Yomna

Share to Social Media

الْيَوْمُ الرَّابعُ وَالْعُشُرَيْنِ مِنْ تِشْرِين الثَّانِي مَوْلِدِي ، مَرَّ عَلَى خَلْقي خَمْسَة أَشَهْرِ وَاثِنَتَيْنِ و ثَلَاثِينَ عَامًا ، نُخْلَقُ قَبْلَ أَنْ نُوَلَدَ وَتَبْدُو أَنَّ هَذِهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْحَيَاةَ لَا تَبْدَأُ عَلَى الْأَرْضِ ، بَلْ تَبْدَأُ بِدَاخِلِ مَنْ أَحْبُونَا، ثُمَّ تَظْهَرُ عَلَى الْأَرْضِ، لِذَلِكَ إن أَرَدتْ أَنْ تَحْيى ابَحْث عَنْ مَنْ ستُخْلقُ بِدَاخِلِهِ ، فَنَحْنُ الرِجَالُ نَنْبُتُ مِنْ أَرْضٍ وَنُثْمِرُ فِي أُخْرَى ، كَالْبُذورِ تَمَامًا ، فكان لزامًا أن أًنتمي إلى أرض زمرده .
***
اللَّيْلَةُ بَارِدَهُ، أَرَحْلُ مَعَ الْقَافِلَةِ إِلَى تَمِيمٍ، أَفَكَرّ بِهِنْدٍ وَاِشْتَاقُهَا، أَشْعُرُ أَنّهُ حَانَ وَقْتُ اِجْتِمَاعِنَا، أَتْعَبَنِي فُرَّاقُهَا ، وَتَمْزُقَ فُؤَادي حَنِينَا لِهَا ، هَزَّنِي يَوْمِ رَحِيلي وُقُوفَهَا ، قَسَتْ عَلِيَّ عَيْنَاهَا يَوْمَهَا ، مَعَ أَنَّ قَلْبِي كَانَ بِهَا يَتَمَسَكُ.

وُلِدْتُ بِتَمِيمٍ ، و يُقَالُ أَنَّ بِتَمِيم أُنَاس غربَاء ، فِي بِدَايَةِ الْأَمَر لَمْ أَصْدُقْ لَيْسَ لِأَنّهَا لم تَكُنْ الْحَقِيقَةَ ، أَنَا لَا أَعَلْمُ ، بَلْ لِأَنَّنِي أَرَدْتُ عَدَمُ تَصْدِيقِ ذَلِكَ، كُنْتُ خَائِفًا ، يُقَالُ أَنَّ عَامِرًا صَهْرِيْ يَسْمَعُ الْأَصْوَاتَ الخفيه الَّتِي يُحَدِّثُ بِهَا الْإِنْسَانُ نَفْسهُ ، وَلَكِنَّ زَاهِرَةٌ أَخَبِرْتِنِي أَنَّ هَذَا غَيْرَ صَحِيحٍ ، أَسَرَّتْنِي بِأَنّهُ يَسْمَعُ صَوْتَ أَرَوَاحِهِمْ ، يَسْمَعُ صرَاخِهَا وَبُكَائِهَا ، تَقُولُ أَنَّ بِتَمِيمِ الْكَثِيرِ مِنَ الْأَرْوَاحِ الْمُعَذَّبَةِ ، حَتَّى أنَّنِي رَأَيْتُ مَنْصُور صَدِيقَيْ يُخَبِّئُ عَيْنهُ الثَّالِثَةَ خَلْفَ وِشَاحِ مَلْفُوفِ حَوْلَ رَقَبَتهُ ، كَنَّا صَغَارًا نَلْعَبُ وَنَتَخَفَّى ، كَانَ لَا يَعْثِرُ عَلَى أحَدِ مَنَّا ، غَالِبًا كَانَ مُنْهَزِمًا ، قَدْ يَكُونُ لِأَنّهُ يرى بِاِتِّجَاهَيْنِ مُتَعاكِسِينَ ، أَمَامي وَخَلْفي ، قَدْ تَكُونَ رُؤْيَتُهُ مُشَتَته ، وَهُنَا تَنَبَهْتُ أَنَّ عَيْنَانَا تَنْظُرْ إِلَى الأمام ، لَا مَجَال للعوده إِلَى الْخَلْفِ مُطْلَقًا ، أَوْ رُبَّما لِأَنّهُ يَخَافُ أَنْ يُكْشَف سِرْه ، فَتَمادَى فِي إِخْفَاءهُ ، لَيْسَ هُمْ فَقَطْ ، يُوجَدْ الْكَثِيرُ مِنهُمْ يَتَخَفُوْن ، يَسْتَتِرُونَ .


فِي الثَّامِنِ عَشِرَ مِنْ آذر أَتَتْ هِنْدُ تَخْتَارَ أَقْمِشَةً مَنْ أقمشتي ، زَحْزَحَتْ الْوِشَاح قَلِيلًا وَكَانَتْ هَذِهِ الْقِلَّةُ كَفِيلَةٌ بِأَنْ يَنْشَغِلَ قَلْبِي بِهَا ، وَكَلَمَّا نَظَرْتُ إِلَى قطعة قُمَاشٍ أَعَجَبَتْنِي اِقْتَنَتْهَا ، كُنْتُ اَنْتَظِرُ قُدُومَهَا ، بَلْ أَحَبَبْتُ مَجِيئِهَا قَرَّرْتُ أَنْ أُحَدِثُها فَوْر مَجِيئِهَا ، بَعْدَ أَنْ غَابَتْ عَنِي شَهْرًا كَامِلًا ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنّي ضَيْعَتهَا ، وَأَقْسَمْتُ أَلا أَدَعُهَا ، كُلَّمَا ظَنَنْتُ أَنَّ عَهْدَهَا قَدْ يَنْقَضِي، كَانَتْ هَذِهِ الْفِكْرَة تُؤَرِقُ نَوْمَتِي ، وَتُفْسِدُ عَلِيّ مَفْرَحَتَي ، بَلْ لَمْ تَكُنْ لِي مَفْرَحَةً بَعْدَ غِيَابِهَا ، وَذَهَبْتُ إِلَى زَاهِرَةِ عَلَّهَا تُطَمْئِنِي .
كَانَتْ زَاهِرَةُ وِجْهَتِي وَسَبَب عَودْتِي مِنْ أسْفَارَيْ حَتَّى أُجَالِسَهَا ، وَكَأَنّهَا نُقْطَةُ إنطلاقي وَعَودتِي مَا إِنْ اِنْدَلَعَ الشَّوْقُ بِدَاخِلِي حتى رَكِبْتُ دابتي وَأَنْهَيْتُ رَحَلْتِي وَعَدْتُ حَيْثُ تَسْكُن زَاهِرَة .

- زَاهِرَةُ فَكَرَتُ كَثِيرًا ، لِمَاذَا أُطْلِقَ عَلِيَّا زغفري وَأُطْلِقَ عَلَيكِ زَاهِرَةُ وَ لَكِنْ دُونَ جَدْوَى ؟ نظرتْ إليَّ نظرة المُفَكِر ، ويَبدوا أنَّها لمْ تَعْثُرْ على إجابة ، فانصرفتْ لِمَا كانتْ تَفعلهُ ، ثُمَّ تَجَاهَلْتُ سُؤَالي الْأَوَّلِ وَطَرَحْتُ عَلَيهَا أَخَر ، هَلْ تَذَكُرَيْنِ لَيْلَةَ وفَاةِ وَالِدَتَنَا ؟
- كَنَّا صِغَارًا، وَصَمَتَتْ قَلِيلًا، هَلْ تَشْتَاق إِلَيهَا يا زغفري
- لَمْ أَفْتَقِدْ حَنَان أُمي ، أَنا لا أَعْرِفُهُ وَعَدَمِ مَعْرِفَتِكَ لِلْأَشْيَاءِ لَا تَبْعَثُ بِدَاخِلِكَ الْحَنِيْن إِلَيهَا
- كَانَ سُؤَالِي هَلْ تَفْتَقِدُهَا ، بِشَكْلِ مُجْمَلٍ، لَمْ أَخْتَص صِفَة مُحَددَةٍ فَسَأَلتُهَا :
- هَلْ نَبْحَثُ عَنِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا نَعْرِفُهَا أَمْ يَزْدَادَ بَحْثُنَا عَنِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي رَحَلَت عَنَّا ؟!
- بَلْ نَبْحَثُ عَنْ مَا نَفْتَقِدُهُ يا زغفري
قَاطَعْتُ الصَّمَتَ الَّذِي وَقَعَ بَيْنَنَا :
- جَلَبْتُ الْحَرِيرَ الَّذِي كَانَتْ تُرِيدُهُ السيده الشَّابةَ ذَاتُ الْوِشَاحَ الْمُطَرَزْ بِوردةِ بِالْجِهَةِ الْيُسْرَى ، اتعرفينها ؟

- بِالطَّبْعِ اُعْرُفْهَا ، غَالِبِية السَّيدَاتِ يَشْتَرِيَن مِنكَ الْحَرِيرَ ، وَمُعَظم فتِيَاتِ تَمِيمِ يَرْتَدِيَن الْوِشَاحُ الْمُطَرزُ ، وَلَكِنكَ أَنْتَ تَسْتَطِيعَ تَمَيزُهَا رُغْم أَنَّ وَجْهَهَا مخبئ
غَيَّرْتُ جلستي وَ اِسْتَدَرْتُ إِلَيهَا وَسَألَتَهَا وَ كَأَنّهَا تَمْلُكَ جَوَابًا ، بِالرَّغْمِ مِنْ يَقِينَيْ عَدَمِ مَعْرِفَةِ زَاهِرَة لَهَا ، وَ لَكِني تَمَنَّيْتُ مُعْجِزَةً مَا كَانَتْ بِحَادِثَةٍ ،
وَأعدتُ سُؤَالِي بِتَلَهُف .
- اتعرفينها ؟
- لَا يا زغفري ، لَا أَعْرِفُهَا
رُغَمَ عِلْمِي بِجَهْلِهَا لهَا ، أردتُ أملًا أتعلقُ بِه ، شعرتُ بالإحباط ، لكن النُبُوءَاتُ كانت تُرَاوِدُنِي مَا حَدَث لَمْ يَكِنْ صَدَفَةٌ ، لَمْ تَأْتِي النهايه بَعْدَ ، فَأَغْمَضْتُ عَيْني ، وَوَضُعْتُ يَدِي عَلَى أُذْنِي ، وَهَدَئْتُ مِنْ أَنْفَاسِي حَتَّى أَسَتَمُعُ إلي فُؤَادِي ، فَعَلَيْكَ حِينَ تَسْتَمِعُ إِلَى قَلْبِكَ يجب أَنْ تَنْعَزِلَ عَنِ الْعَالِمِ ، قَلَبُكَ صَادِقٌ ، وَالْعَالِمَ مُلِئ بِالْأكَاذِيبِ ، الْمَاءَ الْمَالِحَ وَالْمَاءَ الْعَذْبَ لَا يَمتزجان .

قَاطَعَ صَفْوَانُ صمتِي :
- مَاذَا أَخَبِرَكَ قَلْبُكَ يا زغفري ؟
- يُقَولُ أَنَّ شَيْئًا مَا سَيَحْدُثُ ، يُؤكِد لِي ذَلِكَ يا صَفْوَانِ
- إِذَا دَعنَا نَنْتَظِرُ .
لَمْ يُمَضِ يَوْمَانِ حَتَّى عَادَتْ هِنْدٌ ، وَ بِمُجَرد أَنْ رَأَيْتُهَا فِي تِلْكَ اللَّحَظَةَ سَرَتْ الرُّوحُ فِي جَسَدِي ، ثُمَّ وَقَفْتُ حَائِرًا أَمَامهَا وَأَتَعَجَبُ مِنْ كلماتي الَّتِي تَتَنَحى عَنِي ، وَالَّتِي كَانَتْ تَتَرَتَبَ قَبْلَ مَجِيئِهَا
- سَيِّدَتِي هَلّا أستطعتُ مُسَاعَدَتَك، أَحَرِيرًا تُرِيدِي أَمْ جوتًا تَرْتَدِي ؟
ضَحِكْتِ بِصَوْتِ مُنْخَفِضِ ، فأَذابَتْ قَلْبِي :
- أَرِنِي مَا عِنْدكَ سَيِّدَ زغفري
تَوَقَّفَتُ قَلِيلًا ، اِلْتَفَتُ يَسَارًا وَيَمِينًا ، ثُمَّ أَشَرْتُ إِلَى قطعةِ مِنَ الْقُطْنِ أَحَبَّبْتُهَا أَنَا ، وَحِينَ هَمَّتْ بِالرَّحِيلِ ، ابدلتُ قطعتهَا بِقطعةِ أُخْرَى ، حَتَّى تَأَتِّي مَرَّةَ أُخْرَى تَصْلُحُ خَطَأ مُقْتَرِفَا مِنَ التَّاجِرِ ، بَلْ أَرَدْتُ تَحْقِيقُ مَغْنَمَةٍ أَكْثَرُ بَعْدَ تِلْكَ الغيبه :
- سَيِّدَةُ حَسْنَاءِ
- أُدْعَى هِنْد يا سَيَدِي ، أَشُكْرَكَ عَلَى أَقْمِشَتِكَ الرَّائِعَةِ بَعْدَ غِيَابُكِ أَشَهْرٍ عَنْ تَمِيمِ
وَ قُفْتُ صَامِتًا ، لَمْ تَكُنْ الْمَعْلُومَةُ الْأوْلَى الَّتِي تُخْبِرني بِهَا عني ، هِي تَعْرف أَنّي زغفري ، وَلَمْ تَكُنْ نِسَاءُ تَمِيمِ كُلهُنَّ يعَلمنَ ذَلِكَ ، ارْتُحِلَ كَثِيرًا إِلَى الْعِرَاقِ و الشام وَ الْهِنْدَ حَتَّى أَحَصَل عَلَى الْخامَاتِ ، لَمْ تَكِنْ رِحْلَاَتِيُّ لِاِكْتِسَابِ الْمَالِ وَ الْبَضَائِعِ فَقَطْ ، بَلْ كَانَتْ لِاِكْتِشَافِ الْعَالِمِ ، وَ تَعْلَمَ اللَّهَجَات ، وَ اِكْتِسَاب الْخِبْرَاتِ ، وَ لَكِني لَمْ أَحْصُلْ مِنْ خِلَالهَا عَلَى أَثَمْنِ مِنْ صَدِيقَيْ صَفْوَانَ، الَّذِي اعْهَدْ إِلَيْهِ تجارتي حِينَ ارْتَحَلَ مَعَ الْقوَافلِ.
وَمَا إِنْ رَحَلَتْ ، أَخَذْتُ أَنْظُرْ إِلَى الشَّمْسِ عَلَّهَا تَغْرُب فَأَذْهَبُ إِلَى زَاهِرَةٍ ، أَعْتَقِدُ أَنَّ الْوَقْتَ تُوَقف تَمَامًا ، فَنَادَيْتُ صَفْوَان :
اِنْتَهَى الْيَوْمُ ، دَعنَا نُلَمْلِمُ الْأَقْمِشَة وَنَنْطَلِق-
نظر إلي مبتسمًا :
- بَلْ ظَهَرَ فَجْرُكَ يا زغفري ، اِمْضِ أَنْتَ

