المشهد الأخير
خالد ناجي
المشهد الأول
أنا الأن أشاهد البحر من شرفتي و الأمواج تعانق بعضها بعضًا، الشمس تقتنص لحظات السعادة الغامرة فيما بينهم، ربما تكشف عن أسرارهما الدفينة في المساء، بينما طيور النورس تأبى أن تغادر هذه البقعة لتعزف إحدى مقطوعتها الفريدة بلحن الحب.
إنتهت سجارتي دون اشعر و أنا أقبض عليها كفريسة بين أصابعي؛ لقد إجتذبني هذا المشهد الساحر مع روعة فنجان القهوة الذي تم إعداده بتفاصيلٍ من الحب، الأفضل من كل هذا هو شرودي مع أغنية (كلمات) للمغنية "ماجدة الرومي".. كم أعشقها هذه الأغنية، يمكنني الآن القول أنني إستعدت عافيتي النفسية و قوتي لكتابة رسالة أخرى لكِ؛ فأنا لم أراسلُكِ منذ ثلاثة أشهر على الأقل...
أنا أعلم المكان المناسب لكتابة تلك الرسالة..
الرسالة الأولى
الأسكندرية: على إحدى الصخور المطلة على شاطئ البحر
التاريخ: 13 مارس
الساعة: العاشرة صباحًا، بداية صباحٍ جديد
عزيزةُ قلبي (أ)
كتبت لكِ في صباح اليوم هذه الرسالة أصفُكِ بها مغازلاً إياكِ.. أنتِ كائن لطيف، لا يحمل ثقل ظل، و لا يترك بقعًا مهشمة في الذاكرة، أنتِ الحب كما يجب أن يكون، أنتِ الحنونة، الجميلة، فلا أحد في الكون يشبهكِ.. حتى لحظات السعادة تأتي لقلبي وقت حضورك، لا يمكنني أن أصفكِ ببضع الكلمات التي توضع في إحدى الكتب و يملؤها حبري البائس، و أعاود البحث عنها بين السطور
بل أنتِ حدثٌ جلل لا يأتي إلا كل مئتي و خمسون عامًا، و لا تأتي كسابقتها
أنتِ الذكرى في المعابد و الشوارع و المتاحف و كتب التاريخ، أما أنا ما لي تاريخ، أنتِ تاريخي، أنا الأن أكتب لكِ بعد أن فرقتنا الطرقات و أقتنص البعد منا الألفة لتتجدد بالوحدة و أنا لا أقوى على ذلك، فأنتِ كالأشجار لا تسقط أوراقها في الصيف رغم قسوة حرارتهٌ، رقيقة في الشتاء لا تقتلع الرياح جذورها رغم قوتها و في كلا الحالتين؛ تخرج أروع الثمار، أنتِ حالة لا تكتب بل أنتِ حياةٌ تُعاش في كل وقت و حين، لا تغادرني أبدًا، اليوم رأيتكِ أمامي و أنا أشاهد البحر بتفاصيله الهادئة بمزيج من الصخب و القلق، لتغمرني لحظات السعادة الخاطفة حينما أتذكركِ و نحن نتشاطر الحديث في عتمة الليل على أضواء الشموع الخافتة بغرفتي المعتمة، و ها أنتي تختلسين من ذهني شيئًا فجأةً ولم يفاجئنِ أبدًا ذهابي نحوها بكل عواطفي و ثوراتي، ذكرياتي الباقية التي لم تفارقنِ حتى الأن، أكتب لكِ و أنا العاشق على ضريح الموت، ثائرٌ بين سحابات الكون، لا أعترف بالنهايات..
ربما أستمدُ قوتي من معرفتي بأنه ليس هناك حدود لهذا الكون المطلق؛ فلا أنفردُ بنفسي؛ أحببتُ دومًا أن تشاركيني كل لحظاتِ حتى وإن كنت أكتبها لكِ الأن، يبدوا أنني سأكتب كثيرًا و لن تشاطريني الحديث.
هناك أحجيات يصعب فك طلاسمها ؛كلعبةٍ مُعطلة..
كزخات مطر في فصل الصيف، رُبما أسوء من ذلك..
لقد كلفني إشعال سجارتي الكثيرُ من أعواد الثقاب؛ رُبما هذا ما حدث في الصباح، كانت الرياحُ شديدة حتى تمكنت من الإمساك بشظيةٍ من اللهب المنطلق من رأس عود الثقاب إثر الإحتكاك المفتعل بإرادتي الكلية، بينما أجلسُ على مقعدي الخشبي المتأرجح مزدوج الأقدام كل قدم تأخذ نصف محيط الدائرة في شرفة الغرفة المطلة على شاطئ البحر، على يميني أربع أصائص للأزهار كل أصيصة تحمل زهرة بلونٍ مختلف لها قصة حبٍ جميلة؛ ربما لم يكتمل المشهد..
