الصمت حين ينبغي الكلام، والكلام حين ينبغي الصمت، إحساسه بأنه مُغفَّل، أفكاره غير أفعاله، مهما صمم على طريقةٍ معينة ينبغي عليه أن يسلكها في تصرفاته، ثم تأتي تصرفاته مغايره تمامًا لما فكَّر فيه، مهما كانت قوة الفكرة وتصميمه عليها، في أحيانٍ كثيرة كان يقرر إذا حدثت مشادة بينه وبين زوجته، أن يبادر إلى مصالحتها، يقبلها ويتحسس جسدها ويتطور الأمر للذهاب للفراش، أو أن يشتري لها هدية، أو يأخذها للنزهة في مكانها المفضل، ولكن يركبه العناد، ولا يقربها لفترات طويلة حتى تبادر هي بمصالحته، أو يحدث العكس يفكر ويعاهد نفسه ألا يقربها ولا يحدثها إلا إذا بادرت هي بمصالحته، ثم يحدث أن يسارع فورًا لتقبيلها واستعطافها واستسماحها حتى ترضى عنه.
وتُخرِجُ الذاكرة دائمًا مخزون الماضي بلا استئذان، فيتمثل نفسه صغيرًا مُجبرًا أن يذهب لجمعيات تحفيظ القرآن وكيف يهرب ويذهب للعب الكرة مع أقرانه، مراتٍ عِدَّة متكررة مِن الزَّوغان والهرب، مُعتقِدًا أن أحدًا لن يستطيع معرفة الأمر، وذهبَ أبوه ذاتَ يومٍ ليسأل عن تقدمه في الحفظ ومُداومتهِ على الحضور، وحين اكتشف الأمر ناله منه علقة ساخنة، صُفِعَ على الوجه ورُكِلَ بالأقدام حتى كادَ ذراعه أثناءها أن ينكسر من شدة ليّ أباه له، ولَمْ ينقذه مِن الأمر سوى تدخل أمه، يتذكر فيزداد حنقًا على والده، ويتألم من شعوره الشديد منه حتى بعد مُضي كل هذا الوقت، وحتى رغم أنه غادر الحياة، هل يكرهه حقًا؟ هل لازال يحمل له الضغينة والنفور؟ ويتمنى لو كان رَدَّ له مافعله به من ارتباكٍ وخلل في تكوينهِ النَّفسي وعجز عن تسيير حياته بالكيفية التي يريدها هو وليس كما أراد أبوه، هل حقًا مايحمله مِن تشوهاتٍ وما يشبه الانفصام في الشخصية سببه أبوه أم هكذا هي طبيعة البشر؟ الإنسان كائنٌ شديدُ التعقيد، مُتنافِر الطباع والمشاعر والأفكار، مجنون أحيانًا وعاقلٍ في أحيان أخرى، عاطفي وحادِّ الطباع في نفس الوقت، عصبي وهاديء معًا، صراعه دائمٌ بين عقله وقلبه، متقلب المزاج لا يستقر على حال، ضاحِكٌ في لحظاتٍ مقطب الجبين غالبًا، لا استقرار ولا قرار.
وأمه تلك التي لا حيلة لها أمام جبروت الأب، الصامته دائمًا رغم ما ينالُها مِن أذىً وإهانة وتقليل من شأنها أو رأيها، التي لا تَرى غيرَ ما يراه الأب، ولا تسمع إلا ما يقوله، ولا تفكر إلا بما يفكر فيه، أو هكذا يبدو، فكثيرًا ما لا تفكر من الأساس، لا أحد يدري ما يعتمل في عقلها، ولا قلبها، هل هي حقًا قنوعةٌ راضية بتلك الطريقة في الحياة؟ أم هي ساخطة ناقمة لكن لا حول لها ولا قوة، فتبتلع الحياة كيفما كانت وكفى، لا يوجد لديها بديل.
