Horof

Share to Social Media

في لحظة ما انتهى عزمي، وانتهت قوتي التي بدأت بها كل شيء، كنت على استعداد أن أقف على الهاوية، وأسقط بلا رجعة، كم تدمرت. وإلى أي مدي صارت بيَ الحياة، فها هي تنثرني كرماد. سقطت دموعي الحارة، وأنا أقف على تلك الشرفة، أخطو كل خطوة تتبعها التي تليها عاقدة العزم على إنهاء حياتي، إنهاء ما صنعت يداي، الانتهاء مني قبل الانتهاء ممّا بدأت.
نظرت من الطابق السابع والعشرين إلى الأرض التي سيلتصق بها جسدي بعد ثوانِ، فمر شريط حياتي أمام عيناي في جزء من الثانية..
تذكرت..
تذكرت ما عشت من أجله طوال تلك السنوات وما أردت أن أكون عليه، تذكرت لحظاتي التي مرت. كانت عمراً لم أحظ فيه بمعني الحياة، تذكرت تلك الليلة التي صار بها ما صار، وتغير بها كل شيء، تلك الليلة التي تغيرت بها فريدة؛ لتصبح الأنا التي عليها اليوم. فما السبب؟
وما الذي حدث حتى ثرت. وماذا جرى حتى خبت، وماتت تلك الثورة بداخلي. هل سأتراجع؟
نعم.
بل بالفعل تراجعت.
تراجعت عن إنهاء حياتي، ولكني عقدت العزم على إنهاء ما بدأت .لن أستسلم، لن تخور قوايَ بعد الآن، مسحت دموعي بقوة، جددت مكياجي، وعدت أنا القوية التي اعتدتها، وضعت خطة للتخلص من آخر عقبة في طريقي، ربّما لم أفكر فيها من قبل، ولم أكن لأستغل أحداً للوصول لما أريد، ولكن ها أنا أفعل.
**
لقد عشت لفترة من الزمن لا أعرف لكم من الوقت بالتحديد، ولكني لم أعد أهتم، ليس لأني لا أهتم لذاتي، على العكس فأنا أهتم لنفسي وبنفسي فقط، ولا أهتم لسواي، ولكني تعبت من حسابات عمري الذي أصبح يمر دون فائدة تذكر، ولكن لأكون أكثر دقة فربما أنا على مشارف السابع عشر ربيعاً من العمر أي في السنة الأخيرة من سنين الثانوية العامة المصرية، والتي تحدد مصير شباب وشابات أنا واحدة من ضمنهم، و واحدة من ضمن الآلاف بل الملايين الذين يضعون الوقت ذريعة لقلة المذاكرة والاستذكار، ولكن ضع نفسك مكاني واحكم. هل أنا مستهترة بالفعل كما أحكم على نفسي دائماً!
أنا فتاة وحيدة بكل ما في الكلمة من معاني. توفيت أمي عند ولادتي، ولحق بها والدي في حادث سيارة أليم، قيل لي أنه كان يحاول الإسراع لرؤية طفلته الأولى، وهي أنا، ولكنه لم يستطع حتى أن يلقي نظرته الأولى عليَ، و رحل دون أن أشعر به أو بدفء أمي، العطف والحنان اللذان سمعت عنهما في القصص المدرسية، وفي أحاديث زملائي، لقد حرمت منذ الصغر من أبسط حقوقي، ولكنه قضاء الله وقدره، وعندما تعلمت عن الله والقضاء والقدر والنصيب لم أعد أعترض كثيراً، وحمدت الله وشكرته لعلهما الآن في جنته يسمعان ويران كل شيء عني، لذلك فقد سعيت طوال حياتي التي مضت في دراستي لأشرفهما وأرسم البسمة على وجهيهما، كنت طوال مراحل حياتي رغم فقري وقلة حيلتي الأولى بجدارة على كل زملاء صفي، فكنت محطة للسخط والحقد من الجميع؛ فابتعد الكل عني، وزادت وحدتي، و تركني أهلي فخلت حياتي سوى من رجل زعم أنه عم والدي، وأواني في منزله طوال الأعوام الماضية، في السنوات الأولى من عمري كانت هناك امرأة أراها باستمرار في منزله كانت تهتم بي، وترعاني وتحفظ أمري وتربيني، لم أعلم اسمها قط، ولم أنظر لملامحها لأحفظها