Sottoo3

Share to Social Media

دار الحطمة (الفصل الأول)
دار الحطمة
زياد فتحي


(الفصل الأول)
خيم الظلام على الطرقات، أصبح الجميع مسيرًا، بسبب تلك الشرائح التي زُرِعَت داخل أبدانهم، القليل جدًّا مَن حالفه الحظ وهرب من شرطة الأفكار ليكونوا أحرار الفكر، غير مزروعي الشرائح، أما البقية ساروا في غياهب لا وعيهم.
في تلك الآونة زالت فكرة الزواج التقليدي؛ مَن يرغب في الزواج سواء رجل أو امرأة عليه العيش مع شريك ثلاثي!
كيف هذا؟! تكوين أي أسرة لم يعد من شروطه رجل وامرأة فقط، يجوز زواج رجلين، ولن يمسهم أحد بنظرة كره، أما الإنجاب فمباح لهما تبني طفل، هكذا الحال لو امرأتان أرادتا الزواج؛ فالقانون الجديد الذي وضعته الشركة مَن يبغي الزواج من جنس غير جنسه عليه مشاركته لفرد مثليّ، حتى تصبح الأسرة طبيعية، سواء من رجلين وامرأة أو العكس صحيح.

عبر التاريخ خُيِلَ للناس نهاية الأرض وفناءها، لكنهم أبدًا لم يتوقعوها نجسة بهذا الشكل؟!
لكنها نهاية مخططة، لم تكن بعسيرة عليه.
***
من وراء حجاب حياتها استرقت النظر إلى الماضي، أمام صورة والدها، التي تتأملها كل يوم بعد استيقاظها، وأشعة الشمس مسلطة على الصورة من نافذة غرفتها، التي اتخمت بأغراض كثيرة، القليل منها ذو فائدة.
بحزن لم يُسمع وبحنين لم يُرَ فاضت عيناها بالدموع، موجهة نظرها نحو العصافير الموجودة بجانب أبيها، والتي دومًا كلما جاء بقفص عصافير تخرجهم سعيدة بحريتهم، صلعته مع رأسه الدائرية وعينيه برونزية اللون أهم ما ميّز شكله، بعيدًا عن ابتسامة لم تفارقه، ومقارنته الدائمة بالممثل القدير يحيى الفخراني.
باسط ذراعيه بجانب مكتبة غرفتها، يراها يوميًا في تلك الحالة ويشفق عليها، يود أن يخرجها من تلك العادة بأي طريقة، يتمنى لو يخفف وجوده عن كاهلها، نادت عليه باسم غريب، ولهذا الاسم قصة يطول شرحها، داعبت كلبها ولا زالت شاردة في صورة مَن كان لها العالم بمجراته.
تفحصت دبلة خطوبتها بتمعنٍ؛ لتذكرها معضلتها التي تجد حلولها قد تقطعت أواصرها، بيد مهزوزة وقرارات محفوظة مسكت نصلًا حادًا ومررته على رسغها، لكنها لم تضغط، ولم تملك الجراءة الكافية بَعد لتضغط على زناد تصفية حياتها.
فزعها رنين هاتفها لتحاول معاودة اِنتحارها في مرة قادمة، رقم مجهول يزعجها يوميًا ولا مجيب سوى الصمت، أجابت عليه وقررت أنها المرة الأخيرة قبل حظره:
- الحظر ليس شيئًا صعبًا لأقوم به، اختصر وتحدث لأنها الفرصة الأخيرة.
صوت أنفاس ثقيلة تكشط الصمت، زفرت بضيق:
- وقتك انتهى، شكرًا.
همّت بإنهاء المكالمة، لكن فاجأها صوتًا كهرب أوصالها وركزت انتباهها عليه:
- اشتقت إليكِ!
أجش الصوت، كان آخر مرة تكلم بها منذ أعوام، بتلافيف عقل تالفة جاهدت لتذكر مَن ذلك، وبعيون محدقة في الفراغ لم تجد دليلًا للتعرف عليه من كلمته تلك:
- مَن أنت؟!
أغلق الخط هو تلك المرة، ليشعل عود ثقاب ويرميه داخل جوف فضولها. توقف عقلها عن أي شيء، حاولت التفكير، وركّزت هدفها على تذكر تلك النبرة، لكن تداعت حصون تقصيها بلا فائدة.
انتفضت وعاودت تفكيرها بعد رنين هاتفها مرة أخرى، وبسرعة خُيّب ظنها في جهة المتصل، فلم يكن سوى خطيبها أواب:
- أريج، أحوالك؟
بذهن مشوش لا زال مشلولًا من المكالمة الفائتة:
- بأحسن حال. لماذا يبدو صوتك مرهقًا؟!
أفرغ شحنة أضغاث أحلامه بتنهيدة طويلة:
- الكوابيس التي تصيبني بالأرق من فترة ليس إلا.
تقضم أظافرها كعادتها المتوترة، اقتربت من المرآة البارزة بمنتصف مكتبتها، تنظر إلى حالتها المزرية ولا تعرف كيف يرى أواب في تلك الملامح أميرة حياته!
بحواجبها الكثيفة التي لا تحددهم إلا نادرًا برغم انتقادات بعض الفتيات لها، لكن ما ورثته عن أبيها درة حياتها لن تفرط فيه، عيناها برونزية اللون كعينين وجدتا في الصحراء، تلهث في الفضاء لتأتيك هي بوجهها النحيل البض ذي الثلاث شامات، واحدة بجانب حاجبها الأيسر واثنتان تفرقتا حول شفتاها المنحوتتان من شجر الصمغ؛ كلما شذبت قطعة لحاء تجدد الصمغ يقطر منها.
بلا مبالاة بما يمر به أواب أردفت:
- انقطعت عن أخذ الأدوية؟
بطبقات صوت مذبذبة عقّب:
- لا داعي له؛ أنتِ تعلمين أنه مجرد مسكن يهدئ شياطين أضغاثي لا أكثر.
مترنحة حول الغرفة لا يشغل بالها غير ذلك المتصل المجهول، ارتمت على فراشها مداعبة جسد غريب الكستنائي، جحظ بؤبؤ عيناها مستنتجة شيئًا ما، بينما أواب يتحدث عن تفاصيل كابوسه المعروفة لأريج، قاطعته سريعًا:
- أواب.. وهاب ما أخباره؟!
صمتَ برهة، يعلم سؤالها بغتة يثير دهشته، لكنه تناسى ظنونه؛ فمقاطعتها له دائمة الحدوث:
- كما تعرفين من بعد ما حدث وهو على نفس حالته، وللأسف لم يحدث أي تطور بعد.
سكنت عن الحديث ثم قالت عبارة ديباجية تعبر عن إنهاء المكالمة:
- هيا نجهز حتى لا نتأخر.
زفر بضيق كأنه يلعن اليوم الذي عمل فيه طيار ثم عدل نبرته:
- هيًّا، أحبك.
أغلقت مكالمتها كأنها لم تسمع كلمته الأخيرة، هي لا تحب إطلاق صافرات مشاعرها على الدوام، بل بين كل حين وآخر تخرج ومضات مشاعرها الجياشة.
لملمت شعرها الفاحم الطويل، ناظرة إلى النصل الحاد، مفكرة في إعادة اِنتحارها بوقت آخر، بعد معرفتها للمجهول الذي بعثر أيامها الرتيبة.
ثلاث دقات على الباب لأجلهم أجلت فكرة تغير ملابسها:
- تفضل.
لم تكن نبرتها الهادئة خارجيًا سوى ضجيج بما تكظم بها نفسها داخليًا. دخل زوج أمها بصحن، وضع فوقه كوب شاي بالحليب ومقرمشات، حدجته بنظرة اِزدراء، فمرات لا تعد على أصابع اليد الواحدة التي يقوم فيها بهذا الفعل، رافعة حاجبها الأيسر لا تحتمل ذبابة تمر بجانبها استفسرت:
- ليست عادتك.
أشيب الذقن، مصباحي الرأس، أفطس الأنف، ذو عينين ضيقتين، ملامح تراها عادية لا شاكلة عليها، لكن أريج رأتها ملامح لخنزير أو لخرتيت بري!
لا تبرهن من نفسك وتستنتج أن عرضها هتك تحت يديه، ما فعله كان أشنع، بإحدى زوايا الغرفة جلس على كرسي، ناكس رأسه، حالته لم تحرك لأريج قيد أنملة، بل زجته من غرفتها بشرار عينيها المتلاحق له:
- أريج من فضلك اجلسي.
بتلقائية أجابت:
- لا، وتفضل بطرح ما تريده حتى لا أتأخر عن عملي.
لم يلتفت لكلامها:
- عرفت اليوم أني عقيم ولا أنجب يا أريج! ولا علم لدي ابن مَن الذي في الخارج؟! لا أستطيع مواجهة أمك ولا أعرف طريق لمواجهة نفسي.
طبق فمه عن الحديث، ضحكات أريج الآن بما يتفوه به سالم زوج أمها غير مبررة، قطب حاجبيه، متسائلًا ما بها حتى يصل ضحكها إلى القهقهة!
لغة عينيها وجسدها أفصحا عن غلٍ دفين مجهول مصدره، بلدغة في الراء سببت لها تنمر الكثير وحب آخرين قالت:
- أعرف!
بذهول قال لها:
- كيف ذلك ومنذ متى تعرفين؟
ازدردت ريقها لتجمع قواها حتى تتحدث بشكل جدي:
- من فترة يا سالم، لكن الحرباءة للأسف هددتني بشيء لا يعنيك، ولذلك كتمت السر لوقت أنتَ بالتأكيد ستصحو فيه بمفردك وتعرف الحقيقة التي جعلتك عاري الشرف.
لن يحتمل كم الصفعات الـتي لُكم بها اليوم، أردف بلسان فقد طاقة التعبير:
- تعرفين مَن والده؟!
أجابته بتعجرف:
- أقسم لك بآيات الله إن كنت أعرف فلن أخبرك، اجعلها تحكِ لكَ، أم أنكما لا تتحدثان سويًّا عن كل شيء؟!
فتكت سبر غوره، نهشت روحه، خرج مذؤومًا مدحورًا، يحمل ضرائب الماضي فوق خطاياه وفساد مستقبله، لكن هل يدفع ثمن ماضيه وحده أم لرأس الأفعى دور في مشاركة ضرائبه الآن؟






