لايهمُّ السبب الذي نبكي من أجله، فقد كانت قلوبنا تمتلئ بالأحزان لدرجة أنَّ أي شيءٍ يكفي ليكونَ سببًا.
عبد الرحمن منيف
هو مثل أي يومٍ، لم أعد أجد أية فائدةٍ تُذكر من تحديد اليوم، الأيام كلها الآن تتشابه إلى حدٍّ مفزع.
هل من الممكن أن يكون هذا نابعًا من شعوري الداخلي بالملل؟ أم أنَّ الأيام لا تتشابه بالفعل أو تتشابه بصرف النظر عن حقيقة شعوري؟!
يبدو أنني على وشك أن أصاب بلوثةٍ عقلية!
حسنًا، هل هو العصر الذي نحياه نمَّط الأيام بشكلٍ روتينيٍّ ورتيب حد الملل؟
هل ...؟
هل....؟
يكثر استخدام أداة الاستفهام "هل" في ذهني لطرح الكثير من الأسئلة المزعجة، والتي تنتهي بدون أية إجاباتٍ؛ ولانصف إجابة مختلة حتى!
ما أعرفه تحديدًا وعلى وجه اليقين أنَّ اليوم مملٌّ، حتى الحي من خلف نافذة غرفتي يبدو أكثر مللًا..
استيقاظي هذا؛ هو مُللٌ في حد ذاته، أرتدي ثوبي الأبيض بغير اهتمام، أضع الغترة فوق رأسي ولا أهتم كثيرًا بضبطها، انقضى بعض الوقت وأنا أنظر لنفسي في المرآة، لا لأتأكد من هندمةٍ افتقدها بلاشك؛ ولكن ذهني يسرب اللاشيء على صفحة المرآة، نعم هذا هو الوصف الدقيق.. "اللاشيء".
أغادر الغرفة متجهًا إلى صالة البيت لألتقط مفتاح السيارة من على مائدةٍ صغيرة، أقف عند باب البيت، لا أعرف لماذا أُغلق عيني؟
لا لأتذكر شيئًا قد أكون أغفلته، ولا هي ذكرىً سيئةٌ مرَّت بمخيلتي؛ بل لأنَّ جسدي الآن محتلٌ بالكامل من شعورٍ طاغٍ بالملل، بالرفض، بالتمرد.
أفتح الباب متجهًا إلى سيارتي الواقفة على ممشى البيت، أركبها والعامل الهندي يحييني، أهزُّ رأسي مع همهمةٍ بكلمات لم أفهمها أنا شخصيًا! تُفتح الأبواب الخارجية للبيت لأتحرك بالسيارة، أوقف السيارة في منتصف الممشي متذكرًا أنني نسيت هاتفي الجوال، ألمح ملامح استفهامٍ وتساؤلٍ في عيني العامل الهندي في مرآة سيارتي اليسرى، سأترك الهاتف الجوال، لن يرافقني اليوم، ها أنا بدأت التمرد!
" عندما تبدأ السفينة في الغرق ستتعرف على الطبيعة البشرية بشكلٍ صحيح، ستنهار منظومة الأخلاق الزائفة هذه، سيعود البشر لطبيعتهم الأولى الوحشية، كذبًا نحاول ونزعم أنَّ الأديان والحضارة استطاعت أن تنزع الطبيعة الوحشية الأولى للإنسان ولكن هذه كذبة كبيرة!"
استوقفته تغريدة الدكتور (علي الربيعي) كثيرًا على تويتر، أثارت تغريدته القصيرة هذه عاصفةً من الجدل والرفض وردودٍ منفعلة على تغريدته، حتى هو عبَّر عن رفضه للتغريدة ولكنه كان يقينًا يعلم أنَّ رفضه هذا ظاهريٌ، بشكلٍ ما ألقت هذه التغريدة صدىً لديه، ضرب منطقةً مظلمةً في نفسه، فاجأه أنَّ تلك المنطقة المظلمة من نفسه استيقظت فجأة لتعلن عن تضامنٍ خجولٍ مع هذه التغريدة؛ ولكنه اكتفى ظاهريًا مثل البقية بالشجب والرفض لمحتواه.
إشارة المرور حمراء اللون..لماذا؟!
مرةً أخرى أدوات الاستفهام تُرهق عقله بعشرات الأسئلة، المنطقية وغير المنطقية، وكأنها تعمدُ لاستنزاف طاقته في صراعاتٍ بلا طائل، هل دافعها الملل؟ تمردٌ لا يستطيع تبين كينونته حتى الآن، حقيقة لا يعرف.
