Horof

Share to Social Media

جيدا

اعتادت علي الحروب والقنابل وأن تري أقرب الأقربين إليها يُقتلون أمامها ففقدت كل من ملكت وكل من اقترب منها يومًا، كانت تمشي علي قدمين ولكن غل المستعمر وتفننه في عذاب الأسري جعلها تفقد الاحساس بساقها اليمني فلازمها العكازين طوال سنوات لم تيأس منهما ولم ييأسا منها فكانت تعلم أنه هناك حكمة وراء تلك الابتلاءات المتوالية فصبرت واحتسبت.
كانت السوداء المنبوذة بين أقرانها دائمًا والفتاة التي يسخر منها الأطفال في مدرستها والكبار في محيطها ففضلت الهروب حين وجدت نفسها وحدها دون يد تمتد إليها لتساعدها، فضلت الذهاب لمكان هاديء تخلو منه الحرب ويخلو منه التعصب تعيش حياة هادئة فتعمل كي توفر لنفسها المأوي والملبس والمأكل فلم تتواني في الصعود علي متن ذاك القارب الذي كانت احتمالية موتها علي متنه أعلي نسبة من وصولها إلي الشاطيء الذي تريده ولكنها لم تستسلم للخوف.
كم عانت وكم داست عليها الأرجل ولكن الأياد التي امتدت إليها في تلك المدينة الهادئة التي امتلأت بنور الشمس فملأ نورها القلوب جعلتها تؤمن بالحياة من جديد وتحارب كي تعيشها كما يجب، حين استيقظت في ذلك اليوم علي صوت الانفجار لوهلة تذكرت بلدها الأم وظنت أنها عادت أو ربما ظنت أن هروبها كان مجرد حلم وذهب طي الرياح ولكنها عادت لوعيها فوجدت أن تلك البلد الهادئة تحولت بين ليلة وضحاها إلي قنابل ونيران.
نظرت من نافذتها إلي الشارع الذي امتلأ بالزهور وبروائحها من قبل فلم تجد سوي الغبار الذي غطي أرجاءه والناس يتصارعون كلٌ يريد أن يحتمي حتي لا يموت فيركض الجميع في اتجاهات عدة تكاد تجزم أن البعض منهم لا يعرف إلي أين يتجه فقط لأنه الخوف.
ذاك الشعور الذي لم تستطع أن تعالج قلبها منه سوي قريبًا ها هو يتسلل إليها من جديد ليعض علي قلبها بكل قوته، تساءلت أهو تأثيرها علي كل مكان تكون به أهي جالبة النحس كما كان يقول لها من كان يعرفها من قبل أم أنه الابتلاء المناسب لها، كانت من قبل تدافع عن روحها لم تكن لها قضية ولم تكن لها يد تبطش بها لتحمي من أحبت ولكن ها هي الآن تجلس لتفكر أتخاف علي روحها أهناك عزيز ستفقده أكثر ممن فقدت أهناك قضية تدافع عنها فلم تجد إجابة سوي لا فجلست وانتظرت الموت ولم تعاني.


زهراء

جلست تئن وحدها وتمسح دموعها الصامتة بعد أن هدأت ثورتها التي استمرت لساعات دون جدوي، قضمت أظافرها تارة وحاولت أن تغمض عينيها مستريحة تارةً أخري ولكن كانت كلما أغمضتها تخيلت صورة ولدها الوحيد قطعة الروح وحده يبكي يصرخ يستجدي حضن والدته دون أن يجده فتنتفض لتعود للبكاء من جديد.
جلست والدتها بجانبها تشد من أذرها قليلًا وتتحدث مع من أحاطوها كثيرًا فلم تصمت الألسنة من حولها متسائلة عما يحدث وما سبب البكاء والعويل، أتت سيدة لتجلس بجانب الجدة مبتسمةً دون اكتراث للعالم ربعت قدميها وبدأت بالتعارف قدمت نفسها للجدة وقالت الجدة باستضافة المحب في منزله:
- اسمي كريمة وهذه ابنتي زهراء.
فتساءلت الجالسة دون خجل:
- وما اسمه ولدها الضائع؟
انتفضت زهراء بقلب الأم الذي فجر كيانها حين سمعت والدتها تنطق اسم ولدها.
- اسمه حمزة، ادعوا من أجل أن يعود إلي أحضاننا.
وقفت زهراء بغضب مسحت دموعها بظهر يدها ووجهت حديثًا لاذعًا للجميع:
- ابني ليس ضائعاً ولكنه لن يعود إلي حضني وحده.
تقدمت بغضب نحو الممر الذي دخلت منه وفي طريقها توقفت ووجهت حديثها لوالدتها.
- سأذهب إلي ولدي حتي وإن مِت في سبيل الوصول إليه، وأدعو الله أن تتخلصي من جبنك هذا لتبحثي عني أيضًا.
