Horof

Share to Social Media

مع اقترابِ عقاربِ الساعةِ من منتصفِ النّهارِ جلسَ عمرُ يترّقبُ آخرَ التطوراتِ التي وصلت إليها الأحداثُ جراءَ انتشارِ فيروسِ كورونا في الكثيرِ من دولِ العالمِ.
ظلَّ يتابعُ المستجداتِ وسطَ ضوضاءِ مطارِ بيروتَ الدوليِّ حيثُ ينتظرُ رحلةَ َ الإقلاعِ إلى مطارِ الدوحة الدوليِّ في رحلةِ ترانزيت قادماً من مصر.
- وبينما يمارسُ عادته في تأملِ تحركاتِ المسافرين والعاملين بالمطارِ وحقائبَ السفرِ والقلقِ الذي يسيطرُ على المشهدِ العامِ خوفاً من تصاعدِ الأحداثِ ونسبِ الإصابةِ والوفياتِ وما قد يترتبُ عليها من إجراءاتٍ احترازيةٍ من الدول يأتيه صوت من مقعد مجاور له.
- يبدو أنك قَلِقٌ بشأن رحلتك!
يتلفت عمر بجواره فيجد أحد المسافرين ضمن رحلته ويبدو عليه من لهجته ولكنته أنه قادم من إحدى المدن الساحلية بمصر.
عمر: نعم فقد فارقت أحبةً لي منذ أكثر من عامين لإتمام بعض الأمور الخاصة بمصر وأخشى أن تطول مدة الفراق.
المسافر: لعله خير إن شاء الله وتعود الأمور إلى مجرياتها الطبيعية.
طبيعية!! إنها لعنة السماء وعقابها المحتوم الذي سيحل بهؤلاء التعساء من بني البشر.
يأتي الصوتُ من المقعد المقابل لهما حيث رجل في العقد الخامس من عمره يجلس منزوياً عن الآخرين يطالعُ الجريدةَ ويتابعُ شريطَ الأخبارِ على شاشات التلفاز المنتشرة في أرجاء صالات الانتظار.
يشيحُ المسافرُ بوجه عن هذا الخمسيني موجهاً حديثه لعمر: معذرة لم أعرفك بي – أنا مسعود وأعمل في مجال الأثاث المنزلي وهؤلاء أصدقائي: أشرف من السودان وحسام من سوريا ونضال من الجزائر
عمر: أهلا بكم رفقاء الكفاح والسفر.
مسعود: هل رأيت نظرة هذا الرجل المتشائمة وهو يرى أن هذا الفيروس عقاب لأهل الأرض ليقتص منهم ويفنيهم عن بكرة أبيهم؟
يرد عليه عمر وهو يحاول أن يفلت نفسه من حالة الشرود التي تسيطرُ عليه بابتسامة شاحبة: لعل أسوأ من الفيروس حالة التشاؤم التي يعيشها هذا الرجل.
مسعود: وهو أيه منغص علينا حياتنا غير وجود الأشكال دي في حياتنا؟
عمر مبتسماً: لا تكن عنصرياً مثله وتتمنى زواله كما يتمنى هو للبشر الذين لا يروقون له.
مسعود: عندك حق ‘ هل رأيت كيف يتعامل مع كل من يقترب منه أو يحاول الجلوس بالقرب منه؟
عمر: لعله يحترز من انتشار المرض وتفشي الوباء.
مسعود: لم يصل بعد لمرحلة الوباء وإن كنتُ أرى أن نظرةً أمثال هذا المتغطرس لا تقل خطورة عن أعتى وباء قد يفتك بالبشرية.
عمر: لا تتسرع في الحكم عليه فلعل لديه ما يبرر ما يقوم به من تصرفات لا تروق لنا.
مسعود: إنه حتى لم يهتم لأمر المرأة العجوز التي مرت أمامه والتي كادت تتعثر في حقيبته وتسقط على الأرض لولا أن أدركها أحد العابرين.
عمر: تقصد هذه العجوز التي تجلس وحيدة في طرف القاعة.
إنها تجلس وحيدة تراقب المارة في صمتٍ مطبقٍ كأنها آلة تصوير تراقب حركة تعاقب الشمس والقمر منتظرة انقشاع برد الليل الطويل.
مسعود: ومن منا لا يتمنى أن تمر ساعات الترانزيت الكئيبة لنلتقي أصدقائنا وأحبابنا الذين يخففون عنا وطئة الغربة وألم البعد عن أهلنا ومَنْ نحبُ ونهوى.
- بلاش تقلب عيلنا المواجع يا صاحبي.
فجأة تعلو الضوضاء وينتشر اللغط ُ بين الناس مع تدفق أعداد كبيرة من المسافرين في إحدى الطرقات التي تؤدي إلى ممر صعود الطائرات.
أحد المسافرين في ثورة عارمة يكاد يتفجر وجهه من لهيب الاحمرار وكأن بركان يتفجر في رأسه:
- كانوا قالوا لنا من الأول وبلادنا أولى بينا، نروح فين الوقتي.
- ترد عليه امرأة تلهث وراءه محاولةً اللحاق به: صل على النبي يا أبو أحمد، إن شاء الله خير ولها ألف حلال.
يواصل الرجل ثورته دون أن يلتفت خلفه:
- حل إيه واحنا محشورين في المطار زي اللي رقص ع السلم، لا اللي فوق شافوه ولا اللي تحت سمعوه.
ينتبه الناس في قاعة الانتظار الى صوت المذيع الداخلي بالمطار وهو يزأرُ كأسدٍ قاسي القلب لا تعرف الرحمة طريقاً لقلبه وهو يفترس ضحيته بعدما حال بينها وبين أمها المكلومة بفقد ابنتها الصغيرة:
- نود أن نعلم السادة المسافرين والسيدات المتجهة رحلتهم الى مطار الدوحة الدوليّ أن السلطات القطرية قد علقت الرحالات القادمة من 14 دولة كإجراء احترازي نظراً لتفشي فيروس كورونا (كوفيد-19) حول العالم وهذه الدول هي: " جمهورية بنغلاديش الشعبية، وجمهورية الصين الشعبية، وجمهورية مصر العربية، والجمهورية الإسلامية الإيرانية، وجمهورية العراق، والجمهورية اللبنانية، و-----.
هل سمعت يا عمر، لقد علقنا بمطار بيروت يا رجل.
لم يستطع مسعود إخفاء توتره البالغ والمصير الذي ينتظره، خاصة وأن صلاحية إقامته بدولة قطر على وشك الانتهاء.
عمر: تماسك يا رجل وسوف يجعل الله من بعد ضيق مخرجاً.
مسعود: أي مخرج يا رجل؟ وقد صرنا مثل الجرب، الكل يحاول التخلص منا.