اللون الأحمر، لونٌ مثير، يلفت الأنظار فورًا، يدعوك بشكلٍ لا إرادي للتوقف، اللون الأحمر مرادفٌ آخر للدماء المُسالة، الآن الإشارة خضراء، تعني أن أنطلق.
أتحرك بالسيارة وأنا أستدعي مرادفاتٍ مقابلة للون الأخضر؛ فأول ما يمر بخاطري الإسلام، اتخذ من اللون الأخضر لونًا يعبر عنه، أيضًا هي إشارة للزرع والخضرة، إشارةٌ للاستمرارية وتدفق الحياة.
ابتسم لسخافة الأطروحات التي تضرب رأسه كطلقات رصاصٍ بلا رحمة، وربما هي أطروحاتٌ مهمة وغير سخيفة، كاللون البرتقالي والتي تعني الاستعداد للإنطلاق، منطقةٌ وسطى لا معنىً لها، لا تشي بأي فعلٍ، عليك فقط الانتظار، كما هو وضعه الآن، في حالة انتظارٍ كانت ومازالت مستمرةً بشكلٍ غريب، منطقةٌ خالية من أي فعلٍ وأي حياة، فقط استعد، أستعد لماذا؟ لا يهم ولكن كن مستعدًا والاستعداد يسلِّمك بخبثٍ للانتظار، أسخف ما في الوقت مرحلة الانتظار، لا يحسن فيها الوقت صنعًا، يضعك في حالة جمود، يتوقف الزمن بينما هو يمرُّ ولكنه يتوقف عند خانة الانتظار، كل ما عليك هو الانتظار وحتى تتقن فعل الانتظار عليك ألا تفعل شيئًا!
اللعنة على الانتظار.
الحارس الباكستاني يلقي عليَّ التحية بحرارةٍ فأردها بفتورٍ لم أقصده، لماذا تضاءلت ساحة ذلك المبنى الإداري فجأة؟!
اتجه إلى المصعد، تقف بجواري فتاةٌ في العشرينيات من عمرها، يبدو على وجهها توترٌ ملحوظ، ألمحها بطرف عيني ومن ثمَّ أركِّز بصري على باب المصعد الذي يُفتح فأتأخر حتى تتقدم هي ثم ألحق بها، أسألها بصوتٍ أقرب للهمهة
-أي دور؟
فتجيب هي الأخرى بهمهمةٍ استشف منها رقم الدور، وقت الشعور بالملل تمضي الدقائق بطيئةً للغاية؛ بل تتسلى الدقائق بتباطؤها حتى يتغذى الملل على طاقتك المُستهلكة بكل ما أوتِيَ من قوة، أمضى باتجاه مقرِّ دار النشر في خطواتٍ واسعة كأني أهرب من شبح الملل الذي يصرُّ على مرافقتي حتى باب الدار، يستقبلني الشاب (داود) الباسم دائمًا، كنت من قبل أبدي علامات الاستفهام على سرِّ ابتسامته الدائمة ولكنها الآن في حالتي المزاجية الراهنة تبدو مقيتةً للغاية، يقول بحماس:
- السلام عليكم سيد (مسعد).
- وعليكم السلام.
- ورد إلينا اليوم عملٌ جديد للتقييم، وقمت بطباعته ووضعته على مكتب سيادتكم للتقييم.
- هل وصل السيد (راشد)؟
توقف الشاب مما دعاني أنا الآخر لأقف متأففًا، ملامحه تشي بمحاولةٍ مُرهقة للتذكر، لا أحتمل الوقوف أكثر من ذلك وأبادر للتحرك باتجاه مكتبي وهو يتبعني، يقول مرتبكًا:
- أعتقد أنه لن يحضر لمقرِّ الدار اليوم.
- لماذا؟
دخلت إلى مكتبي وهو يقول:
- لم يحدد السبب على ما أظن
- تظن؟!
لوح بذراعه اليمنى معتذرًا وهو يفرش ابتسامةً بلهاء:
- بل هذا ما قاله، أنه لن يحضر اليوم.
أومأت برأسي إيذانًا مني بإنهاء هذا الحوار؛ ولأنه يتميز بقدرٍ من الذكاء المطلوب انسحب في صمت.
وقفت أتأمل المدينة مرةً أخرى من خلف زجاج مكتبي لعلي أرى في الأفق مشهدًا مختلفًا؛ ولكنه بدا مملًا كما هو الحال من خلف نافذة بيتي.
أجلس لأضرب أزرار الهاتف الداخلي بسرعةٍ وأطلب كأسًا من القهوة لعله يحدث فارقًا أعلم أنه لن يحدث!