كان حديثًا سامًا لم تندم عليه في لحظة غضبها وقبل أن تمسك والدتها بمعصمها كانت في طريقها للخارج حين دخل ذاك المُصاب، كانت الدماء تقطر من صدره فشهق الجميع من صدمتهم ووقف البعض لمساعدته فسطحوا جسده علي الأرض وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة فقال كلمات ضعيفة لم يفهمها سوي من اقترب منه ثم صعدت روحه إلي بارئها، صُدم الجمع وتوقف اللغط لدقائق وحين عاد تساءل الكل عما قال فأجاب من سمع
- إنهم إرهابيون من بيننا
حاولت والدتها ايقافها وسحبها للداخل ولكنها لفظتها ولم تبالِ بما حدث، خرجت من الممر وجسدها يرتجف تلصصت برأسها أولًا فرأت عيناها ما لا تُحمد عقباه، لم تجد أحدًا من القوات التي سحبتهم للداخل فتساءلت هل انسحبوا أم ماذا ولكنها لم تبالي حين سمعت اطلاق النيران عادت بجسدها للوراء.ا
ابتلعت ريقها وقررت أن تتحلي بالشجاعة وإلا كيف ستصل لولدها في مثل هذه الظروف اقتنعت من داخلها أنها الحرب ولكن فلتكن فلن يبعدها عن ولدها سوي الموت وقد قررت أن تموت في سبيل الوصول إليه، خرجت من الممر ثم اقتربت من حافة الجبل حين لم تجد جنودًا.
تلك الحافة كانت تطل علي الشارع فيمكن أن تري الشارع وبنسبة كبيرة لن يراها أحد، نظرت فرأت الدماء والأجساد الملقاة رجال ونساء وأمهات مع أطفالهن، السيارات المحترقة والمحلات التي عاثوا بها فسادًا فمن هم، أيُ عدوٍ سيدخل لبلد يقتل رجالها ونساءها وحتي أطفالها.
أهم أناس من أهلها بالفعل ولكن من يقتل أهله وأناس تربي بينهم بهذا الشكل البشع، أناس ليس لهم ذنب يُقتلون في سبيل بلادهم منهم من خلَفَ وراءه حطام فلا يعلم قاتله أترك عائلةً أم أطفال أم أُمً خرجت لتأتي بطعامٍ لأطفالها وتركتهم جياع أم طفل بروح بريئة ستسأله يوم القيامة عن ذنبها أمام بارئها.
كانت تريد السير في الطريق العام ولكن ما رأته جعلها تتراجع وتفكر في طريق الجبل الخلفي، كان سيأخذ مدة أطول ولكنه أفضل حاليًا من الموت قبل الوصول، كانت كلما علت صخرة وانحدرت لأخري أثناء تقدمها تذكرت طفولتها التي قضتها في ذات المكان أيام ضحكها ولعبها وعشقها حتي للتراب الذي لوث ملابسها، وصلت لأسفل الجبل وهي لازالت غارقة بذكرياتها ودموعها التي انهمرت علي حالها وما آل إليه بلدها الحبيب.
اندست في ذلك الطريق الضيق فلم تجد به أحد تنفست وارتاحت وكانت كلما رأت شارعًا متفرعًا منه اشرأبت لتنظر إلي آخره لتطمئن ألا أحد قد وصل إلي هذا المكان قبلها، كانت تريد أن تخرج من أي تفرع ولكن لا واحد منهم سيأخذها إلي حيث تريد فاستمرت حتي وصلت إلي آخر الطريق.
وقفت وراء الجدار الذي أخفي جسدها ونظرت للشارع فعلمت من الفساد الذي حل به أنهم قد وصلوا إليه، علا صوت أنفاسها وهي تفكر في ولدها الذي يقطن رقعة من هذا الشارع أأصابه مكروه فلم تتمالك نفسها ونظرت مرة أخري.
أدلت بجسدها للخارج فلمحها أحد هؤلاء السفاحين، كان يقف علي بعدٍ فلم تراه قبل أن يلمحها، استيقظ الدم النائم في شرايينها واشتعل رأسها خوفًا فركضت عائدًة من ذات الطريق حتي وصلت لتفرعٍ لم يكن عندها خيار سوي أن تسلكه، لم تكن نهايته ستقودها إلي حيث تريد ولكنه حائط يحميها من السوء الذي ينتظرها.
ركضت وهي تنظر وراءها بهلع فلم تجد أحدًا حتي وصلت واحتمت بجدران ذاك المبني الذي وجدته أمامها، كانت ستظل بضع دقائق وترحل ولكنها وجدت عديم الشرف نفسه يبحث عنها بالخارج وينقب ولن يهدأ حتي يعثر عليها فقررت الصعود، ركضت نحو الدرج ..كان درج الدور الأول به فتحة كبيرة تطل علي الشارع هكذا كانت المنازل القديمة، حين وصلت إليها وجدت أمامها طفلًا بالكاد يستطيع أن يقف يتابع ما يحدث بالخارج من أصوات وصلت إلي أذنيه كأنه فيلم ولم يتحرك.
شهقت وتساءلت كيف وصل إلي هذا المكان ولكن بنطاله الغير موجود علي جسده أوحي لها بأنه طفل من نفس البناية قد هرب من والدته وهي تبدل له ملابسه فخرج دون أن تدري فلو كانت علي علم لما تركته وحده وسط تلك النيران إنها غريزة الأمومة التي لا يمكن أن تغيرها الحرب.
في ثانية واحدة وصلت إليه قبل أن يراهما من بالخارج انتشلته واختبأت به أسفل تلك الفتحة حين سمعت صوت زناد السلاح علمت أن هناك أحد لازال يبحث ولكنها علمت أنه لم يراها فلم يكن ليمهلها فرصة التفكير.
احتضنت الصغير ومالت فوقه حتي إذا أصابها مكروه تحميه ودعت الله ألا يبكي الصغير، نظرت إلي وجهه الملائكي وابتسمت حتي تُطمئن ضربات قلبه المتسارعة، كان يبدو كأنه في سُبات فلم يتحرك ولكنها دعت الله أن يستمر علي هذا النحو.