ما أشد حيرتي بين ما أريد وما أستطيع.
(نجيب محفوظ).






تيبست تحت أنقاض أفكاري، متراكم فوقي حطام ثلاثة عقود، مروا بين الوهن والضعف، التمرد والقوة. بمرآة الحمام دققت في شكلي؛ عجوز برداء شاب، أسمر البشرة، أجعد الشعر، قامة لا يميزها الطول أو القصر، وقفت النظارة حاجزًا لإظهار جمالي، بينما كنت بأربع عيون منذ الرابعة الابتدائية، كما تنمروا عليَّ، حتى حين كنت أمسح نظارتي ويرون شكلي المختلف بعض الشيء دون نظارة كانوا يلعبون دور النسناس، ويسألونني بكل سماجة (ترى كم الآن؟).
تألمت لكنني تأقلمت، وللحقيقة دافع دومًا عني توأمي وهاب وفتاتي أريج.
قاطعت أمي سيل أفكاري قائلة:
- أواب ستتناول الإفطار هنا أم على القهوة؟
- لا يا أمي مع عم نوح.
أمي العامود الفولاذي المثبت عليه أساس المنزل، الهش بسبب تداعيات الماضي، ورثت عنها الأربع عيون، في الابتدائية حظيت بشعبية لا بأس بها، بسبب عمل أمي كمدرسة رياضيات بنفس المدرسة، مؤخرًا قد عتقت من التنمر لكن طيلة حياتي الدراسية لم أخل من التنمر.
اسم أمي بات مصدر أرق ينغص عليَّ بين الحين والآخر، كأن أحدهم يغرس شوكًا مدببًا في لحمي، فلا داعي لذكره، لكن قلائل مَن هنّ بهذا الاسم. لم يستطع أحد التنمر على اسم أمي أمام وهاب، كالعادة كانوا ينتظرون الفرصة التي أتواجد فيها بمفردي حتى يتكالبون علي متنمرين على نظارتي، على اسم أمي، اسم عائلتي الذي لا أحب أيضًا البوح به.
ضعف شخصيتي شكّل حيز فراغ بحياتي، أي أحد يستطيع الولوج لنفسي واختراق ماكينة ثقتي، لم يشدد عودي إلا بعد توثيق علاقتي بأريج، التي ناولتني راية النجاة، مجددة الأمل عندي، والذي بدأ يأخذ منحدرًا آخر بعد ما حدث في الفترة الأخيرة، وبسببه اشتعل الفتيل وغيرت المكاييل.
عم نوح وقهوة زغلول قصة عشق عتقت في دفتر الحياة، إن كان الخلود مستحيلًا فأجده صعبًا مع عم نوح، إن كان لأريج فضل عليَّ فلعم نوح الأفضلية الكبرى، أبي الروحي الذي اكتنف طفلًا ضعيفًا من كل النواحي، بثقته بنفسه شيد عم نوح عواميد وقناعات رُسخت بداخلي، جاعلة أواب الضعيف شخصًا لا يمت لنفسه القديمة بصلة، قد يلطخ يديه بالدماء لأجل الوصول لغايته، وقد كان.
مهيب البنية، داهي العقل كأسد بعقل ثعبان، لا زوجة له ولا أبناء أو حتى أقارب، كأن الطبيعة أنجبت نسله، كلماته كعينيه؛ رصينة مصوبة نحو أهدافها لا تهتز لها ريح، شعر كثيف أشيب كزبد البحر نمى عكس تيار الصلع، برزت التجاعيد على وجهه المستطيل، كشجرة معمرة لا يجتز لها فرعًا.
تأملت قليلًا في السيجارة قبل نفثها، متذكرًا والدي كيف نهاني عن تجربتها وكيف أُلْتُ إلى شربها بعد الطامة التي وقعت:
- تتوقع فناء العالم قريبًا بالأحداث الجارية يا عم نوح؟
ضامًا كفيه من صقيع يناير زفر:
- يا أواب تزوج أولًا وفكر في الساعة متى ستدق عقاربها.
امتلأت السماء بالغيوم، نفثت لفافة تبغي ولا أعلم كيف قد يُسمح بالرحلة في تلك الأجواء:
- لا أتخيل نفسي، أستيقظ وأجد نفسي جثة مطروحًا فوقها سقف بيتها، أو مفتتة بالنووي. أمام التلفاز رأينا حروبًا وبشرًا شتى تدك تحت الأرض، حتى الغرب ذاق من عشرة أعوام حروبًا أهلية لا حدود لها، أهمهم استيلاء روسيا على أوكرانيا والدول الكثيرة المجاورة لأكرانيا، أخشى أن أستيقظ على النهاية، أتمنى لو بإمكاني حرية قبض روحي في الثانية التي أحددها، حتى لا أشهد الأحداث الغابرة.
قابضًا على كوب الشاي بكلتا يديه، وبنظرات ثاقبة موجهة نحو الفراغ قال:
- مصر حيادية طوال زمانها، آخر ردود أفعالها تقف وراء العملاق المؤسس
الدب الروسي سيتحد العالم ضده، أما حلفاؤه فلا أعتقد لنجاتهم فرصة، لمصر الخيار؛ إما الوقوف وراء حليف الدب الروسي، أو تصبح عدوًا لأقوى دولة الآن ونجاتها قد تتأرجح مع جهة الولايات المتحدة.
تخطيت مرحلة الاندهاش مع عم نوح في أنه يتذكر ذلك العملاق المؤسس، وذلك الأنمي الدموي الذي أرغمني على مشاهدته معه.
الهام أن العالم على شفا اِندلاع حروب شتى، الأهلية والحربية منها، يبدو أن الأرض ملت من البشر ونهايتها من النفوس الأمارة بالسوء، فقط هي مسألة وقت.
تهدجت أنفاسي مترددة بأسئلة فك شفرة موريس أسهل منها:
- هل تعلم؟ أتمنى أن أصبح حرًا، لا أقيد بسبعين أو ثمانين عامًا أعيش كل عشرين منهم في هم مختلف؛ مرض، حزن، فراق، خذلان، خمسة منهم أو أدنى قد يندرجون ببند الفرحة، لماذا نحن هنا؟ جديًا لماذا لا يكون لدي حرية التحول إلى جن أو ملاك، حيوان أو طائر، لماذا سُلِبْنَا حرية الاختيار؟! شفق على الجبال تحمل الأمانة ليحملها الإنسان بضعفه ووهنه؟!
ثوانٍ وهشم رأسي بفلسفته التي يبدو إليَّ أنه توارثها عن فلاسفة اليونان:
- حرية؟ نحن مسيرون يا أواب، أنت حر لأن هناك صاحب إرادة فوقك، أنتَ مجرد أداة، أنتَ المؤدي للدور المرسوم لك من قبله، الحر هو المتمرد، تحية لإبليس ليس أنه عصى، بل لأنه عرف قيمته وتبع حريته، الشريحة التي زرعت بداخلك قريبًا قد تتحكم بك وتمحو وعيك حتى تجعلك إنسانًا آليًا، كل مهمته العيش في صمت، مسير تحت كنف شركة الأفكار!