وقعت عيناي على هاتفي المحمول الذي أحمله عادةً دون تمعن باحاثًا عن شئٍ لا يمكنني القبض عليه، إلا أنه لفت إنتباهي رسالة ( رسالة نابوكوڤ إلى ڤيرا)، و بالأخص هذه الفقرة ...
"لست معتادًا على أن يفهمني أحد، لست معتادًا على هذا لدرجة أنني اعتقدت في الدقائق الأولى من لقائنا أن الأمر أشبه بمزحة. ثم هنالك أشياء
يصعب الحديث عنها، لكنكِ تستطيعين التخلص من كل طبقات الغبار فوقها بكلمة وحدة، أنتِ لطيفة.
نعم، أحتاجك، يا قصّتي الخياليّة، لأنك الشخص الوحيد الذي أستطيع التحدث معه عن ظل غيمة، عن أغنية فكرة، عن الوقت الذي ذهبت فيه للعمل ونظرتُ إلى زهرة عبّاد شمس، ونظرت إليّ، وابتسمت كل بذرة فيها.
أراكِ قريبًا يا متعتي الغريبة، يا ليلتي الهادئة. كيف بإمكاني أن أفسر لكِ سعادتي، سعادتي الرائعة الذهبيّة، وكيف أنني ملكٌ لكِ، بكل ذاكرتي، بكل قصائدي، بكل ثوراتي، وزوابعي الداخليّة؟ كيف بإمكاني أن أشرح لك أنني لا أستطيع كتابة كلمة واحدة دون أن أتخيّل طريقة نطقكِ لها، ولا أستطيع تذكر لحظة واحدة تافهة دون ندم لأننا لم نعشها معًا، سواءً كانت لحظةً خاصة، أو كانت لحظةً لغروب الشمس، أو لحظةً يلتوي فيها الطريق، هل تفهمين ما أقصد؟""
و كأنه يتحدث عني بشكلٍ مطلق ،و قد أجاز في التعبير عني بشكلٍ بارع لدرجة أنني أعدت قراءة الرسالة عدة مرات دون مللٍ أو شعورٍ بالضجر، إنها جددت بداخلي الكثيرُ من الروح الصدئة و كونت من جديد لتبني حياةً مزدهرة، لكن الحب كعادته لا يسكن قلبي.
و ها هي الأيام تُفقدني محبوبتي الأولى (أ) و أنتهى كل شئ مثل سقوط المطر تجففه شمس الصباح، هذا ما ظننته كعادتي، أواري سقوطي و أبحث عن منفذ لروحي فأستعيدها.
مضت أربعة أشهر على وعكتي الصحية التي أثرت في حالتي النفسية جعلتني لا أقوى على إنتشالها و الأن أصبحت شبه متعافي، السبب الرئيسي في الخروج من هذه الحالة هي عزيزتي (م) التي جعلت الحياة مختلفة مزهرة بألوان الحب و أناقة روحها، هي لا تخجل من أن تقتنص قبلاتي عنوة، لا تخجل من سقوطي المتكرر في الطريق، ترفض الخروج إلى الطرقات كي لا تكلفني أموالا و لو كانت قليلة، و تختار المتعة فيما بيننا بغرفتي المعتمة، في هذا الصباح و الساعة تقترب على الخامسة فجرًا و نحن لم نتقابل منذ أسبوعٍ مضى، إلا أن تفاصيلها محفورة بداخلي، ملتصقة معي.
ذهبت مسرعًا نحو الغرفة المجاورة كطائرٍ عائد للوطن باحثًا عن أدوات الكتابة، قلمي العتيق و أوراقي؛ ربما سأكتب رسالةٍ أخرى و أطلقها نحو قلبٍ ما ينتظر كلمةً مني..
هيئت المكان كليًا لأطلق الحبيبُ المشتاقُ لمحبوبته بداخلي..
أيقظتُ عودًا من البخور ليجذبني و هندمت الغرفة برائحة عطر الورد السويسري لأغوص في كلمات العشق, هنا تبدأ الرحلة مع الموسيقى التي زرعتها في قلبي من فيلم (Nowhere Nobody)..
لتبدأ الرحلة من هنا، رحلة العبور..