مرت دقائق والصغير لا زال هادئًا سمعت وقع الأقدام يبتعد وابتعد معه الخطر، فحمدت الله وسجدت شكرًا ثم قبلت الصغير، حاولت أن تسأله عن منزله ولكنه لم يفهمها ولم يتحدث فأمسكت يده وصعدت به تنظر خلفها إلي تلك الفتحة حتي اختفت هي والصغير وراء الدرج الصاعد وقد قررت أن تطرق الأبواب حتي تعثر علي منزله.
صعدت وطرقت الباب الأول فتعرف عليه الجار وأخبرها أنه ابن زينب التي تقطن بالدور السابع وأغلق الباب خوفًا دون أن يعرض المساعدة، نظرت لأعلي الدرج ثم استعانت بالحي القيوم وحملت الصبي وصعدت، كانت بين الفينة والأخرى تنظر للصغير الذي ينظر حوله تعلم أنه يبحث عن والدته بهدوء أتراه تعلم الدرس أتراه يبتعد عنها ثانية.
تذكرت ولدها ودعت الله أن يحميه أحدهم كما قررت هي أن تحمي روح ذاك الصغير وأن تحمله أمانةً حتي ذراعي أمه فابتسمت للصغير وقالت له:
- لا تقلق سوف نجد أمك.
صعدت حتي وصلت للطابق السابع وجدت شقتين فطرقت الباب الأول، فتحت بحذر سيدة تنظر يمينًا ويسارًا دون أن تنظر أمامها وقد احمرت عيناها من البكاء فعلمت أنها أم الصغير التي ما أن لمحت صغيرها حتي نزعته من بين يدي زهراء لتدفنه في قلبها، كانت كأنها رأت نورًا من الجنة فاحتضنته وبكت قبلته وشهقت لامته ثم طمأنته أنه بأحضانها الآن ولن تتركه ثانيةً.
بعد دقائق مرت وهي تستنشق عبق صغيرها دون أن تبالي للعالم من حولها استوعبت أن هناك من أتي به فوقفت واحتضنت زهراء لم تسألها كيف أو لماذا فكان يكفيها أنها قد أعادت لها حياتها فقبلتها وكادت تقبل يدها ولكن زهراء منعتها بحنو ناظرة للصغير
- ها قد عاد صغيرك...ادعِ من أجل أن أحتضن صغيري أنا أيضًا
تركتهم وراءها وعادت أدراجها للأسفل وقد قررت التقدم فلم تعد تستطيع الصبر وأن تقف مكبلة اليدين، وصلت إلي ذات الفتحة ولكنها كانت عائمة في تفكيرها فلم تحذر من الذي انتظر بالخارج فعادت للوعي حين سمعت صوت اطلاق النار...
صرخت واندفعت واختبأت خلف الدرج واحتمت به، صدرها يعلو ويهبط ولم تدرك ما يحدث كان العالم يدور بها وكانت علي وشك أن تفقد وعيها وهي تظن أنها النهاية حتي سمعت صوتًا يقول لها
- إلي الداخل... أسرعي.
لم تفكر مرتين واندفعت مسرعةً إلي الباب الذي فُتح من أجلها.


درة

وصلت مع الجنود الذين سيقت معهم إلي نقطة ما خلف الجبل بعد أن ساروا عدة كيلومترات حيث وقفوا جميعًا أمام كهف بدا لها أنه حيث سيمكثون، وقف قائدهم فأملي عليهم أوامره حيث كانت أنهم سيبدلون ملابسهم لتناسب الصحراء والرمال الصفراء التي أحاطتهم فلا يجب تمييز الجنود عنها وهذا ما كانت تعرفه مسبقًا فلم تتعجب الأوامر ولكن ما أرعبها أنهم سيظلون خلف الجبل الرملي انتظارًا لأي ضربة ليردوها إلي صاحبها حيث أن العدو متربص لهم بالفعل ويجب أن يكون متيقظين ومتأهبين لما سيحدث.
لم تفهم فكانت تظن من قبل أنها مجرد حرب أهلية حين رأت الجنود صرعي علي أرضهم ولكن ها هي تسمع أن هناك عدو وأنها الحرب وأنها ستحارب معاهم وإن لم تكن معهم ستكون ضدهم وستكون الضحية الأولي.
نظرت حولها فكان الجنود باللباس الأسود قد بدأوا بالتحرك إلي داخل الكهف فتحركت وراءهم كي لا تثير الريبة ثم عاد الرعب يعتلي وجهها الملثم ثانيةً حين فطنت أنه لن يكون ملثمًا بعد قليل بعد أن تبدل ملابسها ولكن كيف ستبدلها أمام هذا العدد من الجنود أستصبح غداءهم في نهاية الأمر.
قررت أن تتحلي بالشجاعة كما كانت ثم دلفت خلفهم ظلت تنظر حولها لثوانٍ ثم أمسكت اللباس بين يديها ونظرت إلي الجنود من حولها كلٌ من يحاكي صديقه وقد انهمكوا بالفعل في تبديل ملابسهم ثم وجدت أن بعضهم يأخذ لباسه للخارج ليقضي حاجته فقررت أن تفعل المثل فأخذت اللباس وخرجت.