ضحكت من جوفي على حال البشر الآن، وجميعهم مزروعي الشرائح، التي تتحكم تدريجيًا بهم، وبواسطة مَن؟! رأس الماعز اللعين، المطل على حياتنا ومتحكمًا بها، للحقيقة هو لم يكن مطلًا على نافذة عادية، بل على بوابة الفتنة، حتى يستولي على أفكارنا..



من أشد أنواع الظلم أن يلعب الظالم دور الضحية ويتهم المظلوم بأنه ظالم.
(ديفيد هيلبرت).
جلس أمام التلفاز، ميت خارجيًا، مشعث الشعر، الصمت ولا شيء سواه استولى على غرفته، منذ ثلاث سنوات بعد اليوم المشئوم ووهاب أخي على تلك السجية، متربع فوق كرسي متحرك لا يحرك ساكنًا، كثيرًا ما حاولت إيقاظه من أحلام يقظته التي وقع داخلها، كيوسف لما وقع في غيابت الجب لكني أواجه فشل ذريع.
ضخم كثور اعتزل مضمار السباقات من سنين كبيسة، متجمد كنصل حاد، صدئ، ينتظر الفرصة ليشهر سلاحه ويظهر فخه للمغفلين:
- ألن تتحدث يا وهاب؟ أعرف مقدار الفاجعة التي حدثت لكن بالصمت نعالج أمورنا؟! أعلم ما فعلته ليس بالهين لكن أنتَ مَن أشركته في مشاكلنا العويصة ليس أنا، أنتَ يا أخي مَن وقفت حاجزًا بيني وبين جنتي وادّعيت أنها جنتك. بلى يا وهاب، بلى، تعلم جيدًا هي ملكية مَن بنا، طيلة حياتك تعارضني في حيازة قلبها وتُملي أكاذيبك عليَّ، لكن لا يا رفيقي، الوالج والواصد لمفتاح عرشها أنا لا غيري، حتى لو كان أخي.
سكت برهة وابتعدت عنه مزدردًا ريقي، لا أعلم كيف تفوهت بهذا الحديث الآن غير مدرك لحالة أخي. عاينته فاختلجت ألم ونشوة؛ ألم على رؤية أخي مجرد من أي رفاهية، نشوة أنني أخيرًا انتصرت على ذلك الفيضان الجارف الذي كاد يغرق حياتي، بالتأكيد أنا مدرك أنني أتحدث عن أخي وتؤامي، لكنه أيضًا علتي التي لا دواء لها.
اقتربت منه متأملًا روحي الثانية التي تشاطرني أحاسيسها المتنافر أنا منها.
لملمتُ شعره، ربت على كتفه قبل أن أتوجه أمامه ناظرًا بحالته الدرنة، عينان تزداد ضيقًا فوق ضيقها، ذقن يجوبها حشرات طفيلية تكاثرت عند بويصلاتها، ملامح محفورة مني مع استبدال الاسم، تركته على حالته الرثة تلك وقررت تنظيفه بعد الرحلة.
أظافر وهاب النظيفة المقصوصة تركت ثغرة وباب تساؤل لن يبرح مهما توهم أي أحد أنه عادي وغير ملاحظ، لأنه أبدًا لم يتركهم ليتسخوا، رجحت أمي؛ تكون هي مَن قلمت أظافره، لكن إن حدث هذا لا أعرف كيف لم تنظفه كاملًا، نزحت باب التساؤلات خلفي وإن كان مواربًا.
***
أمام قبر أبيها زفرت لظى ماضيها، منبعج تفكيرها لا تعرف طريقة لِلَضْمِ قلب مُزِّقَت نبضاته، تُحيي ذكرى وفاة أبيها متذكرة كل لحظة وهي بكنفه، وكيف وعدها قبل وفاته بيوم رحلة خارج البلاد، ولكن الموت جاء بنصله وقطع بادر الحديث، قرأت الفاتحة ودَعت له، مترجية نفسها أن تكف هواجسها عن نهش روحها.
***
سالم الباخومي.. تفتت حياته أجزاء صعب تجميعها، جزء في زواجه من امرأة عشق طلتها عليه في إحدى النوادي الليلية بالقاهرة، لم يشغل باله أصلها ونسبها، أقدم على زواجها دون التحقق من هويتها، كل ما نهش كيانه الزواج منها ليس إلا، وبطبيعة سفره الكثير -لعمله في الخليج- لم يتردد في فض عذريتها تحت إطار شرعي.