رُحَتْ أَحْفُر عَلَى خَاتِم الْيَاقُوتِي الَّذِي صنعتُه لهندُ هاؤها ، وَ اِنْطَلَقْتُ إِلَى زَاهِرَةٍ وَطَرَقْتُ بَابَاهَا ، وَ لِمَّا فَتَحَ عَامِرُ :
- تأخرتَ كَثِيرًا يا عَامِر، كِدْتُ أَنْ أَنَصْرِفَ
- هَلْ تأخرتُ كَثِيرًا يا زغفري ؟
- بِضَعَةِ ثوَاني
فَاِحْتَدت نبرة عَامِر بِقَوْلِهِ :
- لَا تَطْرُقْ الْأَبْوَابِ المغلقه ، اِنْصَرَفَ ، لَنْ تُفَتَحَ
فقلتُ له :
- كُلْ الْبُيُوتِ إِنْ أَردْتَ وَلَوَجُهَا عَلَيكَ أَنْ تَطْرُقَ بَابَاهَا
فقال عامر:
- لَا ، قُلُوب النِّسَاءِ بِيُوتًا تَعَرفِ ساكينها ، تُفَتحُ إِنْ مَررْتَ بِهَا ، لَا تَطْرُقَ قَلب اِمْرَأَة قَط
- هَلْ أَخَبَرَتَكَ زَاهِرَة عَنِ الفتاةِ ذَاتُ الْوِشَاحَ الْمُطَرز ؟

نَظَرَ إليَّ وَتَنْهَدَ قَلِيلَا ثم قال :
- ذَاتُ الوردة عَلَى الْجِهَةِ الْيُسْرىَ مِنَ الْوِشَاحِ ، لَا كَانَتْ فَقَطْ تَسْأَلَنِي إِنْ كُنْتُ اَعْرِفُهَا ؟
اِنْتَظَرْتُها فِي الْيَوْمِ التَّالِي ، حَتَّى تُرْجِع لِي قطعة الْقُمَاشِ الَّتِي بَدْلَتَهَا ، لَكِنهَا لَمْ تَأَتِي ، اِنْقَضَى يَوْم بَعدَ يَوْم .
حِينَ اِجْتَمَعْتُ برفاقي عند شَجرَةِ الْبَلوطِ ، كَانَ أَطِفَالُ الْبَلَدَةِ يَمْرَحُونَ على مقربة منَّا ، شَدَّ اِنْتِبَاهُي رُكض طِفْل يَنْظُرَ خَلْفُهُ ، فتسألت:
- لِمَاذَا يَنْظُرُ إِلَى الْخِلْفِ ! أَلَيْسَ مِنَ الْأوْلَى أَنْ يَنْظُرَ أَمَامهُ ؟
أَجَابَنِي صَفْوَانُ :
- لِأَنَّ الْخَيْبَاتِ الَّتِي تُصِيبَنَا مِنَ الْمَاضِي
قَاطَعَهُ مَنْصُورٌ :
- لَا يا صَفْوَانُ ، اُنْظُرْ لَهُ ، يَرْكُضُ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى الْخِلْفِ، مَعَ أَنّهُ يُوجِدَ الْكَثِيرُ مِنَ الْعَوَائِقِ قَدْ يَصْطدِمَ بِهَا أَمَامهُ ، اِعْتَقَدَ أَنّكَ تَخَافَ مَاضِيُكَ كَثِيرًا ، يَبْدُو أَنّكَ مَا زِلْتَ عالِقًا بِهِ
فَأَكدْتُ عَلَى فِكَرِة مَنْصُورٍ :
- اَعْتَقَدَ أَنّهُ لَيْسَ عَلَيكَ أَنْ تَلْتَفِتَ لِلْخِلْفِ مُطْللقًا ، وَإِنْ كُنْتَ تَمْلِكُ عَيْنًا خَلْفِيْه
ظَنَّ مَنْصُورُ أنَّنِي اُعْلَمَهُ بِاِكْتِشَافِيْ لِسِرهِ ، فَاِتَّكَأَ عَلَيَّ وَخَفَضَ صَوْتَهُ :
- زغفري يُقَالُ أَنَّ النِّصْفَ الْآخَرَ مِنَ الْأَرْضِ لَهُم ثَلَاثُ أَعَيْن ، اثْنَتان مِنَ الأمامِ ووَاحِدَةُ مِنَ الْخِلْفِ ، أَنْتَ مُخْتَلَفٌ عَنهُمْ ، لَا تَعْتَبِرَ نَفْسكَ أَصْلَا تَقِيسُ بِهِ الْأَشْخَاصُ مِنْ حَوْلكَ ، مَا اِخْتَلَفَ عَنكَ يَصْبَحُ غَرِيبًا، قَدْ تَكَوُّنُ أُنَّتَ الْمُخْتَلَفُ مَنّ بَيْننَا ، اِهْتَمَّ بِهَذَا يا صَدِيقَيْ كَثِيرًا.
***
- صفْوَانَ : أَشَعْرُ بِالْهَزِيمَةِ فِي نهايه كُلّ يَوْمٍ ، كَيْف أَنَّهَا لَمْ تُلَاحِظْ اِخْتِلَاَفُ الْقطعةِ الَّتِي ابدلتها ؟
- لَا، اِعْتَقَدَ أَنّهَا لَاحَظْت ، إِنّهَا تَعْلمَ سَبَبِ فِعْلَتكَ هَذِهِ ، فَتَمَنعت عَنِ الْمَجِيءِ ، و اعْتَقدَ أَنَّ لِهَذَا تَشْعُرُ بِالْهَزِيمَةِ .
اِنْتَظَرْتُ هِنْدٌ حَتَّى أَتَت، وَلَكِنَّ الْاِنْتِظَارُ قَدْ أَرْهَقُنِي ، حَتَّى أَنّهَا شَعَرَتْ بِذَلِكَ ، أَعَطِيتهَا قطعتهَا وَمَعهَا خَاتِمهَا اليوقوتي الَّذِي بدى لِي أَقَلَّ جَمَالًا عَنْ ذِي قَبْلَ ، فَالْاِنْتِظَار يُطْفِئُ النَّوَرُ الْمُتَوَهِج ، وَأَخْبَرْتُهَا أَنَّ عَلَيهَا الْاِحْتِفَاظَ بِالْقطعةِ الْأُخْرَى ، أَهَدِيْتُهَا إِيَّاهَا مُرْفَقَا مَعهَا رِسَالَة مِني
هِنْدٌ .....)
رَاقَتْ لِي الْحَيَاةُ فِي وِجْدَانِكَ ، و عَزَّزَتُ مَطْمَحِي بِلُقْيَاِكِ ، جَمِيلٌ هُوَ اللِّقَاءُ وَكُلُّ جَمِيل يَنْفُذُ ، وَلَكِنْ هَذَا حِينَ يَكُونَ الْجَمَالُ صِفَة وَلَكِنَّ هُوَ بِكَ أَصِلًّا فَبَقَاؤُهُ مُحْتُمُ ، فَلَا تَغَيبِي عَنِّي وَلَا تَرْحَلِي ، فَقَدْ أَنَارَ اللَّهُ ظَلْمَتِي بِنَوَرِكَ ، تِلْكَ الْقطعةَ لَمْ تَكُنْ خَطَأُ إِنِّي وَضَعَتَهَا لَكّ، أَهَدِيتُكِ إِيَّاهَا ، وابتئستُ لِأَنْكِي لَمْ تُعَوِّدِي فِي الْيَوْمِ التَّالِي ، فَيَبْدُو أَنْكِ عَلِمْتِ مرَادِي ، لَا تَدَعِينَي أَنْتَظِرُ كَثِيرًا ، أَنَا رَجُلْ يَؤُمِنْ بِضِيقِ الْوَقْتِ مَهْمَا كَانَ مُبَكِرًا .
سلَامٌ عَلَى هِنْدٍ وَريحِها)

لَمْ تَغِبْ شَمْسُ ذَلِكَ الْيَوْمَ إلا وَاِسْتَلَمْتُ رِسَالَة هِنْد الْأوْلَى
سَيِّدُ زغفري ...... سلَامُ اللَّهِ عَلَيكَ )
حَاوَلْتُ أَنْ أُمَرِّرَ يَوْمي دُونَ أُنَّ أَكُتُبُ إِلَيكَ ، كُنْتُ أَعَبَثُ بِأَشْيَائِي وَلَكُنَّ دُونَ جَدْوَى ، كَانَتْ الْأَشىْيَاءُ تلَومني عَلَى عَدَمُ الرَّد ، وَرَيشْتِي تُبَارِزُني بِالْكَلِمَاتِ ، وَكَلَما زَادَ رَفْضِي تَعْتَرِض وَتَتَمَرد وتتعنف أَمَامي ، فَبِكَيْتُ فِعْلتِي وَتَهشمَ رَفْضِي أَمَامهَا
أَشْكُرُكَ عَلَى تِلْكَ الهدية المميزة وَمِنَ الْجِيدِ أنْ أَعرف تَاجِر أَقْمِشَةٍ مِثْلكَ ، فخزانتي مَلتْ ثِيَابِي ، أَعِدُكَ أنَّني سَأَشْتَرِي مَا سَتَخْتَارُهُ وَأَتَمَنى أَنْ تَكُونَ الْقَطْع الْمُخْتَارَةُ تحمل نفس القيمة
أَمَّا عَنْ خَاتِمِكَ الياقوتي ، خَاتِمكَ أَوْشَكَ أَنْ يضيئ لَيْلًا وَكَأَنّهُ قَمَرٌ، فِي عتمة غَرَفْتِي اِهْتَدَيْتُ بِهِ ، فَأَنَارَ اللَّهُ طَرِيقِي بِكَ ، وَلَكِني أَتَسَائلُ لِمَاذَا حَفرْت عَلَيهِ أَوَّلَ حِرَف مِني ، لِمَاذَا اِخْتَرْتَ هائِي ، لِمَاذَا يَنْسُبُ النَّاسَ الْأَشْيَاءَ إِلَى بِدَايَتِهَا ، لَوْ نُسِبَتْ إِلَى النِّهَايَاتِ لِكَانَ أوْلَى
( و السّلَامَ
***
عِنْدَ عَوَّدْتِي أَنَا وَصَفْوَانُ اِلْتَقَيْنَا السَّيدَ صَادِق ، رَفَعَ صادق صَوْتَهُ قائلًا :
-هاك زغفري ، احذر حفرة أمامك
فسبقني صفوان قائلًا :
- زغفري السَّيدَ صَادِقَ يرى فِي الظُّلَاَّمِ ، لَدَيهُ نُورَ خَافِت بعيناه
ثم التفتُ إِلَى صَادِق مَرَّةً أُخْرى ، متسائلًا :
- كَيْفَ رَأَيْتهَا ، اللَّيْلَةَ مُظْلِمَهُ ، وَلَا يَحْمَلُ أحَدُنَا قِنْدِيلًا ؟! مُنذُ مَتى يا صادق ، لقد كنت أكثرنا تعثرًا في الظلمة ، أتذكر حين كنا صغارًا ؟!
فقال صادق لي :
- مُنذُ أنْ رزقني الله بولدي ثامر
فقلتُ :
- مَاذَا بِكُمْ بَنِي تَمِيمٍ ، هَلْ أَصَابَكُمْ مَس مِنَ الْجِنِّ ؟! مَاذَا يَحْدُثُ حَوْلنَا يا صَفْوَان ؟
فَردَّ صفوان :
- كُفَّ يا زغفري ، آمِن بِالْأَشْيَاءِ غَيْر الْمَنْطِقِيَّةِ ، لَا تَخَفْ مِنَ الْاِخْتِلَاَفِ
وَضَعَتُ يَدِي عَلَى فَم صَفْوَان حَتَّى لَا يُكْمِلُ وَ اِنْطَلَقْتُ إِلَى دَارَيْ هَارِبًا ، وَلَكِني غَيَّرْتُ طَرِيقِي إِلَى زَاهِرَةٍ .
- زَاهِرَة ، يَبْدُو أَنَّ الْجَمِيعَ مُخْتَلِفِينَ
قَاطَعْتِنِي :
- وَ إِنْ كَانُوا
فالتفتُ بعيدًا فأكملتْ :
- زغفري اُنْظُرْ إلي ، و إِنْ كَانُوا مُخْتَلِفِينَ عَنكَ ، يَجِبْ عَلَيْكَ أَنْ لَا تَخَافَ مِنْ شيْئٍ مُطْلِقًا ، لَا شَيْء مُخِيف فِي هَذَا الْعَالِمَ سوى ما يَحْمِلُهُ الإنسانُ بِدَاخِلِهِ كالحقدِ وَالْكَرَاهِيَةِ و الْخدَاعِ ، و مَا دُونَ ذَلِكَ لَا يَدْعُو لِلْخوفِ أَبدًا ، لَا تَخَافْ مِنَ الْأَشْيَاءِ لِمُجَرَّدِ أَنَّكَ تَجْهَلُ أنَّاها .
***
كَانَتْ هِنْدٌ عَذْبَةُ الْحَديثِ ، مَا زَالَتْ كلماتها تَعْلَقُ بِي حَتَّى أنَّنِي مَا زلْتُ أَذَكَرُ رِسَالَتِهَا حين حدث شِجَارٌ بَيْنِي وَ بَيْنَ السَّيْدِ ظَافِرًا ، كان يتكلم عن البؤس واليأس في وقتٍ كنتُ متصافيًا فيه مع نفسي ، أَسَاءَ إليّ وَهَاجَمَنِي ، و لَكن مَا استغاظني ، أَنّهُ يُرِيدَ فَنَائِي قَبْلَ أنْ أُوَجَدْ ، أَرَادَ تَحْطِيمِي دُونَ أَنْ أَكَوْن .
فَاِنْدَفَعَتْ إِلَيْهِ قَائِلًا :
- سَيدْ ظَافِر ، سَامَحَ اللهُ مُسَمِيكَ ظَافِرًا ، تَقِفُ وَسَطَ الطرُقِ بَاكِيًا ، و فِي الْمُنْتَصَفِ ضَائِعًا ، كَالْأَسيرِ تَمَامًا طَالَبَ الدَّوَاءَ مِنْ قَاتِلِيهِ ، اِسْتَحيِ مِنْ أَفعَالِكَ ، اِسْتِسْلَاَمكَ لِلْخَسَارَةِ مُخْزِي ، لَا تَنْظُرْ إِلَى الْمِرْآةِ ، قَدْ لَا تَرى وَجْهِكَ ، أنْتَ غَيْرُ مَوْجُود ، لأنَّ وُجُودُكَ غَيْرِ مَعْنِيٍ بِهِ .
لَمْ يَنْتَهِ بِنَا الْجِدالُ عَلَى ذَلِكَ ، بَلْ وَعَدَّتُ لَهُ خساراته الْمُتَوَالِيَةَ ، حَتَّى أنني كِدتُ أَعِيرهُ ، وَلكْنَنِي أَمْسَكَتُ عَلِيَّ لِسَانِي عَلّ الشَّمَاتَةَ لَا تُدُورُ عَليَّ .
الرِّسَالَةُ كَانَتْ بِدُونِ مَظْرُوف ، دَلّ هَذَا عَلَى أَنَّ أَفَعَالِي أَصَبِحَتْ عَارِيَةً بِلَا رحمة تَحَفُّظِهَا
( سَيدْ زغفري .... سلَامُ اللهِ وَرحمتُهُ عَلَيكَ تَوَقَّعْتُ أَنْ أُطِيلَ بَيْنَ رَسَائِلَي ، وَ لَكُنَّ مَا حَدَثُ دَفَعَنِي لِإِرْسَالِهَا ، فَتَعَرُّضُكَ لِلْوُقُوعِ مَرَّاتُ عَدِيدُه لَا يَدْفَعُكَ لِلنُّهُوضِ ، بَلْ يَجْعَلُكَ تَمُوتُ مِنْ الدَّاخِل، وَالشَّيْءَ الَّذِي يُمَوِّتُ لَا يَحْيَى أَبدًا لَمْ يَأْتِيَ وَقْتُ الْبَعْثِ بَعْدَ، قَدْ يَحْيَى بِدَاخِلِكَ شَيْءٌ أُخَر، وَلَكِنْ تَبْقَى متذكرلأحداثِ الْوفَاةِ بِدَاخِلِكَ وَمَرَاسِمِ الدَّفْنِ وَالْعَزَاءِ، الْخَيْبَاتِ تؤذينا كَثِيرًا يا زغفري، وَكَلَا يَذْكُرُ خيباتَهُ جِيدًا، لَا دَاعِي لِلتَّذْكيرِ بِهَا )
تَفَكَّرْتُ بِكُلِّ حِرَفٍ فِي رِسَالَتِهَا، أَيَقْنُتُ بِنُبلِ أَفْكَارِهَا ، وَلِأَجَلْ ذَلِكَ أَوْرَيْتُ عَنْ صَفْوَانِ فِعْلَةِ مَالِكَةٍ الَّتِي أَحَبَّهَا، خَبَأْتُ كلماتِها الَّتِي حَدَّثْتِنِي بِهَا زَاهِرَةُ ، وَنَسَبْتُ حَديثَهَا إِلَى عَائِلَتِهَا .
***
لَا أَدْرِي لِمَاذَا هِنْدٌ أَصَبَحَتْ قَبْلَ سَفَرِي هَادِئَة ، تَنَظُر إليَّ غَيْر مُتَكَلِمَة ، تَتَكَلَّمُ غَيْرَ مُنْصِتَه ، أَحَادِيثُهَا لَاَهِيَةٍ ، قَسَتْ عَلِيَّ فِي ودَاعِهَا لِأَنِّي غَادِرَتُهَا ، اَعْتَقِدُ أَنّي سَأُبدِلُ حَالَهَا بِمُجَرَّدِ أَنْ تطئ قَدَمي تَمِيم .
الْيَوْمُ الْعَاشِرَ مِنْ تموز، مَرْحَبًا بِشَمْسٍ تُشْرَق حِينَ تَكُن الْأَرْضُ أَرضًا تَسْكُنها هِنْدٌ ، وَأَمُرُ بِبَيْتِهَا ، نَزِلْتُ بِزَاهِرَةٍ وَسَلَمَتُ عَلَيهِمْ ، كَانَ الصمْتُ يَسُودُهُمْ ، سَأَعْرِفُ خَبَرهُمْ ، وَلَكِن عَلِي أَنْ أَذَهَب إلَى بَيْتِي وَأَبْعَثُ رِسَالَةً إِلَى هِنْد أُخْبِرهَا بعودتي ، و قَدْ يَكُون اِنْتِشَارُ خَبَر قُدُوم الْقَافِلَةِ جَاءَهَا ، وَحَمَامَتِهَا بِدَارِي تُحَلِق ، خَرَجَتُ مِنْ بَيْت زَاهِرَة تَكَادُ خطواتِي تَسْبِقِني إِلَى دَارِي ، و أَمَسَكْتُ رَيّشْتِي و كَتَبْتُ إِلَيهَا
( قَدْ لَا تُدْرِكِينَ بِأَنَّ الشَّوْقَ هَشَمَ أَضْلُعِي ، وَيَا مَرْحَبًا بِكِي وَ بِحُبُكِي إذاَ كَانَ نِهَايَتُهُ لِقَاؤُكِي ، رَأَيْتُ طَيْفًا بِالْأَمْسِ حَائِرٌ، وَلَمَّا رَأَى بِالْعَيْنِ ظِلَّكَ اِهْتَدَى ، سَمِعْتُ أَنَّ الطَّيْفَ مُلَاَزِمًا لَكِي ، حَظي أَنّهُ تَتَبَعَ خطواتك )