رأت أن من خرج ذهب إلي نقطة بعيدة عن الكهف فمضت إلي مكان بعيد هي الأخرى حيث استقرت شجرة هجرتها أوراقها ولكنها كانت ستفي بالغرض، وضعت اللباس علي الأرض ونظرت حولها وفكرت أتراها تهرب وتترك الحرب وما يحدث خلفها ولكنها كانت علي يقين أنهم لن يفلتوها فقررت أن تنساق كما كانت وألا تغير مجري ما يحدث، خلعت غطاء وجهها وارتدت اللباس وأخفت جسدها تحته وكانت علي وشك القيام حين عادت لتجلس من جديد وقد اصطبغ وجهها صفرة من الخوف، أستدخل عليهم بشعرها ووجهها الأنثوي ذاك فابتلعت ريقها وهي تفكر فيما سيحدث فيها.
لم تفكر مرتين فوضعت يدها في جوف الشجرة حيث استقر فحم أسود ولوثت به وجهها فأخفت ملامحها ثم التقطت الخوذة وارتدتها وحاولت احكام شعرها حتي لا يسقط وينفضح أمرها، شكرت والدها علي تعليمه إياها فنون الحرب والدفاع عن النفس كان رجلًا ذكيًا فكان يخبرها كيف تتصرف إن وقعت في أي مأزق ورغم أنها كانت تقابله في كل مرة بملل إلا أن نصائحه أثمرت عن شيء ثمين وهو عدم موتها حتي الآن.
جنَ عليهم الليل وقد استقروا جميعًا خلف الجبل وكل منهم ممسك ببندقيته استعدادًا للإطلاق أما هي فاطمأنت حين وجدت الجميع منشغل بحاله عنها ولم تري تلك العين التي تنظر إليها بين الفينة والأخرى، تلك العين التي شكت بأمر هذا الجندي الذي ينظر حوله بريبة ولكنها أخفت شكها إلي أن تتأكد.
بين لحظة والثانية بدأ اطلاق النار من حيث لا تعلم وهنا كان لزامًا علي كل جندي أن يطلق النار علي عدوه حتي وإن كانت روحه هي الثمن، نظرت حولها فرأت النيران أحاطت بها وكذلك الدماء فأخفت رأسها في الرمال كالنعام وظنت أنه لا يراها أحد وأن الجميع مشغولون بإطلاق النار فصوت الرصاص المتواصل الذي لم تعتاد عليه أثار رعبها ولم تكن لتقتل روحًا.
عادت لتنظر حولها فوجدت بجانبها جريحًا فتركت دون تفكير بندقيتها والتفتت لمساعدته فوضعت ذراعه علي كتفها ونهضت به إلي الداخل وتلك العين ما زالت تتابعها ولم تدري، دلفت بالجندي الجريح الذي تلقي طلقة في كتفه فتركته علي السرير حيث أخذت الممرضة تنظر إلي جرحه تارة وتنظر إليها باستنكار تارة أخري.
كانت ستسألها عن مشكلتها ولكنها فضلت ألا تنطق ثم جلست علي السرير المقابل لترتاح حين دخل القائد الذي تابعها من خلفها، نظر إلي العيادة التي لم يكن بها أحد سواها والجندي الذي عض قطعة من القماش ألماً حين حاولت الممرضة اخراج الرصاصة التي استقرت داخل لحمه ثم نظر إليها باستنكار وعض شفتيه ثم اقترب منها قائلًا بغضب:
- ألا تعلم أيها الجندي أنه طالما الحرب دائرة ليس مسموحًا لك بالجلوس.
قفزت من مكانها فوقفت تنظر بخوف وارتعش سائر جسدها ولم تجد شيئًا تقوله سوي:
- أمرك سيدي.
خرج الحديث من شفتيها متقطع بصوت ضعيف حين كان القائد يفكر أن يُخرج سلاحه ويطلق عليها النار باعتبارها جندي متهرب من خدمة الوطن صرخ الجندي النائم علي السرير من ألمه، نظرت إلي الجندي بهلع وابتلعت ريقها حين عاد الضابط إليها بعينيه محاولًا التماسك فأيًا كان هذا الجندي متخاذلًا فلا زال ابن بلده فأمرها قائلًا:
- إلي الخارج.
لم تنتظر أن تسمع منه كلمةً أخري وركضت إلي حيث انتظرتها بندقيتها فأمسكتها واصطنعت اطلاق النار فكانت تطلق علي اللا شيء وبين الثانية والأخرى تنظر وراءها فتجد عينيَ الصقر لا زالت تتابعها فتزدرد ريقها ثم تعود لمعركتها الزائفة من جديد.
انتهي اطلاق النيران قبيل الفجر بعد أن تراجع العدو لحصرهم عددًا كبيرًا منهم، وقف الجنود أو من تبقي منهم دون جرح أمام القائد الذي ظل ينظر إليها وهو يلقي أوامره ولكنها لم تكن تتطلع إليه فكانت منهكة تكاد تتوسل النوم والطعام منهم حين سمعت أن هناك طعامًا بانتظارهم، انتظرت بفارغ الصبر حتي أنهي القائد حديثه ثم تسارعت خطواتها حيث استقر الطعام.
لم يكن شيئًا تأكله أو حتي تنظر إليه في منزلها ولكنها سدت جوعها وعطشها دون تزمر ثم ذهبت لتقضي حاجتها بعيدًا عن الجميع ولتتأكد من أن وجهها لا زال مغطي بالوحل، انتهت من تعديل شعرها واحكامه وفي طريق عودتها توقفت دون حراك حين سمعت صوت الزناد بعد أن استقر سلاحًا خلف رأسها ولم يمهلها مَن خلفها وقتًا فسألها دون مراوغة.
