في الظاهر كل العالم يحارب الشيطان، يزدري الشيطان، وما وراء الأبواب المغلقة يتقمصونه صباحا مساء.
يجلس القرفصاء على ظهر ربوة عالية يتأمل في صمت هذا العالم الغريب المجنون المحكوم بشعوذات بشرية معقدة.
من هنا في عليائه ينظر بوضوح لهذه التعويذات السخيفة والأنماط البشرية المتراصة، وتنطلق رغمًا عنه ضحكة مريبة ويقول:
ـ سيتمكّن الشيطان من صنع أمواج كثيفة من الأتباع!..
هذه القرية الغبيّة الجاثم فوق أنفاسها سلطان وما هو بسلطان، شيطان وما هو بشيطان ، يتقمص شكل خرافة تتلوّن بأنفاس أهلها، غباء وأي غباء، يدّعون الفهم والتحليل فيسبقهم في الزمان والمكان فيصنع فهمهم وتحليلهم.
يتأوه في شكل إبتسامة غامضة، فهو من يختار نساءهم ونسلهم، فيتناسلون الغباء منذ عقود.
من سفح هذا الجبل الأصم ينظر الى دواخل هذا العالم الغريب بصفاء عجيب، من ظهر هذا الجبل يستطيع أن يتجول بحرية عبر شوارع هذه المدينة، يدفع الأبواب، يدخل الحجرات المغلقة، يسمع همسات المحبين، أنّات المعذبين، يدخل أحلام النائمين، يسافر مع أفكارهم.
عالم غريب يغريه أكثر بالنزول من عليائه والتجوال عبر أزقته العرجاء.
يفكّر في الأمر طويلًا ويقول:
ـ إن موقفي هذا يجعلني مسيطرًا على كل شيء، لن أنزل من مرتفعي حتى أجد من بين هذه الأكوام المتنافرة من البشر ذلك الفتى المنشود، سألبس روحه وفكره، سأدق الإبر السحرية في جسده، سأكاشفه وأراوده وأطوف برأسه حتى يعيش لذّة الفكرة.
كان يجلس هناك منذ الصباح ينتظر صيده الفريد، يترصّد خطوات الناس وحركاتهم، فلم يعثر من بينهم على ضالته حتى أطل الليل برأسه وسكن القوم لشقائهم.
لابدّ لهذا الفتى أن يظهر!.
عاد صباحًا إلى جلسته عند أعلى الجبل، لم يداخله الملل، ولم يعرف الكلل إلى قلبه سبيلًا، وكيف يأتيه ذلك وهو منذ الأزل يترصّد خطاهم، وينبش في خباياهم!.
ستار المساء بدأ ينسدل على خيبات أهل القرية، ولا أثر لفتاه المنشود، لكنْ، فليتريث قليلًا إنه يلمح شخًصا يودّ أن يعبر الشارع ملوّحا بيده في تذمر للعربات التي تمر أمامه وتكاد تدوسه.
يعبر أخيرًا الشارع في ضجر بالغ، ويتوقف لبرهة لتعديل ملابسه ويمضي مستعجلًا.
هل يكون هو الفتى المنشود؟!لا يمكن لحدسي أن يخطئ!.
يغادر سفح الجبل ويحلّق فوق رأس الفتى...إنّه لا يشبه ساكني القرية، فهو يحاول أن يبدو متأنّقًا ببزّة نظيفة، وبربطة عنق، ومعطف قديم يحمله في يده.
يقترب منه أكثر، فيرى أن وجهه لا يخلو من وسامة رغم القلق البادي في ملامحه.
يقطع الفتى طريقًا فرعيًا مسرعًا في خطاه، لكنه يتعثر في إحدى المطبات، فيزمجر بصوت بدا مسموعًا:
ـ اللعنة على هذه القرية النائمة كالفئران في جحورها!
يعتدل الفتى في وقفته ويواصل سيره، ينظر من حوله فيرى أحدهم يفترش الأرض تحت بناية متداعية، فيحاول أن يحثّ خطاه أكثر.
