َة فِي هَذَا الْعَالِمَ، شِيءٌ صَغِيرُ فِي هَذَا الْفَرَاغ الْوَاسِع، تَمَرَّدْتُ عَلَى الْعَالِمِ ، و أَصْبَحَ لِي قَوَانِينُي الْخَاصَّةِ الَّتِي أَتْبِعُهَا ، فَنَبَذَنِي فَتَمَرَّدَتُ أَكْثَرُ ، بِصِفَةٍ عَامَّةَ لَمْ تَكِنْ قَوَانِينُي الْخَاصَّةِ أَكْثَرُ رَاحَة مَنْ قَوَانِينِهِ ، وَلَكُنْ التَّمَردُ نُوعَ مِنَ الشَّكْوَى بِدُونَ شَكْوَى، الشَّكْوَى بِدُونَ بُكَاءٍ، الْعَالِمَ لَا يَشْعُرُ بِي، فَالْأَزْهَار لَا تَتَفَتَّحَ مِنْ أَجَلِي ، وصرخاتِي لَا تَبْكِيَ السَّمَاءُ مِنْ أَجْلِهَا ، وَالْحَبُّ لَا يَعْتَرِفُ بِي ، كُلُّ شَيْء يَدْعُو لِلتَّمَرُّدِ فِي هَذَا الْعَالِمَ، حِينَ أَنْجَبَتْنِي أُمي أَخَبَرَتْنِي أَنّهَا لَمْ تَكُنْ تُرِيدُنَّي بِقِدْرِ مَنِ الْجَمَالَ ؛ لِأَنَّ الْجَمَالُ يَضَيعُ فِي هَذَا الْعَالِمَ ، أَنَا لَسْتُ صُوفِيَّا أَتَبْرَأُ مِنَ الْعَالِمِ وَأَتَمَسَّكُ بِاللَّهِ ، فَقَطُّ كُلُّ مَا فِي الْأَمْر أَنَا لَا أَعْرِفْ سِوَى اللَّه وَجَمِيعَ مَا سَواهُ بَاطِلٌ .
ولِدْتُ لِعَائِلَةٍ فَقِيرَة فِي الْحَادِي وَالْعُشُرَيْنِ مِنْ كولين ، لَحْظَةَ ولادتي اِحْتَضَنَتْنِي أُمِّي وَهَمَسَتْ إحْدَى الْجَالِسَاتِ يا لَهُ مِنْ طِفْلٍ مِسْكِين ، فَسَخِرْتْ إحداهن لَدَى أَبِيهِ خَمْسُونَ ألْف درهِمْ وَطِفْلِ مِسْكِينٍ، عمتي أَخَبِرْتِنِي بِهَذَا الْحَديثَ كَثِيرًا.
وَفِي الْوَاقِعِ أَظُنُ أنَّنِي طِفْلٌ مَنْكُوب مُنْذُ ولادتي، أَبِي كَانَ يَعْمَلُ لَدَى رَئِيسِ الْبَلَدَةِ خَادِمًا، وَ كَانَ يَحْمِلُ أمْولًا يُوَصِلهَا مِنْ تَاجِرٍ فِي قَرِيةِ مُجَاوِرِهِ إِلَى رَئِيسِ الْبَلَدَةِ ، سطا عَلَيهِ الْلصوص وَسَلَبُوا الْمَالَ مِنهُ، اِتَّهَمَهُ الْقَاضِي بِالْاِشْتِرَاكِ وَالْمُراوَغَةِ مَعَ اللُّصُوصِ وَلَمْ يَحْكُمُوا عَلَيهِ ، قُتِلَ أَثْنَاءَ الْمُحَاكَمَاتِ فِي عِرَاكِ دَاخِلِ مِحْبَسِهِ ، حَادِثَةِ قِتْلِهِ بَعْدَ قَدُومِي بِشَهْرَيْنِ .
تَزوجَتْ أمَي بِرَجُلِ مِنْ بَلَدَةٍ بَعيدَه ، فَأُسْقِطُ عَنهَا لقب زَوْجَةُ السَّارِقِ ، وَاِحْتَفَظْتُ بِهِ مُنْفَرِدًا ، كَبِرْتُ بِبَيْتِ عمتي السيدة نَعْمَات ، السيدة كَانَتْ تَضَعَ السَّمَّ فِي الْمَاءِ فَوْقَ سَطْحِ مَنْزِلِنَا، عَلَلَتْلِي ذَلِكَ بِأَنَّ الْعَصَافِيرَ تَزْعَجُهَا حِينَ تُغَردٍ ، كَانَتْ سَيِّدَه سَيِّئَةُ الطَّبْعِ ، وَمَعَ هَذَا لَمْ تُؤَذنِي يَوْمًا سِوَى أَنّهَا حِينَ تَغَضَبْ ( وَهَذَا هُوَ الشُّعُورُ الدَّائِمُ لَدَيهَا )
- أَتُدْرِيَ يا صَفْوَانُ أَنَا أَخَافَ مِنكَ كَثِيرًا ، قَدُومُكَ اُخْرُجْ أبويكَ مِنَ الْقَرْيَةِ ثُمَّ تَضْحَكُ حَتَّى تُكَادُ عَيْنَاهَا أنْ تَخْرُجَ مِنْ وَجْهِهَا .
***
كُنْتُ أَلْتَقِي بِأُمِّي عِدَّةُ مَرَّاتٍ خِلَالَ الْعَام أَخَبِرْتِنِي بِأَنَّ أَبِي لَمْ يَكُنْ سَارِقًا، وَعَدَم إِمْكَانِيةُ إِثْبَات برائته لَا يَدِيَنُهُ ، فَعُدِمَ مَعْرِفَتُنَا لِلْأَشْيَاءِ لَا تَنْفِيَ حُدوثُهَا ، وَأَنَّ اِنْبِعَاث الْفَجْرِ لَا يَعْنِيَ زَوَال الظلاَمِ ، ثُمَّ إنّهَا أَقْسَمَتْ بِبَرَاءةِ أَبِي لِي ، وَتَمَنَتْ لَوْ رَأَيْتُهُ حَيْثُ أَنَّ عَيْنَاهُ تُكَادُ أَنْ تَنَطُّق بِشُرَّفِهِ ، مِنَ الْمَخْزِي بالنسبة لِي أَنَّ الْجَمِيعَ لَمْ يرَ عَينَ أَبِي صَفْوَان الصَّادِقَتَينِ ؛ حَيْثُ أَنّهُمْ لِقَبُّونِي بِاِبْنُ السَّارِقِ .