الرفاهية حين تأتيك دون مقدمات تنقم عليها، نوال زوجة سالم لم تكترث للسيرك الذي أقامه؛ حيث رأته مجرد قرد يحاول تسلق جبل شاهق مهما حاول إرضاءها لن يكفي سد احتياجاتها.
لم تعرف أريج سبب محدد لنفور أمها من أبيها، لم تتفهم سبب لهفتها الشديدة في الزواج بعد وفاة والدها في حادثة غامضة الظروف. طرحت استفساراتها كمحققة شرطية مفادها نتائج مريبة لا تود أن تكون أحجيتها حقيقية.
مزّق سجل استنتاجها ضوء ساعتها الذي عكسته أشعة الشمس، ووجدت نفسها تأخرت على العمل، انتفضت مهرولة نحو الطريق، شتت فكرها بين أسرتها المفككة وبين وحدتها التي تدور حولها كبندول يائس، وبين خطيبها وأخيه، وكيف تربط ما حدث في الصباح به، لكن كل ما تعرفه أنه جليس صامت بعد وفاة أبيه المريبة!
قطع وابل أفكارها صمتًا مستفزًا، كأن الصوت لم يخلق، فقط حسيس تلتقطه من روحك أن جسدك تخلى عنك، وأنهار كأي مادة فيزيائية أخرى قابلة للفناء، رائحة الدماء، الاستسلام، تراخي العضلات معلنة عن نوم أشبه بنوم أهل الكهف، كل ذلك كان جديرًا لتدارك أريج أن بينها وبين ومضات الموت شعرة!
***
في حياة كل إنسان لحظة لا تعود الحياة بعدها كما كانت قبلها.
(أحمد خالد توفيق).
بين الخير والشر وسيط يدعى الرمادي، أظن أن حياة نوال سقطت داخل ذلك الثقب الرمادي؛ كانت قناعتها متزعزعة، تارة نحو الرمادي الفاتح وأخرى اتجاه الغامق، تلك المواجهة التي تحدث الآن لطالما تنبأت بوقوعها، لكنها تعمدت التناسي دائمًا على أمل نسيان القدر لأفعالها الشنعاء!
من عينيه الجاحظة وحركاته المتوترة كانت لغة جسد درويش مهيأة لفصل عنق براء ابن نوال الذي لم يتعدَ عامه الحادي عشر، تطاير لعاب درويش من شدقيه، ملوحًا بورق تحاليله:
- ابن الزنا ذلك مَن أبيه؟!
أساليب الدفاع عن النفس متعددة، ونوال تناولت أساليب عدة منها الإنكار، المواجهة، الغضب، ثم اليأس والمساومة.
تيقنت سبيل إلحاحها بالتوهم واِدعاء الظلم عليها ما هي إلا مماطلة وتأخير للوقت ليس إلا:
- نوال ليس بعد كل ذلك العمر امرأة مثلك تضحك عليَّ، ما فعلناه قديمًا وحللناه لن أدفع ضريبته الآن، أنتِ جذر شيطاني لم تنسَ أنها أتت من رحم نجس ونطفة من حرام، لم تستطيعي التعايش مع ذلك الواقع، وقررتِ تكرار تلك الخطيئة، ومع مَن؟ أنا! لا يا نوال لن أبلع فعلتك وأبررها كما فعلنا بالماضي، لعنة على حب ظننته حقيقي وبموجبه لوثت يديَّ بالدماء، وذلك لأجل مَن؟ عاهرة مثلك!
هي تعلم جيدًا أنه لا يفكر في شيء غير نحر رقبتها، مهما حاولت التملص منه، حتى وإن كانت على حق، لذلك رجحت أن الهروب هو الحل، وقبل فعلتها أيًا كانت قررت التفوه بكلماتها الأخيرة، بثبات انفعالي ظاهري، لعلها تكون المنجية:
- لم أتوقع الطعن فيَّ بذلك الشكل، لم يصل تفكيري إلى ذلك المنحدر، كنت أعتقد أن قصة حبنا قد تجعلنا نتخطى أي شيء، وقبل التخطي التفهم يا سالم، ذلك الولد صحيح ليس ابنك لكنه ابن الذي وارينا جثته تحت الثرى.
ضحك درويش ويبدو أن حديثها بالنسبة له هش لم يؤثر في قرارته:
- إذن لماذا نُسِبَ إليَّ؟! أكنتِ تعلمينِ قبل زواجنا أنني لا أنجب أم سرقتِ حيواناتي المنوية وفحصتيهم؟!
بلسان لُدغَ من عقرب صحراوي قالت:
- لم أكن أريد خيوط منسوجة منه، أردت طمسه هو وذريته ليس إلا، تعلم جيدًا أنني لم أحب غيرك ولن أشارك رحمي لغيرك.
على مرمى بصرها وجهَ نصله أمامها:
- كاذبة لو حديثك صحيح لكنتِ أنجبتِ بعد ذلك المسخ، موتك ليس النهاية، بل البداية لتهلكي تحت أسواط الزبانية.
قذف السكين نحوها بكل عزمه، صرخ براء، جاعلًا نوال تنتفض حتى تتلافى ضربته نحوها بأعجوبة، أدركت أن خلاصها وشيك بنهاية حتمية.
مزقت أحبالها الصوتية كاستغاثة أخيرة، قفز درويش عليها محطمًا عامودها الفقاري، كاتمًا صراخها النجس، وممررًا شريط حياتها أمام مقلتيها؛ لتتعرف على رقيبها العتيد الذي لن يتركها تعثو فسادًا في الأرض أكثر من ذلك، تتمنى لو يمهلها سالم شهيقًا واحدًا تزفره توبة عن خطايا الأمس، والتي بررتها دومًا بأنها لم تكن لها اليد العليا فيها؛ فإن ولدت ببيئة ثانية لتغيرت مقاليد حياتها.
لا رجاء في الندم على اللبن المسكوب، صعدت روحها للسموات السبع، استرق النظر لوجهها، فُطِرَ قلبه ثوانٍ، مسترجعًا ماضيه مع حبيبته الأولى، والتي لأجلها سفك الدماء ولم يخالجه الندم لحظة، عاش معها سنوات رغدة، ظن أن الله تناسى فعلتهما لكن كان لابد للطاولة أن تقلب فوق رؤوسهم.

***






الجحيم فارغ، كل الشياطين هنا.
(وليم شكسبير). 

- دم! جميعهم ماتوا وأنا الموجود فقط!
كانت تلك الكلمات الأخيرة التي أتلقاها من براء، بعدما هاتفت أخته مرات عديدة، ولم تجب، حاولت إيجاد مبررات، مثلًا أن تكون أريج قد نسيت هاتفها في أي مكان، لكن ما ينغص عليَّ أنها لم تفعلها من قبل، وما ذلك الهراء الذي يهذي به براء؟! حاولت التغاضي عن تلك المعمعة؛ فرحلتي إلى فلوريدا ليست باليسيرة.
داخل قمرة قيادة الطائرة حلقت، بين السحب الكثيفة في ذلك اليوم الذي لا أعرف كيف سمحوا فيه بالطيران! بعد عدد طويل من الساعات لم أقدرها، وبين المطبات الهوائية التي نجوت منها بمعجزة، اقتربت أخيرًا من مدينة فلوريدا، لكن ما أراه أمامي يجعل صعوبة المهمة تزداد أضعافًا.
بذلة كابتن الطيار صاحبة الأربعة شرائط على الأكتاف، العائد المادي المحترم، العلاقات الاجتماعية التي لا تحصى تجعل عمل الطيار فرصة تسنح للفرد مرة واحدة في حياته، لكن واحدًا بالمئة من خطورتها قد يقتلع حياتك من أساسها!
ارتجف بجانبي بهاء مساعدي، أمام تلك العاصفة التي تجلت بمواجهتنا، حاولت طمأنته رغم ارتعادي من السيناريو القادم؛ فنحن بصدد محيط مثلث برمودا، والذي لم أصدق البتة تلك الخرافات التي تنسب إليه، إنه منبع الشياطين ومكمن عرش إبليس والدجال.
كان باستطاعتي رؤية السماء من خلال الغيوم الكثيفة، مع العاصفة التي اقتربت منا، مُشَكِّلةَ خطوط امتدت إلى شقوق، لا أعلم ما العمل وما مقدور ما درسته لتحصيله الآن؟!
انحرفت البوصلة عكس عقارب الساعة، فقدت الاتصال ببرج المراقبة، لم أكن أدور حول نفسي كما تدعي البوصلة، بل من المفترض سيري للأمام، محاولًا التمسك بزمام الطائرة، شاهد بهاء في أول رحلة له كمساعد ما يحدث بعينين انتفضتا من الخوف وبعرق تصبب على جبينه، ردد بجوفه هل سأعود إلى موطني؟ إلى زوجتي وابني حديث الولادة؟ أم سأدفن مع حطام الطائرة وأكن نسيًا منسيًا؟!
لم أزدرد ريقي لحظة خروجي من تلك العاصفة بمطباتها الهوائية لأصعق بأخرى أظلمت ذلك الجو الغروبي، وضعت يدي فوق جيبي الأيمن من البنطال والذي أحمل بداخله مصحفًا صغيرًا -عادة أبي التي ورثتها منه- شددت عليه ورجوت ألا أبعث بجانب الصندوق الأسود للطائرة.
وسط الظلمة الحالكة إلا من إضاءة الطائرة التي تسطع على اِستحياء أمام ذلك الدجى، أرى ومضات رعدية، ومع كل مرة يسطع النور ويختفي كنت أرى العجاب؛ مرة رأيتني أواري جثة أبي تحت التراب، ومرة رأيت حشد من الجوعى ينهالون عليَّ بأسنانهم، وبالأخير رأيت وهاب يطأ أريج!
فأس شق تلافيف عقلي بصداع نصفي، إبر مدببة غرست في عينيَّ، لم أستطع مقاومة تلك الآلام، ولّيت قمرة القيادة لبهاء صارخًا من الألم الذي اجتاحني، استسلمت لمصيري، بعينين تساقطت جفونها نظرت لبهاء بنصف عين مستنتجًا قلة الحيلة من تصرفاته، تحاملت على نفسي متوليًا القيادة، ومتنفسًا بصعوبة، انقشعت الغيوم بشكل تدريجي، مشكّلة خطوطًا طولية مشقوقة مستوحاة من نفق مستطيلي.
طبول قرعت داخل رأسي، اقتحمني ألمًا لضم جرح غائر دون تخدير، أوشكت على اقتلاع فصي مخي، والتخلص من ذلك العذاب، لم يكن بمقدوري شيء الآن سوى الاستسلام لأي مصير محتوم عليَّ.
بآخر النفق شاهدت صورة حية أمامي يبدو أنها لمنطقة الأهرامات، التي يبدو أنها دكت وتساوت بالأرض، لمحت شخصًا من بعيد يقف بين الأطلال بصولجان ذهبي وملابس أظن أنها ترجع لعصر المصريين القدماء، لم أميز ملامحه جيدًا، وجدت نفسي أقترب من ذلك المشهد، كأن الطائرة تخترقها، نظرت لبهاء بجانبي وملامح الذعر انبلجت مني، لكنه تقريبًا، لا يرى ما أراه.
كلما اقتربت يتضح وجه ذلك الغامض بأسنانه التي لمعت من الابتسام، حاولت الانحراف عن مسار جهنم ذلك، لكن الطائرة أبت الرضوخ لأوامري وكأنها سُيّرت بأغلالٍ نحو هلاكي، صرخت مستغيثًا بالقدر ألا أنتشل إلى قدر سآكل من شجر زقومه.