هل سنعود لبلدنا نجر ذيول الخيبة؟
أنت لا تعرف الديون التي تنشب أظفارها في أحشائي وعائلتي ---- عائلتي التي تعلق آمالها على ما أرسله اليهم من أموال، عائلتي التي تحبني وترى في سفري طوقاً للنجاة من شبح الفقر الذي يلتف بأذرعه السوداء حول رقابنا.
عمر: لا أخفيك سراً أنا أيضاً قلقي وخوفي، فلم أر أحبائي منذ أكثر من عامين.
يمتلئ المكان رويداً رويداً بالعالقين وسط هرج ومرج وتزاحم وصراخ وضعاف يتساقطون من جراء التدافع بين المسافرين عبر ممر العودة الذي ضاق بهم كما تضيق أنفاس الراحلين عن الدنيا وقت الاحتضار.
يقوم عمر مذعوراً، فقد تذكر المرأة العجوز التي تجلس في طرف القاعة وحيدة بعيداً عن الآخرين لكنها الآن لم تعد بمنأى عن التدافع والزحام.
يسارع إليها مبتسماً لها وقد وجدها تضع حقيبتها على الكرسي المجاور لها فاستأذنها في رفع الحقيبة والجلوس بجوارها.
ابتسمت العجوز ابتسامة حانية وأومأت برأسها بالموافقة.
- أرجو يا أمي ألا يكون قد أصابك شيء من الأذى من جراء تدافع الناس وانحشارهم في المكان.
- أنا بخير يا ابني وأنا أقدر ما هم فيه من خوف وقلق.
- أنا ابنك عمر من مصر ومسافر لألحق بأهلي في الدوحة --- وأنتِ يا أمي!
- أنا خالتك أم منصور من غزة.
- أهلا بكِ يا أمي، أليس معكِ من يرافقك في رحلتك الطويلة الصعبة؟
- للأسف كان معي ابن أخي، وقد علق في المعبر بين غزة ومصر ولم يسمحوا له بالمرور.
- وكيف ترككِ تُكملين وحدك؟ يا أمي وكيف سمحت له نفسه بذلك؟
- لا تقسُ عليه يا عمر فأنا مَن صممتُ على استكمال رحلتي وحدي، فلعلي لا أرى ابنتي المقيمة بقطر منذ عشرين عاماً مرة أخرى.
- يلاحظ عمر الدموع تناسب على وجنتي أم منصور سريعة ً سريعة ً على التجاعيد التي تشعرك أنها ولدت معها وكأنها بحيرة طبريا وهي تجود بمياهها العذبة نحو نهر الأردن وقد أحاطت بها منطقة الجولان السورية ومنطقة الجليل الفلسطينية حيث جبال الشيخ الثلجية البيضاء تقف حارساً أمينا ً عليها تمنحها الأمن والوقار ورموز العطاء.
- لمَ البكاء يا أمي وقد اقترب موعد اللقاء؟
- كل شيء بقدر يا بُني، تقول ذلك وهي تتلمس شيئاً وضعته في لفافة تحتضنها بكلتا يديها
- يلاحظ عمر الأمر فتسارع المرأة بإخفاء اللفافة بين ملابسها.
- هل رأيتِ هذا المشهد المرير على شاشات التلفاز يا أمي لهذه العائلة الصينية القاسية التي شكت في إصابة ابنها وبنتها بفيروس كورونا، فسارع الأب والأم بمغادرة المطار تاركين فلذة أكبادهما دون رحمة أو شفقة؟
- نعم شاهدت ولكن لماذا لا تنظر حولك؟ ، ألا تلاحظ هؤلاء الأمهات كيف يحتضن أبنائهن خشية أن يجرفهم الطوفان؟ ، لا تتلمس الصوت النشاز لتحكم على بقية العالم بالقسوة وفساد كل الأصوات، إنه الحب الذي غرسه الله في أعماق البشر وسائر المخلوقات بل لعلك شاهدت منذ قليل على شاشات التلفاز تلك العجوز المسكينة التي حالوا بينها وبين زوجها حيث وضعوه في الحجر الصحي فقررت أن تذهب هي وتراه من خلف زجاج النافذة.
- صدقتي يا أمي ولكن الكل خائف من أن يتحول الأمر الى وباء ينال من البشرية ويزيد من جراح الفقد وفراق الأحباب.
- الخطر ليس في المرض يا بني بل في أن ينال الوهم منا ويفقدنا الثقة بالله والإيمان بمعاني الخير والتضحية.
- ولكن لماذا لم يسافر معك ابنك منصور بدلاً من ابن أخيك؟ فربما ما كان ليتركك مهما حدث.
- منصور وأخوته الثلاثة سبقوني يا بني.
- يتضايقُ عمرُ من تصرف الأبناء الاربعة ويتعجب من هدوء المرأة وثباتها ويندفع قائلاً:
- كيف لهم أن تنال منهم القسوة هذا المبلغ يا أمي ويتركوك وحيدة؟
- يا بني لا تتعجل فقد قدموا أروحهم لوطنهم دفعاً عن الشرف والأرض وخضبوا أرض فلسطين بدمائهم الزكية.
- يحمر وجه عمر خجلاً من تسرعه في الحكم، وكم تمنى لو سكت وما تكلم ولكنه يعود محاولاً الاعتذار عن تسرعه وكلماته:
- تقبلهم الله في الشهداء يا أمي.
- تحاول أم منصور أن تخفف عن عمر، وتخرج ورقة من حقيبة يدها، أخبرني يا بني هل تعرف هذا العنوان بقطر؟
- نعم يا أمي أعرفه جيداً، لا عليك فقد قررت أن أصحبك في رحتنا حتى نهايتها ولكن!! أليس هناك مَن يستقبلك في مطار حمد الدولي؟
- في كلمات واهنة وضعيفة، يا بني لا أدري لعلي لا أستطيع أن أستكمل الرحلة الآن، فقد بلغتُ من العمر مبلغه، وقد جاوزت السبعين من عمري، وأظن أن رحلتي سوف تتوقف الآن لالتحقَ بمنصور وأخوته عند رب كريم.
- بصوتٍ مرتجفٍ لا يستطيعُ أن يحبسَ معالمَ خوفه ودموعه المختنقة: العمر كله لكِ يا أمي.
- يا بني منذ حل الوباء ببلادي حيث كانت سنوات عمري الأولى ونحن نعاني من تبعاته وتواطؤ أشباه البشر حيث سراب العدالة المزعومة.
- أراكِ تستسلمين يا أمي وتخالفين كلامك.
- لا يا بني، أنا ثابتة في أرضي بامتداد أشجار الزيتون وتشعبها في أعماق أرضي ووطني العزيز، لكنها لحظة تسليم الأمانة يا بني،- تمد يدها في ملابسها وتخرج اللفافة ثم تضعها بين يديّ عمر وتمسك علي يديه.
