- ابنتي لا تعذبيه أكثر من ذلك تكفيه دموعك.
فقالت له بترجي:
- دعني أقبله للمرة الأخيرة.
كشف لها عن وجهه المبتسم فقبلت وجنته ونظرت لموضع الرصاصة التي أخذت روحه، احمرت عينيها غضبًا ولكنها تمالكت نفسها حتي حين، وُضع جثمان أخيها داخل قبره وأقفلوا عليه فقرأت فاتحة الكتاب ثم رحلت دون أن تشكر من حضر.
نظر إليها الجمع ولكن لم يوقفها أحد ولم يعرض أحدهم عليها المأوي فذهبت إلي حيث كانت وإلي حيث بدأ كل شيء وانتهي، هناك حيث قتلت ذاك القاتل فوجدته مكانه فلا أحد سيواريه تحت التراب سيظل كالجيفة تنهش فيها الضباع حتي ينتهي أثره، بحثت حوله حتي وجدت بندقيته لا زالت بجانبه فانتشلتها ورحلت إلي حيث بداية لا نهاية لها.
شمس
وقفت في مطبخ منزلها ككل يوم تعد الطعام وأمامها جلس زوجها أمام التلفاز وطفليها الاثنان يلعبان تارة ويتصارعان تارة، نظرت إليهم كمن احتار في أمر ما ثم نظرت إلي ساعة الحائط فلاحظ زوجها توترها فسألها:
- ما بالك؟
فقالت دون أن تلتفت إليه "لا شيء"، عادت للطعام الذي استقر فوق المِقود فأخذت تقلبه وهي تتابع حركة المارة بالشارع من شباك مطبخها حتي سمعت الصوت الذي انتظرته منذ الصباح، دوي صوت القنبلة فصرخ الطفلين وركضوا إلي حضن والدهم الذي ضمهم إلي صدره وكأنه يحميهم من العالم بأسره حين وقفت هي تبتسم وتنظر حوها بنشوة وبعد أن عاد زوجها إلي وعيه بعد الخوف فلم يجدها بجانبه تحتمي به كعادتها.
نظر حوله يبحث عنها فاصطنعت الخوف وركضت نحوهم هي الأخري جلست بجانبهم ولكنها لم تحتضن طفليها الخائفين وظلت تنظر حولها بتوتر كما كانت، شك زوجها في أمرها ولكنه تركها حتي ينتهي من ولديه فطمأنهم بعد أن هدأ الكون بالخارج وكان علي وشك الحديث معها حين كسُر عليهم باب المنزل ودخل منه الملثمين المدنيين ذاتهم الذين يقتلون أهليهم وذويهم فوقفت هي وقد ابتسمت قائلة
- لماذا تأخرتم خشيت ألا تأتوا
شُلت حركة زوجها إثر الفاجعة بعدما سمِع حديثها فقال باستنكار بصوت لم يكد يسمعه
- شمس!
لم ترد عليه وكانت علي وشك الرحيل مع من دخلوا فلم ينصفه قلبه لترك حرمة منزله تستباح فقام إليهم يضربهم فلم يمهلوه فرصة فضربه أحدهم برصاصة أصابت قلبه فقتلته في الحال، صرخ الطفلين وحضن بعضهما بعضًا أما هي فلم يرمش جفنها ولم يرق قلبها علي طفليها ولا علي دم زوجها المراق ، فُجع الطفلين في والدهم وفي منظر الدماء فاقتربت هي منهم حتي تأخذهم معها فاستوقفها أحد الملثمين قائلًا بحزم:
- سنتولي أمرهم.
فزعنت للأمر ورحلت إلي السيارة التي انتظرتها بالخارج وخرج إليها الملثمين بطفليها الممسك أحدهما بالآخر ينظران تارة لوالدتهما التي أصبحت فجأة شخصًا لا يعرفونه وتارة إلي بعضهما البعض يبكيان دون توقف ولا أحد يطمئن خوفهم فوالدتهم انشغلت بتغطية وجهها بذات الغطاء وأمسكت سلاحها فأصبحت واحدة ممن قتلوا والدهم.