لَمْ أَتَلًقَ بَرْقِية مِنهَا ، فَخَرَجَتُ قَدْ اِلْتَقِيهَا ، حَتَّى وَصُلْتُ إِلَى صَفْوَان ، احتضتنِي بقوة ، اعلم حب صفوان لي ولكن أبدًا لم يُعانقني بهذا الدفء من قبل ، عينا صفوان هاربتان منِي كلما التقيتهما ، سألته إن كان يدري عن خبر هند ، أخبرني أنِي قد أَجِدُهَا بِدَارِ الاحتفالات ، فَاِنْطَلَقَتُ مُسْرِعًا إِلَيهَا وَلَمَّا رَأَيْتُهَا وَاقِفَه ، بِعَيْناهَا اِبْتِسَامَة لَمْ أَعْهَدْ مِثْلهَا ، اِعْتَقَدْتُ أَنَّ حَبّهَا لِي كَانَ أَبْكَمُ ، وَ عَيْنَاهَا تَخْجَلُ ، اِقْتَرَبَتُ أَكْثَرْ دُونَ طَرْقٍ ، و لَمَا فَتَحَتُ الْبَابَ قَلِيلًا ، رَأَيْتُ عَينًا تُرَاسِلُهَا ، كَانَتْ يَدَاهُ تُمْسِك بِيدهَا، خَاتَمِي بِكَفِهِ كَانَ يُقْتَلُ ، أَقْبَلَ الشِّتَاءُ بِي مُبَكرًا ، رِيحهُ عَاتِيِهِ ، وَظُلِمَاتِهُ مَوْبِقِه ، مَطَرُهُ غَاضِب ، وَبرْدُهُ قَارِص ، لَيْلهُ طَوِيلٌ بِلَا نهَارٍ، فَزُلْزِلَ جَسَدِي، و خَرَّتْ قُوتِي ، أَغْلَقْتُ الْبَابَ متاسفاً لِعَيْنِي مَا رَأَتْ ، أَرَدْتُ فِي تِلْكَ اللَّحَظَةَ بِالتَّحْدِيدِ أَحَدًّا يَخْبِرُنِي مَاذَا أَفْعَل ؟
أَأَذْهَبُ إِلَى زَاهِرَة ؟ أَمْ أَنَّ صَفْوَانَ أقْرَبُ ؟ أَأُخْبِرَ عَامِرًا ؟ الْجَمِيعَ كانوا يَعْلَمُوا ، خَرَجْتُ مِنْ تَمِيمٍ ثُمَّ عُدَّتْ إِلَيهَا ، بَكَيْتُ ثُمَّ ضَحِكْتُ ، فَعُلْتُ كُلَّ شَيْء وَنَقِيضَهُ ، كُنْتُ بِالْحَقِيقَةِ أُرِيدُ أَنْ يَحْمِلَ أحَدَا هَذَا الثَّقَلِ مِنْ رَأْسِي .
فَكَأَنّكَ تَتَكِأُ عَلَى كَرَسِّي وَسَط الْأَشْجَارِ الرَّائِعَةِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ عِدَّة سَاعَاتٍ ، تَخَافُ أَنَّ الْإِرْهَاقَ الَّذِي أَصَابَكَ مِنَ اِتِّكَاؤُكَ يُظْهِرَهُ الرَّسَّامُ الَّذِي يَرْسِمَ اللَّوْحَةَ ، وَ إِذَا مَا اِنْتَهَى تَرْكُضُ إِلَى اللَّوْحَةِ ، اللَّوْحَةُ رَائِعَةٌ كَأَنّهَا الطَّبِيعَةَ نَفْسهَا ، غَيْر أَنَّ الْكُرْسِيَّ الَّذِي كُنْتَ تَتْكَأُ عَلَيهِ فَارِغًا ، اللَّوْحَةُ تَضَمَنَتْ الْجَمِيعَ إلا أُنْت ذَلِكَ الْإِحْسَاس الَّذِي أَصَابَكَ يُدْعَى الصدْمَة ، شَعَرْتُ بالصدمة تِجَاهَ هِنْد وَخِيَانَتَهَا ، أَظُن أَنَّ هِنْدًا خُلِقَتْ مِنْ طِين الْجَحِيمِ .
وَأَصْبَحَ الصَّمْت هُوَ مَذْهَبِي ، فَلَا طَائِلَة وَلَا فَائِدَة مِن الْحَديثِ ، أَشْعُر بِكَرَاهِيَةِ أَنّهُمْ يَشْعُرُونَ بِالشَّفَقَةِ تِجَاهَ فِعْلَتِهَا بِي ، وَكَأنّهَا ألصقت بِي عَارَهَا ، فِي ذَلِكَ الْيَوْم اِنْطَفَأَ شَيْءٌ بِدَاخِلِي ، مَرَّ عَامٌّ عَلَى زَوَاجِ هِنْدٍ ، بِتُّ أَنْسِبُ الْأَحْدَاثَ إِلَى هَذَا التَّارِيخِ ، مَعَ أَنّهُ الْأَكْثَرَ بؤسًا لِي ، نَحْنُ نَسْتَطِيعُ أَنْ نَتَجَاوَزَ الْأَشْخَاصَ .
وَلَكِننَا لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نتجاوز المواقع الَّتِي خُضْنَا بِهَا مَعَارِكَنَا ، نَتَعَثَّرُ بالجروحِ الَّتِي أورثَتْنَاهَا الْحُروب ، الْآلَاَمُ لَا تُغَادِرُنَا مُطْلقًا ، كَلَمَّا أَتَى الرَّبِيعُ تَذْكَرْنَا رَبِيعَنَا ، وَلَمَّا يَحِلُ الْخَرِيفُ يُؤَرِقُنَا ، كَالْعُشْبِ إِذَا مَال فانعوج ، تَذَكَّرَنَا أَنّنَا ذَهَبَنَا وَمَا عُدَّنَا .
أَوْ كَكُلمَا حَلَّ بِنَا طَيْفًا مِنَ الْعِطْرِ تَذَكَرْنَا ، كَمِثْلِ ريحهُ حِينَ كَانَ الْحَبيبُ هُنَا فَنَبْتئسَ ، نَحْنُ نَشْتَاقُ دفًء حَلَّ بِنَا مِنْ بَعدِ بَرْدًا ثُمَّ رَحَل ، نبكي حَالنا، أَوَ أَنَّنَا هُنَّا عَلَى مَنْ أَحَبَبْنَا ، وَعُدْتُ مَرَةَ أُخْرَى إِلَيهِمْ كَقَائِدٍ خَانهُ جَمِيعَ جُنُودهُ فَاِنْهَزَمَ ، نَسِيَ الْجَمِيعُ مَا حَدَث ، وَلَكِني إِلَى هَذَا الْيَوْم أَذْكُرُ .


( 2)


- رَحِمَ اللَّهُ أَبَا مَنْصُورٍ ، أَتَدْرِي يا منصورَ فَزِعْتُ لِمَوتِهِ ، كَانَ رَجُلًا حَلِيمًا مَاتَ صَحِيحًا بِلَا عِلَّةِ يَشْكُوهَا
- اِخْفِضْ صَوْتَكَ يا زغفري ، الْمَرَضُ فَتَكَ بِهِ
- كَيْفَ ذَلِكَ ؟ مُنْذُ مَتَى ؟ لِمَا لَمْ يَخْبَرْنِي أحَدٌ بِمَرَضِهِ ؟!
- أَنْتَ تَائِهٌ و مُمَزَّقٌ يا صَدِيقِي ، صَامَت حِينَ تَتَكَلَّمُ ، جَائِع وَأَنْتَ تَأْكَلُ ، غَضْبَان وَأَنْتَ تَضْحَكُ ، اِسْتَسْلَمْتَ مُبَكِّرًا وَأَنْتَ لَمْ تَخُضْ السّبَاقَ بَعْدَ ، أَرْهَقَكَ الْمَاضِي يا زغفري ، رَوحَكَ هَرِمَه رُغْمٍ أَنّكَ غَدَوْتَ فَتِيًا ، لَمْ تَلْحَقْ بالكهولةِ بَعْدَ .
أَكَمَلْتُ جَلْسَتِي مَعَ مَنْصُور غَيْرِ مَوْجُودٍ، صَامِتْ وَكُل مَا بِي يَتَحَدَثُ.