تَرَكْتُ عمتي فِي سِنِّ الثَّامِنَةِ عَشَر ، لَمْ يَسْمَحْ لِي أحَدٌ بِالْعَمَلِ مَعهُ خَوفُهُم أَنّي أَرِثْ فِعْلَةَ أَبِي ، حَاوَلَتُ تَحْذِيرَهُمْ وَلَكِنْ دُونَ جَدْوَى ، حَتَّى أنَّنِي اضَّرَرتُ لِأَنْ أَسْرَق ؛ حَتَّى أَثَبِتُ لَهُمْ أنَّنِي لَمْ أَكُنْ سَارِقًا ، فَأَصْبَحْتُ أَسَرِقُ الطّعَامَ وَالْمَالَ وَ كُلُّ شَيْءٍ ، لَمْ أَكُنْ أَسْرَقُ إلا مِنْ أهْلِ بَلَدَتِي .
في عامي العشرين أُعِيد فَتحُ قضية أبي وفُضِحَ القاضي ؛ حيث أنَّ القاضي هو الذي اتْهَم والدي بالسرقة وليس رئيس البلدة ، كانتْ ثغرة في خِطَتِه المُحَنَكة ، بالإضافة إلى دينارٍ منقوشٍ أُهْدِي للتاجر وضع بالخطأ مع الأموال المرسلة مع الخادم ، القاضي صَرفَ المالَ بعد عشرين عامًا ( المال المسروق ) أرسلَ هذا الدينار مع المال إلى نفسِ التاجر لشراء بعض البضائع للقاضي .
الدينارُ فَضَحه ، رئيس البلدة لم يَشتركَ في المؤامرةِ على خادمِه بلْ زوجتَهُ قامتْ بالأمرِ ، خافتْ المرأةُ أن يفضحَ أفعالها السيئة بعد اكتشافِهَا من قبلِ والدي فأوشَتْ به ، الخادمُ كان أمينًا للغاية ، حتى أُمي لمْ تَكُن تعلم بأفعالها .
اِنْتَهَتْ القضيةَ بِبَرَاءةِ الْمُتَّهِمِ الْمَقْتُولَ دَاخِل مِحْبَسِهِ، الْجِيدَ فِي الْأَمَر أَنَّ الْقَاضِي نَالَ عِقَابًا شَنِيعًا ، أَمَّا زَوْجَة رَئِيسِ البَلْدَةِ مَاتَتْ فِي حَادِثِة قَبْلَ عَامَين، الحادثةُ كَانَتْ مُرَوعَةً ، أَفْلَتَ الْحِصَانُ الْعَرَبَةَ الَّتِي كَانَتْ تَرْكَبُهَا السيدةِ، العربةُ حُطِمَتْ وَسَقَطْتْ السيدةُ أَرِضًا ، أَفَلَتَتْ مِنَ الْمَوْت فِي العربة وَلَكِنهَا لَمْ تُفْلِتْ مِنَ العربة الَّتِي دَهْسَتَهَا، السيدة قُطِّعْت إِرْبًا .
***
بَعْدَ برَاءهِ الْخَادِمِ نَسِيَتْ البلدةُ القصةِ ، خَرَجَتُ مِنَ الْبَلَدَةِ أَبْحَثُ عَني عَلِني أَجِدُنِي أَوْ أَجِدُ جُزْءًا مِني، وَقَدْ أَجِدُ شَيْئًا يَبْحَثُ عَنِي ، ثُمَّ إِنَّ الْعِلَلَ الَّتِي تُصِيبُ أَجْسَادُنَا تُدَاوَى بِالدَّوَاءِ فَمَا دَوَاءُ عِلَل أَرَوَاحُنَا ؟! دَائِي وخيباتِي وَعِلَّاتِي كُلُهَا أَصَابَتْ رَوْحِي، جَسَدِي عَنِ الْمُصَابِ مُعَاَفَى وَرُوْحِي بَائِسَة ، فَأَيُّ طَبِيبٍ يُدَاوِيَهَا وَأَيُّ دَوَاءٍ أَسَتَطِبُ بِه .
أُرِيدُ أَنْ أَنْتَمِيَ، فَالْأَجْسَادُ تَنْتَمِي إِلَى الْأَوْطَانِ وَخَلِقْتُ بِلَا وَطَن فَكَيْفَ تَنْتَمِيَ أَرَوَاحُنَا ، تسائلتُ كَثِيرًا رَيْثَما تَجِدَ روحُي روحًا تَدَاوِيِهَا ، فَقَدْ تَكَون لِلْأَرْوَاحِ سُبُلٌ لَا نَعْرِفُهَا .
الْقوَافلُ تَأْتِي فَأَسْرَعُ إِلَيهَا وَأُنْزِلُ الْبَضَائِعَ فَأَكْسِبُ دَنَانير يَوْمِي ، كَنتُ أَتَسَائَلُ دَائِمًا أَحِي أَنَا أَمْ فِي الْجَحِيمِ ؟ كُنْتُ أَخَافُ أَنْ أَكُوْنُ مُتُ قَبْلَ أَعْوامٍ وَدُفِنْتُ وَأُعَاقِبُ عَلَى جَرَائِمٍ اقُتُرِفَتْ فِي حَيَاةٍ أُخْرَى ، وَلَكِني لَا أَتَذَكْر أَنِّي حَييتُ يَوْمًا لَا هُنَا وَلَا مِنْ ذِي قَبْل ، تَحْرِيككُ لِعَيْنكَ وَاِنْتِشَالُكَ لِلْأَشْيَاءِ وَحَتَّى مَضْغُكَ لِلطّعَامِ بِالنِّسْبَةِ إلي لَيْسَ بِالضَّرُورَةِ دَليلٌ عَلَى أَنّكَ تَحْيى ، قَدْ يَكُونُ دَليلًا عَلَى وَجُودِكَ فَقَطْ .