يلتصق به أكثر حتى لامس سرّه ودواخله، فسمعه يقول:
ـ اللعنة، هذا الوضع لا يحتمل، فهذه الأرض ليست بأرضي، والأسفل ليس بموطني، إن هذا الجسد المتصلب سيصبح طيّعا ويسلك طريقه نحو الأعلى، إلى ما وراء الأكمة وفوق الربوة، فمن يسكنها ليسوا بالأنبياء والقديسين والأصفياء.
تتراءى أضواء في أخر الممر المؤدي إلى شارع الركن العاشر، يسرع الفتى أكثر كأنَّ شيئًا ما يطارده إلى أن يقترب أخيرًا من مبتغاه.
أصوات تتعالى، وضحكات عالية صاخبة، يدفع الفتى الباب المغلق بإحكام بكلتا يديه بعنف ولهفة.
يدخل أخيرًا إلى أرض الحانة، ويدخل هو وراءه...
دخان كثيف يعمّ المكان، وشفاه كثيرة متراكمة، وأحاديث مجنونة، وأكواب منشورة، وأيادي مرفوعة، الجميع يشرب بلهفة، يعانق الرغبة، الجميع في ذات المكان، ولا يجمعهم مكان.
يجول بناظريه عبر الصفوف المتراكمة..
يأخذ مكانه وسط الأفكار المتداعية، يتوسط المجموعة، معهم وليس منهم، يحادثهم ولا يحادثهم، إنّه يرى أفكاره، يقترب منه أكثر، يجالسه حتى يلامسه، يعانق أفكاره، همساته تطير في غير المكان، هاهي تقول في صمت " الإلتزام بالنواميس لا يصنع التاريخ، إنّ إنتهاز الفرص هو ما يصنعه!"...
يراه، يتأمّله طويلًا، ويبتسم في نشوة..لقد ظفر أخيرًا بفتاه!.
إنّه هو الفتى المنشود!.إنّه الرقم المختار!.سأصحبه حيثما حلّ، سأكون قرينه الخفي، سأدخل في مسام جسده، وثنايا عقله.
لما لا ألاعبه وأعبث بأفكاره المجنونة؟!.لما لا أدغدغ الحلم الراسب في أعماقه؟!.
يهزّه صاحبه هزّا خفيفًا وهو يقول:
ـ أين سافرت يا صديقي ...ويضحك في استهتار وبلادة.
يراقبه دون أن يدري، يطوف في ثنايا جسده دون أن يعلم، أو يشعر، ويقول منتشيًا:
ـ نعم هو فتانا وحق السماء، سأمنحه بركات أفكاري، وأدفعه نحو طريقه، سأمنح أفكاره الدفعة السحرية، هذه أفكاره وأحلامه بين أناملي، سأشكل منها خيوطًا رفيعة متماسكة!.
يعبّ الفتى من كأسه عبًّا، ويضحك بخبث بعد أن داعبت نسمات أفكار شيطانية غريبة جميع حواسه.
حماس أصدقائه يغريه، إنّه قادر على إقناعهم، إنّه قادر على الفعل فيهم..
يشرب من كأسه حتى الثمالة، نشوة الكأس، ونشوة الفكرة الخارقة، هؤلاء ندمائه يصدقونه في أقواله..ولما لا يصدقونه؟! إنّها فكرة حارقة كالجمر؟!
هذا الجمع يحترق كل يوم مع أحلامه المبعثرة، إنّهم حطام إنسانية، لو ينتفضون فهم على حق، هم ينتظرون الشرارة، وسأكون أنا شرارتهم؟!
يأتي الساقي فتصحو الرغبة فيهم، وتضحك القلوب متلهفة للنشوة، ويعرض عليهم ألوان الخمر المتوفرة لديه.
فيقول الأول:
ـ أريد أربع زجاجات من خمر "النسيان" إنها معتقة ومفعولها كالسحر.