- سَلِّم هذه يا بني لابنتي وأخبرها أننا على موعدٍ لا شك فيه، لكن عليها يوم اللقاء أن تخبرني أن بلادنا قد تطهرت من هذا الوباء الملعون.
- تنحدرُ دموعُ عمرَ متسائلاً: ولكن ما الذي بتلك اللفافة يا أمي؟
- هذا مفتاح دارنا بالقدس يا بني حملته عن أمي، فأنا مقدسية يا ولدي، وها أنا أضعه أمانة ً في عنقك لتسلمه لابنتي، فقد حان وقت اللقاء مع منصور وأخوته فقد اشتقت اليهم كثيراً.
- تغلقُ أمُ منصور عينيها في هدوء حانٍ كجمال الشمس وقت الغروب.
- ينادي عمر على مسعود وأصدقائه الثلاثة - وقد نالت منه فاجعة أم منصور- كي يساعدوه في إسنادها إلى أحد مقاعد قاعة الانتظار، والتفاوض مع المسؤولين بالمطار عن الأرض التي سوف تشرف بجسد أم منصور.



على غيرِ العادةِ في مثل هذا الوقت من ساعات النهار بدا مترو روما أقل حدةً في ازدحامه المعتاد حيث البشرُ المندفعون كالنهرِ الهادرِ نحو بيوتهم بعد انتهاء ساعات العمل المضنية.
جلست أمل صلاح هي وصديقتها ريبيكا باتسي تراقبان حركات القطارات المتتابعة في انتظار القطار المتجه لأقرب محطة بالقرب من المركز الثقافي الإسلامي الذي يقع بالجزء الشمالي في منطقة البريولي حيث يعمل والدها الشيخ صلاح عبد الرحمن إماماً للمسجد الكبير بروما.
ريبيكا: مسكين هذا الوطن يقف صامتاً صمت الحائرين وهو يرى المستهترين من شعبه وهم لا يبالون بتحذيرات وزارة الصحة من خطورة الاختلاط والتزاحم وسط جراحات العالم وأنّاته.
انتبهت أمل من شرودها وتوقفت عن تمتماتها ناظرةً لريبيكا صديقتها والتي بدا على وجهها الضيق والحسرة على حال العجائز المصابين بفيروس كورونا ( كوفيد-19 ) والذين امتلأت بهم المستشفيات والتي لم تعد قادرةً على استيعاب المزيد.
أمل: معذرةً يا صديقتي فقد شرد ذهني لما نراه يومياً في عملنا والذي صار مثل الكابوس الذي لا يريد ليله أن يرى نورَ الصباح.
ريبيكا: وأنا مثلك تماماً يا أمل، ولكني لاحظت أنك في شرودك كنتِ تهمسين بكلمات لم أفهمها فما الذي أصابك عزيزتي؟
أمل: كنت أرددُ بعضاً من أدعية الاستغفار ومناجاة الله تعالى لعل الله يرفع عنا ما نحن فيه.
ريبيكا: نعم يا أمل فنحن في حاجةٍ مُلِّحةٍ إلى الاختلاء والصلاة والتوبة والاهتداء بطلب الغفران من الله.
تسرع أمل نحو باب قطار المترو ممسكةً ً بيد صديقتها كي تدرك موعد أبيها حيث اللقاء الذي سوف يُعقدُ بالمركز الثقافي الإسلامي لمناقشة قضية الساعة والخطر الذي يبرز للعالم بمخالبه الحادة وقد توشح بثياب المنايا وتدثر برايات الرحيل.
ينطلقُ القطارُ ليشق المحطات المتتابعة سريعاً كما تتفلت أعمارنا ويتسرب من بين أيدينا إكسير الحياة.
ريبيكا: أعلمُ حرصك البالغ لحضور تلك المناقشات الملتهبة صديقتي خاصة وقد علمتُ منك بحضور
د - ستيفانو ماجنون الذي لا يمل من تمجيد وتقديس العقل البشري بعيداً عن وحي السماء.
أمل: مع كل أسف ‘ فهو ينتصر لماديته ولا يؤمن بالنجاة للعالم والبشرية جمعاء إلا بتحويل كل ما هو غير مرئي وغير ملموس إلى شيء قريب مرئي وملموس ومقروء، لكي يتم إخضاعه وتحويله إلى تجربة مختبرية ملموسة ومرئية للعيان.
ريبيكا: نعم فقد شاهدت له حلقات متلفزة وهو يروج لفكرة أن الدين من صنع البشر ابتكرها لتفسير ما هو مجهول لديه من ظواهر طبيعية أو نفسية أو اجتماعية.
أمل: للأسف هو يمثل امتداداً لأمثال آرثر شوبنهاور وكارل ماركس وسيغموند فرويد الذين يرون التدين التزاماً بمجموعة من القيم البالية.
ريبيكا وقد بدا عليها الضيق والتوتر بسبب هذه الأفكار فحاولت أن تغير مسار الحديث:
وهل سيحضر أخوك " مو " تلك النقاشات الملتهبة ويشاهد تلك المناظرات؟
أمل: بالله عليك لا تنطقي اسمه هكذا أمام أبي فهو يرى هذا الاسم مسخاً رديئاً ككثيرٍ من الأمور التي آلت إليها مظاهر الحياة.
ريبيكا: هل أفهم من كلامك أن أباك على خلاف مع أخيك وما عاد يحبه؟
أمل: لم أقل هذا أبداً؛ فأبي يحبه فوق ما تتصورين ويتمنى منه أن يلتفت لمسار حياته بعيداً عن الانشغال بأمورٍ لا تفيده في شيء، فقد أهمل دراسته الجامعية حتى صار موعد تخرجه في الجامعة حلماً بعيد المنال.
تنظر ريبيكا لأمل وقد بدا عليها حرصها على معرفة تفاصيل أكثر عن مو: لكني أراه شاباً لا بد أن ينال منه نزق الشباب وثوراته ثم تأخذه الحياة حيث يتمنى الآباء.
أمل: أعلم مقصدك صديقتي لكن الأمر أكبر من ذلك، فأخي من مشجعي كرة القدم ؛ يعشقها بل يدمنها حتى صارت من أهم ملامح شخصيته وعلامات بقائه على الكوكب الأرضي، ثم يشتد به إدمانه عشقاً لنادي ليفربول الإنجليزي ولاعبه المصري محمد صلاح.
ريبيكا: فهمت الآن فهناك تشابه في الأسماء بينهما.
أمل: وهذا مربط الفرس حيث إنه يحب أن نناديه: " مو صلاه " كما ينادي أقرانه من مدمني كرة القدم معشوقهم المصري محمد صلاح.
ولهذا فهو لن يحضر اللقاء اليوم لأنه سافر إلى إسبانيا حيث يلاقي الفريق الذي يشجعه أحد الأندية الإسبانية وسوف يعود في ساعة متأخرة الليلة على متن الرحلة رقم 19 المتجهة في طريقها نحو روما.