يوماً، ولكنها اختفت في يوم من الأيام كما ظهرت، ولم أسأل عنها ذلك العم عندما جاء إليَ قائلاً أنني قد كبرت وأنني يجب أن أتحمل مسؤولية نفسي _كنت وقتها في السابعة من عمري_ لم أعترض على حديثه، وبدأت في البحث عن عمل لأقتات منه حيث أن ذلك العم بدأ بالظهور على حقيقته أمام عينيَ، التي لن ترى تلك الحقيقة من قبل، كما أنها لم ترها من سوء العالم، الذي يدور حولها بشيء ما، فكان أول سوء أراه، ولكنه لم يكن الأخير. كان عاطلاً عن العمل كل حياته خمر ونساء ولكني كنت أجتنبه لخوفي منه ولمعرفتي لحدود الله التي تعلمتها على يد أساتذتي في المدرسة، فأصبحت أنزوي عنه حين أراه حفاظاً على نفسي، وكي لا ينالني منه ضرر، فكنت أعود من العمل الذي كان عبارة عن الخدمة في بيوت بعض الأثرياء في قريتي منهكة من كثرة الأعمال التي لا تنضب، فأغلق على نفسي باب غرفتي من الداخل، وأوصده بالمفتاح لأستذكر بعض دروسي، ثم أنام على الكتاب لأستيقظ في اليوم التالي للذهاب إلى مدرستي، ومنها إلى العمل وهكذا كان يمر يومي، وفي نهاية كل أسبوع كانت تلقي إليَ ربة عملي بضع جنيهات بجانب فتات الطعام الذي كنت أقتاته هناك، ثُمَّ أرحل، لأعود في بداية أسبوع جديد، وأدور في نفس الدائرة، صرت أوفر بعض المال لمصاريف دراستي، والبعض الأخر للكتب التي أشتريها، وفي النهاية وإن تبقت بعض الملاليم أشتري بها طعاماً هذا وإن لم أحتاج إلى زيادة.
ثم مرت الأيام والسنين، مرت وكأنها دهور أسعي خلفها راكضة حتى أدمت قلبي، ولا شيء في المقابل. لا أنا أصل لما تمنيت، ولا الأيام تمر بسرعة، فهي في مرورها كالسلحفاة ثقيلة الظل على قلبي جاثمة عليه تأبى الانقشاع إلا بعد أن تقتلني، فها هي تقتلني ببطء، وها أنا قوايَ تخور، هددني عمي في يوم من الأيام بأنه بحاجة إلى المال، وأنني يجب أن أتخلي عن هذا التعليم الذي لا فائدة منه وكنت في لحظة ضعف مني سأنصاع إليه، ولكن أمي جاءت إليَ في حلمي، جاءت كطيف لن أرى ملامحه رغم أنني تمنيت أن أراها إلا أنني ولسنين طويلة أراها في منامي، ولا أري ملامحها أبداً، أخبرتني بألا أترك تعليمي، فهو سلاحي الوحيد الذي سأحارب به في المستقبل، كنت في قمة اليأس فأوصتني بالصبر والصلاة ففعلت فهدأ قلبي قليلاً، ثُمَّ عادت طاقتي لأبدأ في انهائها من جديد..
وصلت للمرحلة الثانوية وكل يوم تتراكم الدراسة فوق رأسي أكثر والأعمال لا تنتهي، فلا أنا أستطيع التخلص من تلك الأعمال ولا أستطيع التفرغ لدراستي، وفوق هذا وذاك عمي الذي كلما رأى وجهي، أسمعني كلامه الغاضب بوجهه الممتقع، ورأسه المثقل بتأثير الخمور، فها أنا أتحمله فقط للمأوى الذي أعيش فيه، حتى تأتيني الفرصة السانحة، لأرحل عنه دون رجعة، فهو ليس بشخص أحمل جميلَ فعله من أجلي فوق رأسي، فلا شيء مما فعله يعد جميلاً سوى أنه تركني أسكن في منزله، وليته تركني أنعم بسكناي، ربما فكر في يوم من الأيام أن يعتدي عليَ، ولكني أحبطت محاولاته بابتعادي عنه فحاول الاستفادة مني عن طريق المال ، فهو من الرجال الذين لا يعرفون امرأة، ولا طريقاً لها سوى لمصلحة، ومصلحة نوعيته من الرجال مركزة دائماً حول المال والشهوة ولا شيء سوى ذلك.