يَقُولُ عَامِرٌ: اِعْلَمْ أَنَّ حَرَارَةَ النَّارِ تُنْضِجُ خَبَزًا، وَلَكُنْ مَاذَا يا عامر إِنْ كَانَ الدَّقيقُ لَا يُرِيدُ أَنْ يَصْبَحَ رَغيفًا، وَمَاذَا إِنْ كَانَتْ سَنَابِلُ الْقَمْحِ لَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ دَقيقًا ، لَيْسَتْ كُلُّ الْوُجُوهِ تَبَسَمتْ عِنْدَ وِلَاَدَتِكَ ، وَلَنْ تَبْكِيَ كُلُّ الْعُيُونِ عِنْدَ وفَاتِكَ، لَيْسَتْ كُلُّ الْأَفْعَالِ يَستَصيغَها الْعَالِمِينَ بِطَعَمِهَا فِي فَاكَ أَنْتَ .
يَوْمُ السَّابعِ مِنْ شَهْرِ كَانون الثَّانِي ، أُتَّتْ زَاهِرَةُ إليَّ ، نَظَرْتُ إليها مُرحبًا ، وَلَمَّا اِقْتَرَبْت :
- سَيِّدَتُي هَلّا عُودْتِي إِلَى مَنْزِلُكِ ، وَسَأَبْعَثُ لَكِ بزغفري نَفْسهُ يَحْمِلَ الْأَقْمِشَةُ لِتَخْتَارِي مَا شِئْتِ . ضَحِكَتْ :
- زُمُرُدَةَ تُرِيدُ أَنْ تَبْتَاعَ بَعْضُ الْأَقْمِشَةِ ، أَرِنِي مَا عِنْدكَ يا زغفري .
اِخْتَارَتْ السيده زُمُرُدهُ قطعةً ، وَلَمَّا أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَهَا ، أَهْدَيْتُهَا إِيَّاهَا ، وَفِي الْيَوْمِ التَّالِي أَتَتِّ السيدة وَتَرَكْتْ لي وَرِقَةً مَعَ صَفْوَان ، فَتَحْتهَا
( ثُمَّ إِنْ عَيِّنِيكَ كَانَتْ أَشَدُّ إشْرَاقَا مِنْ شَمْسِ ذَلِكَ الْيَوْمَ لَمْ أَرَ شُرُوقَا كَهَذَا مِنْ قَبْلَ)

- صَفْوَان ، مَنْ تَرْك هَذِهِ الْوَرِقَةَ ؟
- اَعْتَقَدْ أَنّهَا السيده الَّتِي أتَت مَعَ زَاهِرَةِ اللَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ ، أَيُّ حَديثِ فِي الورقه أَرَبَكَ ؟
- لَا شَيْء ، تَقَوُّلُ السيدةَ أُنَّ الْقطعةُ سَيئةٌ لِلْغَايَةِ ، وَأَنَّ عَلَينَا إيجادُ خامَاتٍ أَفُضُل
- لَا عَلَيكَ يا زغفري ، دَعِكَ مِنهَا
أَوْمَأتُ برأسِي مُوَافِقًا على ما يَقُول .
كُنتُ أَعْلَم أَنّهَا سَتَأْتِي مَرَّة أُخْرَى ، بَلْ كُنْتُ عَلَى يَقِينِ مِنْ ذَلِكَ ، كُنّْتُ أَنْتَظِرْ قُدُومِهَا .
وَلَمَّا نَزَلتْ بِنَا نَادَيْتُهَا :
- سَيِّدَتَي ، هَلَّا اِقْتَرَبْتِ ؟ اَعْتَقَدْ أَنَّ الْوَرِقَةَ تُرِكْتْ بِالْخَطَأ ، لَمْ أَهْدِي إِلَيكِ القطعةِ لِأَنّكِ أَنْتِ ، بَلْ لِأَنَّ زَاهِرَة كَانَتْ مَعَكِي ، أَرْجُو أَنْ تَعِي ذَلِكَ
نَظَرَتْ إلِي ، رَأَيْتُ عَيْنَيْهَا ، اِبْتَلَّ وِشَاحُهَا ، كَانَتْ دُموعُهَا تُمْطِر ، صَمَتُ قَلِيلًا ، كِدْتُ أَنْ أَعْتَذِرَ لَهَا ، وَلَمَّا رَأَيْتُ وَرِدَّةً مُطَرِّزَةً عَلَى وِشَاحِهَا ، اِنْصَرَفْتُ عَنهَا ، وكَأَنَنِي رَأَيْتُ هِنْدٌ بِوِشَاحِهَا .
ضَاقَ صَدْرِي ، وفي الليل ذهبنا إِلَى شَجِرَةِ الْبَلوطِ ، قَاطعَ صفوان الصَّمت بيننا :
- زغفري ، مَاذَا اِقْتَرَفْتَ مَعَ السَّيِّدَةِ ؟ كَانَتْ مُنْزَعِجَةُ حِينَ رَحَلَتْ عَنكَ
- أَخْبَرَتَهَا أَنْ لَا تَأَتِّي مُطْلِقًا إِلَى حَيْثُ تَجِدُنَا
كُنْتُ أُرِيدُ أَنْ يَنْتَهِيَ الْحَديثُ إِلَى هَذَا الْحَدْ
، وَلَكُنَّ مَنْصُور رَآنَا نَهْمِسُ بِعَيْنِهِ الخَلْفِيه المُخَبَأَه خَلْفَ الْوِشَاحِ ، فَاِسْتَدَارَ إِلَينَا مُنَادِيًا :
- صَفْوَان ، مَاذَا يَجْرِي هُنَا
فَحَكَى لَهُ صفوان مَا حَدَث :
- اِشْتَرَتْ سَيِّدَة مِنَّا أَقْمِشَةٌ ، وَلَمْ تَرْضَى عَنهَا ، وَلَكِنَّ السَّيِّدُ زَغَرِي لَمْ يُعَجِبُهُ اِسْتِيَاؤُهَا فَعَاقَبَهَا عَلَى ذَلِكَ . فَاِلْتَفَتَ إليَّ مَنْصُورَ :
- زغفري ، فِي هَذَا الْعَالِم يُوجِدُ ثَلَاث أَنْوَاعِ مِنَ اِلْحِيَاهُ : أَولَهُمْ أَنْ تحيا لِمُجَرَد أَنّكَ تَشْعُرُ بِنَبْضِ قَلْبِكَ ، وَهَذَا يَصْدُرْ عن كَوْنِكَ ضَعِيفَ الإرَادةِ ، إِنْ سَرَّتْكَ اِلْحِيَاهُ ضَحِكَتَ ، وَإِنْ ضَاقَتْ عَلَيكَ عَبِسْتَ ، وَالثَّانِي أَنْ تَحِيَا بِاِحْتِرَامِ تُبَادِلُهُ مَعَ مَنْ حَوْلكَ ، لَا تَفْرَح وَلَا تَأْسَى
مَنْ أَسَرَكَ أَحَبَبْتُهُ وَمَنْ عَادَاكَ أَبْغَضُتُه ، لَا تُرى أَحَدًا ، أَنْتَ تُرى أَفعَالَهُمْ فَقَطْ ، وَهَذَا كَوْنُكَ خَائِفًا أَنْ تحيا ، أَمَّا الثَّالِثَ فَأَنْ تحيا مُحِبًا ، تَحَبُّ أَرَوَاحًا وَأُخْرَى تُنَافِرُهَا ، إِنْ أَخْطَأوا سَامَحْتَهُمْ ، و إِنْ أَسَاءوا لِنْتِ لَهُمْ ، وَهُنَا عَلَيكَ أَنْ تُكُوِنَ قَوِيًّا
- مَاذَا أكُوَنّ أَنَا ؟
- ضَعِيفًا ، حَتَّى أنَّنِي أَخَافُ أَنْ أَلَمِسَ روحَكَ فَتَنْهَارُ أَمْسَكَتُهُ مِنْ عُنُقِ قَمِيصَهِ وَجذبتُهُ إلِي :
- أَيَجِبُ عَلَيَّ أَنْ أُسَامِحَ هَنَدَ يا هَذَا ؟
- لا ، يَجِبُ عَلَيكَ أَنْ تُسَامِحَ نَفْسَكْ ، اغْفِرْ لنَفْسِكَ ضَعْفَهَا .
تَرَكْتُهُ و انصرفتْ ، لَحِقَ بِي صفوان :
زغفري ، انْتَظِر
- دَعْكَ مِنْ هَذَا الهُرَاء يا صفوان ، عَلَي الْرَحِيل بَاكِرًا حَتَّى أَبْتَاعُ الأقمشةَ ، وأَنْتَ أَيْضًا عَلَيكَ الاسْتِيقَاظُ ، بالمُنًاسًبةِ لَمْ أَقْلْ لَهَا مَا يَسْتَدْعِي البُكَاء ، وَمَا كَانَ عَلَيْكَ أَنْ تَحْكِي لِمَنْصُور مَا حَدَثٌ ، الأمرُ أتفه بِكَثِيرِ مِنْ أَنْ يُحْكَى
فَسألني بِتَعَجُبْ :
- أَكَانَتْ بَاكِيَةٌ ؟! ثُمَّ إِنَ مَنْصُورَ اِسْتَدَارَ بِشَكْلِ مُفَاجِئِ إِلَينَا
فقلتُ له :
- مَنْصُورٌ كَانَ يَنْظُرَ إِلَينَا بِعَيْنِهِ المُخَبَأة
فأَعاد سؤاله :
- مَاذَا عَنِ السيدة ؟
- كَانَ وِشَاحُ وَجْهِهَا مُبْتَل ، رَأَيْتُ عَيْنهَا تَبْكِي
- زغفري أَلَا تَلَاحُظ أَنّكَ تَرى مَا يُخَبَّئ خَلْفَ الأسدلةِ يا صَدِيقِي !
- اِحْذَرْ يا صَفْوَانِ أَنْ تَتَمَادَى كَثِيرًا فِي تَعْنِيفِي .
رَحَلْتُ عَنْهُ ، خَائِفًا مِني ، مَا قَالًهُ صَائِبًا ، لَمْ تُغْمَضْ عَيْنِي حَتَّى كَتَبْتُ إِلَى زُمُرُدهُ رسالةً مِنِي ، لَا أَعْتَذِرُ فِيهَا عَمَا حَدَثٌ ، وَلَكِنّي أُوَضِحُ لَهَا فَعِلَّتُهَا الخَاطِئَة تُجَاهي



( سَيِّدَتَي :
الْعَالَمْ لَيْسَ مَكَانًا آمِنًا لِأَنْ تُحِبِ ، الْفِرَاق يَتَرَبَّصُ بأزقةِ الطَّرِيقِ ، الْفَقْدُ وَلِدَ مَعي ، وَ أُصَبَحَ جُزْء مِني ، فَقُدَّتُ مَنْ لَمْ أَرَاهُمْ وَأَشْتَاقُ إِلَيهُمْ ، لِلْفَقْدِ مِرَارة حَفِظَكِ اللَّه مِنهَا ، كُنْتُ قَدْ عَاهَدْتُ نَفْسي أَنْ أَبْقَى بِجوَاري ، وَأَتَحَصَّنُ بِي ، كَفَّانِي شَوْقًا ، كَفَّانِي فَقْدًا ، صَدِّقِينِي الْخَارِجَ لَيْسَ آمنًا بِالْقِدْرِ الْمَطْلُوبِ )
ثَمَّ ذَهَبْتُ إِلَى زَاهِرَةٍ
- زَاهِرَةُ مَنْ زُمُرُدَة ؟
- صَدِيقَتِي اِبْنَةُ السَّيْدْ قَاسِمٌ لَمْ أَدَعُهَا تُكْمِلْ ، وَأَعْطِيَتُهَا رسالتي الْأوْلَى إِلَيهَا
- هَلْ جُنِنْتُ ، أَيُّ رِسَالَة تَبْعَثُهَا وَلِمِنْ ؟!
- أوْصِلِي هَذَا الْمَظْرُوفِ إِلَى اِبْنَةِ السَّيِّدِ قَاسِم
ثُمَّ رَحَلْتُ عَنهَا .

لَمْ أَكُنْ عَلَى شَكّ مَنْ أَنَّ زَاهِرَةَ سَتُوَصِلُ الْمَظْرُوفُ إِلَى زُمُرُدَة ، وكنْتُ عَلَى يَقِينٍ بِأَنَّ زُمُرُدَةَ سَتُرْسِلْ إلي رِسَالَة ، وَلِذَلِكَ لَمْ أَذْهَبْ إِلَى زَاهِرَة خشية استلام الرسالة ، فَجَاءَ إليَّ عَامِرًا ، يَبْدُو أنني وُرُطُتُ بِمَا لَيْسَ لِي طَاقُهُ لِحَمْلِهِ فَتَعَنْفتُ أَمَامهُ ، وَلَكِنهُ كَانَ أَكْثَرُ هُدُوء مَنْ عَادَتِهُ وَخَاطَبَنِي بِلَهِجِهة هَادِئِهة :
- لِمَاذَا لَمْ تَذْهَبْ مَعَ القافلة ، ثُمَّ إِنْ زَاهِرُه تَسْأَلُ عَنْ غَيْبَتِكَ هَذِهِ
فأَكْمَلَ صَفْوَانُ :
- بالمُنَاسَبَة يا زغفري ، تِلْكَ السَّيده أَتَتْ مَرَّةَ أُخْرَى ، فَاِعْتَذَرْتُ لَهَا عَنْ سُوءِ القطعةِ الَّتِي ابتعاتها الْمَرَّةَ الماضية
فَقَاطَعْتَهُ :
- هَلْ تَلَمَسَتْ خَبَرِي ؟
فَنَظَرَا كِلَاهُمَا إلِيَّ فَضَحِكْتُ بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ ، اعْتَقَدْ أَنَّ هَذِهِ المَّرة الْأوْلَى الَّتِي ضَحِكْتُ فِيهَا مُنْذُ عَامٍ كَامِلًا ، فَكَفَانَا اللَّه الْخَيْبَاتِ الَّتِي تُوجِعُ أَرَوَاحَنَا .
لَيْلةُ الْوَاحِدُ وَالْعُشْرُون مِنْ كانون الثَّانِي ، دَخَلْتُ دَارِي المظلمةِ ، فُزِعَتُ مِنْ رؤيتِي هَدِيَةً مَوْضُوعَة عَلَى رَفٍ خَشَبِي ، رَأَيْتُ رِسَالَةِ دَاخِل العَلْبَة المُغْلَقَة ، فَفُزِعَتُ أَكْثَر، يَبْدُو أَنَّ صَفْوَان مُحِقًّا، أَرَى مَا يُحْفَظَ خَلْفَ الأَحْجِبَه ، مَنْ دَخْل دَارِي ؟ وَمِنْ وَضْعَهَا ؟ فَتَحْتُهَا حَتَّى كِدْتُ أَنْ أَمَزِقَ غِلَاَفُهَا ، مَنْدِيل حَرِيرِيّ مُطَرَّز بِخُيُوطِ بَنَفْسَجَيْة ، خُطَّ عَلَيهِ ( زغفري) فَتَحْتُ الْمَظْرُوفَ .
أَتَمَنَّى أَنْ تُعْجِبُكَ هَدِيَّتِي إِلَيْكَ ، وَضَعَتُهَا عَلَى الرَّفِ الْخَشَبِي ، رَاقَ لِي كَونُهَا أَوَّلَ مَا سَتْرَاهُ عِنْدَ دُخُولِكَ ، رِسَالَتُكَ لِي الَّتِي حَذَرْتَنِي فِيهَا ، لَمْ تَكُنْ صَادِقًا فِي كَوْنِكَ تُخَاطِبُنِي ، أَنْتَ تُخَاطِبُ نَفْسكَ يا سَيِّدِي ، تَكَلَّمْتُ فِيهَا عَنْ فَقْدِكَ أَنْتَ ، ياء مُتَكَلِّمَكَ انْهَيْتَ بِهَا جَمِيعُ كَلِمَاتِك ، حَذَرَتْ نَفْسكَ أَنْتَ ، كَانَ الْأوْلَى أَنْ تُوَجَّهَ إِلَيْكَ
عِشْتَ عَزِيزًا )
لَمْ أُفَكِرْ إلا كَيْفَ وَصَلْتَ الْهَدِيةُ إِلَى هُنَا ، مِفْتَاحٌ وَاحِدٌ مَعِي ، وَلَكِني إِنْ سَأَلَتُ زَاهِرُةَ بِشَكْلٍ مُبَاشِرٍ لَنْ يُفْلِحَ الْأَمَرُ مَعهَا ، وَعِنْدَ الْاِنْتِهَاءِ مِنْ عَمَلي ذَهَبْتُ إِلَيهَا .