ريبيكا: أدعو الله أن يعود سالماً ؛ فأنتِ تعلمين أن التجمعات الكبيرة كما في مباريات كرة القدم صارت خَطِرة ًجداً وقد تتسبب في انتقال العدوى بين المشجعين.
أمل: اللهم آمين ‘ وكم أتمنى أن يدرك أخي خطورة الأمر ويستجيب لنصائح أبي له، ولا يعتبرها نوعاً من الوصاية والتضييق عليه.
ريبيكا: بنظرة ملؤها الشفقة والحزن، الأمر لا يتعلق بأخيك فقط فالشعب الإيطالي كله يحتاج إلى الاستماع إلى صوت العقل ويلتزم بالتعليمات ويمتنع عن التجمعات والاختلاط الذي سوف يؤدي بنا إلى نتائج لا يعلم مداها إلا الله.
تقوم ريبيكا ممسكةً بيد صديقتها: هيا بنا فقد وصلنا لمقصدنا.



تدخل الفتاتان سريعاً قاعةُ الاجتماعات في المركز الثقافي الإسلامي حيث يجلس إمام المسجد الشيخ صلاح عبد الرحمن بوقاره المعتاد وسمته الهادئ ممسكاً بمسبحته والتي تمر خرزاتها على يديه كما تنساب المياه نحو غديرها ممزوجة ً بتمتمات حانية تتناغم مع تلك الخرزات.
وفي الجانب المقابل من الطاولة يجلس د: ستيفانو ماجنون والذي يبدو عليه التأهب للمناقشة والحوار
د - ستيفانو: بنظرة حادة وعبارات صارمة:
ألا ترى أنه من الأفضل في مثل تلك المصائب التي ألمت بالعالم التعيس أن نستنير بالعلم المادي بعيداً عن خرافات العقائد البشرية، ونفسح المجال للأطباء والعلماء والصيادلة يدرسون وجود الفيروس المادي، وتأثير حمضه النووي على خلايا الإنسان، ومِن ثَمَّ إيجاد الحقن والأمصال والعلاج الشافي؟
الشيخ صلاح: بهدوئه المعتاد وقد بدت ابتسامته كأرض رحبة تستوعب العواصف العاتية وثورة البراكين: وهل في عودة الناس لربهم واللجوء إليه وقت الشدة ما يتعارض مع الأخذ بالأسباب والسعي الحثيث نحو تخفيف معاناة البشر وإيجاد العلاج المناسب؟
د - ستيفانو: وماذا عن هؤلاء الذين لا يفكرون بمواجهة الفيروس وقرروا الهروب منه الى عالم ما بعد الحياة كما صورته لهم أديانهم؟ ألا ترى أنهم ميتون في الحياة قبل أن يذهبوا الى قبورهم ويسكنوا فيها الى الأبد؟
الشيخ صلاح: سؤالك يا د - ستيفانو يشوبه بعض المغالطات ؛ فربنا سبحانه يذكرنا دوماً بالعلاقة الحتمية بين المادة والروح كقوله تعالى: " هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ " فالذي سخر لنا الأرض أمرنا بالأخذ بالأسباب المادية دون أن نغفل التعلق بربها وخالقها والإذعان له وطلب العون منه، ولا ننسى أبداً أننا مهما بلغنا من العلم والقوة فإن مصيرنا الموت ثم يبعثنا الله من قبورنا يوم القيامة للحساب والجزاء.
د - ستيفانو: إنني أتعجب من فعل الاستغفار الذي يكرره الواحد منهم عشرات المرات في اليوم وهو لم يقم أبداً بأي فعل ينكره الضمير الإنساني، وأود أن أقول لك بوضوح: بأن الشيء الأساسي الذي يمارسونه من الأفعال لا يعدو إلا أن يكون ممارسة ً يائسة ً لتلبية نوازع غرائزهم وإشباعها.
تهمس ريبيكا في أذن أمل: يا له من متعجرف لا يعترف إلا بكل مادي محسوس!
أمل: علينا أن نلتزم الصمت حتى ينتهي الحوار ثم نسترجع سويا ما دار فيه.
الشيخ صلاح: الاعتصام بالله والاستغفار ليس من الغرائز المادية التي يتم إشباعها كما يفعل من لا يؤمن بالله تعالى، بل هو اعتراف بضعف البشر مهما بلغوا من قوة أن هذا الكون له خالق يدبر أمره ----
يقاطعه د – ستيفانو: إذاً وما علاقة ذلك بالأمراض والأوبئة الفتاكة حضرة الشيخ!
يرد الشيخ صلاح: دعني أكمل لك د – ستيفانو فإن مثل هذه الأمراض تنبهنا إلى ضعفنا وقلّة حيلتنا أمام قدرة العليّ العظيم جلّ شأنه؛ فهذا مخلوق مجهريّ أثار الرّعب والذّعر في نفوس سكّان القارات السّبع، كيف لو أراد الله أن يسلّط على البشرية بعضا ممّا سلّطه على الأمم الخالية؟ مهما بلغت البشرية في تقدّمها العلميّ فإنّها ستظلّ ضعيفة أمام قدرة القدير سبحانه.
د - ستيفانو: - بنبرة كلها استهزاء وسخرية - لكني أراهم يواصلون ليلهم بنهارهم في الاستغفار، وفي طلب العفو من قوة يؤمنون بأنها تراقبهم من وراء ستار ؛ إنهم في هذا الموقف متناقضين جداً فهم في الوقت الذي يؤمنون فيه بأن أعمارهم محددة من قبل تلك القوة، وأنه لا يمكن لهم ولا لأية قوة أخرى تغيير مواعيدها، تراهم يملؤون دنياهم بالشكوى اذ هم يشعرون بأنهم ميتون لا محالة في هذه اللحظة أو في اللحظة التالية.
الشيخ صلاح: - وقد تقلصت ابتسامته متمتماً: تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً
المؤمن الحق يا د - ستيفانو لا يهابُ الموتَ لأنه يعلم أنه أمرٌ حتميٌ يعقبه حياةٌ أبدية ٌ، وأن هذه الأوبئة والفيروسات مِن قدر الله تعالى يُهلك بها مَن يريد هلاكه بأضعف جنوده، كما أنها من سنن الله تعالى يصيب بها من يشاء من المؤمنين ومن غيرهم، ويؤدب بها من يشاء، ولكن المؤمن المصاب بها والصابر عليها له أجر الشهيد، أما الخوف من الموت فهو من نصيب من لا يؤمن ببعث ولا نشور لأنه بموته يخسر متعته الدنيوية الزائلة.