تَاجَرَ مِنْ تَمِيمِ عَقَدَ مَعي اِتِّفَاقًا عَلَى الْاِنْتِقَالِ مَعهُ إِلَى بَلْدةٍ أُخْرَى مُقَابِلِ خَمْسينَ دِرْهَمٍ ، هَذَا الْمَالُ مُقَابِلُ الْإقَامَةِ ثَلَاث لَيَالِي وَتَكَفُلِيْ مَعهُ بِبَضَائِعِهِ ، التَّاجِرُ كَانَ يُنَاصِفُنِي أَشْغَالِي ، إذاَ هَمِمْتُ لِحَمْلِ شِيءٍ أَمْسَكَ بِنِهَايَتِهِ فازحزح يَدِي إِلَى البدايةِ وَ نَرْفَعُهَا سَوِيًا ، شَاطَرَنِي سَهَرُ اللَّيْلِ فِي الحراسةِ ، السَّيِدُ كَانَ أَشَبَهُ بِصَدِيقٍ أَوْ بالأصحِ هُوَ كَانَ بِحَاجةٍ إِلَى صَدِيق وَرَفيقٍ لِدَرْبِهِ فَرَفَضْتُ أَخَذَ الدَّنَانيرُ فِي نِهَايَةِ المدةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيهَا وَبَقِيْتُ مَعهُ .
ذَهَبْتُ إِلَى تَمِيمٍ، الْبَلَدَةُ كَانَتْ رَائِعُة ، الْجَمِيعُ أَحْبُونِي رُغْمَ عَدَم مِعْرِفَتِي المسبقة بِهِمْ، فَأَحْبَبْتُ الْجَمِيعَ ، الْأَمرُ لَمْ يَسْتَغْرِق وَقْتًا .
اللَّيْلَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ مُكُوثِي فِي الْبَلَدَةِ ، مَرَّ زَوْجُ زَاهِرَة السَّيد عامر عَلَى تَاجِرَتِنَا ، سَأَلَنِي عَنْ زغفري وَلَمْلَمَ مَعِي الْأَقْمِشَةَ وَتَسْيارَنَا فِي أَحَوَالِ الْبَلَدَةِ وَسِيَرِ الْمُسَافِرِينَ وَغَيْرِهَا ، الْعَجِيبُ فِي أَمرِ سَاكِنِي تَمِيمٍ لَمْ يَسْأَلْنِي أحَدُهُمْ إلا عَنِ اِسْمِي ، لَمْ أَكُنْ أَعْلَمْ هَلْ لِلْجَمِيعِ خَيْبَات وَكُلٌ يُخَفِّيَهَا ؟ أَمْ أَنّهُمْ عَلَى عَلْمٍ مَنْ بُؤْسِ الْحَيَاةِ فَلَا سَبِيل للمقضاةِ عَلَى الْمَاضِي ؟ عُمُومًا أُسْلوبُهُمْ كَانَ يَرْوَقُ لِي .
بَعْدَ عَامٍ مَنِ استطاني فِي الْبَلَدَةِ أَعَجَبَتْنِي مَالِكَةُ ، فَمَالِكَةُ كَظَلٍ طَلَّ إِذَا رَأَيْتَهُ اِسْتَظْلَلْتَ بِهِ
فِي نهَارٍ الشَّمْسُ فِيهِ حَلَّتْ بِالْأَرْضِ ضَيْفًا
حَتَّى النُّجُوم رَحَلَتْ عَنْ سَمَاؤِنَا
فَنَجْمُ مَالِكهُ كَانَ أَبَرْقُ
الْغَرِيبُ أَنَّ عَينَا مَالِكَةٍ كَانَتا شَيْئًا يَجْتَاحُهَا لَمْ اِسْتَطِعْ النَّظَرَ إِلَيهَما مُطْلِقًا ، السَّيدَةُ كَانَتْ رَائِعَةً بِالرَّغْمِ مِنْ ذَلِكَ
حَتَّى أَنَّ تَمِيمَ كَلَهَا أَجَمَعْتْ عَلَى مَا أَقَوْل ، وَأَصْبَحَتُ مُتَعَلِقًا بِتَمِيمِ وَأهْلِهَا ، حَتَّى رُوْحِي بَدَأْتْ فِي شِفَاء نَكَسَاتِهَا ، شَاطَرهَا زغفري مَعِي، فَأَصْبَحَ الْمُصَابُ متجزئ بَيْني وَبَينَهُ ، وَخَفَّ حِمْلِي ، وَبَدَأَ ظَهْرِي بِالْاِسْتِقَامَةِ ، فَصِرْتُ أَمْشِي بَيْن الْعَامةِ وَاقِفًا ، حَتَّى ظَنَنْتِ أَنّي لِلسَّمَاءِ ملامساً ، بَعْدَ أَنْ كُنْتُ فِي الْأَرْضِ غَائِرًا ، عَامانِ لَمْ أَخْرُجْ مِنَ الْبَلَدَةِ مُطْلِقًا كَانَ السَّفَرُ يَقُومُ بِهِ زغفري وَحْدهُ حَتَّى أَنّي خَفَتَ أَنْ ازحزح مِنَ الْبَلَدَةِ فتيبست بِتَمِيمِ وَأهْلِهَا .
***
يَوْمُ السَّابعِ مِنْ شَهْرِ كَانون الثَّانِي ، أَتتْ زَاهِرَةُ بِصحبةِ فَتاة ِإِلَى زغفري ، الْوَضْعُ كَانَ غَرِيبًا بِالنِّسْبَةِ إلي ، زَاهِرَةُ تُجْلَبُ الْأَقْمِشَةُ إِلَى بَيْتِهَا ، لَيْسَتْ الْأَقْمِشَةُ فَقَطْ بَلْ كُلُّ الْأَشْيَاءِ الَّتِي قَدْ تحتاجها ، فَاِمْرَأَةٌ تَتَزَوجَ مِنَ السَّيدِ عَامِر خَبَّازُ الْبَلَدَةِ و أَخِيهَا السَّيد زغفري تَاجَرُ الْأَقْمِشَةِ ، هِي اِمْرَأَةٌ مُدَلَّلَةٌ ، بِالْإضَافَةِ إِلَى أَنَّ زَاهِرَةَ كَانَتْ وَطَنُ زغفري الْأَولَ ، وَهُنَا عَلِمَتُ سِرَ بَلَدَةِ تَمِيمٍ ، كُلٌ مِنهُمْ لَهُ مَوْطِن يَسْكُنْ بِدَاخِلِهِ ، بِالْإضَافَةِ إِلَى اِنْتِمَائِهِمْ إِلَى وَطَنهِمْ ، يَجِدُونَ لِأَجْسَادِهِمْ وَ أَرْوَاحِهِمْ أَوْطَان .