- زَاهِرَة ، اَعْتَقِدَ أَنّي ضَيِّعَتُ مِفْتَاحُ بَيْتِي ، هَلْ تَمْلُكَيْنَ أَخَر ؟
- لَا ، أَحَقًّا أَضَعَتَهُ ؟
- أَرَدْتُ التَّأْكِيدَ عَلَى طِلَبِي
- يَبْدُو أنَّنِي سَأَبِيتُ الليلة بِدَارِكِ
- مرحبًا بِكَ هَذِهِ الليلة ، وَكُلُّ لَيْلة .
اِسْتَمَرَّتْ مآمرتي عَلَيهَا أُسْبُوعًا كَامِلًا دُونَ جَدْوَى ، لَمْ يَظْهَرْ أَيُّ مِفْتَاحِ أَخَرِ لِلْمُنْزَلِ ، فاِنْتَظَرْتُ زُمُرُدَه حَتَّى أَتَتْ ، أَمْسَكَتُهَا مِنْ طَرِف رِدَائِهَا ، وَجَذَبْتُهَا إلِي :
- اَنْتَظَرُكَ عِنْدَ ضِفْة النَّهْر
- مَتَى ؟
- بِمُجَرَّدِ ذَهَابِيْ .
أَسْرِعَتُ إِلَى هُنَاكَ ، وَحِينَ اِلْتَقَيْتها ، كَانَ سُؤَالِي الْأَوَّلِ :
- كَيْفَ أَوْصَلْتِ الهدية إلِيَّ ؟

- أَسَتَطِيعُ الدُّخُولُ إِلَى أَي مَكَانِ شِئْت ، إذاَ كَانَتْ بِهِ ثَغْرَه وَاحِدُه ، وَبَيْتُكَ ملِيئ بِالثُّقُوبِ تَبْدُو لَكَ أَنّهَا صَغِيرَه ، وَلَكِنَنِي اِسْتَطَعْتُ الدُّخُولَ مِنهَا . عُلِقَتْ عَيْنِايا بِعينَيْهَا، ثُمَّ الِتَفتُ بِكَامِلِ جَسَدِي، عَلِمْتُ أَنَّ الْأَمْرُ لَنْ يَفْلَحْ بِاِنْتِشَالِ عَيْني فَقَطْ
- عَزِيزَتَي ، يَبْدُو أَنَّكِيَ صَغِيرُةٌ بِالْقِدْرِ الَّذِي قَدْ يَجْعَلُكِ تَجْهَلِينَ خطورة فِعْلَتِكِ، وَ اِقْتِرَافهَا مَعي عَلَى وَجْهٍ خاص ، ثُمَّ إِنْ الْحُب الَّذِي تَبْحَثِينَ عَنهُ هُوَ لِعَذَابٍ بِلَا مَغْفِرَةٍ ، وَ وَجَعٍ لَا يَنْفُذُ ، دَاءٌ لَا يَبْرَأُ ، سرَابٌ تَحْسَبِينَهُ مَاءٌ وَهُوَ الْجَحِيمُ الْأَعْظُمُ ، اهربي مَتَى وَجِدتِه ، هُوَ شُعْلَةٌ خَافِتَه الْآنَ بِقَلْبِكِ إِنْ تُرِكَ سَتَحْرِقِينَ عَالَمَكَ ، اطْفِئيه حَالًا .
تَرَكْتُهَا وَاِنْصَرَفْتُ عَنهَا خِشْية أَنْ تَلْحَقَنِي ، رَكَضْتُ اَخْتَبِئَ مِنهَا حَتَّى وَصَلْتُ إِلَى صَفْوَان ، حَكَيْتُ لَهُ مَا حَدَثَ :
- زغفري ، قَلْبُكَ سَيَرْشِدُكَ أَيُّ طَرِيقِ تَتَبعُ ، اِغْمِضْ عَيْنيكَ
- لَا ، بِالدَّاخِلِ مُزْعِج أَشَدُّ خَرِابًا مِنْ حَوْلِي .
- تَذَكَر دَائِمًا ، أَنَّ قَلْبَكَ مَا زَالَ يَنْبِضُ
- لَا ، إِنّهُ مُحَطِّمَ لِلَغَاَيْة ، إِنّهُ يَشْهَقُ مُنْذُ أَنْ رَأَيْتَهَا تُمْسِكْ بِيدَهُ
- أَمَا زِلْتَ تُحِبُ هِنْدًا يا زغفري وَتَشْتَاقُ لَهَا ؟
- لَا ، كُلَمَّا قَسَى قَلْبِي عَلَيَّا بِهَا ، قَسَوْتُ عَلَيهِ بِفعلتِهَا ، وَأَنْتَ يا صفوان ، مَا حَالُ مَالِكَةٍ ؟
- أَنْ يَكُونَ الْألَمُ أَشِدُّ مِنْ أَنْ تَشْعُرَ بِهِ .
***
تَمْضِي الْأيَّامُ وَأَنَا مَا زِلْتُ عالِقًا بِيَوْمٍ مُحَدِّدٍ ، تَوَقَّفَتْ الْحَيَاةُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمَ بِالتَّحْدِيدِ ، و لَكِنْ زُمُرُدَه لَمْ تَمِلْ وَلَمْ تَيْأَسْ ؛ لَمْ تَرْحَمْ جُرُوحِي الَّتي لَمْ تَبْرَأ ، فِي البداية بَدَأْتُ بالمقاومةِ ثُمَّ بَدَأْتُ أَنْحَنِي ضِعْفًا ، كُنْتُ أَذَهَبُ إِلَى النَّهْرِ للِقَائها صَدَفِهِ ، فَألْتَقِيهَا اَنْظُرْ إِلَيهَا وَلَا أُحَادِثُهَا ، حَتَّى أَتَتْ إلِي تَقْتَرِبُ فَأَتَزَحْزَحُ أنا جَانِبًا .
- كيف حَالكَ يا زغفري ؟
- بِخَيْرِ
- النَّهْرُ رَفيقِي مُنْذُ صِغَرِي ، وَلَكِني لَمْ أَعْهَدَكَ تَأَتِي إِلَى هُنَا
نَظَرْتُ إِلَيهَا ، لَمْ أَسْتَطِعْ التَّحَدُّثَ ، أُقْسِمَ أنَّنِي كُنْتُ أُرِيدُ أَنْ أَتَكَلَمَ لَكِنْ شَيْئًا مَا يَمْنَعُنِي فَاِسْتَكْمَلْتْ :
- أَنْتَ هُنَا لِأَنّكَ أَرَدتَ ذَلِكَ فَقَاطَعْتُهَا :
- اُنْظُرِي ، الدُّخَّان يَصْعَدُ مِنْ دَاخِلِي
- لَا بَأس ، هَذَا الدُّخَّانَ دَليلٌ أَنَّ قِنْدِيلًا بِدَاخِلِكَ كَانَ مُشْتَعِلُ
- لَا ، كُنْتُ أَحْتَرِقُ
- وَلَكُنَّ الْحَبُ لَا يَحْرَقُ
- يَجِبْ عَلَيْنَا أَنْ نَنْسَبَ الْأَشْيَاءَ إِلَى النِّهَايَاتِ
- إذاَ هَذَا الدُّخَّان يَدِلُّ عَلَى أَنَّ الْحَرِيقَ قَدْ اِنْطَفَأَ ، أَخْبَرَنِي بِمَاذَا تَشْعُرُ بِالتَّحْدِيدِ
- يُلَازِمُنِي شُعُورَيْنِ ، الْأَوَّلَ ، أَشَعْر بِالْإِحْبَاطِ ، أُرِيدُ أَنْ أَفْعَل وَلا أَسْتَطِيعُ ، أُعَانَ وَلَا أُعِيْن
ثُمَّ صَمَتُ
- مِنْ فَضْلِكَ ، تَابِعَ
- أمَّا الثاني فهو الصمت ، لَا أُرِيدَ التَّحَدُثَ ، لَا فائده
أَمَسَكْتْ بِوَجْهِي وَأَدَارَتُه مُقَابِلَا لِوَجْهِهَا تَمَامًا ، وَنَظَرْتْ إلِي :
- أَرْهَقَتْكَ الْحَيَاةُ يا زغفري ، وَحَانَ الْوَقْتُ لِأَنْ تُرِيحَ قَلْبَكَ ، أَطْلُبُ مِنكَ صَعْبًا أَنْتَ تُفُوقُهُ قُوة ، اُتْرُكْ نَفْسكَ إليَّ وَهَبْتُ لَكَ الْحَيَاة
ثُمَّ بَاغَتُهَا بِسُؤَالِي
- ملائكيةٌ أَمْ إِنْسِيَّةٌ أَنْتِ ؟
- خُلِقَتُ مِنَ الطِّينِ ، وَاَنْتَسَبُ لجنسِ حَوَّاء فِي فَصِيلَةِ الْإِنْسِ ، أَمَّا سُؤَالِكَ عَما تَرَاهُ بِعَيني فَماهُوِ إلا اِنْعِكَاسُ مَا بِدَاخِلِكَ أَنْتَ ، إِنْسِي أَمْ مَلَاَئِكِي أَنْتَ ؟
تمنيتُ في تلك اللحظةَ لو أنَّها ضَمتْنِي ، فَدفنْتُ روحي بداخلها ، علَّها تُنْبتُ روحًا جديده تليق بها .
تَرَكْتُهَا وَغَادَرْتُ بَعِيدًا ، لَمْ يَكُنْ لِلنُّوَمِ بَابًا يَدْخَلُ إلِي مِنهُ ، كُنْتُ أَخْتَنِقُ لَيْلًا ، أَشَعْر بِالْخَجَلِ كَوْنِي أَقِفُ فِي الْمُنْتَصَف ، لَا أَسَتَطِيعُ التَّقَدُمْ ، تَهْتِفِينَ لِي وَكَأَنِّي بِسبَاقِ مُنْهَزِمٍ ، ثُمَّ يخَفتُ صَوْتَكِ ، تَعْبُرِينَ أَمَامي بِشَكْلٍ وَاضِحٍ وَمَنْطِقِي ، يَدِكِ تَمْتَدُّ إلِي ، وكأَنَنِي مُثَبِّتٌ بِالْأَرْضِ ، فَلَا تَسْتَطِيعِي لِي جَرَّا ، فَتَلَوحِيْنَ لِي عَلَّنِي أَلَحَقُكِ ، فَلَا أَسْتَطِيعُ ، وَمَا عَلِمْتِ أَنَّ سَاقَي تَنْزِفُ .
قَرَرْتُ أَنْ لَا أَذَهَبُ إِلَى النُّهُرِ مُطْلِقًا ، كُلَمَّا رَأَيْتُ زُمُرُدَهُ اِسْتَذْكَرَتُ هِنْدًا بِحَبِّهَا وَجَرَمِهَا ، فَأَغْلَقْتُ هَذَا الْبَابَ تَمَامًا ، وَعَنْدَما رَأَيْتُ مَظْرُوفًا عَلَى الرَّفِّ الْخَشَبِي ، عَلِمْتُ بِأَنّهُ مِنهَا ، وَسَحَبْتُهُ ثُمَّ تَرَكْتُهُ ، لَمْ أَسْتَطِعْ تَرْكَهُ حَتَّى الصَّبَاحِ فَفتحتِهِ ( حمدًا لله عَلَى كَوْنِكَ خُلِقْتَ فِي هَذَا الْعَالِمُ ، وَفِي هَذَا الزَّمَانَ وَ لَوْ غَيْرَ ذَلِكَ لِحَييْتُ اَبْحَثُ عَنكَ بِلَا جَدْوَى ، فَسَلَاَمًا مِنَ اللَّهِ عَلَيكَ ، اِعْلَمْ بِأَنّكَ لَا تَتَأَلَّمُ لِأَنَّ هِنْدًا خَانَتِكَ بَلْ لِأَنّهَا فَعَلَتْ وَأَنْتَ تُحِبُّهَا ، فَخِيَانَةُ الْعَدُو تُدْعَى خُدْعَه ، تَوْقِيَتْ الْحَدَثُ يُغَيِّرُ مَذَاقَهُ ، و اِعْلَمْ أَنَّ بَتْرَنَا لِلْأَحْدَاثِ الَّتِي تَحَدُث لَنَا بِذَكَرِ كُلِّ جُزْءٍ عَلَى حَدَه يُشَتتَ عُقُولَنَا وَنَصْبَحُ أَقَلَّ إِدْرَاكًا لِلْحَقِيقَةِ
ثُمَّ إِنَ الْحَبَ هُوَ الْمَأْمَنُ وَسُطَ الْفَزَعِ ، ظِلٌ يُظِلُّكَ ، رحمةٌ تَتْسِعُكَ ، جَيْشُكَ الْعَارِم ، الْحُبُ هُوَ آمانُ هَذَا الْعَالَم ، دُمْتَ جَمِيلًا تَفْوَقُ الْجِمَالَ جَمَالًا
عَشْتَ عَزِيزًا )


ظَلَّتْ الرَّسَائِلُ تَتَوَالَى بَيْننَا وَاللِّقَاءَاتُ أَصَبِحَتْ مُتَكَرِّرُه يَوْمِ الْخَامسِ عُشِرَ مِنْ أيلول كَانَ رِجَالُ الْبَلَدَةِ مُجْتَمَعَيْنِ لَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ جِيدًا، وَحِينَ دَخْلِنَا زَحْزَحَ لَنَا رَجِلٌ فَرَاغًا مَلئتُه بِالْمُنَاصَفَةِ مَعَ صَفْوَان وَبَدَأْتُ أُلَمْلِمَ الْكَلِمَاتِ مِنْ هُنَا وَهُنَاكَ
يَبْدُوا أَنّهُ أَمرًّا سَيِّئًا، بَلْ أَسُوءُ مِمَّا تَوَقَّعْتُ ، تُوَفِّيَ السَّيِّدُ قَاسِمٌ ، وَالِد زُمُرُده، بَدَأْتِ أَتُسَائِلُ كَيْفَ ؟ وَمَتَى ؟ وَعَلِمْتِ أَنَّ مَرَضهُ تَضَاعَف ، لَمْ أَكِنْ أَعَلْم ، وَمِنْ سَيَخْبَرُنِي وَأَنَا مَا زِلْتُ مُعْتَكَفًا بعزلتِي، شَارِدًا مِنْ نَفْسِي ، سَاءَنِي إِنْ فَاتَ وَدَاعِي لِأحَدِهِم ، أَوْ أنَّنِي لَمْ أَشْهَدْ أَفَرَاحَهُمْ ، وَمِنْ الْبُؤْسِ أَنْ تَعَلَقَ بِحَدَثٍ مَا فَاتَ وَاِنْقَضَى، الْعَالِمَ لَنْ يَغْفِرَ لَكَ هَذَا ، الْبَشر لَا يَغْفِرُونَ .
حَمَلْتُهُ عَلَى كَتِفِي مَعَ أَبِنَائِهِ ، وَوَارَيْتِهِ بِالتُّرَابِ، جَلَسْتُ بِجَانِبِهِ عِنْدَ قَبْرِهِ ، شَعَرْتُ أنَّنِي أُرِيدُ ذَلِكَ ، وَأَسْرَعْتُ إِلَى النَّهْرِ كُلَّ يَوْم انْتَظِرُ زُمُرُدَه حَتَّى أَتَت
- زُمُرُدَه ، رَحَمَ اللَّهُ السَّيِّدَ قَاسِم