يُذَكِّرُهُ أباه بسي السيد في فيلم بين القصرين، فهو ذلك الشخص القاسي في معاملته داخل المنزل مع زوجه وأولاده، وهو ذلك الشخص العربيد زير النساء في الخارج، ولقد اكتشفت ذلك بالصدفة البحته، حين ركبت معه سيارته ذات مرة وركبت معنا إحدى زميلاته في العمل، وأخذت تقهقه بصوتٍ عالٍ وتتدلل عليه، وتمسك بيده وهو يضحك ويبادلها المداعبة ظنًا منه أنني لصغر سني لن أفهم ما يحدث، ثم أوصلني وأخذها إلى حيث لا أدري.
ولقد ورثت عنه تلك الطباع، فأنا في المنزل دائم التكشيرة، مقطب الجبين، لا أضحك إلا نادرًا وفي وجود الضيوف فقط، وحاولت أيضًا عدة مراتٍ أن أكون زير نساء، فرغم ضعفي كرجل، عرفت عدة نساء على زوجتي، ظنًا مني أن هذا القصور الجنسي تجاهها فقط، وفكرت وقتها أن أتعرف على غيرها لربما وجدت شيئًا آخر، لربما كان العيب فيها وليس فيَّ، هي حاولت جاهدة أن تحتملني، وكنا نأتي الأمر بطرق مختلفة حتى لا ينتهي بنا الأمر بسرعة غير مرغوب فيها ، لكم احتملتني تلك المرأة ولكم ظلمتها.
هل أشعر بالذنب الآن؟ هل أحاول أن أكون ذلك الملاك الذي يعترف بأخطائه ليكفر عن ذنبه؟ في الحقيقة أنني في مواقف كثيرة لَمْ أكن ذلك الشخص البريء الهاديء الذي يتجلى لي أثناء الاسترخاء في محاولة النوم، انفعل كثيرًا، وأردُّ بعصبيةٍ شديدة في كل المواجهات، في المدرسة
وفي المنزل، في الشارع الذي أسكن فيه وحتى في المواصلات، عندما يتحدث إليَّ شخص بطريقة لا تعجبني، تنفر الدماء في رأسي، وأجِدُ نفسي مندفعًا بشدة لمواجهة الجميع، لا أترك حديثًا يمر مرور العابرين، بَل أنفخ بعصبيةٍ وأثرثر وصوتي يعلو، للدفاع عن رأيي في مواجهة محدِّثي.
أنا كائنٌ عصبي، مزاجيٌ مُتَقلِّب، هل العصبية خير أم شر؟ هناك فرقٌ بين العصبية والتمرد، فالتمرد يغير الواقع، أما العصبية فتكسر الواقع، تحطمه، تُنَفِّر الجميع منك وتجعلهم يتحاشونك، "لا" هي الكلمة الدائمة على لساني، "لا" هي الرفض وفقط دون إبداء الأسباب أو إعطاء المبررات، الرفض لمجرد الرفض، الرفض لحياةٍ سابقة مليئةٍ بالإملاءات والأوامر والنواهي، "لا" في مواجهة اللاءات التي دمرت حياتي سابقًا، "لا" شريرة أم طيبة لا يهم، المهم ترديدها وتكرارها دائمًا، فهي تشعرني بلذةٍ عظيمة عندما أنطقها، لذة تشبه الأورجازم تجعلني أصر على استخدامها بكثرة.
الذكريات تتكاثف وتتدفق وتتداعى إلى ذهني فقط لحظة الدخول للفراش والاستعداد للنوم، ومهما كانت شدة الإرهاق والتعب أظل مستيقظًا الساعات الطوال في الاجترار، حتى موضوع الكتابة هذه التي بين أيديكم، أظل طوال النهار مشغولاً متحفزًا حتى لجملة قد تخطر على البال دون جدوى، وفقط حين الاستلقاء عند الفجر، تهاجمني الأفكار، فكرة ففكرة، فأقوم مسرعًا لخطِّها كي لا أنسى، أنتهي منها وأظل ساكنًا فارغ العقل، فأذهب للفراش فتهاجمني أجزاء أخرى فأنهض ثانية وهكذا دواليك وهَلُمَّ جرًا.