بَدَأَتُ أَتَحَسَّسُ خَبَرَ مَجِيءِ زَاهِرَةٍ ، كُنْتُ أُرَاقِبُ وَجْهَ زغفري عَلَّنِي أَتَلَمَّسُ مِنْ مَلَاَمِحِهِ شَيْئًا ، وَلَكِنْ الْأَمَر لَيْسَ بِالسَّيئِ الَّذِي آلت إِلَيْهِ نَفْسي ، فِي ذَلِكَ الْيَوْمَ وَفِي تِلْكَ السَّاعَةَ بِالتَّحْدِيدِ كُنْتُ أَعْلمُ أَنَّ شَمْسَ زغفري سَتُشْرِقُ مِنْ جَدِيِد بَعْدَ أَنْ غَرَبتْ ، وقَدْ خِفْتُ أَنْ لَا تُشْرِقُ مَرَّةً أُخْرَى ، أشْعُر أَنْ الشَّمْس قدْ غَادرتْ تميم كُلِها يَومَ تَزوجتْ هندًا وَ لَمْ تأتِي إليْنا حَتى أَتَتْ زُمُرُده ، ومِنْ الوَاَضِحْ أنَّ الشَمْسَ قَدْ تَغِيبُ بَينمَا لا تَبْرح ، ولكِنَهَا تَحْتَاجُ فجْرًا لِتُشْرِقْ مرةً أخرى .
تَقَدَّمْتُ لِخطبةِ مَالِكَة ، فَيَبْدُو أنَّنِي اِقْتَرَبْتُ كَثِيرًا ، أَرَدتُ الْاِلْتِصَاقَ بِالْبَلَدَةِ وَسَوَّلْتِ لِي مَطَامِعِي بِمُصَاهَرَةِ أَبِنَائِهَا ، لَا، لَمْ أَكُنْ مُخْطِئًا ، بِالْفُعُلِ لَمْ أَكُنْ أَرِيدُ الْاِلْتِصَاقَ قَطّ ، بَلْ أَرَدْتُ أَنْ اِنْدَثِرَ مِنْ نَفْسي بِدَاخِلِهِمْ ، فالاتصاق قَدْ يُفْلِتَنِي يَوْمَا مِنهُمْ ، بَدَأَتُ اقْتَرِب أَكْثَرَ وَالْاِقْتِرَاب يَجْعَلْنَا أَكْثَرُ وُضُوحًا ، فَأَبِي لَمْ يَكُنْ لِصًّا ، وَأُمِّي سَيِّدَةٌ شَرِيفَة .
وَلَكِني سَرَقْتُ ذَاتَ لَيْلَة وَأَعَدْتُ فِعْلَ ذَلِكَ ، وكُنْتُ أَتَعَجْبُ مِنْ أُمِي حِين قَالتْ لِي ذَات لَيلةٍ لَمَّا أخبرتُهَا أَنَّنِي سَأنْتقِمُ مِنْ أهْلِ البَلْدَةِ : احْذَرْ يَا صَفْوان أَنْ تَنْتَقِمَ مِنْكَ ، احذرْ يَا عَزِيزي أَنْ تُوجِهَ الضَّرْبَةَ إليك أنتَ بَدَلًا مِنْهُم ، ومَا رَأيْتُ أَشَدَّ انْتِقامًا مِنْ أَنْ تَسْحقَ الآخَرين بِنجَاحِك وسَعادةً يُغْنِيك الله بها عَما رأيتْ .
ولِذَلِك عَلَينَا أَنْ نَكُونَ أقْوياء ، وأَنْ لا نُضْرَب بِيد امرئِ ضَرْبَتين : إحداها بيده والأخرى بيدك أنت ، علينَا أنْ لَا نَتَخلى عَن مَبَادِأنَا لِكيْ نُطيح بأَحَدِهم ، فبعضُ الأخْطاءِ لا تُغْتَفر وخَاصة تِلْكَ الَّتي تَرْتَكِبُهَا وأنْتَ غضبَان ، قَدْ تَشْعَرَ أَنَّه نَوع مِنْ الاسْتسلامِ ، ولَكِنْ مَعْ مُرور الوَقْت سَتدرِك كَم تجَاوزْتْ ورَأسَك لَمْ يَنْحنِ.
ولَكِنْ الْعَائِلَةُ رَفَضْتْ أَنْ تُزَوِّج اِبْنَتِهَا لِفَتًى لَدَى تَاجِر، الْفَتَى لَمْ يُوَلَدْ فِي تَمِيمٍ ، وَلَنْ يَرِثْ فِيهَا .
وَبِالْرَّغْمِ مِنْ سُوءِ الْحَدَثِ إلا أَنّهُ أَحْصَن فِعْلَتِي ، الْعَائِلَةُ لَمْ تُدَقِقَ فِي أَمْرِي فَقدْ رُفِضَ الأَساس ، فَلَنْ يُقام عَليهِ بُنْيَان .