جاء يوم آخر عادي كباقي الأيام، استيقظت من نومي، وبدأت في استرجاع دروسي حيث السنة الأخيرة من المرحلة الثانوية لا ذهاب للمدرسة _كقانون فرضه الطلاب من أنفسهم وعلى أنفسهم_ فلاقى استحسان الأساتذة، حاولت استغلال وقتي في المذاكرة لعدة ساعات، ثُمَّ أذهب بعدها لعملي الذي بالانتظار، انقضت سويعات اليوم ببطء ممل ككل يوم انتهيت فيه من بعض المذاكرة، ومن الأعمال في المنزل الذي أعمل به منذ سنين مضت، بيت ابنة عمدة القرية التي لا أراها إلا عندما تعطيني طعاماً أو مالاً مقابل جهدي، وبقية الوقت لا تظهر أمامي، ولم تتحدث معي منذ اليوم الأول الذي أملت عليَ تعليماتها من ناحية العمل والنظافة التي تريد.
خرجت من ذاك المنزل بقدمين محملتين بالهموم والتعب، فلمحت بطرف عيني ابن العمدة شقيقها لربة عملي يقف أمام الباب الخلفي للمنزل فعدت للوراء عدة خطوات، سمعته وأخته يتحاوران بصوت خفيض، ولكني سمعته ورأيتهما بوضوح، و بينما كانت هي تنظر للداخل بترقب، وتعود لتنظر إليه مرة أخرى، سار هو أمامها ينتظر ردها عليه، لم تكن المرة الأولي التي أرى فيها هذا المشهد، وأسرح فيه أكوَن سيناريو، فيخرج من عقلي أفكاراً سينمائية رغم الملل الذي أصابني إلا أنه مازال يبدع ويروِح عن نفسه وعني، ما يحدث فأتصوره، وهو يطلب مالاً من أخته، لكي يستجديها والده، فيعطيه مالاً وهو في الأساس يأخذ تلك الأموال من والده وأخته ليعبث بها مع الفتيات في الملاهي، ويسرف منها على المخدرات التي ستفتك به يوماً، وأن أخته تحذره دوماً أنها ستخبر والدها إلا أنها في كل مرة تعطيه ما يريد دون علم زوجها، وتظل الأفكار تتزاحم وعيناي مركزة على وجهه الذي لن أنساه يوماً، كم أن وجهه مثير للتقزز.
عدت من زحمة أفكاري عندما دخلت في ذلك الطريق المظلم الذي أمر منه كل يوم، ذاك الطريق الذي تلتحم فيه ركبتاي ببعضهما، ويلتصق فيه قلبي بعظام ظهري، وتنكمش فيه أوردتي من تعاطي المخدرات وغيرها، من الذين يتخذون من ظلمته غطاءً لما يفعلون، حاولت عدة مرات أن أبحث عن طريق آخر يوصلني إلى المنزل دون هذا الطريق، فلم أجد، ولن أمر به كل يوم وأنا أبتلع ريقي بصعوبة حتى أعبره، فأتنفس الصعداء، وكأنني عدت إلى الحياة من جديد، ولكن اليوم لم أعلم لِمَ طالت المدة التي مشيت فيها في هذا الطريق، لم أعلم لِمَ طال أمامي فقطعت منتصفه في عمر حتى مضى، ثم توقفت إثر تلك اليد التي امتدت إليّ، فأمسكتني لتوقفني عن مساري، شهقت بصدمة، وتوقفت رغماً عني، لأبصر تلك الوجوه الثلاثة التي التفت حولي بانتشاء، تلك الوجوه التي حُفرت بقلبي وذاكرتي ولن يمحوها زمن، تلك الوجوه التي انتشت حتى الثمالة فسيطرت عليها غرائز حيوانية أرادت اشباعها بطرق الحيوانات، فوقفت قبالتي لتفرغ ما بداخلها في أي كائن أنثوي، مهما كان شكله أو سنه أو كنهه، فلا يهم سوى الوصول إلى ما يريدونه..
