في تلك الليلة هاجمَهُ الكابوس أو ما يسمى"الجاثوم" يُعَدُّ شلَلُ النوم مِن أشدِّ ما يمكن أن يعانيه المصابون باضطرابات النوم عمومًا، على الرغم مِن قلة حدوث هذا النوع مِن اضطراب النوم الحالم. فبالإضافةِ إلى الشلل التام الذي يصيب العضلات لدى أول لحظات الاستغراق في النوم أو الاستيقاظِ منه، ويمنع الشخص مِن الحركة والكلام، يُمكن للشخص أن يصاب بنوعٍ مِن الهلوسة البَصرية أو السمعية، فيرى أو يسمع ما ليس واقعًا في الحقيقة، مما يضاعف مِن شعوره بالخوف والتوتر. ويمكن أن يكون شللُ النوم نادِرَ الحدوث لدى البعض فيصاب الإنسان به مرةً واحدةً خلال حياته، أو يتكرر حدوثه في الليلة الواحدة، لدى البعض.
لا يدري هل هو في حالة سباتٍ أم يقظة، كل ماحدث أنه كان يدرك تمام الإدراك أن عينيه مفتوحتين على اتساعهما، وأن عقله يعمل ويدرك تمامًا وضع جسده وهو مستلقٍ على جانبه الأيمن، ورعدةٌ طاغيةٌ تجتاحه وتهز جسده، ورعبٌ تام مُسَيطر عليه، دون أي سبب للرعب، فهو لَم يشاهِد أيَّ وحوشٍ مفترسة تهاجمه، ولا أحدهم يريد قتله، ولَمْ يسقط مِن عَلِ، ولَمْ يبتلعه جُبٌ أو غرق في بحر، ولَمْ تصدمه سيارةٌ مسرعة أو تجسد له الموت في هيكله العظمي المخيف، ومع ذلك لَمْ يستطع تحريك أي جزء من جسده، لا قدم ولا يد ولا استطاع أن ينقلب على الجهة اليسرى حتى يَخرُج مِن هذا الوضع، بل والأدهى أنه قام من الفراش وخرج ليجلس على الأنترية في الصالة، و كعادته قد ترك زجاجة المياه الفارغة، وكوب القهوة الصباحية الفارغ الذي يشربه على امتداد اليوم كله، ومنفضة السجائر، وامتدت يده بحركة لا إرادية لتطيح بكل هذه الأشياء أرضًا، وعندها فقط استطاع أن يحرك جسده الذي مازال مُمددًا مكانه على جانبه الأيمن.
وعادةً في مثل هذه الأحوال، حتى لو لَمْ يَغْفُ سوى ثوانٍ قليلة يستيقظ وكأنه نامَ الساعات الطوال، ويظل ساهرًا حتى مطلع الفجر، في مثل هذه الأحوال؟ لا يوجد مايسمى في مثل هذه الأحوال، فالكون يتغير بشدة كل فيمتو ثانية، المجرات والكواكب والشموس والأقمار والذرات تتحرك وتتحول وتتبدل بسرعة هائلة، حتى لا يعود هناك ما يسمى في مثل هذه الأحوال، جسم الإنسان ونبضات القلب وحركة الدماغ الداخلية والدم والسوائل والأغشية المُخاطية تتبدل وتتحول تندفع وتنكمش وتتدفق، حياة الإنسان الإجتماعية وتراثة وتاريخه كل يوم مختلفة عن الأخرى، صحيح أن هناك خط ما يجمع كل تلك المتناقضات ولكن بداخلها صراعٌ وحركةٌ دائبةٌ لا تَكُفُّ ولا تَمَل، والتاريخ أبدًا لا يعيد نفسه.
وفي الليل تتضخم الخيبات وتنتفخ، وتغرق في التفاصيل الصغيرة التافهة التي عشتها وعانيتها ومَررت بها، وقد تقال كلمة عابرة أو تصرف غير مقصود من أحدهم أو إحداهن فيظل يدور في رأسك ويطن كالنحل، ماهو المقصود بهذا التصرف أو تلك الكلمة؟ ولِمَ قيل هذا اللفظ تحديدًا ولَمْ يُستَبدَل بغيره؟ هل هذا الشخص صديق فعلا أم أن هناك شيئًا ما خفيًا بداخله لا أستطيع إدراكه؟ فرويد أيضًا تحدث عن فلتات اللسان، وقال إنها بالتأكيد تخفي شيئًا ما وراءها تخرج بشكل عفوي أو غير مقصود لكنها تعبر عن خفايا معينة تجاه شخص ما أو حدث ما، فهل كان هذا الشخص يقصد ذلك؟ وماذا كانت تقصد زوجتي حين أشارت ذات مرة لمعنى الرجولة المتمثل في فلان؟ هل كان ذلك يعني إشارة خفيةً منها لاتهامي بعدم الرجولة؟ وحين سألتها بكل وضوح ابتسمت تلك الابتسامة الغامضة الغير مفهومة والتي تخفي أكثر مما تصرح بأن لا طبعا "أنت سيد الرجالة".
وهذه الفتاة التي رأيتها يومًا ما، وأنا على محطة الترام، ولفت نظري جمالها الصارخ، فاقتربت منها مُلقيًا عليها السلام، وفوجئت بها تصيح بأعلى صوتها ليتجمع الناس حولي متهمة إياي بالتحرش بها، فما كان مني إلا أن جريت وقصدت أول شارع جانبي للهرب، وعاهَدْتُ نفسي ألا أكرر المحاولة.
وحين مزَّق أبي كُراستي، التي كنت أحاول أن أكتب أول قصيدة لي بها، واتهمني بالكفر والفشل وتوعدني بحرماني من المصروف بل وبعدم الذهاب للمدرسة التي يضيع عليها نقوده لتعليمي، فأهمل دراستي واتجه لكتابة الشعر، وأنا مُطأطِئُ الرأس لا أستطيع أن أتفوَّه بكلمة، ولكني أغلي وأستشيط غضبًا من الداخل، وأجز على أسناني من الحنق والإحساس بالقسوة والظلم، وحين يخرج من غرفتي أنهال على كل كتبي الدراسية فأمزقها بأسناني وأشد في شعري بقوة، حتى تدخل أمي فتطيب بخاطري وتخبرني أنه يريد مصلحتي. وأقطع لنفسي الوعد بالاستمرار فيما أريد الاستمرار فيه، فهل كان ذلك هو ما يجب أن يكون؟ ألم يَكُن مِن الممكن أن أتصدَّى له وأمنعه من تمزيق كراستي؟ ألم يكن مِن الممكن وقتها أن أتهمه بالقسوة وسوء معاملتي وأواجه فظاظته بالمثل، ولكن لا، من المؤكد أنني لَمْ أكن أستطيع، ولا أجرؤ، فهو له قوة النفوذ والسيطرة التي تبث في قلبي الرعب، وعدم المقدرة حتى على رفع رأسي والنظر لعينيه.