وَقَفَ زغفري مُجَرَّدًا أَمَامي مِنْ أَي حِيلَةٍ لمُواسَاتِي بَعْدَ أَنْ أَخْبَرَنِي بِالْأَمْر، مَا زِلْتُ اَذْكُرْ نَظِرَةَ زغفري إلِي كَانَ الْخَوْفُ يَجْتَاحُ عَيْنِيهِ فَتَبَسَّمَ قَائلًا :
- سَتَمَرْ هَذِهِ اللَّيلة ، وَسَيَنْتَهِي هَذَا الْألَم أَعِدُكَ بِذَلِكَ يا صَدِيقِي
- أَتَدْرِيَ يا زغفري أَخَبَرَتْنِي أُمِّي يَوْمًا بِأَنَّ اِنْبِعَاثَ الْفَجْرِ لَا يَعْنِي زَوَالُ اللَّيْلِ ، أَي أَنّهُ إذاَ آلت إِلَيكَ النّعمةَ لَا تَجْزَعَ مِنَ الْبَلَاءَاتِ الْمُصَاحِبَةِ لَهَا
- صَفْوَانَ، فَعْلَتَهُمْ آثارت اشْمِئزَازِي كَثِيرًا ، كَيْفَ لِلْإِنْسَان أَنْ يَلْتَهِيَ بِالْمَالِ وَالْجَاهِ مُتَغافِلًا عَنِ الرّوحِ الَّتِي تَسْرِي فِي الْجَسَد ، عَنِ الْقَلْبِ الَّذِي يَخْفُقُ بِالدَّاخِلِ
لَمْ أَسَتَدِر إِلَيْهِ وَقَفْتُ مُعَلِّقًا نَظَرِي بِالسَّمَاءِ ، فرَبَّتَ زغفري عَلَى كَتِفِي وتَنَفسَ بعمقٍ بِلهجةٍ مُتأمِلَة :
- انْتَظِرَ اِنْبِعَاثَ الْفَجْرِ مِنْ الظَّلَام
- مَاذَا لَوْ آتَى الْغَدَ وَلَمْ يَكُنْ فَجَرًا
لَمْ تَمُرْ اللَّيْلَةُ ، وَبَقِيْتُ أَنَا فِي هَذَا الْألَم ، الْأيَّامُ لَمْ تَمِضْ كَمَا أَخْبَرَني زغفري ، تُحَاصِرُنِي ، إِنّهَا تَقِفُ وَتُصِيبُنِي بِالزُّعْرِ وَمَا إِنْ هَدَأت تَرَدَّدَتُ عَلَيَّا مرةً أُخْرَى .
***
من عادتنا بعد الانتهاء من العمل نَجْتمِعُ في دارٍ بمحازاة شجرة البلوط ، بَدأَ زغفري بالحديث عن شجرة البلوط واخْضِرارهَا الدائم حتى في الخريف ، تَمنَى زغفري أنْ يُصْبِح مِثْلها وأنْ يُثْمِر دائمًا اعتقد أن كلماتُه اسْتَفزتْ السيد ظافرًا فقاطعه :
- ولماذا تُريدُ أنْ تُثْمِر يا سيدي ، أين أغصانك يا فتى ؟ كُلُ تلك الفترة اعْتَقدُ أنَّك رجَلًا وفي النهاية اْكَتِشفَ أنَّكَ شجرة يا زغفري تَجاهَلَهُ زغفري تماماً وبدأ يُكْمِل حَدِيثه ، لكن السيد ظافراً غَيَّر لهجته وأَظْهر الحِدَّة بكلماته :
- الأرض والأشجار وحدها المُثْمِرة في هذا العالم أنْتَ ثمرةً انْتَظِر جَفافك وموتِكَ في صمتٍ، ولا تَتَطلَعْ كثيرًا سَتصْفعُكَ الحياة كلما تَطَلعتْ عاليًا يبدوا أنَّنِي حصانًا أَعْرَجْ في بلدةِ الحميرِ. هذه المرة لم يَسْكُتْ زغفري ، وأُخْرِس السيد ظافر تماماً ، فَاهِي لمْ يُفْتَح وقتها كُنْتُ مع السيد ظافر في كل كلمة نطق بها .
السَّيد ظافرا منذ تلك الحادثة لم يأتِ إلى الدار ، الجميع لم يَجْتمع من ليلتها ، مات السيد قاسم وهربت زمردة بعيدًا عن تميم ، ولحق بها زغفري ورَحَلْتُ معه ولم نَعُدْ .
اللُّصوص أحاطوا بنا ليلًا ، هَاجمُونَا ، فاحْتَمينَا بالوادِ ، الواد يبعدُ ليلة واحدة أو أقل ، كانْت خَطَواتُنَا بطيئة لأنَّنَا كُنَّا نَصْطَحِبُ نساءًا وأطفالًا وبضائع ، اعتقدنا أنَّ الوادي مكانًا منخفضًا ، بل أمثل مكان لنخبئهم به ، ونقاتل رجالًا متفردين ، اعتقدنا أنهم لن يستطيعوا رؤية القافلة مطلقًا ولكن كان هذا المنخفض هو الخطة الأبشع للتخلص منا .
لا تَغْتَرْ كثيرًا بالأشْياء ، فالنَّار التي تَمْنَحُكَ الكثيرَ من الدفء والضوء قد تكون لعنةً وتسبب لك الكثير من الألم ، وقد تُنْهِي حياتك , وبالنَقِيض الماء قد يُغْرُقُنَا أخْبرُونَا أنَّ العِلَة ليست بالماء ، إنِمَا العِلَة بأنَّ الكثير من الماء كان السبب في ذلك ، ولكنني أُؤْمِنْ بأنَّ بعض القطرات من الماء قد تُخْطِئ طريقها وتَعْلَقُ بجهازك التنفسي وتُرْدِيكَ قَتِيلًا ، فكُلِ شيءٍ له القدرة على أن يُعْطِيك الحياة يستطيع أن يسلبها منك ، ولتعلم أن قطرات الماء لم تُخْطِئ طريقها بل تعمدت.
***
وبمجرد أنْ دخلنا الوادي لمْ يسمح لنا الوقت لخروج الرجال ، حُوصِرْنَا في الوادي ، أراد اللصوص أنْ يسرقوا أموال القافلة ، ولما اسْتَدركوا خِطَتِنا ، أرادوا تَلْقِينَنَا درسًا ، ولِكُلْ مَنْ تُسَول له نفسه بالمقاومة .
حين صُوبِتْ السِّهام على الوادِي ، كُنَّا نسمع صوت أحذيتهم المحتكة بالرمال من حولنا وكأنه صوت بوق الموت .
اجتمعت السهام في لحظة واحدة فوق الواد ، صَنَعَتْ لي مرآة رأيتُ فيها كل من حل بالواد متحصنًا ، فبدأتُ أتأملُ عيون الأطفال الباكية ، ووجوه الرجال حتى أنِّي في تلك اللحظة نظرتُ إلى وجوه النساء ، الكل كان يُحَدِّق نَظَره نحو السَّهام ، الجميع بدؤوا برفع أيديهم إلى أعلى وسرعان ما تلتف أيديهم حول رؤوسَهُم ثم يَبْدَأوا بِتَكتُل أجسادهم ، بدأت أفكر في تلك الخطة التي يديرها العقل .