توسلت إليهم ليتركوني، فلهثوا متلذذين بتوسلي، بكيت بحرقة من ذاك الوجه الذي أعرفه جيداَ، إنه ابن العمدة الذي أراه دوماَ فأخبرته ببكاء لم ينقطع، وأنا أجثو تحت قدميه بأنني أعمل في منزل أخته، وتوسلت إليه بأن يتركني فركلني حتى سقطت أرضاَ على ظهري، وهو يصرخ في وجهي قائلاً "يعني خدامة" ..
لم أعلم ما الذي أصابني بعدها سوى أنني كنت على اقتناع تام بأنني على وشك الموت بيد هؤلاء الثلاثة، الذين لا يعرفون رحمة ولا دين، صرخت بكل ما أملك من قوة حتى يسمعني أحد، ليأتي لإنقاذي، ولكن لا أحد، حاولت المقاومة للهرب، ولكن قوتي لم تكفي لإبعادهم عني، فكبلوني وانهالوا عليّ ضربًا حتى فقدت الإحساس بجسدي، جردوني من ملابسي، واقتربوا مني بلعاب سال من أفواههم، حاولت ألا أشعر بما فعلوه بي، ولكني شعرت بكل ما حدث ،أغمضت عيناي، وأنا أصرخ كعادتي حينما أشعر بالخوف أو الهجوم حتى خارت قواي الجسدية تماماَ، فلم يتركوا لي ولو جزء أجر به نفسي لمنزلي لأواري نفسي عن الأعين، ولم يتركوا لي ولو قطعة قماش أستر بها عورتي، فانتهكوني ومارسوا معي أسوأ أنواع الرذيلة دون إرادة مني، فليتني مت بدلاً من أن أعود للحياة بهذا السوء، وكنت نسيا منسيا، ولكن قبل الموت فماذا سيكون الحكم عليَّ وعلى ثلاثتهم!
**
استيقظت في غرفة شبه مضيئة، لدقيقة أو لأكثر لم أستوعب ما يحدث حولي، ثم وبعدها تذكرت كل شيء حدث، وكل ما مر بي في لحظة تمنيت فيها الموت بدلاَ من ذلك الإحساس بالذل والغدر والتلوث والوحل الذي كفنني من رأسي، وحتى اخمص قدمي، تسائلت أنه ربما كان خطأي. ربما أنا المذنبة الوحيدة فيما حدث حيث أعطيتهم الفرصة. ولكن كيف!
كيف وهو الطريق الوحيد لمنزلي! كيف أغويتهم بفقري وشكلي الرث وثيابي البالية! كيف كان خطأي وأنا شكلي أقرب ما يكون للرجل من قلة اهتمامي به! كيف وقد بُليت أنوثتي كما بُليت ملابسي وملامحي، التي كنت أعتقد قديماً أنها جميلة، كما كان يقول الجميع فاختفت تحت أتربة الزمن، فلم يعد من جمالها الذي كنت أراه شيئاً!
بكيت ونظرت حولي حاولت أن أصرخ، ولكني منعت نفسي خوفاً مما ينتظرني بالخارج، وأنا لا أعلم أين أنا بالتحديد، وبهدوء رحتُ أفرك جسدي بيدي في بادئ الأمر، ثُمَّ رحتُ وبعنف أمزق دموعي، حتى كادت أوردتي تتمزق حين بكائي على حظي وحياتي، ولكن صوت الأقدام التي اقتربت من وراء ذاك الستار البالي الذي سترني خلفه في تلك الغرفة جعلني أنتفض وأتكوم حول نفسي، وأنا أتراجع نحو الحائط حتى التصقت به حين ظهرت أمامي صاحبة وقع القدمين، كانت امرأة سمينة البدن ملامحها حادة تنظر نحوي بجدية، و ربّما بعض الغضب اقتربت مني وقالت بلهجة استهزاء كانت واضحة لي أكثر من ملامحها التي كادت تختفي وسط شحوم وجهها.