الرسالة الثانية
المكان: الأسكندرية- غرفتي المعتمة.
التاريخ: 24 مارس.
الساعة: رابعة و ثلاثة و خمسين دقيقة فجرًا.
صباح الخير..
عزيزتي (م) في البداية
أردت أن أشكركِ، نعم ،عادةً لا أهتم لأحد و لا أكترث لأحد، لكنني نظرت إليكِ فرأيت فيكي معنى الحب، رأيت في عينيكِ مستقبلاً يحملني إلى فوق النجمات، فالعمر يا سيدتي كالورقة ينتهي عند كلمةُ وداعاً، لا أريد أن أودعكِ فأنا لم أجدُ نفسي إلا فيكِ، أحببتك و لا أدري..
أتذكرين أول لقاءٍ لنا ....
منذ حينها و أنا لم أفقد الأمل في أن تكوني لي، حتى عندما نبتعد في كل مرة، كان هناك شيءٌ في داخلي يخبرني أني سأُحادثكِ مرةً أخرى..
أنتي لا تعلمين شيئاً عني، و لكني أعلم عنكِ الكثير، و هذا ما ظننته فأنت تعرفيني حق المعرفة،
كان لقاؤنا الأول بين نظرات متتابعة، لا نعرف بعضنا البعض بها و لكننا تحسسنا مشاعر داخلية، عبرت و عبرنا معها بصدفة اللقاء العابر، كنت متأكداً أن الصدفة ستجمعنا، و ها قد أتى الرد سريعاً، و كأن السكك الحديدية صنعت من أجل قطار الحب الذي أتى إلي مسرعاً، سأخبرك أن حياتي تعيسة، قد تجملت بعيناكي التي كانت تلمع بمرور الشمس أسفل جفنيكِ، إن الورود قد ذبلت خجلاً من جمالك يا وردتي المزهرة، و الأرض زاد إنعواجها إرتباكاً بقدومك، أتعلمين أنني أخشى خلع نظارتي الشمسية و أنا أنظر إليكِ، إن النظر إليك محض إنتحار في سبيل المتعة، بإختصارٍ شديد، إنكِ تتحكمين في مسار الكائنات ليبدوا كل شيء سخر لكِ، أردت أن أكون بجانبك في لقاؤنا الأول، أحتضنك و لكن أردت أن أؤجل متعة الوصل إليكِ، فأنتِ تستحقين البقاء، و يأتي الجميع مهرولين صوب هدوئك القاتل، أنتِ كطائر مهاجر يغادر الوطن في سرب، لا يلفت إنتباه ذلك الصياد الذي يتتبع مسار طيرانُكِ، و أنتِ تعشقين المغامرة فسرعان ما تُعاودين الرجوع إلى الوطن لتجدي ذلك الصياد متلهفٌ لصيدكِ و حين يقوم بذلك تتهاوين ارضًا كفريسةٍ سهلة، لا يعلمون أنكِ إستسلمتي لمللكِ من الحياة، فإن نظراتكِ الصامدة تخبره عن كم المعاناة التي مررتِ بها لتحصلين على العبور، لم يكن ليفكر أنكِ عبرت حقولاً و بلادًا كثيرة لتتركِ خلفكِ اشياء مقدسة و تعني لكِ الكثير لكنكِ عبرتِ من خلال قلبه فكان إيمانكِ هو العبور فقط، أنتِ تمضي بخفة لتخبريني لما أنت بائس، نظرتِ إلي و نظرتُ لكِ؛ فأخبرتني أن هذا الوجود زائل، لقد تعثرتُ ذات يوم و تركت غباراً خفيفًا هكذا هو أنتِ،
أنتِ لا تتركين بقايا أو أثارًا عالقة أمد الدهر، بل تتركِ أثرًا جميلا فقط، ولاتبقى في المكان الذي أقيم فيه طويلا حتى لا يعتاد نظري عليكِ، نعم لاحظت ذلك.
خطواتكِ لم تكن مثقولة على الارض، و الهواء يمر من خلالهما فتجعله نسيم خاطف، لا تمرري ضحايا خلفكِ كباقي البشر و لا تريدي شيئا، حتى مقعدعكِ تركته للأخرين لقد تخليتي عنه لتمضي بخفة نحو العبور مرة أخرى، أردت أن أكتب نهاية يبدوا أنها لا تليقُ بكِ؛ فالجميع يحب كتابة النهايات، أما أنا لا أحب أن أكتبها معكِ، فحبي لكِ لا نهاية له..
أحببتكِ يا عزيزتي....
يتبع...