- من أنتِ وماذا تفعلين هنا؟
أدركت أنه شخص قد علم حقيقتها فاستدارت وهي تدعي الله ألا يطلق النار عليها، كان هو نفسه القائد الذي ألقي عليها الأوامر من قبل، ضربت نفسها لأنها لم تحتاط منه فها هي أمامه تزرف دموعًا وتطلب منه أن يسمعها.
- أجاسوسة أنتِ.
سمعت ما قال فهلعت وخرج منها الحديث متلعثمًا ولكنها قصت عليه ما حدث معها، استمع إليها حتي انتهت وبدا عليه بعد أن انتهت أنه لم يصدقها فجلست علي الأرض وهي تزرف دماً.
- أتوسل إليك أن تصدقني لم يكن لي نية القدوم إلي هنا، أرجوك لا تقتلني قبل أن أودع أبي.
رق قلبه وقد وجد امرأة تبكي أمامه ولم تكن نخوته تسمح إليه بإطلاق النار عليها فسألها عن اسمها فقالت دون تفكير:
- درة.
فطلب منها اسمها الكامل بغضب فأخبرته "درة نجيب سالم"، أنزل سلاحه جانبًا وسألها بدهشة:
- ابنة الوزير نجيب سالم.
هزت رأسها وقد ابتهجت أساريرها حيث أنه يعرف والدها فسألها ثانيةً ولكن بتوجس:
- أتكذبين؟
وقفت وهزت رأسها نفيًا فاقترب منها فابتعدت تلقائيًا عنه خوفًا فشد علي ساعدها وقرَبها إليه قائلًا بهمس:
- أتعلمين ماذا سأفعل بكِ إن علمت أنك تكذبين!
هزت رأسها بثقة أن نعم فابتسم علي سذاجتها ثم زجها بغضب:
- صدقيني حتي الشياطين لن تتخيل ماذا سأفعل بكِ.
ترك ساعدها محاولًا أن يكون لبقًا معها لحين يعلم الحقيقة ثم أمرها:
- ارتدي خوذتك ثم اذهبي للداخل لا تخرجي من الكهف حتي أمر مني أتسمعين؟
قالت "أمرك سيدي" وحيت سيدها بالتحية العسكرية وشكرته ثم أشار إليها بالرحيل فرحلت دون أن تفكر ثم شكرت الله وقد كانت علي وشك الانهيار مما قد حدث.
ظل يتابعها حتي رحلت عن المكان ثم حك رأسه محاولًا أن يتقبل تلك الحكاية التي قصتها عليه فلم يستطع، لم يجد حلًا سوي أن يسأل ويتساءل حتي يصل إلي نتيجة تطمئنه أنها ليست جاسوسة وأنها مجرد فتاة بلهاء ساقتها قدماها إلي الهلاك، دخل إلي حيث استقر الضباط كل منهم يتابع مع الحركات الجوية أين يمكث العدو وكيف يتحرك فجلس بجانب صديقه أسامة فسأله عن التغيرات فأخبره أن العدو لا زال ساكنًا فسأله دون مراوغة عن الوزير نجيب سالم فسأله صديقه:
- لم تسأل عنه؟
فهز رأسه أن لا شيء ثم أضاف:
- أريد أن أجمع معلومات عنه وعن ابنته ، أعلم أنك كنت مقربًا من ضابط الحراسة خاصته، أخبرني ماذا تعرف؟

فقال الآخر دون تفكير حيث كان يثق بصديقه:
- أعرف أنه رجل صارم في عمله ، دائمًا غاضب لا يتحدث إلا بالقليل حتي أنه يختار بنفسه ضباط الحراسة التابعين له.
ثم مال علي صديقه متابعًا بهمس:
- وأعلم أن زوجته قد تركتهم منذ عقود ربما هذا السبب الذي جعله بهذا الحنق .
فسأله يحيي بتوجس:
- ماذا تقصد بتركتهم؟
فتابع أسامة:
- أقصد هو وابنته فهو من أشرف علي تربيتها وأبي الزواج من أخري.
- ما اسمها؟
- من؟
- ابنته.
- أظن أنها درة لم تسأل؟
- لا شيء سأخرج لوهلة وأعود.
خرج ينظر حوله يمنة ويسرة لا يعلم إن كان حديثه مع صديقه حتي كان أمرًا صحيحًا ولكنه قد فعل وارتاح ضميره بنسبة كبيرة ولكن لا زال داخله شك فتساءل أتراها تحاول انتحال شخصية ابنة الوزير حتي تخرج من هذا المأزق فلم يجد من يجيب.
حاول أن يمارس عمله وأن يتابع تحركات العدو حتي يكون في تأهب مع فريقه ولكن كان بين الفينة والأخرى يوسوس له شيطانه أن يذهب إليها فينتزع رقبتها عن جسدها وأنها مجرد جاسوسة دسها العدو بين صفوفهم ثم يجلد نفسه بأنه خائن هو الآخر لأنه تركها تتنفس بينهم ولكنه يعود لينفض هذا التفكير عن رأسه ليتابع ما يفعل.