_أخيراً فوقتي !
مسحت بقايا دموعي بظهر يدي، وأنا أنظر حولي لأتأكد أنني معها، وحدنا وأنه لا أحد سواها يسمعني، ثم سألتها بتوجس راجية منها بعض الرحمة لتبديها إليَّ
_أنا فين!
حاولت جاهدة إظهارحنقها مني لأبعد حد تستطيع الوصول إليه، ثًمَّ قالت بغيظ، وبالتأكيد أنه كان مني فلا أحد سوانا في المكان.
_في المستشفى ياختي من امبارح وانتي نايمة وتحاليلك طلعت انك مش بنت تلاقيكي كنتي ماشية على حل شعرك، ولا بتشتغلي ف بيوت غلط
بدأت دموعي تتساقط من وقع سياط حديثها فتحولت لهجتها للغضب، وهي تشير إليَّ بيدها:
_قومي يا بت يلا البوليس مستنيكي تحت قومي خليهم يطهروا البلد من اللي زيك
ثم اقتربت مني، وأمسكت معصمي بعنف، وبدأت تجرني لأخرج معها، هنا تنازلت مرة أخرى عن كبريائي، لأجثو تحت قدميها ببكاء، وأنا أرجوها أن ترحمني:
_أبوس ايدك متودنيش ليهم أنا معملتش حاجة غلط، والله هو ابن العمدة وأصحابه مش أنا أبوس ايدك صدقيني
وصلت لدرجة الانهيار فاقتربت من يدها لأقبلها وأنا أرجوها وهي فقط لم تستمع إليَّ، وإنما جرتني كالتي اعتادت على مثل تلك المواقف حتى أوصلتني لليد، التي واصلت سحبي حتى العربة التي ستقلني نحو الهلاك، حيث إنَّ ابن العمدة متورط في ذلك، و بالتأكيد قد صدرت الأوامر بدفني حية، حتى يُدفن سري معي، ولا يعلمه أحد، أما أنا فلم أتوقف عن البكاء والترجي وكل أنواع الاستجداء التي أعرفها فلم يستمع أحد، بعد دقائق توقفت بيَ العربة وترجل منها شخص ما سحبني نحو زنزانة أشبه بالقبر الذي تخيلته، وزجني بعنف داخلها، فسقطت على وجهي، أغلق الباب خلفه وأوصده من الخارج حين ركضت نحوه، وأخذت أصرخ بكل قوتي وأنا أضرب على الباب حتى يسمعني أي شخص فينقذني مما أنا فيه، لا أريد أن أموت أريد أن أحيا الحياة التي أردتها، وأريد أن أمحو ما حدث لي، ليحاسب ما فعل بي ذلك، وسأكتفي بالصمت بعدها لأعود لحياتي مرة أخرى، ولكن لا تقتلوني هنا، هناك الكثير مما أردت أن أفعله في حياتي، ولن أتنازل لتنتهي حياتي بهذا الشكل، فأخذت أصرخ دون هوادة حتى كادت تخور قواي، ولكني واصلت ما كنت أفعل، ونويت عدم التوقف حتى ينقذني أي أحد.
في لحظة ضعف مني ربما كانت ثانية أغمضت عيناي بتعب وانهاك من كثرة صراخي الذي بلا جدوى حتى الآن، وضربي على الباب الذي جعل معصمي يشتكي من ألمه، ولكني غصت في فراغ عقلي فوجدت قلبي يتمنى بأن أستيقظ لأجد نفسي في مكان آخر، ربما الابنة الوحيدة لتلك الأسرة الغنية أو ربما على أقل تقدير لأعود لحياتي السابقة، ولكن في لحظة قوة عدت إلى وعيي وعاد إليَّ عقلي بثبات فعلمت أنه لابد أن أظل كما أنا أواجه لأتعلم، يزداد الحقد والغل داخلي لتزداد معهما النقاط السوداء داخل قلبي، أريد أن أكره. أكره فقط. فلا مكان للحب في حياتي بعد الآن، وقبل أي شيء سأعثر على حقي لن أترك الذئاب الثرية لتأكل قوت تلك الغزالة البرية الضعيفة ثانية.