العقلُ في هذه اللية كان أشبه بالقائد الذي يحاول إنقاذ جنوده المنهزمين بالفعل ، و بدأتُ أفكر في مخزى تلك الخطة التي يُدِيرها ، هو يعلم بأكثر الأشياء أهمية بالنسبة للجسد .
أولا قام بحماية الرأس من خلال التفاف اليددين حولها ، كنت أعتقد أن الرأس هو الجزء الأهم من الجسد ولكنني كنت مخطئاً حماية القلب قام بها بشكل رائع . القدمين المضمومتان على بعضهما من جهة ، الرأس المُغَطَى باليدين من الجهة الأخرى ، أيكون القلب بهذا القدر من الأهمية بالنسبة للعقل ؟!
وبسرعة مذهلة ، السهام أنجزت مهمتها ، وكأن السهام كانت تبحث عن المختبئين منا فتصيبهم لا أذكر يوماً أني خفت من شيئاً إلا وأصابني .
زغفري أيضا أمسك بيد زمردة توقف تفكيره تماماً ربما أراد أن يخبر السهام بشئ ما ، وبالفعل السهام حَيتْ شجاعته وتخطته هو وزمردة.
ورحل اللصوص عنَّا ، أو ظَننا ذلك ، الواد جاف أردنا الماء من سهل بجوار الوادي ، خرجتْ زمرده مع أخويها وأنا وزغفري ، العائلة الوحيدة التي نجت في الوادي بأكملها ، لم يُصَبْ أحد منَّا ، ولكن اللصوص لم يرحلوا عن الواد ، اعتقدتُ أنَّهم يريدوا ناجين لرواية ماحدث ، وكان يكفي بالنسبة إليهم أن يكن ناجٍ واحدٍ فقط .
بمجرد خروجنا اضْطُرِنْنَا للافتراق ، اخْتَارتْ زمرده أن تَبْقَى مع زغفري ، عَبَّرتْ عن ذلك بأنْ رَكَضتْ في الاتجاه الذي رَكَض به ، ركضنا باتجاهات أربعة مختلفة بخيلنا لتَفْرِقَة اللُّصوص ، كُنْتُ اعتَقِدَ أنَّ زغفري سيبقى مع زمردة لحمايتها ، هي تحتاج الحماية كمن في الوادِي تمامًا ، خرج الرجال النَّاجين من السِّهام ثائرين لمن قُتِلوا ، انْهَينَا على جزء من القتلة ، ورجع زغفري كالبرق يبحث عن زمرده ، اعتقدتُ أنَّها دخلت الوادِ ولكنَهُ خَبأهَا عند صخرة ، لما رأيتُ الوشاحَ على الأرضِ ملقى ، وعلمتُ بوفاتها ، حين نَزَع عثمان وشاحها من يد زغفري قائلًا بصوتٍ منخفض : تركنا لك زمرده فاترك لنا وشاحها سنحفظه كما لم تفعل معها ، أقْسَمَ زغفري أنْ لا عودة إلى تميم إلا وتَمْتَمَ بكلمات لم أسمعها ، فرافقته إلى حيثُ لا أدري .
لم نمكث أسابيع بعد خروجنا من البلدة حتى حَلَّ الشتاء بنا ، فأصبح البرد عدوًا آخر نواجهه ، كُنتُ أجلِسُ بجوار زغفري عند مطحن ببلدة زهران ، جاء شيخاً ناولني غطاء تقاسمته مع زغفري فصاح شاب أحمقًا :
- لا تعطوا المتسولين أموالكم
فردَّ السيد عمرآن :
- صه ... لا تبتئسا من أي بلدة أنتما
تدخل الشاب مرة أخرى :
- سيد عمران الصَّدقات أَحَقُ بِها العاجزين عن الكسب
قاطعه السيد عمرآن على حد ذكر الشاب :
- أمسك عليك لسانك وإلا قطعته ، عابري سبيل أَشْعُرُ بالخجل من جلوسكما وسط الأزقة وفي البلدة مئتا بيت وعشرة مساجد .
شعر زغفري بالقهر ، كان عزيزاً في قومه ، فأرسلني زغفري بمظروف إلى زاهرة ، وحَمَلتُ معي البضائع حين عودتي إلى ظهران.
سكنا بزهران ، لا أدري لماذا هَوَتْ أفئدتنا إليها ، رُبَّ أن زغفري أراد أن يَثْبتَ لذلك الشاب أنَّه ليس بمتسول ، بالنسبة إليَّ كانت زهران بلدة كأي بلدة أخرى ولكن مالكة يفصلني عنها عشر ليالِ ، ومن جهة أخرى علني ألتقي بهذا الشيخ الذي يدعى السيد عمرآن وأُقَبِلَ رأسه وأشكره على غطائه لنا في تلك اللية الباردة ، أحببت هذا الرجل كثيراً .
بعد استقرارنا ببلدة ظهران ، ازْدَهَرتْ تجارة زغفري مرة أخرى ، ولكن بدأ يظهر عليه الفقدُ لزمردة ، لمْ أسْتَطِعَ أنْ أَوقِفَ زغفري عن الانتحاب ، حاولت فقط أن أُوارِيه عن الجميع ، لِعِلَةٌ في نفسي حتى لا يسأله أحد عن سبب بكائه ، لم أرد أنْ يُشْفِقَ عليه أحد أردته قوياً مُهَابًا كما التقيتُه ، لكنَّ زغفري سلك طريقاً مكَّنَ به الشيطان من كلانا.
***
بَدأتُ أتَحَسَسُ أخبار مالكة وأهلها وقد وِكِلَتْ إليَّ التجارة كلها ، زغفري نهاراً نائما ، وليلاً يسكن الحانة ، للشيطان أساليبه الخاصة في خداعنا ، سَولتْ لي نفسي بأن لي حق في تجارة زغفري ، وأنَّنِي سَاعَدته كثيرًا ، وجَمَعْتُ معه الأموال جمعًا ، لمْ تَكُنْ هذه الحقيقة مطلقًا ، المالُ مال زغفري وَحْدَه ، وأنا مُجرد فتى يعمل معه ، ولِكي أسْتطيعُ فِعْلَ هذا لابد من أن يظل زغفري ثملاً ، عَلَّل لي الشيطان أنَّنِي فَعَلْتُ كل ما في وسعي ولكن لا سبيل من انتشاله .