***











كتب الشاعر فاروق جويدة عام 1982:
"لو خانت الدنيا وخان الناس وابتعد الصحاب؛ عيناك أرضًا لا تخون".
وبعدها بعام كتب:
"قلت يومًا إن في عينيك شيئًا لا يخون، يومها صدقت نفسي.
لم أكن أعرف شيئًا في سراديب العيون، كان في عينك شيئًا لا يخون، لستُ أدري كيف خان؟!".


أغرتني التفاصيل الصغيرة، لأسجن بين قضبانها، كالعمل، الحب، حتى نفسي، لا أحتمل لحظة وأظافري متسخة في عادة ورثتها عن أمي.
منذ وعيت لا ترى عيناي إلا دواخل الأشياء، على الرغم أن العكس ما يصدر من مرآة عابرين حياتي أو أي أحد لا يعرفني.
مَن أذابتني ورأيتها بكل تفصيلة صغيرة على الرغم من أعوامنا القليلة كانت هي لا أحد سواها، هي العملة النادرة التي دمغت صورتي عليها، ولم تكن تميمتي يومًا وحاميتي من الأرواح الشريرة
أريج.. صراع الطفولة والكهولة، هي شر لا بد منه، كأفعى وقع نصيبها فريسة لجمل مصاب بالهيام لتعالجه، فهي دوائي السام، ذاخرتها ثورة عارمة، إمكانياتها لظى بركان متأجج، ابتسامتها تسونامي، خصلات شعرها كفروع شجرة اجتزت من الجنة لأجلها.

هي الأرض التي لن تطأ قدماي عبق أريجها.
هي كل شيء أريده ولن أنعم به.
معرفتي لها قديمة وحبي لها أزلي.
***
داخل إحدى المدارس تكالبت مجموعة من الأطفال حول طفل يرتدي نظارة لا حول له ولا قوة، متنمرين عليه بصاحب الأربع عيون، جريت نحوه فتاة عرفت في فصله بالفتاة الشجاعة التي يلتفت نحوها الجميع لجراءتها وذكائها غير المعهود.
أبعدت عن أواب المطروح أرضًا الأطفال الجاثين فوقه، غير آبهين لصراخه، في تلك الحياة مَن لا يقدم يد العون لنفسه قليل ما يجد يدًا غريبة تمد له المساعدة.
صاحت كذبًا باسم أستاذ خالد ليأتي ويرى ذلك المشهد المتكرر كثيرًا في أوقات الفسحة، فروا عنه مبتعدين، بينما كُسِرَت إحدى عدستي نظارته، وقف باكيًا، محاولًا ترتيب ملابسه للملمة هيبة انفرط عقدها أمام أريج محبوبة أخيه.
بفلسفة طفلة صغيرة كل خبراتها في الحياة تأخذها من أبيها والمدرسة، رددت ما يمليه أبوها عليها دومًا:
- إن سمحنا يا أواب للحياة أن تصفعنا وتسلب منا رغباتنا فليس لوجودنا أي قيمة، قف في وجوههم وواجههم، حتى لا تقع في فخ أكاذيبهم.
لم يفهم أواب حينها لكنه حفظ كلماتها عن ظهر قلب، وكلما نهشته الحياة أملى كلماتها على نفسه.
مدت يدها له قائلة:
- اتفقنا؟
صافحها متأملًا عينيها التي تلألأت تحت أشعة الشمس، والساقطة على خصلات شعرها لتزيدها براءة وجمالًا، لا ينعم بهما باقي أقرانها.
ظهر ظل لهيكل متعارف عليه بينهما، التفتا فوجداه بهيئته المكتنزة نسبيًا، وهاب الذي صمت لحظات ناظرًا لأريج قبل أن تحدجه بنظرة استفسار وتقول:
- ألم تشعر بأواب كما يشعر التوأم ببعضهما البعض؟!
بنصف بابتسامة رد:
- ليست كل التوائم على حدة، إن لم أشعر به ما كنت أتيت.
بتلقائية أردفت:
- على كلٍّ هو انزلق فقط من على الدرج.
ترك أواب يدها ومعها ترك نبضات قلبه زائغة بين كفها، ومن حينها أقسم على فسخ اتفاقه مع أخيه، معترفًا لأريج عما يدور بجوف مخدعه.
***
من تلك القصة عمل أواب على نقض عهدنا وأن أريج ليست لي كما اتفقنا، الحب كالحرباء يلوّن أفعالنا، كلما تسلقنا درجاته نصل إلى مرحلة ضحلة قد نَقتُل لأجلها في سبيل الحب!
فسخ عقد أواب لوهاب جعل فتيل الحرب الباردة بينها يشتعل بلا نهاية محددة، بعدما أخبره الأخير بما يكنه من مشاعر نحوها، وأن أواب ليست لديه مشكلة، وأنه لا يفكر في تلك التفاهات، ليأتي اليوم ويخبر أخاه أنه يحبها مثله وعليه التنحي جانبًا!
مرت الأعوام وطفيل أواب يتسع والحرب الباردة فتيلها قارب على الانتهاء، وستصبح حرب أهلية لن يستطيع أحد إخماد ألسنتها.
تضاربا، تشاجرا، علّقا المكامن بكل الأرجاء، منتظرين وقوع أحد منهما، أما هي كانت تريد مَن؟
***
أغمضت عينيها البريئة وحلقت بخيالها، إنها ستقود الدراجة النارية يومًا وتأتي بأبيها ليركب معها كما يقودها الآن.
طفلة لم تتعدَّ العشرة أعوام طالما طنت على والدها كالدبابير ليصحبها معه على دراجته في يوم ترفيهي بعيدًا عن ضغوط المدرسة المملة:
- سعيدة يا أريج؟
بلمعة عينيها الساحرة وبفرحة جمة قالت:
- جدًا جدًا يا أبي.
بجانب الطريق استظلا تحت شجرة، جذورها تمتد إلى سلف آدم، شبك يديه خلف ظهره وبابتسامة عريضة رسمها على وجنته أردف:
- أغمضي عينيكِ يا سكاكير حياتي.
دبدبت قدميها على الأرض، الفرحة تطق من عينيها العسلية، في كل مرة يصحبها أبوها بنزهة كهذه يفاجئها بشيء مختلف، كان يتوقف من آن لآخر حتى لا تعتاد على ذلك فيصير شيئًا معتادًا باهت اللون، مذاقه غير مستساغ، لذلك كل فترة يغمر قلبها بهدية، ليس شرطًا أن تكون فخمة، فقط يكفي علمه أنها ستحبها:
- لا أتحمل الانتظار يا أبي، أرني ماذا يخبئ بطلي الخارق؟
ضحك بطلها الخارق على مديح ابنته الذي يتمنى ألا يزول قط.
تلألأ معدنها تماشيًا مع نبضات قلبها التي ضخت بلا عودة، والتي كفرحتها أبت أن تعاود بعد أبيها. أمسكت قلادة السلسلة التي نقش داخلها وردة فيروزية اللون، أحاطتها مادة زيتية أو جيلاتينية تحافظ على تلك الوردة بجوف القلادة، ارتدت السلسلة وقررت ألا تنزعها عن صدرها مهما صار ومهما تبدلت الأزمنة وتغيرت الأحوال، حتى إن قامت القيامة ستخرج الوردة كالفسيلة وتزرعها دون انتظار حصادها، والذي قطفت ثماره مع ارتدائها القلادة.
حانية بصرها على القلادة، لا تدرك كيف عرف أبوها أمنيتها وأحضر لها تلك السلسلة؟
تذكرت لما مرّا من أمام أحد متاجر الإكسسوار بالصدفة، وخطفها بريق السلسلة، هي لم تطلب الإتيان بها صراحةٌ، لكن بطلها الخارق فحص نظراتها ومسحها لينوي مفاجأتها وغمر قلبها بسعادة لن تزول من ذاكرتها، الاكتفاء الذاتي الذي صنعه أبوها بأبسط الأدوات لن يأتي أحد ويزايد عليه أبدًا.
رفعت رأسها وعجز لسانها عن الإفصاح بسعادتها، ارتمت عليه معانقة قلبه الكبير الذي لا يحوي بجوفه سوى أريج ابنته الوحيدة.
بينما جلسا يتسامران تحت الشجرة؛ تذكرت ما حدث معها في المدرسة لتقول:
- تتذكر يا أبي ذلك الولد الضعيف الذي أخبرتك عنه؟
قطب حاجبيه أثناء انفراده بشطيرة الجبنة، محاولًا عقله التذكر:
- أواب؟!
قضمت من التفاحة رادفة:
- نعم هو، ستتفاجأ من سكاكير حياتك ماذا فعلت معه اليوم؟
قرفص قدميه وولى دفة تركيزه نحوها، متحدثة عن واقعة التنمر التي وقعت مع أواب، وكيف مدت له يد العون وانتشلته من أيديهم.
بطفولة جاوزت البراءة بأطنان قالت:
- لكنني لا أتفهم سبب شعور وهاب بالمضايقة حين شاهدنا.
مط شفتاه ويبدو أنه تكهن السبب، حاول المراوغة من سؤال ابنته، لكنه أبدًا لم يأخذ أسئلتها على محمل الاستهزاء:
- يحتمل أن يكون تضايق أنكِ مَن ساعد أخيه وليس هو.
فكرت مداعبة خصلات شعرها لتزيح عن أبيها فكرة براءة الأطفال:
- أعتقد أن وهاب يحبني خاصة بعد آخر مرة لعبنا الغميضة فيها، لذلك شاط غيرة حين رآني أساعد أخيه، على الرغم من أنني كنت سأفعل ذلك مع أي شخص آخر.
ازدرد والدها ريقه من حديث ابنته، البالغ عن عمرها أعوام:
- تقصدين أنكِ فعلتِ ما أملاه عليكِ ضميرك اتجاه أي شخص آخر، لكن ذلك لا يمنع تذكيرك ما أبرمناه سلفًا اتجاه حب وهاب لكِ أو ما تشعرين أنتِ اتجاهه، الحب غاية كبيرة يا أريج، لتصلي إلى مرتبته لا بد للطمأنينة مع الشخص الآخر أن تكون غايتك.
ترك شطيرته وسحب من جيبه لفافة تبغ، تعلم جيدًا أنه لا يشعلها معها إلا إذا أغضبه شيء، وهي تعلم غضبه الطفيف الآن:
- ألا زلتما أنت وأمي غاضبين من بعضكما؟ أنا لا أعلم لماذا أراها تختلق المشاكل دومًا معي ومعك؟ كأنها لا تحب إحدانا!
ناكس رأسه في السيجارة ينفث أنفاسًا متلاحقة محاولًا النيكوتين تهدئته، ليرفع رأسه ويرسم ابتسامة على وجهه كمخفف بما تعجه نفسه من الداخل ليقول:
- هيا بنا نتمشى قليلًا يا عزيزتي ونرى ذلك الموضوع.
***
أريج بالنسبة إليَّ لعنة تراقصت بأقدارنا، وغيرت حياتي أنا وأخي رأسًا على عقب، لم يُرِدْ أحدنا ما حدث لوالدنا، جراء مَن يتفرد بها ويغتنمها، لذلك أدون ما زيفه.
***
ثلاثة، اثنان، واحد.. سأجدكم جميعًا لا تقلقوا.
التف وهاب وراءه، متفحصًا بعينيه الأماكن الممكنة التي قد يختبئ فيها أقرانه بلعبة الغميضة. قُسم فناء مدرستهم كساحة رخامية مربعة الجوانب وعلى كل جانب شجرة ثبتت جذورها في سابع أرض.
الكل يخشى وهاب بلعبة الغميضة؛ لأنه ينهي اللعبة في خمس دقائق على أقل تقدير، ليس لذكائه الخارق، بل لفطنته ومعرفته أين قد يختبئ أصدقاؤه جيدًا، جذب من الحمام فقط ثلاث من أصدقائه.