وقفت وقد استجمعت قوتي، وبدأت أصرخ بقوة بدلاً من الضعف والاستجداء اللذين استخدمتهما قبل ذلك، ولم يجديا نفعا فصرخت بتهديد.
_هاتولي حقى ..أنا هفضحكوا كلكوا هفضح العمدة الحقير اللي حابسني عشان مفضحش ابنه وابنه الجبان أنا هنتقم منكم كلكم
واستمريت على هذا الحال حين سمعت حركة في الخارج، توصلت إلى أن تهديدي قد بدأ يؤثر على ساجني، فربما ذهب إلى رب عمله وأخبره بحديثي، وتوصلا معاً إلى قرار ما لم أعرفه حتى تلك اللحظة، ولكني وجدت نفسي أكبل بأغلال، وأجر بعنف كبيعة رخيصة تنتظر مشتريها، دفعوني داخل نفس العربة التي أتت بي إلى هذا المكان حتى وصلت بي إلى مكان آخر في وقت قصير، سحبوني مجدداَ، لأخرج معهم بعيون ثابتة متحدية على شيء واحد وهو حقي اللعين الذي لا أعرف كيف ومتى سيأتي، ورغم أنني أعلم أن من يعيش بذلك المنزل الذي أجر نحوه أسهل ما قد يفعله هو أن يقتلني، أو أن يلقيني لكلابه لتنهشني حية، إلا أنني دلفت معهم داخل بيت العمدة الذي وجدته بانتظاري في هيبة تلقاها من كل الحضور، وجميعهم كانوا خدماً عنده، فلم أجد تلك المحكمة التي تخيلت أنها ستقام من أجلي، لأدافع فيها عن شرفي المنتهك ولا الجماهير الذين تخيلتهم وقفوا ليشهدوا بحسن أخلاقي، لأخرج مما حدث نقية مرة أخري، وكأنَّ شيئاً لم يحدث، ولكني وجدت نفسي وحدي أمامه جالساً بغرور لم يتحرك حيث رآني فرفعت أنا رأسي بكبرياء لأرد على غروره فضرب بعصاه على الأرض، فصمت الجمع ونظرت إليه بترقب حين قال بلهجة قضائية حازمة
_حكم القاضي توفيق الهواري على المتهمة بالرمي بالحجارة حتى الموت بتهمة الزنا وتحريض الشباب على الفحشاء
لم أستوعب حديثه لثوانٍ، من ذاك القاضي ولم حكم عليَّ دون أن يراني أو يسمعني ! حتى وقف ابتلعت غصة وقفت في حلقي، وبدأت في تخيل السيناريو الذي رسمه في ثانية واحدة، وأتخيل نفسي وأنا أرجم بالحجارة حتى اقترب مني، و لفحتني نيران أنفاسه فأكمل حديثه بدرامية، وكأنه يفعل جميلاً من أجلي بابتسامته الخبيثة التي لن أنساها ما حييت
_بس أنا قررت إني هعفو عنك
ورفع إصبعه السبابة في وجهي مشترطاَ:
_في مقابل انك تسيبي البلد خالص ومترجعيش هنا تاني أبداً
رفع حاجبه بتساؤل وأردف
_قلتي ايه!
بدأ حديثه يترتب في عقلي لقد حُملت ذنباً لم أفعله وفوق هذا وذاك سوف أعاقب عليه، لا لن أقبل، لن أموت.
لذلك وبدون تفكير لقد هززت رأسي موافقة على حديثه، دمعة فارة من عيني مسحتها بطرف معصمي المكبل، وبعيون ثابتة نظرت إليه، ومددت يدي نحوه:
_فكني ..