وأقنعني أن وجود زغفري بجاني وهو يَرْتَادُ الحانة قد يُودِي بتجارته التي أحفظها له ، فَصَرَفْتُ زغفري عني وعن فِعْلَتِي وذَكَرْتُ له تعليل إبليس .
في الحقيقة نحن نرتكب الجرائم ، الشيطان فقط يبرر لنا أفعالنا ، كُنْتُ أدفع له مصاريف إقامته في الحانة ، أعتقد ليبقى هناك .
***
أصبحتُ سيدًا بزهران ، سَمِعَتْ عائلة مالكة بهذا بل أَوْصَلتُ إليهم الأمر، وأصبح مُرَحَب بي كفردٍ من العائلة .
انطلقتُ إلى زغفري ، وبشرته بكون مالكة ستصبح حليلتي ، ولكنَّهُ سَخِرَ مني وقد تَثَمَلَهُ الشراب ، وزاد وكرر
- من روى زهرة لا يقطفها يا فتى ، ماذا فَعَلْتَ لمالكة حتى ارتضتْ بك زوجًا ، أتدري يا صديقي ما الشيئ الذي يجتاح عيناها ، إنه الغرور .
نهرته وتركته في حانته مغادراً إلى منزلي ، الليلة كانت مظلمة ، وكنت أمشي بين الطُرُقِ ، بَدَأَ شيء في الظلمة يُبَاغِتُنِي و يَظْهَرُ ظِلَّ رجل ويختفي فَزِعْتُ منه ، ناداني من خلفي ، استدرتُ سريعًا خائفًا عرفته رجل يدعى سمرقدي من بلدتي ، سرقتُ منه خبزًا ، أراد أن يَبْطِش بي انْطَلقتُ مُسرعًا ، الليلةُ معتمة ولكني أحفظ الطرقات ، إقامتي في البلدة زادت عن عام ، ثم تَمَهَلْتُ قليلاً في مشيتي رأيتُ امرأة تمشي بمحازاتي وبيدها فتاة صغيرة ، استغربت كثيرًا عن سبب خُرُوجِهَا في تلك الساعة المتأخرة ، نظرتْ إلِيَّ الفتاة عرفتُها
هذه المرأة سَرَقْتُ منها أموالًا ، ثُمَّ اتْجَهتْ إليَّ المرأة وخلعت الوشاح ، وأرادت أن تبطش بي ، فزِعْتُ منها ، وهربتُ ، وكُلَمَا مَرَرْتُ بشارع أجد من يريدُ أنْ يَبْطِشَ بي ، حتى ظَنَنْتُ أنِي ببلدتي ولستُ بظهران ، وفجأةً ظهر زغفري كان يحمل قنديلًا ، أنار لي الطريق ، فبطشتُ بيدي القنديل الذي يحمله ، ثم فَزِعْتُ من نومي .
أخذت أفكر كثيراً بكلمة زغفري من روى زهرة لا يَقْطِفُهَا ، هو يقصد أنني لم أكن زهرة مالكة التي اعْتَنَتْ بَهَا حتى تُزْهِر ، فهي لم تَرانِي ولا تَعْرِفُنِي هي فقط تعرف ما أنا عليه ، ولذلك هي تُبْتُر جزءًا منِي وتحتفظ بما يروق لها ، وهذا يُعَدْ إنهاءً لي ، لن تُنِيرَنِي ، سِتِسْتَنِير بي حتى انْطَفِئ ، ثُمَّ تَرْكُلُنِي بعيدًا عنها .
استغفرتُ الله كثيراً ، وبَعَثْتُ إلى عامرٍ لطلبه ، وعلمتُ أنَّ زمرده فُقِدتْ ولم تَمُتْ .
في مذهب عامر اشترك زغفري في خيانتي ؛ لأنه لم يذكر لي السبب الحقيقي وراء رفض مالكة ، اقْنَعنِي أنَّ العائلة تَرْفُضْ ، حتى لا أُجْرَح بطرف السكين ، وبَدَلَ أن أُجْرَح قُتِلْتُ بكامل نَصْلِها ، كان طَرَفُهَا هو المُؤْذِي لي ، فَخَبَأه عنِي وما انْتَبْهتُ أنَّها غُرِزَتْ بِي ، علينا قول الحقيقة كاملة دون نقصٍ؛ أو حذفٍ؛ أو تغير لملامحها ، عليها أن تكون واضحة .
وقانون عامر كان واضحًا في الخيانة ، عليك ألا تُصَرِحَ بشيء مطلقًا لأحدهم إلا إذا كان صادقًا ، وإلا أصبح تلاعب ، وأن الآخرين ليسو مجالاً لاختبار مشاعرك ؛ أو أن تكتشف نفسك بهم وبمشاعرهم ، كُلُ ذلك يُدْعَى خيانة ، فَكُنْ رائعًا أولا تَكُون .
لماذا لا يَعُد الضيف مشروبًا لنفسه في بيت مُضِيفِه ، ولماذا ترتدي العروس رداءًا أبيض ، ولو ارْتَدَتْ الفتيات كلهن رداءً أبيض متشابه والعروس رداءً مختلف ما دون الأبيض ، ما أقوله لا يُنَاِفي العقل أو الفطرة ، وقد تكون أقوامًا فعلوه من قبلنا ، أو بعض البشر في مكان غير الأرض اعْتَادُوا ذلك ، أو سيأتي من يفعله ، ولَكِنَهُ غَيْرُ مقبول بالنسبة إلينا ، لأنَّنَا اعتدنا ذلك ، هل تدرك الآن معنى الاعتياد ؟! وكُنْتُ أسأل نفسي لماذا يُوضَعُ الحب في آبيات العذاب والحيرة ، و يُجمع بينه و بين الشوق والحرمان ، لأنَّ الحب الحقيقي يَتَضِحُ ، حين لا نعتاد الفراق ، حين لا نعتاد أن نبتعد .
