من جملة مواقف حياتية نعيشها وتعيش فينا بل تقتحمنا وتخترق حُجُرات أفئدتنا ما بين فراق وافتراق، غربة رحيل ألم طموح جامح تلجمه كبوات الأيام، وبِمِداد من مَدَد، أغدق علينا الكاتب المبدع بمجموعة ديكورية من الأقصوصات التي تركت بصمتها في وجداني كقارئ حالم أعشق شجن الأبجديات وترانيم التراجيدية وتراتيل العاشقين، إبداعٌ خاطِرِيٌّ تخللته لحظات صراحة وواقعية لامَسْتُها من الكاتب بِلُبِّ قلبي؛ وإذ أنني -كقارئ- عايَشْتًها بِحَقٍ فلا شَكَّ عايَشَها القاصُّ بِذِهنه ولَرُبَّما بِجَسَدِه ورَوْحِه، وإلا لَمَا نقَشَتْها أنامله بمنتهى العمق هكذا ولا أنتجت لنا رائعة الحَكايا تلك.
"رحيل القمر" -وبلا أدنى مجاملة- من أفضل أعمال القصص القصيرة أو سرديات الأدب السريع كما أسميه أنا، وهي المجموعة التي لا تقل شأنًا عن قصص يوسف إدريس وزكريا تامر وأحمد بوزفور -مع حفظ ألقاب الجميع-؛ فعلى متن هذه المجموعة بلغوياتها وبلاغاتها تستشعر طقوس مَلاحم هوميروس والإلياذة والأوديسة وزمن ألف ليلة وليلة، لِمَ لا وهي بقلم أحد أساطين القصة القصيرة ورَبابِنَتها الذي لطالما أَبْحَرَ بقلمه في خبايا مُخَيِّلاتِنا، حتى فازت معظم أهازيج قلمه -إن لم تكن جُلُّها- ضمن أبرز مسابقات القصة القصيرة على مستوى الوطن العربي؛ ما دفعني لأطلب منه مِرارًا جمعها في عمل أدبي يذخر لجموع القُرَّاءِ بل ولِشَباب الكُتَّاب بمأدبة شهية ينهلون منها ما لَذَّ وطاب.
بعيدًا عن الإطراء الذي وإن انتهيت لن ينتهي في حَقَّ الكاتِبِ ومَكتوبِهِ، أتطرق للمجموعة القصصية والتي نَوَّعَ فيها من كل صنوف الأدب وألوانه وألحانه، وراح يتبختر بِقُرَّائه بين التراجيدية العميقة من أحزان وفِراق واشتياق وشجن وحنين وطموح زائل ووو، وبين رومانسية كلاسيكية عتيقة أتلفتها عثرات الأقدار وخبائث الأهواء، وتجلت عظمة العمل في ثرائه بأدبيات ورمزيات القصة القصيرة بمنتهى الأكاديمية، ومراعاتها لشتى تكتيكات القَصِّ، واعتمادها على خواتيم مُحَيِّرَة غير متوقعة، واستعماله اصطلاحات ثرية وفي بعض القصص اعتماده على دلالات فلسفية بحتة لفئة القارئ النهم واسع الثقافة والاطلاع يستنبط منها ما يريد، ناهيك عن العناوين التي عبرت بِحَقٍّ عن مضمون الأقصوصة رغم اختزالها وبساطتها، كما وتَمَيَّزَ العمل بكثرة الإيماءات والتشابيه والاستعارات والكنايات التي صاحَبَتْني وصَحَبْتُها بين غلافَي العمل في أمتع.. وأتعس نزهة بعالم "الحواديت"!
خالص تمنياتي بدوام التوفيق والسداد،،
إبراهيم فايد
٢٠/١/٢٠٢١م