لكل كائن حي عمر مهما طال فلابد أن ينتهي بالموت، ومهما استنفر من طاقته التي تولدها فطرته بحب الحياة إلا أنه يفارقها إلى غيرعودة. قاعدة بسيطة تحكم الحياة في كوننا وهي "إن أي كائن حي محكوم عليه بالموت"، غير أن هذا لم يفت في عضض بعض الكائنات العاقلة المتربعة على عرش الأحياء، لتحارب الموت وتقتنص من براثنه عدة قرون، مؤسسة كيان عملاق يسمى " المعمرون"
"لكل حدث بداية، ولتحديده يستلزم معرفة المكان بأبعاده الثلاثة . في الزمكان المعلوم لنا سلسلة من الأحداث المختلفة المرتبطة أما بأبعاد المكان أو ببعد الزمان، أو بكليهما. ربما انتاب بعضنا الفضول لمعرفة الماضي أو المستقبل، فيتتبع بعد الزمن متقدمًا ومتأخرًا راويًا فضوله، ولكن الصفوة هم من يلهثون وراء معرفة كيف نشأ كل شيء، فيركضون ليس نحو البداية، ولكن لما قبلها، ليروا كيف ولدت بداية كل شيء"
"سيدتي لقد تم إعداد كل شيء. يمكننا البدء متى شئتي"
صدرت الكلمات عن صوت أنثوي رقيق وحازم، والذي آثر الصمت حتى جاءه الرد على هيئة دقات كعب حذاء رفيع طويل قادمة من الممر الخارجي، فرحب بنفس الحزم والرقة:
- مرحبًا بالسيدة رقم ستة وستون. أنرت حجرة النسخ، باقي لكِ ستة أيام قبل رحيلك إلى حيث يذهب المعمرون، فهل أنتِ مستعدة؟ "
عبرت البوابة الرمادية المصفحة امرأة طويلة نحيفة بيضاء الشعر والبشرة، ذات ملامح حادة، وجلد ذي كسرات مجعدة، ينافي خصلات شعرها الطويل الناعم الملتف حول رأسها على شكل تاج من الضفائر متعدد الأدوار، ومزين بستة وستون دبوس شعر خافيًا بدايات ونهايات الضفائر.
كانت ترتدي ثوبًا رماديًا كاحل اللون طويل يغطى الحذاء الفضى بالكامل، شديد الضيق عند الخصر حتى لتظنه حيك لدمية لفت عليه حزام على شكل أفعى الكوبرا المصرية ، وله ياقة مرتفعة على شكل فراشة سوداء مرقطة بالأبيض، وينتفش كخيمة من أسفل الخصر، وشديد الالتصاق بالجسد من أعلاه. منظره متناقض كاسم دلالها الذي تحبه كثيرًا (تناقض).
ظلت تسير بهدوء تستمتع لطرقات حذائها على الأرضية الرمادية المصفحة حتى وصلت إلى الكرسي الموضوع أقصى الركن الأيسر، ثم أجابت بصوت مجهد محمل بغبار سنوات عمرها الذي قارب السادسة والستين بعد المئة السادسة:" دائمًا أنا مستعدة يا هزاي"
رد الصوت الأنثوي بحماس هذه المرة:" هذا رائع يا سيدتي. يمكننا أن نبدأ في التو، ولكن دعيني أخبرك بقواعدنا"
ضحكت المرأة بصوت مبحوح، فهي على علم بالقواعد التي وضعتها منذ إنشاء تلك الوحدة قبل ستة قرون، ولكن ما المانع من أن تستمع إليها لأخر مرة.
-"سيدتي الغالية هذه هي حجرة نسخ الذكريات الخاصة بكِ، ولا داعي لنسخ ذكريات الأجداد فهي محملة على وعى هاهان بالكامل. أنا هزاي رفيقتك في رحلة النسخ التي تستغرق ستة أيام فقط دون زيادة مهما كانت الأسباب. من حقك أن تختاري أي الذكريات الهامة بالنسبة إليكِ، وتحديد درجة اهميتها، ومدى خطورتها، وسرعة عرضها على( المعمرون ) أو زرعها في وعي السيدة الجديدة التي ستحل محلك"
انتفضت المرأة غاضبة، وهتفت:" ليست السيدة الجديدة، بل ابنتي يا حمقاء. يبدو أني صنعت آلية غبية يومها"
ارتبك الصوت الأنثوي، واستدرك بخوف:" سيدتي الأم الغالية، إنها زلة لسان ليس إلا. سامحيني يا أمي لم أقصد إغضابك"
ردت المرأة بضيق:" مع الأسف الشديد ليس لدي وقت لمحوك، أو إصلاحك، ولكن يمكنني استبدالك بهواي"
صرخت هزاي:" لا يا أمي لا تستبدليني بهواي، إن شرف الإشراف على نسخ ذكرياتك يجب أن يكون لي، كما أنه لا يجوز أن يقوم هو بمهمتي"
ضحكت المرأة بطرب، وقالت:" من قال هذا؟. أنا فقط من يحق لي أن أختار من يقوم بنسخ ذكرياتي حتى وإن خالفت قواعد النظام الذي وضعته. والآن اذهبي فأنا أريد هواي"
-" بأمر سيدتي وأمي أنا.. حاضر"
كان الصوت هذه المرة خشن ودافئ آسر، ولكنه قادم من نفس المنبع، بلورة رمادية في منتصف سقف الحجرة.
قبل أن تجيبه المرأة، قالت هزاي باكية:" أمي أتوسل إليك، لا تطرديني. اتركيني بجوارك، سأمكث صامتة، ولكن لا تتركيني أتعذب لحرماني من البقاء بجوارك لأخر مرة"
رق قلب المرأة، وقالت بحنان:" ليكن، ولكني أحب أن أراكما بجواري كذلك"
تحولت البلورة للون الأسود فجأة ليقف أمامها فتاة رقيقة ترتدي فستان أبيض عبارة عن ورود جوري حيكت بتلاته معًا، وشعرها الأسود المتطاير كعينيها يشعان كابتسامتها على شفاهها الجمرية. تحولت البلورة لتصبح شفافة مع ظهور شاب حاد الملامح يرتدي بزة سوداء كلون عينيه وشعره وقميص ناصع البياض مثل بشرته، تحمل شفاه الوردية ابتسامة كشروق الشمس.
نزل كلاهما على ركبهما بخشوع، وقالا بحب:" أمي لقد اشتقنا إليكِ كثيرًا"