د - ستيفانو: وقد شعر بتضايق الشيخ فحاول أن يلطف الحوار بابتسامة باهتة ونبرة أقل حدة:
وما رأيك في انقسام الناس إلى فريقين؟ ، فريق مستهتر بهذا الوباء إلى حد السخرية، ولا يُبالي بأي أسباب الوقاية مما يؤدي في النهاية إلى هلاك نفسه أو غيره، وفريق آخر خائف مذعور يَبُث في الناس الهلع والرعب حتى يصل بنفسه والآخرين إلى حد اليأس واستحالة النجاة.
الشيخ صلاح: ما علينا إلا أن نلتزم بظاهر الحكمة والأخذ بالأسباب مع تمام الاطمئنان والرضا و الاستقرار النفسي والقلبي لمُسبِبِ الأسباب سبحانه وتعالى.
د - ستيفانو: وهل تظن أن هذا الفيروس يحمل إلينا رسالة ً ما من السماء كما تعتقد في زعمك؟
الشيخ صلاح: نعم فهناك رسالة واضحة وجلية مفادها أنك أيها الإنسان لستَ سيّداً لهذا العالم، وأنّ كائناً صغيراً من دون قدرات عقليّة، ولا وكالات تجسسيّة، ولا ميزانيات دوليّة، أطاح بك. لتعترفوا بأنكم بني البشر كائناتٍ هشّة تحت رحمته. و أنّه لا مجال لرشوته، فهو غير معنيّ بسلطتنا أو عقيدتنا أو لوننا أو جنسنا، لقد جاء ليعيدنا إلى حجمنا الطبيعيّ.
د - ستيفانو: وقد ضاق ذرعاً بصلابة الشيخ صلاح وتمسكه بربط أحداث الأرض بالسماء:
مع اختلاف رؤيتنا للأمر دعني أتفق معك في أنني أتمنى زوال تلك الكارثة وانقشاع تلك السحابة المظلمة عن بني البشر.
الشيخ صلاح: وأنا من جانبي أتمنى للبشرية جمعاء أن تعودَ إلى الله والاحتماء بحماه، وأن تسلك سبيل التّوبة وكثرة الاستغفار، فلن تعود كل الطرق تؤدي إلى روما إلا بالعودة لربها وأن تعدل مسار رحلة ( كوفيد-19 ) إلى رحاب السماء فقد أغلقت كل مسارات البشر.
ينصرف د - ستيفانو متعللاً بارتباطه بموعدٍ هام فيودعه الشيخ صلاح ثم يقوم هو ليستعد لأداء صلاة العصر.
تشكر ريبيكا الشيخ صلاح على السماح لها بحضور تلك المناقشة ثم تستأذنه في الانصراف مع صديقتها أمل لنيل قسط من الراحة والاطمئنان على أهلها، فلربما يتم استدعاؤهما في أي وقت للعمل في ظل الظروف المتلاحقة.
تندفع أمل نحو والدها لتودعه فيضمها إليه ويطبع قبلة حانية على جبهتها متمنياً لها التوفيق قائلا ً:
أدعو الله أن يحفظكما بحفظه ورعايته ولا تنسيا أنكما مظهراً من مظاهر الرحمة جعلها الله في أرضه للتخفيف عن المرضى والمبتلين.



تخرج الفتاتان سريعاً متجهتين نحو مترو الأنفاق للعودة إلى البيت لاقتناص سويعات من الراحة ليكونا على أتم الاستعداد لتلبية نداء الواجب والضمير الإنساني النبيل.
ينطلق القطار تجاه المحطة التي تجاور العمارة السكنية التي يسكن فيها كلا الفتاتين.
أمل: ما رأيك يا صديقتي فيما دار من نقاش اليوم بين وجهتي نظر مختلفتين في تحليل الأمور؟
ريبيكا: مَنْ يعتقدُ أن الملحدين منطقيون أكثر من المؤمنين فقد جانبه الصواب، فهناك مؤمنون عقلانيون، وملحدون يصدقون أفكاراً خرافية.
أمل: نعم فهناك مَن لا يؤمنُ بقدرة الصلاة والعبادة والدعاء على الشفاء، في حين أن إصراره على معتقداته الفاسدة وتبنيه لنظريات أثبت العلم فشلها مثل نظرية داروين عن النشوء والارتقاء هو قمة الجهل والخرافة.
ريبيكا: أكثر ما أعجبني اليوم هدوء أبيك وقدرته على التعامل مع طريقة د – ستيفانو المستفزة ومحاولته لإخراج أبيك عن شعوره إلا في موضوع واحد بدت فيه حدته وتغيرت نبرات صوته
أمل: نعم، لاحظت ذلك عندما تهجم د – ستيفانو على ذات الإله سبحانه وتعالى، وهذا أمر لا يتقبله أبي مطلقا ً.
تتغير ملامح ريبيكا فجأة ويبدو عليها الغضب والاشمئزاز وهي تطالع هاتفها.
أمل: ما بك يا صديقتي؟ وما الذي أغضبك لدرجة أنك لا تكادين تسيطرين على مشاعرك وردود أفعالك؟
ريبيكا: انظري لهذا المقطع من الفيديو لبعض المصابين بوباء كورونا بالصين والذين يتعمّدون السّعال والبصق في وجوه مَن هم حولهم حتى ينتشر المرض بينهم ويعمّ،،،،، وإذا كان هذا فعلهم ببني بلدهم وفعل بعضهم ببعض، فكيف يمكن أن يكون فعلهم بغيرهم من النّاس؟
أمل: وهذا دليل آخر على أنّ المجتمعات المادية ليست مثالية في أخلاقها، بل إنّ ماديتها قد تكون وبالاً عليها في أوقات الأزمات وأن عليها العودة لربها والتمسك بالأخلاق الفاضلة وما يمليه الضمير.
ريبيكا: كم نحن في حاجة ٍ ملحةٍ إلى رفع الصوت والدعاء بروحٍ واحدة، على نية المرضى المصابين بالفيروس وأسرهم، ولأجل الطواقم الطبيّة والصحيّة التي تخاطر بصحتها في سبيل العلاج والوقاية.
أمل: أتفق معكِ صديقتي فنحن في حاجة إلى الدعاء والاستغفار وتنقية النفس وإعلاء معاني التسامح وحب الخير للناس أجمعين.
ريبيكا: إذا هي فرصة ٌ لاختبار الأخوّة الإنسانيّة في عمقها الإلهي، وإلى فرصة للولوج إلى الداخل ولإعادة اكتشاف معنى وجودنا والقيم الروحيّة والإنسانيّة الأصيلة.
أمل: ها نحن قد وصلنا.
تضغط أمل على أزرة المصعد لاستدعائه وفجأة: تصرخ، يا لها من مناظر يندى لها الجبين!
ريبيكا: وقد انتابها القلق والخوف، ما بك يا أمل؟
أمل: رأيت رجلاً يتعمد إبعاد كمامته عن أنفه ثم يعطس على الدَرْبَزِين ناثراً عليه عطاسه وما قد يحمله من ميكروبات وفيروسات.