تابعه صديقه أسامة بعض الوقت وظن أنه واقع في غرام ابنة الوزير الذي سأله عنها وإلا فلمَ يسأله، ذهب أسامة لحقيبته التي استقرت داخل حجرة القادة وأخذ يفتش بها حتي وجد ما أراد، ابتسم وعاد أدراجه إلي يحيي فألقي إليه الصحيفة ثم قال له بابتسامة لم يراها وجهه منذ فترة:
- أهذه هي؟
سأله يحيي بعد أن استدار نحوه وأمسك بالصحيفة:
- ماذا تقصد؟
أشار أسامة بعينه علي الصحيفة وغمز ليحيي فأخذ يحيي يفض الصحيفة ليري ما يقصد صاحبه حتي وقع عينه علي الاسم الذي شغل تفكيره لساعات أرهقته -نجيب سالم برفقة ابنته للمرة الأولي-، كان هو الخبر الذي تصدر الصفحة الأولي فرآه بعد أن ظن أن أسامة يمزح وكان علي وشك توبيخه، ابتلع ريقه ونظر بتمعن كمن يلتهم الطعام علي جوع.
نظر للوزير الذي علا وجهه الجدية وبجانبه ابنته، حاول أن يتمعن في وجهها وفي ابتسامتها النقية التي شقت وجهها في الصحيفة أهي ذات الانسانة التي بالداخل، لم يستطع التمييز فتلك التي استقرت أمامه في الصباح كان وجهها ملوث بالوحل، استيقظ علي صوت أسامة وهو ينغزه قائلًا بمزح:
- أين ذهب عقلك يا صديقي؟
ابتلع يحيي ريقه ثم ترك الصحيفة علي جنب محاولًا أن يغير مسار الموضوع قائلًا لا شيئ فنغزه أسامة مرة أخري متسائلاً عما يحدث فانتهزها يحيي فرصة واعترف لصديقه بأنه يحب تلك الفتاة لذلك سأله عنها، كان يعلم أن صديقه لن يهدأ حتي يعطيه سببًا واضحًا لذلك كان السبب الذي أعطاه إياه كافيًا فلن ينقب أسامة وراءه في شيء حتي يصل هو بنفسه للحقيقة التي يريدها، وقف أسامة يرقص بعد أن صدق أن يحيي قد وقع في الحب فأمسكه يحيي وأجلسه عنوة فقال أسامة بنشوة:
- نحن لا نقع في الحب مرتين يا صديقي.
ابتسم يحيي وانتظر حتي عاد أسامة لعمله وانهمك فأخذ الصحيفة دون أن يثير ريبة أسامة وخرج من العربة التي جمعتهم، نظر حوله فإذا بالمساء قد حل وأضواء السيارة الخارجية لا تكاد تضيء الصحيفة ليري وجهها مرة أخري.
عاد إلي مكانه وإلي عمله حتي يشق الضوء عنان السماء فيستطيع أن يميز وأن يقرر ولكنها لم تكن ليلة خالية من الكوابيس فكان كلما غط في النوم رآها تضحك عليه ممسكةً ببندقيتها التي لم تقتل بها العدو بل قتلت بها أبناء وطنه فكان ينتفض ليوسوس له شيطانه ثم يعود لينفض وساوسه لينام من جديد وليتكرر نفس السيناريو حتي حل الصباح.
وقف فصلي الفجر وانتظر حتي شق السماء بصيص من النور فنظر إلي الصحيفة بلهفة حتي رأي ذاك الوجه فهرول إلي كهف الجنود لم يستغرق وقتًا كثيرًا في البحث عنها وسط الجنود الملقون علي أسرتهم والذين ما أن رأوه حتي وقفوا وحيوه بصوت رجل واحد، كانت نائمة ولكنها استيقظت فانتبهت إليه علي صوت التحية، انتفضت مكانها ما أن رأته فميزها وأشار إليها بالقدوم وإلي بقية الجنود باكمال ما كانوا يفعلون.
هرولت وراءه إلي حيث سبقها وهي تتمم علي شعرها وعلي وجهها بعد أن غلبها النعاس ولم تكن تريد أن تغمض عينيها وسط هذا الجمع، وقف ونظر إليها ووقفت أمامه ويديها خلف ظهرها برسمية وانتظرته حتي يقول كلمته فما كان منه إلا أن نظر إلي وجهها الملوث وحاول أن يتبين ملامحها فلم يستطع فأمرها.
- نظفي وجهك.
جحظت عيناها ولم تفهم ما هذا الأمر تساءلت ماذا سيفعل بها وإلي أين سيأخذها ووقفت لثوانٍ مكانها مشدوهة حتي أعاد عليها الأمر مرة ثانية فنفذت بتوجس ولكن دون تعليق، أعطاها زجاجة ماء فنظفت وجهها أما هو فنظر بعيدًا عنها حتي لا يجرح حرمتها وهي تنفذ أمره فمهما كانت امرأة، عادت إليه وقد برزت ملامحها ..بشرتها الخمرية وعينيها الخضراء وشعرها العسلي الذي لمع في ضوء الشمس.
حمله جمالها إلي قريته التي تربي بها وإلي والدته التي اشتاق لحضنها ولرائحتها والتي لا تنقص عن جمالها شيء، عاد من بحر أفكاره إلي الصحيفة التي استقرت بين يديه ليلة كاملة فقرَبها من وجهها حتي يتأكد أن كلتاهما ذات الفتاة أما هي فنظرت للصحيفة وإليه ماذا يفعل لم تكن تعرف ولكنها قررت مجاراته حتي النهاية حتي رأت عيناه تخرجان عن مسارهما دهشة وهو يسألها:
- ما الذي أتي بكِ إلي هنا بحق الجحيم؟
ارتبكت فكانت قد أخبرته بما حدث معها لم تفهم ما الداعِ لسؤاله فقالت بخوف:
- لقد أخبرتك سيدي...