ولاني ظهره، وأشار لرجاله فاقترب واحد منهم مني وفك قيدي حين التف هو إليَّ مرة أخرى قائلاً بتحذير وعطف مصطنع:
_يلا يا بنتي امشي واوعى ترجعي هنا تاني
هززت رأسي مرة ثانية ولملمت شتات نفسي من بعثرة ثيابي، وفركت معصمي الذي آلمني من تلك القيود اللعينة، ثُمَّ نظرت إليه نظرة فارغة طويلة:
_حاضر
التفت ووليته ظهري، لم أعتقد أن الأمر سيكون بهذه السهولة، ولكن حقي سيأتي يوماً، ولن أتركه وإن كان ذاك القاضي قد حكم عليَّ زوراً، سأجد طريقاً لأحكم أنا عليه يوماً، ولكن بعدل ما حدث وبعدل ما قيل، وبعدل قلبي الذي لن يتغير حتى يحين وقته.
ذهبت إلى منزل عمي وطوال الطريق لن تخلو العيون من نظرات شماتة، وأخرى متقززة، وأنا أعرف الأسباب فقد انتشرت الاشاعات بأنني أنا الملوثة وهم الأنقياء الشرفاء. لم أعبأ. اتجهت حيث وجدته بانتظاري، وما إنْ رآني حتى اقترب مني ليلمس وجنتي، وهو ينظر إليّ بشهوة بعد أن سمع ما قد قيل، وعلم أنني سهلة المنال، فلم أحرك ساكناً فقط فكرت في عقاب سريع يهدئ من حال قلبي، و وجدته حين رأيت ذاك السكين الذي تمركز في منتصف الطاولة. هناك في انتظاري يمد نفسه نحوي ويترجاني بأن أحمله بين أناملي، فاقتربت منه ومن ورائي عمي الذي أخد يلهث ظناً منه بأني سأترك إليه نفسي، فالتقط ذلك السكين وما فعلته كان أسهل مما ظننت حيث استدرت إليه، وغرست السكين في عنقه، اصطدم بواقع ما فعلت، وبألمه في البداية تلوى وحاول جاهداً إنقاذ نفسه، فأخذ يضربني بكلتا يديه فلم يجد نفعاً إلا أن حركته ستعجل بموته فنظر مستجدياَ عطفي لإنقاذه، لكنه لم يحرك ساكناً داخلي، واستمرت محاولاته وكلمات الاستجداء تخرج متقطعة من بين شفتيه، وأنا أدس السكين أكثر في عنقه، ولم أتركها حتى خر صريعاً تحت قدميَ..
هندمت ملابسي البالية، ثم انحنيت وبصقت على وجهه، فلم يهمني مظهر الدماء المتبعثر في كل مكان، ولا عنقه الذي تخرج الدماء متسارعة منه، ثُمَّ مددت طرف ثوبي، ومسحت مكان أصابعي على السكين، ومسحت دمائه التي علقت على يدي في ملابسه، ثم صعدت إلى حجرتي بهدوء، ربّما قد جننت و إن كان هذا الجنون هو ما سيجعلني أعيش فسأفعل، وسأجن كما لم أفعل من قبل، مشيت كالمخدرة بدلت ملابسي ولم أصطحب أي شيء معي، فلا شيء يستحق أن يكون ذكرى أحملها معي من هذا المكان، لقد عدت فقط من أجل عمي الذي وجدت أنه من الأفضل التعامل معه الآن عوضاً عن لاحقاً، ثُمَّ رحلت، مشيت وعبرت الطرقات بعيون فارغة من كل المشاعر حتى خرجت من تلك القرية، كان الوقت قد اقترب من منتصف الليل فلم تكن العيون المترصدة لي بالكثيرة، نظرت ورائي فوجدتها صغيرة تلك القرية، صغيرة جداَ لدرجة أنها تجمعت بالكامل داخل عيوني، لكي أراها صورة كاملة بأهلها وعمدتها وكل من فيها، فاستحقرتها أكثر فأكثر ثم أقسمت أنه ويوماً ما سأعود من أجلكم جميعاً من أجل انتقامي، من أجل أن أرمم قلبي الذي انفلق إلى نصفين، ألقيت نظرتي الأخيرة، ورحلت وبداخلي بركان علمت أنه لن يهدأ بمقتلٍ واحد ولن يهدأ حتى آمره أنا بذلك، ولن آمره إلا حينما أريد..

0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.