ريبيكا: يا ليت الأمر ينتهي عند هذا يا صديقتي، فالناس لا تريد أن تفهم أنهم يدخلون أنفسهم في دروب الموت وإهلاك الآخرين.
تندفع أمل نحو الدرج صارخة ً: سيدتي انتبهي لأطفالك لحواف الدرج فربما تكون حاملة للعدوى.
تنظر السيدة لأمل نظرة سخريةٍ واستخفافٍ ثم تواصل صعودها الدرج وأولادها الصغار يعبثون بالدَرْبَزِين.
أمل: يا الله! كيف لها ألا تأخذ بالنصيحة على محمل الجد والاهتمام؟
ريبيكا: سوف نستيقظ يوماً ما على كارثة تحل بالبلاد؟
أمل: ها نحن قد وصلنا، أبلغي سلامي للسيدة ماريا والسيد/ روبيرتو باتسي.
ريبيكا: وهي تدخل مسرعة نحو الشقة التي تقطن بها ، في حفظ الرب أختي العزيزة.


في غرفة محمد صلاح جلست أخته أمل قريبة منه تتأمله وهو نائم، فقد عاد في ساعة متأخرة من الليل من مدريد وتوجه مباشرة لسريره دون أن يُعلم أحداً بعودته.
لاحظت أمل أن أخاها يتصبب عرقاً على غير عادته وضربات قلبه أسرع من المعتاد.
حاولت أن توقظ أخاها برفق وهي تتمتم ببعض الأدعية، وترجو الله ألا يكون قد أصاب أخاها مكروه ٌ في فترة سفره إلى إسبانيا.
استيقظ يا محمد فقد أشرقت الشمس منذ أكثر من ساعة ولا شك أنك لم تصل صلاة الصبح.
يرد عليها وهو يفرك عينيه محاولاً القيام من فراشه، كيف أنت حبيبتي ؟ لقد صحوت على صوتك وأنت تتمتمين ببعض الأدعية والاستغفار.
نعم يا محمد كنت أمسح عنك العرق وأضع لك كمادات باردة، فدرجة حرارتك غير مطمئنة قليلاً وقد دعوت الله أن يحفظك ويرد إليك عافيتك.
كانت أمل تتابع حالة أخيها وتراقب الأعراض التي تظهر عليه مخافة أن تكون تلك الأعراض مقدمة لإصابته بفيروس كورونا.
يقاوم محمد ما به من إرهاق ويقوم من سريره ليتوضأ ويؤدي صلاة الصبح.
تتطلع أمل إلي الصور المعلقة في كل جوانب الغرفة للاعبي كرة القدم وأخبار نادي ليفربول ونجمه المصري مو صلاه، ألن تخفف من إدمانك لتلك الأمور يا محمد وتلتفت لدراستك ومستقبلك فأنت تعلم أنها تحزن أبانا وتنال من فكره وراحة باله.
يعود محمد إلى سريره مبتسما ابتسامة يغلفها الإعياء ويشوه جمالها التعب والإرهاق.
كل شيء له ميعاد يا أمل ولكن أخبريني عن عملك وعلاقاتك مع الآخرين؟
أمل: وقد أشرق وجهها بابتسامة رقيقة ثم اقتربت من أخيها ونظرت له نظرة حانية: أي آخرين تقصد يا مو!
محمد: وقد بدا عليه بعض الارتباك: الآخرين يا أمل --- القريبين منك.
أمل: إن كنت تقصد أباك فهو بخير يا مووو.
محمد: وقد بدا عليه التوتر والضيق: أخبريني عن صديقاتك أيتها الملاوعة.
أمل: إن كنتَ قصد ريبيكا فهي – كما تعلم – صديقة عمري التي تلازمني منذ طفولتي ودراستي وحتى في عملي وتشاركني في أفراحي وأحزاني، ولكن لماذا تسأل عنها؟
يتلعثم محمد في الكلام ويحاول أن يخفي توتره وارتباكه: مجرد سؤال يا أمل.
أمل: وهي تواصل متابعة حالة أخيها الصحية، هي بخير يا مو، وهي أيضاً دائمة السؤال عنك ويبدو أني قد صرت همزة الوصل بين ال --- تنتفض من مكانها وقد راعها ارتفاع درجة حرارة أخيها.
محمد: محاولاً استجماع قوته: همزة وصل بين مَن يا مراوغة؟
أمل: محاولة إخفاء دموعها، بضحكة بريئة مداعبة ً أخاها: بين القلوب الطيبة يا مو ، أنت الآن في حاجة إلى الراحة، فرحلتك على ما يبدو كانت مرهقة لذا سوف أتركك لترتاح قليلاً من عناء السفر ونستكمل حديثنا عن همزة الوصل والحروف التائهة بحثاً عن نقاطها الجميلة.
يستسلم محمد لنصيحة أخته ويخلد للنوم على أمل أن يسترد عافيته سريعا ً.
تخرج أمل مسرعة وتتصل بصديقتها ريبيكا التي كانت سبقتها للمستشفى كي تخبرها بشكها في إصابة أخيها بأعراض فيروس كورونا وتستشيرها فيما يجب فعله.


داخل وحدة العناية المركزة بمستشفى سالفتور أوبيسدل بوسط روما، حيث شُغلت كلُ الأَسِّرةِ المتوفرةِ بالمستشفى بالحالات المصابة بفيروس كورونا.
تسارع الممرضات بتقديم يدَ العون للحالات المرضية، والكل يتحرك كخلية نحلٍ لإنقاذ ما يمكن إنقاذه
تستلقي ريبيكا وأمل في استراحة الممرضات لالتقاط الأنفاس وأخذ قسط من الراحلة لمدة ساعة لمعاودة العمل مرة أخرى.
يظهر رئيس وزراء إيطاليا جوزيبي كونتي على شاشة التلفاز:
أيها المواطنون: انتهت حلول الأرض، لقد فقدنا السيطرة كلياً، الأمر متروك للسماء.
صلوا من أجل ايطاليا، القرار الصائب الآن هو البقاء في المنزل، مستقبل إيطاليا بين أيدينا ويجب أن تكون هذه الأيدي مسؤولة ً اليوم أكثرَ من أي وقت مضى وعلى الجميع أن يقوموا بأدوارهم.
ريبيكا: وهي تبكي بحرقة، الأمر جد خطير يا أمل وعلى الجميع الالتزام بالتعليمات التي حددتها منظمة الصحة العالمية ووزارة الصحة الإيطالية.
أمل: في لوعة لا تقل عن صديقتها، لا يجب أن تصل مشاعر الخوف والرعب إلى المرضى لأن الرعب والخوف صارا سَيِّدَيّ الموقف الآن، ولا أمل في شفاء من استسلم لهذين الوحشين.