لم يمهلها فرصة لتكمل بعد أن تأكد أنها ابنة الوزير ذات الفتاة التي وقفت في الصحيفة تحمل ذات الملامح ففكر أنها بالتأكيد ليست صدفة لم يستطع التفكير في باديء الأمر ولكنه عاد إليها بعد أن تذكر ما قصته عليه الليلة الماضية فقال بغضب:
- كان أمامك خيار العودة كان يجب أن تكشفي عن وجهك في الوقت المناسب ليعود بكِ جنودنا إلي حيث تنتمين .
نكسَت رأسها وتمتمت بحديث لم يفهمه فأمرها أن ترفع صوتها فقالت بغضب بعد أن فاض كأسها:
- لقد رأيتهم يقودون الناس إلي حيث لا يعلم إلا الله لم أكن لأثق بهم وأنا لا أعلم في أي صف أمشي ربما يقتلونني وربما يوضعوني في نفس الصفوف مع هؤلاء الناس.
ابتسم مستهزئًا بحديثها:
- ولكنك وثقت بالأسد لدرجة القدوم إلي عرينه.
لم تستطع التفكير ولا الرد كل ما كانت تفكر به هو حلًا لمأزقها وليس تأنيبًا علي ما فعلت أما هو فلم يستطع اتخاذ قرار سوي أنه قرر ابعادها عن كهف الجنود حتي يحين وقت يقرر فيه بشأن مكوثها في هذا المكان من الأساس فأملي عليها أمره فسألته:
- وإلي أين أذهب؟
فقال بغضب:
- لا تسأليني اختبئي إن اضطرك الأمر ولكن لا تعودي للداخل أتسمعين؟
حيته وقالت "أمرك سيدي" بامتعاض فألقي إليها خوذتها وتركها راحلًا إلي حيث لا تعلم فبعد أن ظنت أنه سوف يساعدها قد زاد عليها الأمر صعوبةً وتركها وسط ذاك العراء وحيدة
اجتمع الجنود بعد أن أدي الجميع صلاته ليستمعوا إلي الخطبة وكانت هي بينهم بعد أن ارتدت خوذتها ولوثت وجهها، وقف أعلي الصخرة وبدأ يبحث عنها بعينيه لبعض الوقت حتي وجدها فاطمأن أنه لم يستطع تمييزها فهذا يعني أنه لا أحد دونه سيستطيع ثم بدأ بالقاء حديثه إلي الجنود:
"بسم الله نبدأ حديثنا
ألا لنا الله يا جنود الوطن ثم من بعده أنتم، أما أنتم فلا تملكون سوي سلاحكم للدفاع عن تراب هذا الوطن وعن دمائه رجالًا ونساءً وأطفالًا فمن دونكم يسقط الوطن دون قيام، فإنما أمرنا أن تحاربوا ببسالة حتي إن زُهِقَت أرواحكم، فليري كل منكم عدوه أمامه وأهله من خلفه ثم أرونا ماذا أنتم فاعلون"
انتهي الخطاب وقد زلزل كل نقطة في بحر كيانها رغم قِصر كلماته ثم قال القائد "حيوا الوطن" فكانت هي أول فم قد فُتح بعد صمت فرد الجنود بصوت رجل واحد "يحيا الوطن"، اختبأت أنوثة صوتها وسط الجموع ولكن غضبها علي العدو لم يخفيه جسدها المتحرك نحو السلاح للوقوف أمام العدو وللدفاع عن تراب الوطن دون التخاذل كما فعلت من قبل.



ليلي

تخبطت بين طرقات مدينتها فلم تجد شخصًا واحدًا يمر من شارع أو حتي من زقاق، كان مثيروا الشغب هؤلاء قد قضوا علي أخضر المدينة ويابسها ولم يتركوا وراءهم سوي النيران التي تأكل المنازل والسيارات والدمار الذي ينهش الشوارع والطرقات، كادت تيأس وتستسلم وتترك ما عزمت علي فعله يرحل مع الرياح التي دفعتها إلي الأمام.
سمعت صوت إطلاق النار علي مقربة منها فاختبأت خلف سور وكاد قلبها يتوقف، لم تعلم أين ذهب عزمها حين كان خوفها أعظم، نظرت حولها تبحث عن شيء تحتمي به غير البندقية التي تحملها فوجدت ذاك المنزل الذي أكلت سقفه النيران ولم يتبقي به سوي جدران مهترئة ونوافذ محترقة ولكن جدرانه كانت كفيلة أن تحميها حين اختبأت وراءها قبل أن يلمحها أحد الملثمين.
بعد أن هدأ روعها اقتربت من النافذة لتنظر من خلالها إلي ما يدور حين كان هؤلاء القتلة قد انتهوا من تلك المنطقة دمروا ما فيها وقتلوا كل من رأوه وكأن التواجد في الشارع بالنسبة إليهم كان إثمًا يُعاقب فاعله بالقتل.
حين رأت الدماء المراقة أمامها غلي دمها وعادت الدماء تنتفض في عروقها فأمسكت البندقية ووجهتها نحو الرأس الأولي التي كانت علي وشك الرحيل.