عرقل خطاه دومًا تلك الفتاة سريعة الخطى، قانون الغميضة خاصتهم أن يمسك أحدهم الآخر بعد أن يجده، لذلك نادى وهاب على توأمه بأن يخرج من داخل إحدى الأشجار، حيث هناك شجرة مجوفة للداخل بإمكان جسم صغير كأواب الاختباء داخلها، صاح وهاب بأنه على مقربة منه ومن الأفضل أن يخرج حتى لا يمسكه من تلابيبه كالفئران مثل كل مرة، بثقة عمياء مد يده للداخل دون النظر عن مَن يقبع في جوف الشجرة.
صرخ وابتعد خطوات عن الشجرة بسبب تلك الأسنان المدببة التي غرزت أنيابها في يديه، هو يعرف جيدًا لمَن تعود تلك الأسنان؛ إنها هي لا أحد غيرها. المفاجأة كانت غير متوقعة لوهاب، أن يجد أريج هي المختبئة داخل الشجرة، يعرف جيدًا أنها الأذكى بينهم، ومنافستها الأصعب، لذلك لم يتوقع أن يجدها في مكان أواب المعتاد.
لعن وهاب في داخله ذلك اليوم، وركض خلفها كجرو يحاول سباق فهد أسود، جسدها المرن ساعدها أن تكون العداءة الأولى بالمدرسة، لم يعد يقدر، أنفاسه أصبحت معدودة، يود التوقف لثوانٍ، حتى يلتقط أنفاسه التي أهدرتها أريج، وهي لا تكد ولا تمل، لاحظ بطء خطاها ورجح أنها تعبت، لفظ أنفاسه الأخيرة واستجمعها كمحاولة أخيرةترك الزمام لقدميه ليجد المباغتة تجلت في عين أريج، بعدما انقض عليها كالجاموس البري، لم يفكر في تبعات حركته، لم يتمكن من التحكم في مكابحه، سقط عليها بجانب الشجرة، لحسن حظها لم تتأذَّ، على الرغم من أنفاسه التي مزقت رئتاه شهيق وزفير، وعلى الرغم من عرقه الذي كساه، لكنه من بين كل ذلك وقعت نبضات قلبه السريعة في تلك العينين والشفاه التي تبوح عن ابتسامة، أميرات ديزني اقتبسوا من ضحكتها في رسومهم المتحركة، ثوانٍ معدودة كانت كافية ليعقد وهاب العزم على حب أريج. من بعيد ومن شرفة إحدى الفصولراقبهما أواب متصنعًا اللامبالاة، لكن لمعة عين أخيه وهاب اتجاه صديقتهم أريج حتمًا ليست نظرة عابرة.
***
أغلقت مذكرتي، طأطأت ظهري جيدًا، فمكوثي على الكرسي المتحرك كل تلك المدة جعل فقراتي تأن.
***
النهاية وشيكة وخيوط الحكاية انفرطت، بعد محاولة تماسكهم طوال تلك الأعوام، اختلست النظر لعقارب الساعة، تأملت مرور الثواني والدقائق، مرت الساعات والأعوام ولا أعرف فيما أفنيتهم، ستون حول بنيت فيهم كل شيء، وبآخر عشرة أعوام فقدت كل ما أملك.
أولهم نفسي التي فقدتها في آخر رحلة أحلقها، رحلة كانت القشة التي قضمت ظهر البعير، استقلت بعد نجاتي منها بمعجزة ولا داعي لذكر تفاصيلها، المعروفة إعلاميًا بحادثة الناجي الوحيد.
طيلة بلوغ أبنائي أواب ووهاب والعيون تلاحقهما، لله الحمد لم يتعرقلا كثيرًا في دراستهما، من صغر أناملهم وحبهما للسماء حقن في دمائهما، بسببي وبسبب كلامي الكثير عن مهنة الطيران، أحدهما أيقنت أنه سيبذل قصارى جهده ليحلق بين السحاب، والآخر رجحت مستقبله في شيء معقد لا ينغرس أي أحد فيه غير شخص يعشق التفاصيل كمهندس طيران، جهده في العمل كان بمثابة عبادة يؤجر عليها.
أخشى من لعنة الماضي التي أصابتني أن تطرح في أبنائي، لا أرى فيهم إلا أنا وأخي حين كنا نتشاجر مثلهما على فتاة، وبالنهاية فجع حاضرنا بمستقبل غرس فيه خطيئة لن يمحيها استغفار يونس في بطن الحوت، ذنبي أكبر من أن يغفر، مهما تعايشت معه، ومهما تقدم الزمن طاويًا صفحات ماضيه الغابر.
ثقل ينغص قلبي، أشعر كأنني أحمل صخرة زيوس لا مفر منها إلا على ظهري، أسمع صراخهم في وجه بعضهما كمعاد يومي لا يتأخران عنه، تأخذ أمهما قرص المنوم ولا صلة لها بما يحدث خارج غرفتها، وأنا في غرفة مكتبي أدون ما حدث في حياتي وما يصير كل يوم، لتصبح حياتي سجن صغير بين دفتر كتاب كبير، وأنا لا أمانع في ذلك، ولكن اِعتراضي على هؤلاء الهمج أبنائي الذين يتعاركون على فتاة لا أعتقد أنهما في تفكيرها، مللت من تلك المشاكل الصبيانية التي لم يعد عندي طاقة لها، لكنه الحب أعلم، اعتراضي على صياحهم؟
ذنب أمس يدفع اليوم للأسف، لا حجة لدي أدافع بها عن نفسي، الأمر متروك للقدر المكتوب والذي لا خلاص فيه.
زُج باب الغرفة، ارتمى أواب أرضًا متألمًا، عيون وهاب تطق غضبًا.
شهيق الموت أزفره في استسلام، أشعر أن رحلتي على تلك الأرض الدنسة انتهت، عاجزًا عن تقديم المزيد.
إمضاء: داوود السيد إبراهيم.
***