والثاني يقول:
ـ أريد زجاجتين من خمر "التيه" فهي حبيبتي، لا أريد "النسيان" بل الضياع والذوبان.
هي زجاجات تتصبب عرقًا تغري الشاربين، تفتح أبوابًا للحلم كانت من قبل موصدة، لا حراس فيها، ولا قيود.
يحادثهم في إسهاب جميل، يتعانقون ويتكاتفون وينتشون، تختمر أفكار جديدة كانت بالأمس القريب يخافون حتى الهمس بها.
يخرجون وزادهم حناجرهم، يهتفون في الجموع " حي على النضال"، سوق كبيرة من الأنفاس والألفاظ والمفردات تنتشر كخيط رفيع لا حدود له.
يقف في الخلف منتشيًا بإنجازه العظيم..
الصوت الخفي يهمس له:
ـ الآن بدأت في تعبيد الطريق الطويل، الآن إقتربت من المراد..
تقدح الفكرة كشرارة وتغدو حقيقة ممكنة التحقيق.
يتقدم أكثر، يجول بين العاكفين في الظلّ، لم يغادروا أبدا أماكنهم الخلفية، كانوا هناك دائمًا، الأجداد والأولاد والأحفاد، يعمّرون هذه الأرض بسواعد من حديد، ليستمتع هناك من يجلس وراء الأكمة.
يحدثهم حديث السحر، يفتح لهم نافذة لعالم كالغيب بدا لهم كالحلم الجميل، هي جنّات وحدائق وغنائم!..
هم يتحادثون في غيابه بحماسة عجيبة، يحترقون شوقا لهذه الفكرة المجنونة، إنّهم نسيا منسيا، سيرفلون ويشربون في كؤوس من فضّة.
هناك وراء الأكمة العالية، الحاكم بأمره يجلس وينظر بغرابة لحركاتهم، فقد بدت له كحركات النمل الأسود تسير في ثبات وعزيمة، لكن بدا له أنّه قادر على سحقهم بحذائه الضخم.
يستلقي على فراشه في سعادة غامرة، من كان يظنّ أن تنتشر فكرته كالنار في الهشيم، لكن تنتابه مخاوف شديدة فالخطر لايزال قائمًا هناك وراء الأكمة..من سيجبر ذلك المتغطرس على النزول من عليائه؟!
يقترب منه ذلك الصوت الهامس الخفي ليحفر في أذنيه كلمات:
ـ " يجب أن تطرق الأبواب الخلفية لهذه القرية ..".
يتقلب على جمر الفكرة " أيّ أبواب سيطرقها.وأيّ نصير سيدفع عنه هذا المتغطرس العنيد؟!."
يعاوده الصوت الرابض بجانبه دائما قائلًا:
" لا تيأس، إمّا أن تطرق أنت الأبواب، أو سيطرقون هم بابك!.
يقفز مشدوهًا مذعورًا..طرقات كثيفة حقيقية على الباب..من القادم؟ من الآتي في هذه الساعة المتأخرة من الليل!؟.
هذا شبه هاتف يناديه أن إفتح..يتلمس طريقه بحذر شديد، منصتًا للصوت القادم على عجل:" إفتح لم يعد هناك وقت للتردد، ستفتح لا محالة، لا وقت لديك.." صوت حقيقي لا شك في ذلك.
تنهال الطرقات على الباب، تشتدّ بنسق متسارع ..تحثّه..لا مخرج له..من الطارق؟..من الهاتف في هذه الساعة ؟!
يصغي لصوته الحميم " لا تخشى شيئًا..إفتح بلا تردد أيُّها البطل.."...
تغمره نشوة طارئة، وثقة عاجلة، يفتح الباب بوجل..يصطدم بعيون سوداء وقامات فارعة واثقة، أنيقة..تدخل غرفته بلا استئذان، ينتشرون في أرض الغرفة كساكن قديم، يشعلون سجائرهم، ينظرون ولا ينتظرون.ويدعونه للجلوس كغريب.يترقب ويترقبون..