ريبيكا: نعم فقد حظّر الأطباء منهما قائلين: إن عدوَ الإنسانِ الأولَ التوترُ والخوفُ ؛ فالتوتر والخوف حبل المشنقة الملتف على رقبتك فهو يجعل أجهزة المناعة ترتعش ولا تستطيع تنفيذ وظائفها.
أمل: مع الأسف فإن عدد حالات الإصابة بفيروس كورونا في ايطاليا يمثل التفشي الأكبر خارج الأراضي الصينية فَقَدْ خسر 475 شخصاً حياتهم في يوم واحد بل والأصعب من ذلك وفاة 10816 حالة على مستوى العالم في يوم واحد.
تنهمر دموع أمل متجهة ببصرها نحو السماء: أغثنا يا الله.
تدخل عليهما زميلتهما فيوليتا تكاد لا تحملها قدمها وهي على وشك الانهيار.
هل سمعتما عن تلك الفاجعة الجديدة؟
ريبيكا: ما وراءك يا فيوليتا؟ فإن المصائب لا تأتي فرادى.
فيوليتا: بعض المستشفيات أعلنت عن أنها قد تضطر إلى الاختيار بين من يتلقى العلاج أولا لإنقاذ حياته ومن يُحرم من ذلك بسبب ارتفاع عدد المصابين.
أمل: نعم فقد قرأت اليوم تصريحاً محزناً لفيرونا سالارولي، رئيس وحدة الرعاية المركزة في مستشفى في بيرغامو، الواقعة في المنطقة الشمالية من مدينة لومباردي، لصحيفة "كورييري ديلا سيرا: " إذا كان عمر الشخص بين 80 و 95 عاما ويعاني من ضيق تنفسي شديد، فمن غير المحتمل أن يحصل على العلاج.
ريبيكا: إنها النفعية والميكافيلية البشرية في أبشع صورها! فهم في ظنهم ما عاد لهم نفعٌ ولا فائدة.
فيوليتا: إنها كلمات بالغة الصعوبة، لكنها للأسف حقيقة، فلسنا في وضع يسمح لنا بتجربة ما يسمى معجزات.
أمل: يظل الأمل في الله يا فيوليتا فإن ربنا لا يعجز عن تدمير جرثومة لا ترى بعين مجردة على الإطلاق وهو الذي يسلطها على من يشاء ويصرفها عمن يشاء.
ريبيكا: للأسف الوضع يزداد سوءا يوما بعد يوم، لأننا قد وصلنا إلى الحدود الاستيعابية القصوى من حيث توفير أَسِرّةً للرعاية المركزة، وكذلك الأقسام العادية، لعلاج مرضى فيروس كورونا.
فيوليتا: إننا اليوم نواجه تسونامي" من المرضى، بعد أن أصبحت الأجهزة الطبية التي تعالج مشاكل التنفس ذات قيمة كبيرة.
أمل: مع الأسف بدأ الكثير من زملائنا في الانهيار والتساقط مثل أوراق الشجر في فصل الخريف.
فيوليتا وهي تبحث في الغرفة بعصبية عن زجاجات التعقيم: والأسوأ من ذلك أن بعض زملائنا أصابتهم العدوى بسبب مخالطة المصابين ومن ثم أصابوا أيضا أقاربهم، وبعض أقاربهم يعانون بالفعل وهم بين الحياة والموت.
فجأة تفزع ريبيكا من مقعدها وتتوجه بسؤالها لأمل: لقد انشغلنا بالحالات المرضية حتى نسيتِ أمر أخيك محمد ‘ أخبريني كيف انتهت به الأمور؟
أمل: بابتسامة ماكرة، ظننت أن أمره يهمك ولا يلهيك عنه ما نحن فيه لمدة أسبوع!
تحاول ريبيكا أن تخفي اهتمامها بنظرة جمعت بين اللهفة والعتاب.
ومَن منا لم تستغرقه الكارثة التي حلت بالبلاد؟
بنظرة حب وابتسامة حانية ترد أمل: صار له أسبوع في الحجر الصحي ويبقى له مثله وبعدها يعود للمنزل إن شاء الله مع توخي الحذر والالتزام بالتعليمات.
ريبيكا: وماذا عن أبيك؟
أمل: لا أخفي عليك أن أبي يمر بحالة حزن شديدة بسبب تغيبي عن البيت بسبب عملنا هنا في قسم العناية المركزة وحالة الطوارئ التي نمر بها، إضافة إلى وجود أخي بالحجر الصحي، لكن ما يزيد من أحزانه فعلا هو قرار منع إقامة صلاة الجمعة والجماعات في المساجد وهذا ما يجعله يتجرع ألماً وحزناً رغم علمه بخطورة الأمر ووجوب الالتزام بالتعليمات.
ريبيكا: وهي تحاول أن تنتزع المزيد عن أخبار محمد، وماذا عن حالة أخيك ومعنوياته؟
أمل: لعل حالته المعنوية العالية واقترابه كثيراً من ربه في تلك الفترة هو ما يخفف على أبي محنته وألمه.
تنتفض أمل من مقعدها وهي تمسك بيد صديقتها قائلة ً: لقد مرت الساعة سريعا وعلينا الآن أن نعود لنباشر عملنا ونعطي فرصة لغيرنا من زميلاتنا لأخذ قسط من الراحة.
ريبيكا: فعلاً، فلدينا الكثير والكثير من المهام الشاقة.


في إحدى الغرف التي امتلأت أَسِرَّتِها عن آخرها بالمرضى والعجائز المصابين بفيروس كورونا يقوم الأطباء والممرضات بمتابعة الحالات وبث الطمأنينة والأمل بين المرضى.
أحد المرضى ويُدعى فرانشيسكو يعلو صوته ساخطاً على مرضه: لماذا نحن تحديداً الذي أصابنا المرض؟ وما الذي اقترفناه من خطايا لنقع فريسة سهلة لهذا الوحش الكاسر؟
أمل: تحاول أن تخفي تضايقها من قول الرجل بابتسامتها المعهودة ثم تتجه نحوه لتهدئ من روعه: الآجال مقدرة ومهما احترزنا فسيصيبنا ما قدره الله علينا وعلينا أن نرضى بقضائه كي يلهمنا الصبر والقدرة على مواجهة الصعاب.
يأتي صوت خافت من إحدى العجائز وتُدعى أوتافيا: عليك أن تنصت إليها وأن تحافظ على الإيجابية والهدوء ؛ فلعل هذا يقوي من مناعتك ويمنحك القدرة على التعافي والشفاء.
يرد عليها فرانشيسكو ساخرا ً: وكأنك تريدين أن تقنعينا أننا من صنعنا فيروس كرونا وكنا سبباً في شقاء البشر.