حانيًا رأسه في السيجارة، ينفث أنفاسًا متلاحقة، محاولًا النيكوتين تهدئته، رفع رأسه راسمًا لوحة مبتسمة على وجهه، كمخفف بما تعجه نفسه من الداخل:
- هيا بنا نتمشى قليلًا يا عزيزتي ونرى ذلك الموضوع.
مداعبة الشمس وجههم، يسير مع قرة عينيه، يفكر في زوجة كل تصرفاتها غريبة لا تدل أبدًا على ولع وجمال البدايات، كأنها تزوجته لماله فقط لا لحسبه ونسبه.
على مرمى بصرهما لمحا كلبان صغيران لم يتجاوز أحدهما الشهرين، يركضان خلف بعضهما البعض، متسابقين على كرة صغيرة، وقفا أمام أريج، الأول اسودت فروتة وابيضت من جوانب متفرقة منه، الآخر وقعت أريج في غرامه بلونه الكستنائي، وبعيونه الزرقاء كما موج البحر الاطلنطي الهادر.
بنفس يحمل هموم الدنيا جمعاء فوق كتفه، وبنظرة ثاقبة للشمس كأنه ينظر للمستقبل ما يخفي وراءه من صدمات قال:
- أوفى من جميع البشر بلا استثناء، على الأقل يهتم ويحب بمَن يحبه، يقدم له صدق في مشاعره قبل أي شيء، يراعي من قدم له حياته على طبق من ذهب.
أمسك لفافة تبغ أخرى، وكاد يشعلها لولا وقوف ابنته أمامه، وجذبها للسيجارة وتحطيمها أرضًا:
- ما بك كلما أتت سيرة أمي تعكر صفو مزاجك، أعلم أنها غريبة الأطوار وأن وجودك بجانبي يهون عليَّ وجودها فأنت أبي وأمي يا بطلي الخارق.
كصخرة معمرة في الأرض انفجرت فسقطت منها ماء يروي مسامتها، اغرورقت عيني درويش، عانق ابنته فلذة كبده التي لا يتخيل يوم دون رفقتها.
مسحت دموعه، واكتفى بمشاهدة الكلبان اللذان وجدا ضالتهما بجانبهما، ويبدو أنهما استأنسا بروح تلك الفتاة التي تستطيع غمر الكون حب لأجل سكون روحها مع روح أبيها.
نظرت أريج على الكلبين وابتسامة عريضة تجلت على وجنتيها، مسح أبوها على شعرها مؤكدًا لنفسه أنه قادر على حلب العصافير والإتيان بلبنها، لأجل عيون سكاكيره.
***
وجهت له ظهرها، محاولة النوم، تأفف منها الآخر، لم يعد يستطيع تحمل زوجة تبعد جسدها عنه بمبررات خاوية، لا الإرهاق دائم ولا ظروفها الشهرية دائمة، إنها لم تعد تريد ملامسته.
ما السبب؟ أيكون رجل آخر وراء تلك القصة؟!
زفر نفس ثقيل أتبعه قائلًا:
- نوال نحن في ثالث شهر ولم ألمسك، إلا مرات تعد على أصابع اليد الواحدة، ما بكِ؟
تصنعت نبرة النوم لتردف بكلمات مختصرة:
- درويش، نظفت المنزل كله اليوم ولا طاقة لي اليوم، غدًا الخميس سأجهز لك يوم لن تنساه أبدًا.
صمتَ درويش ولم يعقب، من كثرة أعذارها تأقلم، ازدرد مرارة حياته، مقررًا إنهاء هذه المسرحية الهزيلة، بطلاق تلك الحرباء.
سَمعت شخيره المعتاد، تسللت من فراشها متجهة إلى الباب، فتحته دون إصدار صريره، تسربت إلى الشرفة ممسكة هاتفها المحمول، هاتفت آخر رقم متصلة به.
لفح نسيم الفجر شعرها بخصلاته الكثيفة التي جذبت درويش كما الدراويش في المواليد.
بكلمات مقتضبة قالت للرقم:
- ننفذ غدًا، كفانا هكذا، لا أستطيع المقاومة أكثر من ذلك أرجوك.
أغلقت السكة دون اِنتظار رد، تنفست صاعدة إلى القمر الذي انسدل لظل وقفت وراءه الأسئلة المتصاعدة بجوف بركانها الخامد، هيأت الظروف البيئية والصناعية لنشاطه تارة ثانية، بطرف عينيها وبهدوء أفعى التفتت لصاحب الظل، لتجده عائدًا مع ابنتها أريج، كانت تتثاءب مداعبة شعرها الكثيف كما أمها:
- ما أيقظك يا أمي.
بلطف ماكر كالحرباء قالت:
- الحرارة يا روجتي ذهبت لأروي ظمأي والتمس نسائم الفجر الآن.
سكتت لحظات وقد أفاقت من أحلام يقظتها ملاحظة تغير نبرة أمها معها، هي لم تعتاد على معاملتها بلطف إلا بوجود شيء خاطئ في المصفوفة.
انتبهت إلى الهاتف التي تحمله أمها، هي لا تعرف الوقت الآن لكنها قدرت أنه متأخر على أن يتكلم أحد فيه، دعت تفكيرها يذهب لحاله فقد اعتادت على كل غريب من تلك السيدة.
توقفت نوال في أخر لحظة عن فكرة إخبار ابنتها ألا تسرد لأحد ما رأته، لكنها أدركت أنها قد تكبر الموضوع، وتجعله لا ينسى من مخيلتها ليس إلا.
بملابسها الفضفاضة التقطت النسمات الفجرية، زافرة هواءه غدًا، مع اليوم المرتقب الذي طال غيابه.
***
عقدَ قراره ولا رجعة فيه من اليوم أخرج ذمته ونيته من زوجته، لكنه انتظر لبعد رجوعه من سفره حتى يطلق الحرباء زوجته، ويتزوج أي امرأة ثانية تكون أنقى من تلك المتلونة.
***
فاجعة مأسوية تراها كغيرها من الحوادث لكن ما خفي كان أعظم.
الأنفاس تنسحب، الدماء تسيل بلا وقفة في بحر الغدر، النيران تشوي اللحم لتبرز عظام حاربت لأجل غيرها، والذي طعنها من ظهرها.
اليوم تتصارع الأرواح في حياتها التي سُلبت.
اليوم يظهر أن الشر ليس بالضرورة أن ينتصر عليه الخير، ولا بالضرورة أن ينقشع الشر، قد يختبئ وراء ستارة ناصعة البياض، ولا يتبين سواده القاني إلا بعد حين، أو قد لا ينكشف قط.
***
ينظر إلى جثة أخيه الكبير في حزن لا يعلم كيف ستسير حياته بعدما ماتت أسرته، جلس بجانبه حزين يشكو همه إلى خالقه ويسأله لماذا كل تلك الابتلاءات؟!