يأخذون مقاعدهم في صمت ولا تخلو عيونهم من شبه
ابتسامة غامضة تقول له " إنّا هنا مترقبون فأنظر ما أنت فاعل"..
تمر الدقائق كساعات عصيبة، رهبة شديدة تحيط به من كل جانب، حتى أضحى المكان كزاوية صغيرة حُشِرَ فيها حشرًا..
يستجمع كل شجاعته ويحاول أن ينطق، لكنْ، عبثا.فالكلمات تتدحرج في حلقه إلى أسفل، ولا تخرج..يلتفت يمنة ويسرة، علّه يجد مخرجًا.
تنتابه فكرة الهروب لكن الهروب الى أين؟.إنّه بيته؟.لكنّه لم يعد بيته..لقد أضحى بيتهم وهو الغريب!
هل يخبرهم بأنّه يريد المغادرة، ويتركهم في بيته يمرحون، إنّه حتمًا لا يمانع لو رغبوا هم في ذلك..حتمًا يودّ ذلك، لكن هل يسمحون له؟.
يجول بناظريه في أركان بيته..فلم يعرفه..هذا المكان لم يعد بيته، بل بيتهم...
تتدحرج قدماه الى الخلف، وتقف الكلمات في جوفه..ينظر إلى الباب بأمل، أمل الخروج، لكن عيونهم الواثقة تقول له لا مفرّ لك، لابدّ له من سؤالهم ، من يكونون؟ ماذا يريدون منه؟ ..
ينتابه الذعر، يصطدم رأسه بصخرة الأفكار الجارفة، فلا يقاوم..يبدو أنّهم زبانية ذلك الجالس وراء الأكمة، جاؤوا ليوقفوا عجرفته على سيّده!.
أين هي شجاعته؟..لقد كان بالأمس بطلًا وزعيمًا لا يشقّ له غبار، يخطب في الجمع بحصافة لا متناهية، يغدق عليهم من الوهم الجميل بلا حساب، يمنحهم كلّ الحقوق بإسراف.
بالأمس كان هناك، فوق مرتفع يتحدّث بأناقة، بلباقة، تغمره حماسة الجموع، تلهبه هذه الأصوات الثائرة.
هذه الجموع العطشى تتحسّس الأرض الرطبة النديّة، يلامسون خصوبة التربة التي يقفون فوقها، تذكّرهم بأرضهم القاحلة وسنواتهم العجاف..
سألهم عن أسمائهم فلم يجيبوا!.هم لا يعرفون لهم أسماء، هم مجرد أرقام متواترة!..
قالوا:" وجدنا آباءنا وأجدادنا أرقامًا، فكنّا أرقامًا متواصلة؟.كنّا نسمع عن أسماء جميلة، لكنها لا تنبت في تربتنا، كانت حكرًا على من يجلس وراء الأكمة من أهله وعشيرته وأصفيائه وأذنابه!.فلا يحق لنا ذلك؟ فنحن من يرعى أغنامهم، ويشيّد بيوتهم، ويحرس أرزاقهم!
يسألهم في دهشة " ألم تأخذكم الرغبة لتتطلّعوا إلى موائدهم؟! ألم تشكُ أقدامكم من جفاء أرضكم؟! ألم تحن عيونكم إلى ألوان الزهر والمروج؟! ألم ترغبوا في ألوان العطور؟!".
يجيبون بصوت واحد:"هذا ما وجدنا عليه آجداننا وآباءنا!."..
تحدّثه نفسه وهو يودعهم:" مـن يـحي هـؤلاء الموتـــى؟!.."..
ينتفض رعبًا بعد أن لامست كتفه يد أحد الغرباء لتعيده إلى وعيه، إلى نفسه وإلى بيته!.إنّهم هنا، يحتلّون المكان!
يتصبب عرقًا غزيرًا، وينفضّ الجمع الغريب ليتواعدوا على موعد جديد متجدّد!