أمل وقد أثارها كلام فرانشيسكو وأثار شجونها حتى بدت شاحبةً ً قد اعتصر نضارتها ذاك السؤال:
نعم سيدي فنحن من صنعنا الكورونا عندما شاهدنا صورةَ ذلك الطفل البريء الذي أعلن الشاطئُ شهادةَ وفاته حين غرقت عبارة ُالنجاةِ المتهالكة، وكأنما قدر لذلك الطفل اغتيال طفولته وشهدت اغتياله رمال الشاطئ الحزين.
أوتافيا: وقد علا نحيبها، صدقتي يا بنيتي.
أمل: نحن يا سيدي مَن صنعنا الكورونا عندما سمعنا أصواتَ سياراتِ الإسعافِ في مناطق الحروب ومناظر اللاجئين وأطفال اليمن بينما يلتهمهم وباء الكوليرا واحداً تلو الآخر ولم نقدم لهم يد العون والمساعدة.
نحن من صنعنا الكورونا عندما شاهدنا مناظر أطفال المجازر تحت الأنقاض وأدرنا ظهورنا للمرضى في مخيمات اللاجئين حيث ُلا ماءَ لا دواء ولا طبيبَ ولا هواءَ ولا غطاءَ.
أوتافيا: نعم بنيتي حتى مباريات كرة القدم التي يتابعها فرانشيسكو صارت بلا جماهير بعد أن زكمت الأنوف من التظاهرات العنصرية التي يمارسها البشر ضد البشر.
أمل: وقد انسابت دموعها رغماً عنها: نحن من صنعنا الكورونا يا سيدي لما أغمضنا أعيننا عن الحصار الذي تفرضه الدول على بعضها البعض وما تفرضه من عقوبات دون وجه حق،
لعللك لم يَرٌقْ لك طوابير اللاجئين على الحدود ينتظرون جوازات العبور عبر الحدود الظالمة التي صنعها بنو البشر.
ثم تخرج أمل من الغرفة وقد فقدت السيطرة على دموعها وأحزانها.
أوتافيا صارخة ً في وجه فرانشيسكو: هل علمت الآن كيف صنعنا الكورونا أيها المتعجرف أم تحتاج إلى المزيد؟
يشيح فرانشيسكو بوجهه عنها وقد بدت عليه أمارات الخجل والانسحاب داخل ذاته المتكبرة والتي صغرت كالذباب أمام كلمات أمل وانهارت أمام دموعها.

في غرفة العناية المركزة حيث ترقد الحالات الحرجة المصابة بفيروس كورونا.
تدخل ريبيكا مندفعة ً بعدما سمعت بإصابة إحدى الممرضات بالعدوي جراء اختلاطها بالمرضى أصحاب الحالات الحرجة.
تنفجر ريبيكا بالبكاء وتسقط على الأرض بعدما فشلت قدماها على حملها حين رأت صديقتها ورفيقة عمرها راقدة على أحد أسرة الحالات الحرجة.
يخرج صوتُ أمل ضعيفاً رقيقاً برقتها وابتسامتها التي ما كانت تفارق محياها يوماً ما.
أنا بخير صديقتي وكل قدر الله خير فلا تستسلمي للحزن والخوف حبيبتي.
ريبيكا: كما عاهدتك قوية ومتماسكة حبيبتي ولا زلنا نستلهم منك قوتنا وأملنا حتى وأنت في لحظات المرض والضعف.
أمل: اليوم المساجد بلا مصليين والكنائس بلا مصليين والمعابد أخليت من الناس والكعبة في سكون لا طواف ولا حراك وما عاد للبشرية من خلاص ٍ إلا بالعودة لربها والإذعان له.
تحاول ريبيكا أن تبدو متماسكة أمام صديقة عمرها والتي بدا نورها يخفت رويداً رويداً وقد وضعت إحدى قدميها نحو مشاعل النور ورحابة السماء.
أعلم أنك تشتاقين لمحادثة أبيك وأخيك لتطمئني عليهما، يمكنك الحديث إليهما عبر الهاتف لأن إدارة المستشفى - كما تعلمين - لا تسمح لأحدٍ من خارج الطاقم الطبي بمخالطة المرضى والمصابين.
تنظر أمل لصديقتها نظرة امتنان ورضا، حيث يأتيها صوت أبيها بهدوئه المعتاد الذي كساه الحزن وملامح الألم على ما آلت إليه حالة ابنته.
لعلك بخير يا زهرة عمري وحبيبتي.
أمل: أنا بخير يا أبي فلا تحزن ولا تتألم لتنل جزاءَ الصابرين.
يعلو نحيب الشيخ صلاح قائلاً: اللّهم ارفع عنّا البلاء وجنّبنا سوء القضاء وارزقنا العافية إنّك على كلّ شيء قدير.
يلتقط ُ محمد الهاتف من والده وقد سيطر عليه الحزن، ستعودين بخير يا أمل كما كنتِ، وتشرق شمسك البهية علينا ونستلهم منك معاني الصبر ومعالم الصمود.
أمل: سأظل معك يا محمد مهما حدث، فالأرواح لا يمكن أن تتفرق ولكن عليك أن تعلم أن لكل أجل كتاب.
يعلو نحيب محمد: أرجوك لا تجهدي نفسك في الحديث يا أمل حياتنا وإشراقاتها.
أمل: الأمل لا ينقطع ما دامت تسري فينا أنفاس الحياة ؛ و ما زال الأمل معقوداً في أن يعود العالم لرشده ويُعدل من مسار الرحلة 19 التي فشلت كل ُمطارات الأرض في احتوائها وما عاد لها غيرُ عنانِ السماء.
تمسك أمل بيد ريبيكا، عدني يا محمد عندما ترزق بابنة بعد زواجك من رفيقة عمري ريبيكا أن تسميها أمل كي أظل حاضرةً بينكم من جديد.
يرتفع عويل محمد وقد اختنقت منه معاني الكلمات، أعدك يا أغلى الناس.
أمل: وقد بلغ بها الجهد مبلغه وصار العرق يتصبب منها كأمطار السماء في يوم شتاء عاصف:
يا أبي أحب أن أسمع منك بشرى الله للصابرين على البلاء.
ينتحب الشيخ صلاح ويحاول أن يتماسك ليحقق لابنته مطلبها:
بنيتي، يقول الله عز وجل: يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك ----.
يختنق صوت والد أمل ويستسلم لعبراته فيأتيه صوت أمل ضعيفاً: أكمل يا أبي.
الشيخ صلاح: ، يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا -----.
أمل: لأتيتك بقرابها مغفرة.
ثم تسلم روحها لبارئها وقد علا صوت ريبيكا بالبكاء والنحيب منكبة ً على جسد أمل تقبله وتقبل يديها التي طالما كانت تحتضن يدها وتمنحها القوة والحنان صانعة ً من ألمها ومحنتها أملاً للآخرين.
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.