- كَانَ مَرِيضًا، و دَلَّتْ اللَّيَالِي الْأَخِيرَةُ عَلَى قرب وفَاتِهِ ، لَكِنَّهُ لَمْ يَكِنْ وَحَيْدًا فِي مَوْتِهِ ، وَجُودَ عَائِلَةٌ لَا يَضْمَنُ لَكَ أَنْ لَا تُمَوتَ وَحَيْدًا، أَمَّا اِمْتِلَاَكُكَ حَبيبًا ضَمْنَ لَكَ ذَلِكَ، اللحظةُ الأخيرةُ قَبْلَ وفَاتِهِ واجَهاها معًا
– مَنْ؟
- وَالِدَاي ، وأَظُنُه لَنْ يَكُنْ وَحِيدًا فِي قَبْرِه
نَظَرْتُ إليها بتعجب ، فأَجْمَعَتْ يَدَاهَا
- الْأَرْوَاحُ تَتَلَاقَى يا زغفري ثُمَّ رَحَلَتْ، وَقَبْلَ أَنْ تَغَيب عَنْ عَيْني ، نَظَرتْ إلي وَنَادَتْنِي بِصَوْتٍ يَمْلَؤه التَّرَجِي :
- زغفري، لَا أُرِيدُ أَنْ أَمَوْتَ وَحِيدُةً
- اِعْتَادِي الْحَيَاةِ وَحِيَدِة ، وَلَا تَطْمَعِي فِي الاثنتين : الْمَوْت والصحبة، اِكْتِفِي بذاتك، لَا تَنْتَظِرِي مِنْ أحَدِهِمْ شَيْئًا، لِلْجَمِيعِ أَعْيُنْ خَائِنَة ، الْجَمِيعَ خَائِن، وَالتَّوْقِيت سَيُحَدِدُ مَذَاقَ خِيانَتِه
فَاِقْتَرَبَتْ وَمَالَتْ إليَّ :

- أَنْتَ لَسْتَ عالِقًا بِذَلِكَ الْيَوْمَ أَنْتَ تَعَلَقُ بِحُبِ هِنْدِ نَفْسهَا، خُيِّلَتْ لَكَ أَنّهَا الْجَنه وَنُبِذْتَ عَنهَا، فَلَا أَرْض تُرَضِيَكَ بَعْدهَا .
وَرَحَلْتْ ، كَانَتْ مخطئة ، لَقَدْ تَجَاوَزَتُ هِنْدًا وَلَكِنَنِي آسَى لكآبه وَألَم مَا حَدَث مَا زِلْتُ أَذْكُر، فَخَلَدْتُ إِلَى الصَّمْتِ مَرّه أُخْرَى ، لِأَنَّ لَا طَاقُة لِي بِالْحَيَاةِ بَعْدَ ، مَلَلْتِ أَنْ أَرَى مَظْرُوفُهَا عَلَى رَفِّيْ الْخَشَبِي، كَانَ خطؤها غَيْرَ مغتفر، لَيْسَ لِأَنّهَا أَخْطَأت وَرَمَتْ بِالتُهْمَةِ عَلِيَّ وخلفتني ، بَلْ لِأَنّهُ لَا يُجَوزَ لها بَعْدَ أَنْ رَفَعْتُ يَدَيْا إليها أَنْ تَنْحَنِي اَنْحِنَاؤها مُخْجِل بالنِسْبَةِ إلَيْ ، يَئَسَتْ مَنَي فَأُمْسِكَتْ رِسَالَتُهَا وَقلبتُهَا يَمِينًا وَيَسَارًا فَأَلْقَيْتِ بِها بَعيدًا وَبَعَثْتِ لَهَا بِرِسَالَةِ مِني
( رِسَالَتكَ تَرِكَتِهَا مَلَقَاهُ عَلَى الرَّفِّ الْخَشَبِيِّ بغرفتي، هَرِبَ مَظْرُوفُكَ، عَلْمٌ مَا بِهِ مِنْ وَصْفٍ أَنْتِ ابْتَعثتِيه فَاِفْتُتِنَ بِي، وَرَقُكِ خَائِنُ وَقَلَمُكَ يَعْلَمُ، خَانَتْكَ رِسَالَتُكَ يا صَغِيرَةٍ، الْكَلَّ فَانِي، وَكُلَّ شُيِّئَ يَمْيَلُ إِلَى أَصْلِهِ، فَكُلَّ وَعُودَكَ فَانِيَةَ )

اِسْتَلَمْتُ مَظْرُوفًا مِنهَا
( الْمَظْرُوفَ رَأَيْتِهِ خَلْفَ الرَّفِّ الْخَشَبِيِّ، يَدَكَ بَطَشْتِ برسالتي، يُدَكْ مِنْ خَانَتِكَ، أَوَرَّثَتْكَ هِنْدُ فَعِلَّتُهَا رسالتي لَمْ تَخَنِّي، وَإِنّي لِرَاحِلَةٍ مَعَ الْقَافِلَةِ إِلَى عمتي بسردقه وَالسّلَامُ )
قَرَأَتُ الرِّسَالَةَ ثُمَّ أَغَلَقَتُهَا وأَلَقْيَتُهَا جَانِبًا ، وَمَشَّطْتُ شَعْرَ رَأْسِي ، لَاحَظَتُ عِنْدَ نَظَرِي إِلَى المِرْآه أنَّنِي لَسْتُ بِتِلْكَ الْوَسَامَة الَّتِي اِعْتَقَدَهَا.
***
فِي يَوْم الْحَادِي عَشِر مِنْ شباط رَحِلَتْ الْقَافِلَةُ الَّتِي تَقِلُّ زُمُردَه ، شَعَرْتُ أَنَّ شَيْئًا ثَمينًا يَبْتَعِدُ ، يُغَادِرُ، أَلَنْ أَنْتَظِرَ كُلَّ صَبَاحٍ أَنْ يَتَسَلَّلَ أحَدُهُمْ إِلَى بَيْتِي وَيَتْرُك رِسَالَةً عَلَى الرَّفِّ الْخَشَبِي ، أَيَكَون ضِفةُ النَّهِرَ خَاليًا مِنهَا ، مَرَّتْ لَيْلَةٌ وَلَيلتَان ، بَدَأَتُ أَشَعْرُ بالوحدةِ ، عَلِمْتُ أنَّنِي مَا شَعَرْتُ بِالْوَحِدَةِ إلا لِأَنَّنِي اِفْتَقَدَتُ جمعتُهَا، لَوْ كُنْتُ وَحَيْدًا مَعهَا، مَا شَعَرْتُ بِالْاِخْتِلَاَفِ بَعْدَ رَحِيلهَا ، الْبُؤْسُ فِي هَذَا الْعَالِمَ أَنّكَ لَا تَلْحَظُ بِسَعَادَتِكَ إلا حَالَ حُزْنُكَ ، لَا تَسْتَشْعِرَ النِّعْمَ إلا حَالَ فُقْدَانِهَا ، فَالْإِنْسَانُ لَا يُدْرِكَ الْأُمُورُ إلا بِتَحَسُّسِ الْفُرُوقِ بَيْنَ كُلَّ شَيئٍ وَنَقِيضِه ، وَالْبُؤْسُ الْأُخَر مُرُورِكَ بِحَدَثٍ مَا ، ينْشَبَ عَنهُ مآساةٍ لَحِقَتْ بِكَ سَتُحَارَبُ الْعَالِمَ أَمَلًّا أَنْ لَا يَحْدُثَ مَرَّةً أُخْرَى ، وَإِنْ تَكَررَتْ نَفْسُ المآساة سَتَتْرُكَ الْأُمُورَ تَطِيحُ أَرْضًا بؤسًا مِنهَا ، الْأَمَلُ وَالْيأس حَدَّان لِنُصُلٍ وَاحِدٍ ، كُلُّ حَدٍّ قَدْ يُؤْدِي بِحَيَّاتِكَ يا سَيِّدِي .
فَلَمْ يَكُنْ فِي استطاعتي فُقْدَانهَا ، قَلْبِيْ أَبَى ذَلِكَ ، وَعقلِي نَفَى أَفعَالَهُ ، وَلَحِقْتُ أَنَا و صَفْوَان بِالْقَافِلَةِ ، أدركانها لَمْ يَمُرْ عَلَى رحيلها سِوَى يَوْمَين ، لَمْ تَكُنْ زُمُردَة الْوَحِيدَة مِنْ عَائِلَتِهَا بَلْ كَانَتْ بِصحبةِ وَالِدَتِهَا وَأُخَويَن لَهَا ، كِدْتُ أُرْجِعَ الْقَافِلَةِ بِأَكْمَلِهَا إِلَى تَمِيمٍ
افْشيتُ سِري بِحَبِّهَا ، كَانَ الْأَمَلُ يَدْفَعُنِي لِفِعْل مَا يَلْزَمُ لِعُدِم مُغادَرَتُهَا ، وَاِقْنَع الْجُزْءُ الرَّاحِلَ مِنَ الْعَائِلَةِ بالْعَوْدَةِ ، لَكِنْ لَمْ يَعُد أحَدً مِنَّا ، فِي اللَّيْلِ هَجَم عَلَينَا اللُّصُوصَ ، حَاوَلَنَا الْاِحْتِمَاءُ بواد يُدْعَى واد نَعِيم ، يَبْعُدُ هَذَا الواد عَنْ تَمِيمِ يومين إِنْ كُنْتَ تَمَتطي فَرَسِكَ . وَلَكِنهَا كَانَتْ الْخُطَّةُ الْأَشُدَّ خسرانًا ، السّهَامُ الَّتِي اِنْهَالَتْ عَلَينَا فَتَكَتْ بِنَا ، كَنَّا نَعْتَقِدُ أَنّنَا نَتَخَفَّى، وَلَكِنَّ الْأَمَرَ كَانَ بَائِسًا نَجَا مِنْ نَجَا وَهَرِبَ مِنْ هَرِبَ وَمَاتَ الْكَثِيرُونَ و فَقَدتُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمَ نَفْسي ، فَقدتُ زُمُردَة .

فِي ذَلِكَ الْيَوْمَ بَكَى الرِجَالُ وَقُهُرْتُ أَنَا ، وَبَدَأْتُ أُصَيِّحُ بِالْموتَى ، وَكَلَمَا نَظَرْتُ إِلَى أحَدِهِمْ وَجِدَّتُهُ صَدِيقِي أَوْ رَفيق إحْدَى أسْفَارِي أَوْ جَار يَسْكُن بِجوَاري ، بَكَيْتُ حَتَّى كَادَتْ الصَّحْرَاءُ أَنْ تُنْبِتَ .
وَقَفْتُ عَلَى الْقُبُورِ، فَبِكَيْتُ الْفَقْدَ وَبِكَيْتُ الْيَتَمَ بِكُلِّ أَشْكَالِهِ ، بِكَيْتُ كُلَّ طِفْلٍ فَقَدْ أَبَاهُ ، وَكُلَّ كَبِيرٍ فُجِع بِأُمِّهِ ، أَبْكِيَ كُلَّ رَحِيلٍ وَكُلَّ سَفَرٍ وَكُلَّ فُرَّاقٍ وَكُلَّ قَطْعٍ ، أَبْكِيَ الدُّموعَ الْمُنْهَمِرَة ، وآهات الْفَاقِدِين ، حَتَّى أنَّنِي بِكَيْتُ دُموع الدَّوَابِّ الَّتِي لَمْ تَسْقَطْ ، وَحَفِيف الْأَشْجَارِ الَّتِي فَقَدتْ أَوَرَاقَهَا ، بِكَيْتُ الْفَاقِدَ وَالْمَفْقُود . لَمْ أَجْرُأْ عَلَى الْعَوْدَةِ إِلَى تَمِيمٍ ، وَأَخَذْتُ أَتَنَقلُ مَعَ الْبَقِّيَّةِ كَفَأْرٍ يَرْكُضُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَان ، وَهُنَا عَلِمْتُ بِأَنّكَ اِنْعِكَاس لِمَنْ حَوْلكَ ، كُنتُ رَجُلٌ شجَاعٌ يُكَادُ سَيْفِي يَقْتُلُ خَمْسِينَ رَجُلًا مَرَّةً وَاحِدَة حِينَ كُنْتُ مَعَ زُمُردِهِ ، وَأَصْبَحَتُ الْيَوْمُ فَأْرًا مَذْعُورًا حِينَ فَقِدَّتُهَا .
لَمْ تَكُنْ الخِطة أَنْ نَحْتَمِي فِي الوادِي، بَلْ أنْ نَحْمِي القَافِلَة بِه ونُقَاتِلْ ، فالحَرْبُ وَاجِبه وإنْ كُنَا مُنْهَزمين، أنْ تَمُوتَ مُقَاتِلًا خَيرٌ مِن أنْ تَمَوتَ فَارًا .
اَعْتَقَدَ صفْوان أنَّ زُمُرُده قد قُتِلتْ عِنْدَ خُرُوجِنا مِنْ الوادِ بِها، تَرَكْتَهُ يَحْكِي كَيْفَ فُقِدَتْ ، كُنْتُ اسْتَمِعَ إليهِ كَالبَقِيةِ ، وأبْكِيهَا كبُكَائهِم، هُم يَبْكُون مَوْتًا ، وأنَا أبْكي فَقْدًا، و اِنْفَصَلْتُ عَنِ الْقِلَّةِ النَّاجِيَةِ العَائِدَةُ إِلَى تَميمٍ بَعْدَ أَنْ اِسْتَيْقَظَتُ وَقَدْ رَحَلَتْ عَائلَتها إلِى تَمِيم مَرَةً أُخْرَى ، أقْسَمتُ أَنّي لَنْ أَرْجِعَ إِلَى تَمِيمٍ إلا بِهَا ، وَ بَعَثْتُ رِسَالَةً إِلَى زَاهِرَة
( لَكَثْرَةُ الْمَاءِ تُغْرَق ، دَعِينِي أَتَعْرَى مِنَ اِنْغِماسِي بِكَ ، دَعِيَ حَرَارَةُ الشَّمْسِ تَحْرُقُنِي ، لَا تُوَارِيَنِي خَلْفَكِ كَمَا تَفْعَلِين دَائِمًا ، أَسَأْتُ كَثِيرًا يا زَاهِرَة ، دَعِي الْحَيَاة تُطَهِرَنِي ، ثُمَّ إِنَّ تَمِيمَ حُرُمَتُهَا عَلِيٍّ حَتَّى آتِي بِزُمُرده ، حَبيبَتَي ، وَإِنّي أَجِدُّ مَرَارَةً بِفَقْدِهَا ، أُرِيدُ أَنْ أَبَرْهِنَ لَكِ عَلَى أَنّي مَا زِلْتُ أحيا ، كَانَتْ فِي نِهَايَةِ كُلِّ رِسَالَةٍ تَبْعَثُهَا( عِشْتْ عَزِيزًا ) أُرِيدُ أَنْ أحيا عَزِيزًا يا زَاهِرَة وَالسّلَامُ )
وَغَادَرْتُ إلِى بِلَادٍ لا أَعْرِفُهَا ، حَتَّى لَا يَبْحَثُ أَحَدٌ عَنِي
تَنَقَّلْتُ أَنَا وَصَفْوَانُ مِنْ بَلْدَةٍ إِلَى أُخْرَى ، عُرَاة جَائِعِينَ فَاقِدِينَ ، سَكَنْتُ مَعَ صَفْوَان بِبَلَدَةِ زَهْرَان ، بَلَدَةٌ تَبْعُدُ عَنْ تَمِيم عَشْر ليال .
***
الْحَيَاةُ لَا تَرْوَقُ لِي بَعْدَ مَا حَدَث ، لَمْ أَعُدْ أَجِدُ فِيهَا شَيْئًا مُمْتِعًا ، كَيْفَ عَلَينَا أَنْ نَعْتَادَ أَنْ لَا نَكُونَ سُعَدَاء ، كُلُّ مَا فِي الْأَمَرِّ أَرَدتُ أَنْ تَكَوُنَ لِي عَائِلَةً ، فَسَلِبَتْ الْحَيَاةُ الْحَيَاةَ مِني، هَلْ كُنْتُ أَطَمَعُ حِينَ تَمَنَيَتُ ذَلِكَ ؟ أَعْتَقِدُ أَنَّ أَمِنِيَّتِي كَانَتْ جَائِزَةُ .
حِينَ مَمَرتُ بِجِوَارِ الْحَانَةِ ، كُنْتُ أَسْتَنْشِقَ رَائِحَةً تَخَرُّجُ مِنهَا ، لَيْسَتْ رَائِحَةُ خُمُرَا ، كُنّْتُ أَسْتَشعِرَ رَائِحَةُ الْحُزْنِ فَاِنْجَذَبْتُ لَهَا.
***
بَدَأَتُ أَتَعَامُلُ مَعَ مَنْ حَوْلِي بِنُصْفِ عَقْلٍ ، وَنِصِفِ جوَارح، ثُمَّ رُبُعًا، ثُمَّ سُدْسًا، ثُمَّ ثُمْنًا، ثُمَّ انطفأت تَمَامًا، وَعَنْدَمَا يَنْطَفِئُ الْإِنْسَانَ يُنَسَّى ، أَرْضٌ مُظْلِمَة لَا يُرى فِيهَا المنطفئِين ، وَإِنْ انْطَفَأتَ رَكَلَكَ الْجَمِيعُ وَنُسِيتَ وتُرِكَتَ بَعيدًا .
بَدَأَتُ أَتَرَدد أَنْ أَدْخَلَ الْحَانَةَ ثُمَّ أَمْتَنِعُ ، حَتَّى وَلَجْتُ فِيهَا، لَمْ أَسْتَغْرِبَ لرؤيتِي السَّيِّدَ ظَافِرًا الذِي كَانَ يَرْحَلُ مَعَنَا فِي القَافِةِ ، وَلَمْ أَسْتَغْرِبْ مِنْ نجَاتِهِ، الْحَيَاةُ لا تُبْقِي إلا الْبَائِسِينَ ، شَعَرْتُ بِالرَّاحَةِ لِرُؤْيَتِهِ ، نعْمَ، تَبَدَّلَتْ مَشَاعِرِي تِجَاهَهُ ، وَبَدَأَتُ أَشَعْرُ بِكُلِّ مُتألم عَلَى الْأَرْضِ ، وَهُنَا الْكَلُّ متألمٍ .
الْيَوْمُ الْأَوَّلُ لَمْ أَفْعَلْ شَيْئًا سِوَى النَّظَرِ إِلَيهِمْ ، فَالْحَانَة عَالَمٌ آخَرْ لَيتَنِي لَمْ أَعْرِفُهُ ، رَأَيْتُ فِيهِ غَيْرَ الَّذِي رَأَيْتُهُ فِي عَالِمِنَا، و سَمِعْتُ قَصَصًا مَا سَمَعْتُهَا مِنْ قَبْل . فِي الْيَوْمِ الثَّانِي جَلَسْتُ بِجَانِبِ السَّيد ظَافِر صَامِتًا ، ثُمَّ سَألَتُهُ :
- لِمَاذَا يَأْتِيَ الرِّجَالُ إِلَى هُنَا ؟
- لِمَاذَا أُتِيَتْ يا زغفري ؟
أَعَدت سُؤَّالِي بِوُضُوحٍ أَكْثَر
- مَاذَا يَفْعَلُ الْإِنْسَانُ إذاَ أُصِيبُ بِالْحُزْنِ
- يُغْلَقْ الْأَبْوَابُ وَيَصْرُخُ
- مَاذَا إِنْ أَخَبِرَ أحَدُهُمْ؟
- الْعَالِمَ مُلِئَ بِالضَّجِيجِ لَا أحَد يَحْتَمِلُ
- صَدِيقِي أَنَا حَزِين
- هشششششششش