واكتَشفتُ في ذلك اليوم أنَّ قلوب الجميع ليست متشابهة ، الحبُ لديهم ليس بالشعور الذي نَشْعُرْ به ، مالكة تُحِبُ ثوبًا خاصًا ، من ارتداه أَحَبِتْهُ ، هي لا تُحِبني ، هي تُحِبُ شيئًا ما ، لم يُولَدُ معي ، بل صَنعتُه في هذا العالم ، وما تصنعه في الحياة ، قد تفقده بها ، علينا نَقَبَلُ أنَّ البعض يُحِبْ بشكلٍ خاص به ، علينا معرفة أنَّ للحب وجوهُ كثيرة عند البعض .
***
سألني زغفري عما حدث خلال فترة إقامته في الحانة فأجبته عن ما حدث لي :
- لا أدري يا صديقي عن الأيام الماضية ، لكني أعتقد أنِّي ابتعدت عن النور قليلاً
- ولمَ ؟
- صوت ما جَذبَنِي من الظلمة
- وكيف عدت؟
- إن الله لا يضيع عباده
انهينا تِجارتَنا في ذلك اليوم ، ولكِنَّنِي كُنْتُ خائفًا أنْ أستيقظ وأذهب إلى التجارة ويذهب هو إلى الحانة ، أَرَدْتُ أن يستريح صديقي فقلتُ له :
- لطالما أخبرتني يا زغفري أننا إذا مُتْنَا على الأرض تَوجَبَ علينا إيجاد أحبتنا لنُخْلُق بداخلهم من جديد
- ولكنَّنِي لم أمت يا صفوان ..... فقط أحتضر
- إذاً هي سكرات وتموت
- أهلكني الله يا صفوان ماذا عن جزء زمردة بداخلي ، وعدتها ألَّا أُسْكِتَ صَوتُها أبدًا بداخلي إنْ ضَاعتْ أو رحلت ، أَعَانَنِي الله أنْ أُنَازِعَ من أجل الحياة .
فأردتُ أن أبَثَّ شيئًا بداخله أضْمَن به عدم عودتِه إلى الحانة ، فأَخْبرتَهُ أنِي سَأُشاركَهُ فِي البحثِ عن زمردة .
***
اليوم الرابع والعشرين من تشرين انْطَلقْتُ أَبْتَاعُ أقمشة من بلدة مجاورة ، وتركتُ زغفري عند تجارته ، عند عَودَتِي سَمِعْتُ بخبر زمردة ، انطلقتُ أبْحثُ عن زغفري حتى وجدته بجوار الحانة ، كان ينتحب بكاءً جلستُ بجانبه واحتضنته وقَبَلْتُ رأسه ، وأَقْسَمْتُ أنْ لا أُمَكِنَ الشيطان منِي ومنه مرةً أخرى ، أخْبرتَهُ بما حَدَثني بِهِ أبو مهران ليلة انتحاره ، حيث أنَّ السُمَّ قَتَل زوجته فِي عِدة أيْامٍ مُتواليةِ ، لذلك لم ينتبه أحد في أمر وفاتها ، فِي اللّيلةِ الأَخيرة أَمْسَكَتْ بِيده لتُخْبَرهُ أَنَّهَا تَجْمَعُ بَيْنَ السَعَادة والحُزْن فِي هَذه اللّحْظَة ، انتَظرَ لتَعْترفَ لَه بِخيَانتهَا ، وأَنَّهَا مَنْ كَانتْ تَكْتُبَ إِلَى قَاطِعْ الطَّرِيق أَخْبَارَهُ ، وَ تَتَقَاسَمَ مَعهُ الأَمْوالَ ، أراد معرفة سبب خيانتها ، ولَكِنَّهَا لَمْ تَقُلْ ذلكَ ، لَمْ تَنْطِقْ بالأَمْرِ الِّذِي أرَاد معْرِفَتَه مِنْهَا ، كَانَ يَضَعُ فِي خِطَتِهِ أنَّها تُخْبِرَه بالخِيانةِ فيُخْبِرْهَا أَنَّهُ هو مَنْ قَتَلَهَا ، ليثأر منها ، أَخْبَرتْهُ أَنَّهَا تَشْعُرَ بالحُزنِ لَأَنَهَا سَتترُكُهُ وَحِيدًا ، لَن تُرافِقَهُ الدُنْيا ، وتَشْعُرَ بالسَعَادَةِ لَأَنَّها قضَتْ عُمْرَهَا بِجِوارهْ ، وسَتَموتُ بَيْنَ يديهِ ، كَانَ أَبُو مهران يَتردد على الحَانةَ بَيْنَ الحِين والآخَرْ أثناء زواجه ، عَرَفَ امرأةً بَغيةً هناكَ ، أُغْرِمَتْ بأمْوَالِه ، كَانَ يَقُولُ عَنْهَا بِأَنَّ بَعْضَ النِساءِ قَدْ يَجْبِرُهُنَّ الفَقْرُ عَلَى أَفْعَالٍ لا يُردْنَهَا ، وأَثْناء هَذَيانِه في الحانة كَانَ يُخْبِرُهَا تَفَاصِيل رِحَلَاتِه ، وأستطاعت إقناعه بخيانة زوجته ، اكتشف خيانة الباغية بعد أنْ قَتَلَ زوجته ، اكتشف الحقية متأخرًا ، ثُمَّ إنَّ المَرْأة التي لم تحفظ شَرفها ، تَخُون أيُّ شيء ، الفقر لا يبرر مفاسد الأخلاق ، كل ما في الأمر أنَّ المال قد يستر مفاسدك ، والفقر يفضحها ، وأخبرتَهُ أنَّ بالداخِل لَنْ يَجِدَ من ينصره ، بالداخل سَيُؤدِي
بنهايته كما انهتْ بصديقه ، وهَدأتُ مَخَاوفَه ، وأخذتُ أُفكِرُ في أمر زمردة ، وعلمتُ أنَّنَا سكنَّا زهران لأنَّ زمردة كانت تسكن بها ، هوى فؤاد زغفري إليها .
في حين لو أن أبي كان حياً وبقيتٌ ببلدتي ، لورِثْتُ مهنة أبي وصِرْتُ الخادم صفوان ، واليوم أُدْعى سيد صفوان .