سحبت الزناد ببطء حتي لا يسمع أحدهم صوته وصوبت وأطلقت وقبل أن تري ما حدث اختبأت قبل أن يلمحها أحد من أربعتهم، لم تصيب رصاصتها أحد ولكنها كانت كفيلة أن تزرع الرعب في أعماقهم فمن يقتل نفسًا دون ذنب يكون أجبن من أن يتحمل فكرة الموت، وجدتهم يتراجعون إثر فزعهم من الصوت الذي أطلقته فابتسمت ونظرت من جديد فوجدت ثلاثة منهم يحمون شخص واحد تبيَن أنه قائدهم فحاولت التصويب من جديد ولكن هذه المرة كانت أكثر حذرًا فصوبت علي القائد وهي تقول:
- أخي هذه من أجلك.
وأطلقت ولم تختبيء حتي تأكدت أن الرصاصة قد اخترقت رأسه فابتسمت بنشوة وكانت علي وشك الصراخ من الفرحة ولكنها تمالكت نفسها وعادت للاختباء حين وجدت الثلاثة ينظرون حولهم برعب ممسكون بأسلحتهم خوفًا من اللحاق بمن مات.
كانت تظن أنهم سيحملون جثمانه معهم ولكنهم تركوه خلفهم فهذه نهاية أمثاله من الخونة، رحلوا بفزع فركضت وراءهم بحذر وهي تعلم أنهم سيبحثون لأنفسهم عن قائد جديد فمثل هؤلاء يكونون دائمًا تابعين لغيرهم.
اختبأت عن أعينهم التي كانت ما بين اللحظة والأخري تنظر للوراء ولكنها كانت حريصة كل الحرص علي روحها فلن تفرط فيها حتي تأتي بحق أخيها وحق كل من مات، وصلوا إلي حيث بناية قديمة كان يبدو أنها مقرهم لم تحملها قدمها للاقتراب فظلت مكانها تنتظر أحدهم يخرج حتي تلحق به.
كانت تشعر بأن قدميها تحملها إلي حيث يجب أن تكون فلا يجب أن تقلق، كانت تعلم أنها جندي الله في الأرض وأن تلك الرصاصة التي خرجت من بندقيتها إنما حملتها الملائكة إلي حيث يجب أن تستقر رغم أنها لا تعرف التصويب ولا تجيد إمساك السلاح ولكنها إرادة الله الذي إذا قال للشيء كن فيكون.
انتظرت حتي خرج اثنان منهم دون غطاء الوجه الذي ارتدوه أثناء خروجهم، كان أحدهم شخصًا تعرفه حين كانت تنظف السيارات بالشارع كان دائمًا ما يضايق أخيها وها هو اختار طريقه الخطأ حتي تعاقبه هي.
ركضت وراءهم بحيطة كما كانت وتشبثت بسلاحها حتي لا يأخذها أحدهم علي حين غرة ثم فكرت أنها يجب أن تغطي وجهها هي الأخري ورغم جثة الملثم التي رأتها في طريقها إلا أن قلبها لم يطاوعها ويدها أبت أن تقترب من وجه ذاك الخائن وتركت أمرها لبارئها هو سيرسل من أجلها ما تريد حين تحتاج وعزمت علي أن تجعل تلك الشوارع التي غرقت بدماء أهلها إنما هي بحار ملوثة من دماء الخونة، ليس جثة واحدة منهم ولا اثنتين ولكنها عقدت العزم علي إنهائهم جميعًا وتوكلت علي الحي الذي لا يموت.
وصل الاثنان إلي شارع جديد حيث انتظرهم قائدهم وهي من خلفهم، كان يبدو علي الشارع من الدمار الذي أحاط بها أنهم قد انتهوا منه ولكنهم يمشطون المكان قبل أن يرحلوا فظلت مكانها تنتظر اللحظة المناسبة وقد عقدت العزم علي اطلاق رصاصتها التالية.
رأت جثة امرأة علي الأرض وفوق رأسها وشاح لكنها لم تكن لتكشف عورة امرأة مثلها فتقدمت نحو رجل فاستعارت من قميصه قطعة غطت بها وجهها ثم شكرته وعادت بعينيها إلي حيث وجدتهم ينظرون حولهم، بالطبع ينتظرون اطلاق النار بعد أن تم تحذيرهم ولكنها لم تكن لتتراجع فأمسكت سلاحها وأطلقت ثم اختبأت وهي تعلم أن تلك الرصاصة قد استقرت في رأس أحدهم.
علمت من صوتهم الفزِع أنها قد نالت من أحدهم فابتسمت للمرة الثانية وهي تضرب الأرض بيدها فرحاً ثم عادت إليهم فوجدت كل منهم يجري في طريق ففزعت وعلمت أن عليها التحرك قبل أن يداهمها أحدهم.
ظلت تركض بحرص تحمي نفسها بجدران بنايات عالية وهي تعلم أن داخلها نساء وأطفال أشفقت علي حالهم، توقفت قبل أن تعبر من بناية إلي التي تليها حين رأت تلك المرأة التي انكفأت علي الأرض فوق ولدها تحميه وأمامها ملثم عزم علي قتلها هي وولدها فلم تمهله فرصة فرفعت سلاحها حين رآها وكان علي وشك اطلاق النار عليها فسبقته وأطلقت فاستقرت رصاصتها في صدره.
سقط علي الأرض صريعًا واختفت هي قبل أن يبحث المتبقون عن مصدر الصوت فذهبت لتطلق النار في مكان بعيد لتفسح المجال للأم وولدها للهرب من ويل تلك النيران، ظلت تنظر حولها تنتظر أحدهم ليظهر نفسه فإما تقتله أو يقتلها ولكن لم يأت أحد فعزمت علي العودة إلي مقرهم فهناك حيث يبدأون وهناك ينتهون.


0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.