فَشَرِبَتُ كَأْسِي الْأَوَّل، عِنْدَمَا أَتَى صَفْوَانُ لِاِصْطِحَابِي إِلَى الْمَنْزَلِ كَانَ غَاضِبًا :
- زغفري مَاذَا كُنْتَ تَفْعَلُ ؟
- كُنّْتُ أَحْتَرِقَ لَيْلًا
- وَأَيْنَ كُنَّا
- الْعَالِمُ كَانَ نَائِمًا
- الْعَالِمُ كُلَهُ كَانَ نَائِمًا !
- لَا ، الْمُتَيَقِظُونَ تَظَاهَرُوا بِالنُّوَمِ أَمَامي
- وَكَيْفَ ذَلِكَ ؟
- أَغْلَقُوا أَعَيْنهُمْ وَوَضَعُوا الْوَسَادَاتِ عَلَى رُؤُوسِهِمْ
- إِذًا كَانُواِ نَائِمِينَ
- لَا، كُنْتُ أَسَمعَهُمْ يَتَغَامَزُونَ مِنْ تَحْتِ الْوَسَائِد
- زغفري لَدَيكَ تِجَارَتُكَ الْعَالِمُ لَدَيهِ أَشْغَالَهُ، لَنْ نبكي مَوْتَ زُمُردَة طِيلَةَ النّهَارِ ، وَنَئِنُّ عَلَيهَا لَيْلًا، اِسْتَيْقَظَ يا صَدِيقَيْ
- هششششششش
بَدَأَتُ أَتَرَدَتُ عَلَى الْحَانَةِ لَيْلًا ، ثُمَّ اِزْدَادَ أَمْرِي فَاِنْسَلِخُ نَهَارًا عَنْ تِجَارَتِي وَأَذْهَب إِلَيهَا ، وَكُنْتُ أَشَرَبَ وَاِزْدَادُ شُرْبًا وَلَكِنْ لَا مَفَرْ، لَا أَنْسَى وَعَنْدَمَا أَنْسَى أُحَاوَلَ تَذَكُرَ مَا نَسِيتُهُ فَأَتَذَكَر، لَا أَتَذَكرُ زُمُردِهِ وَحَسْب ، بَلْ أَتَذْكَرُ الْغَدْرَ الَّذِي طَالَنَا، الْقَافِلَةَ، الْموتَى، الْمُصَابِينَ . بَدَأَ الْجَمِيعُ بِالْاِبْتِعَادِ عَني، و بَدَأْتُ أَنَا بِالْاِلْتِصَاقِ بِالْحَانَةِ وَظَافِر ، هُنَاكَ أُحًاولُ أنْ أَنْسَى مُصَابِي و فَقْدِي و لَوْ لِدقَائق ، فَنَحْنُ حِينَ نَفْقِدُ لَا نَفْقِد فَقَط ، بَلْ نَفْقِد ثُمَّ نَحْتَضِر ثُمَّ نُمُوت وَنُوَلَدْ مِنْ جَديدٍ ، لَمْ تَكُنْ لدِيَّ مَقْدِرَةٍ سِوَى لِلْمَوْتِ وَالْبَعْثِ مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ ، لَسْتُ قَوِيًا بِهَذَا الْقِدْرَ، فَأَصْبَحْتُ فاقداً وَمَفْقُودًا ، فاقداً لِرَوْحَي وَمَفْقُودًا لِنَفْسي ، فَكَفَاكُمْ اللَّه شَرَّ فَقَدٍ لَا تَتَحَمَّلَهُ أَرَوَاحَنَا، وَكَفَاكُمْ اللَّه شَرَّ فَقَدٍ يَكْسِرُ مَا لَا طَاقَة لَنَا لِإِصْلَاحِهِ ، غيرَ أَنِي حَمَلْتُ حِمْلِي بِذَاتي الجَمِيعُ آمَن بِمَوْتِهَا ، ولَمْ أُخبِر أَحدًا بَأنَها تحيَى فِي أرضٍ ما ، وأَيْنَ أَبْحَثُ عَنْها ، فَضَرَبتُ بكُلِ ذَلِك عَرْضَ الحَائِط فَيْبدوا أن يَدايا تفْلِتانِ ما يُحْمَلُ بِهمَا.
***

تَعَرَّفْتُ فِي الْحَانَةِ عَلَى الْكَثِيرِ، عَرَفَتُ رَجُلًا يُدْعَى أَبِو مَهْرَان ، فَقَدَ تِجَارَةً كَثِيرَةٍ لَمْ تُؤَلِمَهُ الْخُسَارَةُ ، وأَخْبَرَنِي أَنَّه وَضَعَ السُمَّ لِزَوْجَتِه فِي طَعامِهَا ، قَتَلهَا لَأنَهَا خَانتَهُ كانتْ تُوصل أخبارَه لقاطِع الطريق وتتقاسم معه المال ، كانت خائنة بلا سبب يجعَلها تخون .
أَذْهَبْ إِلَى تجارتي يَوْمًا وَأَغِيبُ عَنهَا شَهْرًا، حَتَّى أَخَبَرَنِي صَفْوَانَ أَنَّ نِسَاءَ ظَهْرَانِ تَخَفْنَ الْاِقْتِرَاب وَأَنَا بِجَانِبِ الْأَقْمِشَةِ ، وَأَخْبَرَنِي أَنْ لَا أَعُودُ مُطْلِقَا إلا إذاَ اِنْتَهَيْتِ عَنْ فَعُلْتِي، فَرِحْتُ كَثِيرًا بهذ الْقرَارَ وَاِرْتَاحَ قَلْبِي أَنْ لَا أَعُود إِلَى هُنَاكَ .
كَانَ هَذَا بَعْدَ أَنّي حَضَرْتُ صَلَاَةَ الْجمعةِ ، الجميع تجنب الْجُلُوسِ بِجوَاري الْجَمِيعُ اِبْتَعَدَ عَني ، حَتَّى صِرْتُ صَفًا أَخِيرًا أَنَا وَصَفْوَان ، وَنِمْتُ أَثْنَاءُ الْخطبةِ فَقَذَفُونِي خَارِج الْمَسْجِدِ ، أَحْسَسْتُ بِالرَاحَةِ وَتَرَكْتُ الصَّلَاَةَ تَمَامَا مَنْ أَفَعَالِهِمْ السَّيئِةَ تَجَاهي ، فَأُفْلَتُ حَبِلَ السَّمَاءِ الَّذِي كُنْتُ أَتَعَلَّقُ بِهِ .