ما ذنبه حتى يدفع ضرائب كل يوم على تلك الأحداث، يا ليته مثل هؤلاء البشر السعداء بحياتهم -كما يراهم- ولا يبالون بمشاكلهم، حاول مواربة سوأة أخيه ودفنه، ليعيش من بعده مُنكبّ الوجه، جاسر الخطى لم يعد يهاب أحد.
زمجر على أنيابه للسيارة التي سطع كشافها أمامه، نبح بجسمه الهزيل، حيث لم يأكل من صباح اليوم.
نزل من السيارة المزعج الذي جاء بالجلبة لصديقنا الواقف، المستعد لأي عنف يحدث، تمعن النظر في ذلك الرجل، متذكرًا أنه رآه على مقربة من هنا مع ابنته منذ يومين تقريبًا.
تفحصه درويش مستكشفًا المكان، الذي اتضح بسبب كشافات سيارته، شاهد جثة الكلب الأسود، القاطرة منه الدماء.
حاول تهدئة روعه، لكنه كلما اقترب نبح مزمجرًا عليه، تذكر ما داخل السيارة من أكل، وانتبه إلى شريط المنوم الخاص به.
فتت نص المنوم ونثره على قطعة اللحم، عاود إليه ولا زال مستعدًا أن يقطعه إربًا إن لمسه ذلك المتطفل أو لمس جثة أخيه لينهشه.
وضع درويش اللحم أمامه تاركه عائدًا إلى سيارته، غطّ في نوم دفين، بعد مرور قرابة الساعة انتظره درويش، نزل من سيارته، تحسسه ووجده فقد وعيه، أخذه على السيارة، وأراحه بجانب مقعده.
أكمل مراسم دفن أخو الكلب، نسج في داخله مشاعر متضاربة، حيث جاء إلى هنا على أمل أخذ الإثنين، ليجد أحدهما مات!
هدئ روعه ورجح أن القدر أرسله اليوم إلى هنا لنجاة الكلب الكستنائي.
***
طرق الباب على فلذة كبده، دخل إلى غرفتها حاملًا الكلب معه، وقد أفاق تدريجيًا، اشرأبت عنقها من تحت الفراش، أدركت من رائحة الليمون أن أباها بعطره جاء، ابتسمت متثائبة قائلة:
- السفر ألغى يا أبي؟
شهقت من الفرحة، بعد تقديم أبيها لتلك المفاجأة السارة، وجهت تركيزها عليه وأمعنت متى وكيف آخر مرة شاهدت كلبًا بمثل تلك المواصفات؟!
العيون الزرقاء، اللون الكستنائي الفاتح؟
لما تذكرت نظرت إلى فارسها غير مستوعبة فعلته، أنزل الكلب، جرت أريج على أبيها، عانقها الأخير بحرارة، بينما هي لا زالت غير مصدقة ما حدث.
سالت دموع الفرحة على وجنتيها، مسحهم بطلها الخارق، مربتًا على كتفها، قائلًا لها:
- أظن أنني لم أترككِ دون وداع كما بالطبع ظننتِ.
بعد كم رهيب من العناق والقبلات أمسكت الكلب، الذي انزوى في ركن بالغرفة، ويبدو أنه استسلم لمصيره، على الأقل هو الآن بين جدران غرفة أهون له من حيتان الخارج.
ربتت أريج عليه مردفه:
- ما به يا أبي يبدو الحزن جليًا عليه.
قال درويش بكذب لم يعتاد عليه:
- كان نائمًا بعمق ويبدو أننا أزعجناه فقط.
سكتت برهة ثم رجعت وقالت:
- أين أخوه؟
أرشقته بالسهام من كل جانب، لم يعرف للهرب مفر، جمع قواه، وحاول ضبط نبرة صوته، مع ابتسامة خفيفة تضيف الصدق في كلامه:
- أعتقد أنه وجد مبتغاه في مكان أفضل، يستقر فيه، بعيدًا عن دنيانا القذرة.
سكن ثم رفع يده اليمنى فجأة ليقول:
- أغمضِ عينيكِ!
***
ثوانٍ مرت، ليجد الخط مشغولًا، استغرب، لكنه رجح أنها أيضًا تهاتفه، وبالفعل لم تمر دقيقة ووجدها تهاتفه، أغلق عليها وهاتفها هو، منتظرًا سماع صوت سكاكيره.
- معي الأستاذ درويش الباخومي؟
ضحك الأخير على كلام ابنته ليجيب:
- معكِ الأستاذ درويش ماذا تريدين؟
قفزت من على فراشها بحماس قائلة:
- أريد وعدًا بأنني سأسافر معك المرة المقبلة.
زفر بسعادة:
- لن تنالي وعدي إلا بعد عودتي ومعانقتك.
بتلقائية سريعة قالت:
- وأنا موافقة بلا شك.
***
وضع الهاتف في جيبه والسعادة لا تسعه، متخيلًا فرحة ابنته بما هو آتٍ، وسعادته أنه بعد عودته أخذ القرار طلاق زوجه البغيضة.
لم يمر ثلاث دقائق من آخر مرة هاتفت أريج أبيها، عاودت الكرة لتخبره أن غريبًا نائمًا بجانبها، ويتضح أنه ألفها وأحبها جدًا.
لم يجب درويش من أول ولا ثاني مرة، قلقت أريج، لكن خمنت أنه وصل المحطة وينتظر جلوسه داخل عربة القطار حتى يخبرها.
لكنها لم تعلم سر تلك النغصة التي طرأت عليها فجأة، نبضات قلبها ازدادت بشكل تلقائي، كأن مكروهًا وقع، لا تعلم سره لكنها تشعر به.
وسط الحطام والنيران خرج بأنفاس مكتومة، أدرك أن حياته على شفى الانتهاء، لم يود نهايته تُرسم بهذا الشكل، أماني وغايات كان يخطط لها ولم تمهله الحياة عيشها، تمنى فقط لو يعود من رحلته المشؤومة تلك ويعانق سكاكير حياته، لافظًا آخر أنفاسه بجانبها، تمنى لو ينتظره الموت لحظات يرى ابنته ويودعها من بعيد، تمنى كثيًرا لكنها الحياة، ظلمات فوق ظلمات.
مع رنين هاتفه ابتسمَ ابتسامة أخيرة ليجيب بصعوبة بلغت استحالتها السماء، ويسمع آخر كلمات من ابنته تطمئن عليه:
- أحبك يا أريج.
سقط الهاتف من بين يديه، وسلبت حياته على يد مجهول، -لعنه الله- في الأرض والسماء، لينهي علاقة أب بأبنته بتلك الطريقة.
قبل الانفجار تلقى الطريق -الخالي من السيارات- صدى مشغل الأغاني الخاص بالسيارة كلمات أم كلثوم:
فات الميعاد وبقينا بعاد.
والنار بقت دخان ورماد.
تفيد بأيه يا ندم؟
وتعمل إيه يا عتاب؟
طالت ليالي الألم واتفرقوا الأحباب.


يتبع...
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.