حَادِثَةُ اِنْتِحَارِ السَّيِّدِ أَبَا مُهْرَانِ، تَحَدَّثَ الْكَثِيرِينَ عَنهَا حَتَّى أَتَى إلي صَفْوَانَ :
- هَلْ تَعَلَمْ بِمَوْتِ السَّيد أبا مهران زَغْفرِي ؟
- اِنْتَحَرَ يا صفْوان
- أَنْتَ تَعَلمُ مَاذَا حَلَّ بِهِ ؟
- نَعْمَ ، قَفَزَ مِنْ جوَاري مِنْ أَعَلَى الْبُنْيةِ
- لِمَا لَمْ تُوَقِفُهُ ؟
- كَانَتْ حَياتُهُ مُرْهِقَه لِلْغَايَةِ ، وَثَقُلْتْ هُمَومَه فَتَرَكْتَهُ يَقْفِزَ عُلَّهُ يَرْتَاحُ ، حَاوَلَ أَنْ يُمِدْ يَدَهُ فِي اللَّحظة الْأَخِيرَةِ مِنْ سُقُوطِهِ ، حَتَّى أنَّني تَرَكْتَهُ يَفْلِتُ ، كَانَتْ إِغَاثَتُهُ فِي تِلْكَ اللَّحْظَة مُسْتَحِيلَة
ثَمَّ ضَحِكْتُ وَوَضَعَتُ يَدِي عَلَى كَتِف صَفْوَان :
- لَا تَقْلَق ، لَمْ أَمِدَ يَدِيّ وَلَوْ عَلَى سَبِيلِ الْمُحَاوَلَةِ
نَظَرَ إلِيَّ وَالذُهُول يَجْتَاحُهُ فَأَكْمَلْتُ حَتَّى أَنُهِي هَذَا الْحَديثَ
- لو حاولتُ إِغَاثَتَهُ لَمَا اِسْتَطَعْت ، فَتَرِكَتُهُ يَظُنْ أنَّنِي لَمْ أُرِدْ الْإِمْسَاكَ بِهِ ، حَتَّى لَا يَنْدَم وَيَظُنْ أَنَّ شَخْصًا مَا يَسْتَحِقُ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهِ .
مَا الَّذِي دَفَعَهُ لِفِعلِ ذَلِكَ ؟-
- كَانَ الْعَالِمُ مِنْ حَوْلِهِ رَخْوًا ، أرادَ الْاِرْتِطَامُ بِشَيْءٍ قَوِي عَلَّهُ يَتَيَقظُ ، وَيَبْدُوا أَنَّ الْاِسْتيقَاظَ الْحَقِيقِي أَنْ تَمُتْ .
***
فِي الشَّهْرِ الرَّابعِ مِنْ إقامتي فِي الْحَانَةِ ، أَتَى صَفْوَانُ وَأَخْبَرَنِي بشئٍ لَا أَدْرِي عَنِ الْخَبَرِ، أَذْكُرْ أَنِّي كُنْتُ أَقَوْل لَهُ وَأُرَدِدُ : مَنْ رَوَى زَهْرَةً لَا يَقْطِفُهَا يا فَتى ، خَلَفَنِي غَضْبَانًا وَذَهَب .
اِتَّجَهْتُ كعادتِي إِلَى الْحَانَةِ ، يَدٌ أَوْقَفَتْنِي وَرَدَعَتْنِي عَنِ الدُخُولِ إِلَيهَا، نَظَرْتُ إِلَى صَاحِبِ هَذِهِ الدَّفْعة ، فُوجِئْتُ بِعَامِرٍ، فَسَأَلَتُ نَفْسِي هَلْ أَنَا بِتَمِيمٍ أَمْ هُوَ هُنَا ؟
- زغفري
- دَعْنِي وَارْحَلْ
- اَعْلَمْ بِالْأَمَرِ الَّذِي تُخَبِئُهُ
- لَا ، لَا تَقُلْ شَيْئًا
اِهْتَزَّ جَسَدِي؛ أيُ أمرٍ سَمِعتْ رُوحُهُ رُوحِ تَهْمِسْ بِه ، خبرُ هندٍ أمْ زُمُرده ؟!
- عَلَيكَ أَنْ تَسْتَمِعَ لمايدور بِدَاخِلِكَ ، انْصتْ إِلَيكَ وَصَارَحَهَا أَنَّ هِنْدًا لَمْ تَخُنْكَ
- اُقْسِمُ لَكَ أَنّي لَمْ أَكُنْ أَنْوِيَ الرَّحِيلَ، لَكِنهَا لَمْ تَنْتَظِرْ
- هِنْدٌ لَمْ تَخُنْكَ يا زغفري بِرَحِيلِهَا مَعَ آخِرِ، هِنْدٌ لِكَانَتْ حَائِرَةً فِي شُعُورِهَا تِجَاهكَ ، وَفَضَّلَتْ الصَّمَتَ، لَمْ تَقُلْ أُحِبُكَ وَلَمْ تَنُفْهَا وَلِذَلِكَ هِي خَائِنَةٌ ، هِنْدٌ كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَشْعُرَ بِالْحَبِّ وَ لَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَرْفُضَ هَذا الحُبُ الذِي بِعَينيكَ لهَا لِذَلِكَ هِي خَائِنَةٌ ، هِنْدٌ لَمْ تَخُنْ وَعِدًّا وَلَكِنهَا خَانَتْ نَفْسًا لِذَلِكَ هِي خَائِنَةٌ ، هِنْد خَائِنَةٌ لَأَنَها برأَتْ نَفْسهَا و جَبُنتْ أَنْ تَعْترفَ لَكَ أَنهَا لَمْ تُحِبُكْ وأنْكَرَتْ عليْكَ غِيابُك واتَخَذتْهُ الحُجةُ الأقْوى للرَحِيل ، لِلْخِيَانَةِ وَجُوه مُتَعَدِدَه يا زغفري
- أَخَبَرَتُهَا أَنْ تَنْتَظِرَ سِتَةَ أَشْهُر فَقَطْ حَتَّى عَودْتِي مِنْ رَحَلْتِي ، وَلَكِنهَا رَفَضْتْ لِذَلِكَ حَلَّلَتْنِي وَعُودِي تِجَاهِهَا، لَكِني لَمْ أَحْمِل الرِّسَالَةَ عَلَى مَحْمَلِ الْجِدّ ، وَلَكِني كَنَّتْ مُخْطِئًا
- مَاذَا عَنْ زُمُرده ؟
- زُمُرُدَه جَمِيلَتِي و حَبيبَتِي و فَاتِنَتِي ، أسْطُورَتِي السَّاحِرَةَ ، يَنْبُوع فُؤَادِي و عُنْفُوَان شَبَابِي ، رَائِحَتُهَا عَطِرًا مِنَ السَّمَاءِ ، كَانَتْ إشَارَةُ اللَّهِ لِي بِالرّحمةِ عَلَى الْأَرْضِ
زُمُردَه جَنَّتِي وَنَارِي ، رَحِمَتِي وَعَذَابِي ، يَقِينِي وَفَتَنَتِي فِي هَذَا الْعَالِمَ ، إِنْ لَامَسَتْهَا طَهُرَ فُؤَادَكَ ، وَإِنْ ضَحِكَتْ لَكَ رَبِعَتْ أيَّامَكَ ، أَظَنُ أَنَّ زُمُردَه خُلِقَتْ مِنْ طِينِ الفِرْدَس .
- وأيْنَ هِي يا زغفري ؟
- ضَيعْتُهَا
نَظَرْتُ إِلَى السَّمَاءِ ، اللَّهُ الْأمَانُ فِي هَذَا الْعَالِمَ ، أَعْلَمُ ياللَّه أَنّكَ تُدَبِّرَ أَمْرِي وَتَرْحَمَنِي ، وَأعْلَمُ أيضًا أَنَّ الدُّموعَ الَّتِي تَنْهَمِرُ مِنْ عَيْنِي لَا تَنْزِل عَلَى الْأَرْضِ مُطْلَقًا ، بَلْ تَنْزِلُ فِي رحمتِكَ فَتُصْبِحُ مَاءً زُلالًا أُشْفَى بِهِ ، وَلَكِنْ ياللَّه لَمْ أَسْتَطِعْ تَحْمُلِ الْأَمْرَ، الْمُصَابُ كَانَ سَيئًا لِلْغَايَةِ ، دَمَرَنِي وَكَسَرَ قَلْبِي وَقَهَرَ رَوْحَي ، أَنَا مُتْعَبْ ياللَّه ، أَعْلَمْ أَنَّ اِنْتِصَارَ الشَّر عَلَى الْخَيْرِ مَا هُوَ إلا لِنَزْدَاد إيمَانًا بِكَ ، فَالتَّوَكُلُ عَلَيكَ فِي السَّرَّاءِ أَمْرُّ هَينْ ، أَمَّا فِي الضّرَاءِ فَتَجْزَعُ النَّفْسُ وَنصَابُ بِالْحَسْرَاتِ وَيَدْخَلُ إِلَينَا الشَّيْطَانَ ، لِأَنَّ ثَغَرَاتِ ضِعْفنَا تَزْدَادُ وَبِشَدَه ، فَاِرْبِطْ عَلَى قَلْبِي ياللَّه حَتَّى لَا أَنهَار أَكْثَر ، وَأَحْفَظْ الْبَاقِي مِنِي حَتَّى لَا أَضِيَعُ أَكْثَر ، أَعِدُكَ ياللَّه أَنَّ قَدَمِي لَنْ تَطِئ الْحَانَة مَرَّةً أُخْرَى ، كَانَ ظَافِر مُخْطِئًا ، يُوجَدْ فَوْقَ الْعَالِمِ اللَّه يَسْمَعَنَا دَائِمًا ، أَمَّا الْحَانَة مَكَانٌ مُمْتَلِئ بِالضَّجِيجِ يُقَالُ فِيهِ إذاَ نَطَقْتَ هششش .
فَأَمْ مُوسَى عَلَيهِ السّلَامَ رَبَطَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهَا لِتُلْقِي بِهِ ، واصحاب الكهف ربط اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ لِيُقَولُوا رَبَّنَا اللَّهُ ، أَي أَنَّ الْأَمْرُ أَنْ يَرْبِطَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِكَ فِي الْمُصَابِ لِتَصْبِرْ.
صَلَّيَتُ الْفَجرَ ثُمَّ اِنْطَلَقْتُ مَعَ عَامِرٍ إِلَى تَمِيمٍ و تَرْكْتُ صفوان بظهران عِنْد تِجَارَتِي ، دَخَلْتُ إِلَى مَنْزِلِي ، نَظَرْتُ إِلَى الرَّفِّ الْخَشَبِيِّ لِأَجِدَهُ فَارِغًا ، وَلَكِنْ مَا زَالَتْ رِسَالَةُ زُمُرده مُلْقَاه خَلْفَ الرَّفِ ، أَمْسَكْتُ مَظْرُوفَهَا ، واحْتَضَنْتُهُ كَثِيرًا ، فَتَحْتَهُ
( يُؤْلِمَنِي أَنَّ لَيْلَكَ طويل ، وَشِتَاؤُكَ قَاسِي ، وَكِلَتْ الْوَسَادَاتُ لِحَمْلِ رَأْسِكَ ، وَالْغِطَاءُ لِتَدْفِئَتِكَ ، وَتُرِكَ لِي التَّفْكِيرُ بِكَ ، لَيْلي سَاهَرَ، وَنِهَارِي أَتَلَمَّسُ أخْبَاركْ ، أَعْتَذِرُ كَوَنِي لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَكَوْنُ لَكَ ، أَوْ أَضَافَ إِلَيكَ ، ذَاكَ الْاِضْطِرَابُ الَّذِي يَعْصِفُ بِدَاخِلِكَ ، وَتِلْكَ البُرُودَه الَّتِي تَجْتَاحُكَ ، سَتُرْدِيكَ مَهْزُومًا، وَلَكِنْ مَاذَا إِنْ كُنْتَ سَنَدًا لِأحَدِهِمْ ، رَغَمَ شُعُورِكَ بِالْاِضْطِرَابِ مَا زَالَ يَتَكِؤُ عَلَيكَ ، الدُّرُوبُ مُظْلِمَهُ فَبَاتَ يَسْتَنِيرُ بِكَ، أحَدَهُمْ يَشْعُرُ بالاضراب مَعكَ يُكَادُ يَلْمِسُهُ ، هَذِهِ الْقُوهُ الَّتِي تِرَاهَا كَذَبًا ، بِدُونَكَ أَنَا أَوْهَنُ مِنكَ ضَعْفًا ، قَدْ اِنْحَنَى ظَهْرِي مُبَكِرًا لِوفَاةِ وَالِدِي ، لَيْسَ مِنْ أَجَلِ كَوْنِه قُوَّةٌ لِي ، لِي خمسة إخوة يُفَوقُوهُ شَبَابًا ، أَعَلْم بِمِقْدَارِ حَبِّهِ لِي الَّذِي مَهْمَا بَلُغُوا لَنْ يُشَاطِرُوهُ جُزْءًا، كَمْ هُوَ مُرِيحٌ أَنْ تَنَامَ وَتُدَرِّكَ أَنَّ أحَدُهُمْ يَنْتَظِرُ الصَّبَاحَ لِأَجَلْ رُؤْيَتَكَ وَالِدِي – رَحِمَهُ الله - كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ ، هَلْ تَعِي الْآنَ حَجْمَ خِسَارَتِي ؟
وَلْتَعْلَمْ أَنَّ الْحُبَّ هُوَ الشُّعُورُ الْوَحِيدُ الَّذِي لَا تَشْعُرُ بِهِ إلا إِذَا وَهَبْتُهُ لِمِنْ تُحِبْ .
حَاوِل يا سَيِّدِي أَنْ تَخْرُجَ مِنكَ إلِي ، حَاوِل أَنْ تُنَاضِلَ مِنْ أَجَلِي ، مَنْ فَضْلكَ اِفْعَلْ ذَلِكَ ، لَا تَتْرُكِنِي أَنَا لَا أَقْوى على الْفُراق ، وَلَا أَسَتَطِيعُ النِّسْيَانَ ، ذَاكِرَتَي فِي الْعِشْقِ خَالِدَة ، اِفْعَلْ شَيْئًا مِنْ أَجَلِي ، اِفْعَلْ شَيْئًا يليق بِحُبِّي لَكَ ، لَا تُخْزِنِي بِكَ أَمَامي، وَلَا تُوَقِفُ بِحَبٍ يَعْصِفُ لَكَ بِدَاخِلِي ، اِفْعَلْ شَيْئًا يا زغفري )
طَويتُ رِسالتَها ، وأقسمتُ أنْ أفعلَ شيئًا يليقُ بها ، انطلقتُ إلى ظهران بجانب صفوان عِند بضائعِي ، رائحتِي عِطراً لا يُضَاهي رائحة زمردة ، ولكِنَه جميلٌ إلى حدٍ ما .
وبَدأنَا نَبحثُ عن زمرده بعدَ انتهاءِ عملنَا نذهبُ إلى الأماكنَ القريبة من الوادِ أي البلدان أقربُ وأي القرى قد تكون سكنت زمرده .
***
اليوم الرابع والعشرين من تشرين وأنا أبيع رفعتُ رَأسِي وإذا بطيفٍ من الهواءِ اسْتنشَقْتُه ، هواءٌ يُحِي قَلْبِي فدققتُ النظر، رأيتُ زمرده ، نعم رأيتها .
زالت آلامي وقُرَتْ عينِي ونبضَ فؤادي وذهبتْ عِلتي وشُفِيتْ جراحي ، أهديتُ قطعة قماش إلى سيدة كنت أبيعها لها تسارعتْ خطايا نحوها ، بل كُنت أهرول إلى زمرده .
فناديتها لما اقْتربتُ منها
- زمردة زمردة
نظرتْ إلي ، لم تبدِ أي ردة فعل
- حبيبتي زمردة
اسْتدارت امراة في الأربعين من عمرها
- من أنتَ يا سيدي ؟ ابتعد عن ابنتي
- بل من أنتِ ؟ وجهتُ نظري إلى زمرده قائلًا :
- زمردة من تِلك السيدة ؟
بدأتُ أُمْسِكُ بيد زمرده ، واجذبُهَا نحوي ، وهي لا تَنطقُ فصرختْ السيده :
- دعهَا وابْتَعد
التف الناس حولنا وصاحوا زغفري الثمل ...أين صفوان ؟ أتتجرأُ وتمسكُ بيد سيده وانهالوا عليَّ ضربًا وكنتُ أسمعُ أصداء أصواتَهم عليك اللعنة يا زغفري
الشِّتَاءُ يَجْتَاحُنِي ، أَرْتَجِفُ بُرْدًا وَخَوَّفَاً وَقلْبي يَعْتَصِرُ قَهَرًا ، فَتَتَأَلَّمَ روحي ، حَتَّى أَنَّ السَّمَاءَ حِينَ تَمَطِر كَلَمَا مَرَّ مَاؤُهَا عَلَى جَسَدَيْ تَجَمَّدْتِ قطراتُه ، شِتَائِي أقْسَى بروده مِنْ شِتَائهَا ، أَجْلِسُ بِجِوَارِ الْحَانَةِ أَنْتَحِبُ فَأُحِبُ نَفْسي تَارَةً ، وَأَكْرَهُهَا تَارَةَ ، أَلَوْمَهَا تَارَةَ ، وَأُشْفِقَ عَلَيهَا تَارَةً أُخْرَى .
لم يُؤلمنِي ضربُهم المُبرح ولم يُؤلمُنِي سَبُهُم ، فتحتُ عينِي والَّليل قد أتَى ، هرعتُ بجانبِ الحانة ، وعدتُ الله ألَّا تَطؤهَا قدمي مرةً أخرى ، ولكنْ زمرده قد تَكونُ تَزوجتْ بأحدهم ويبدو أنها استبدلت الجميع لم تَسْتبدِلَنِي أنا فقط ، زمرده نَسيتنِي لغيابِي عامًا آه يا الله ، أظن أنَّ النساء خُلِقْنَ من طين الجحيم .
وكانت هذه نتيجة لعدم تَوارِيكَ وراء الحوائط الكثيرة التي أقمتها ، لا أدري ما سرُ انْبَعاثِكَ من خلفها إلى الخارج ثمة رؤيتُكَ للضوء ، أنا من فعل هذا ومن الواضح أنِّي أدفعُ الثمن يومًا بعد يوم ، ولعلَّ هذا درسًا واضحًا لِي ، بأنْ أبقى في الداخل لا شيئ في الخارج يكترثُ لي ، حتى أنَّنِي أظُن أنَّ الملائكة حين تصعدُ بروحي إلى السماء ستحملها بداخل شيئ لأنها روحٌ محطمة وستدعها عند ربها حتى يجبرها لي بعد أن حُطِمَتْ رغم إرادتِي .


0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.