نظرت للملف الموضوع على مكتبي ولكني اتجهت لشاشة الحاسب الآلي أشغلها ليبدأ نظام التشغيل في التحميل، ثم أتجه لفتح حسابي على تويتر.
السؤال الظاهر هو لماذا أفتح حسابي؟ ولكني كنت أعرف الإجابة المبطنة وهو أني أبحث عن تغريدةٍ جديدة أو لعلّي أطَّلع على مزيدٍ من التعليقات والتفاعل على تغريدته المثيرة للجدل، وقفت عند تغريدته أقرأها مرةً أخرى بحماسةٍ ونهم وكأني أقرأها لأول مرةٍ، وأتابع تفاعلات المتابعين له وقد تجاوزت التعليقات الخمسمائة تعليق.
هل إثارته لهذه الجدلية بغرض الشهرة وأن يتحول لـ"تريند"؟ الحقيقة لا أعرف ولكن هناك صوتي الذي يأتي من الجزء المظلم فيّ يخبرني أنَّ هذا الرجل يعني ما يقوله حقًا، حاولت أن أدير وجهي بعيدًا عن الشاشة متطلعًا بتوجُّسٍ لم أفهم فحواه للملف المطبوع.
قربت الملف مني وأنا أطلق زفرةً حارة، ولا أفهم سر تمللي وأنا أعلم يقينًا أني أعشق تقييم الأعمال وتشريحها وكتابة تقريرٍ وافٍ عن العمل؟! فأنا الذي أجيز العمل للنشر أو لا، اسم الرواية (الأرضُ لا تدفنُ موتاها).. العنوان مثير ولكن هل المحتوى أيضًا مثير؟
بعض الكتّاب يحبون أن يصنعوا مفارقةً بطرح عنوانٍ مثير وملفت ولكن يقبع خلفه محتوىً هذيل، أصبحت هذه وسيلة رائجةً من أجل الترويج للأعمال، حتى الأدب تحول لسلعةٍ استهلاكية خضعت لمعطيات السوق وآلياته في جذب العميل بصرف النظر عن جودة المنتج من عدمه، أخيرًا تحوَّل الكتاب في هذا العصر إلى سلعةٍ يجب أن تقاس بمعايير السوق واللعب على سيكولوجية المستهلك النهائي للسلعة!
الكتب، ما الجدوى من الكلمة التي نكتبها وهي تعجز عن إحداث تغيير جذري وجوهري في هذا المجتمع الذي يتجه نحو الحافة؟
ليس هذا المجتمع فقط؛ ولكن العالم العربي كله يتجه بمنظومته الأخلاقية نحو الهاوية، والكلمة عجزت عن ردِّ هذا العالم العربي المجنون عن الانطلاق بسرعة الصاروخ نحو حافة الانهيار؛ بل تحولت الكلمة إلى ما يشبه يدين تدفعان ذلك المجتمع بسرعةٍ أكبر نحو الهاوية.
أثرثر مرةً أخرى، ربما ذلك كان بسبب شعوري البالغ بالملل..
الملل...
ذلك الكائن الأسطوري الذي يدفعنا للثرثرة المبالغ فيها أو إلى الصمت التام وبدون مقدماتٍ أو مبررات، ويقلّبنا بين الحالتين وها أنا مستمر في الثرثرة حتى أني ضجرت من نفسي!
أصدرت الكثير من الأحكام قبل أن أطَّلع على الصفحة الأولى من الرواية، انطلق كل هذا السيل من الأحكام لمجرد قراءتي لعنوان الرواية، بدأت في فتح الملف وقراءة أول صفحةٍ فيه، أحاول أن أصفي ذهني لأرسم ملامح ذلك الكاتب الذي يحاول أن يقول شيئًا، لا أعرف حقيقةً ما الذي يمكن أن يقوله مختلفًا عن مئات من الكتب التي قدمت للدار مؤخرًا؟ ولكني اعتدت هذا، فالجميع لديه شيء ليقوله، الإنسان بفطرته مجبولٌ على الرغبة في أن يقول شيئًا ويأمل أن يكون جديدًا ومتفردًا بذاته، ولكن هذا لا يحدث إلا لقلةٍ منا ولكننا كلنا نؤمن أننا هذه القلة!
قبل أن أشرع في الكتابة دخل العامل الفلبيني ليضع أمامي كأس القهوة ويرحل في صمت، لا أعرف لماذا نظرت إليه شذرًا؟! لماذا حافظت على صمتي حتى رحل؟ أبدو اليوم سخيفًا للغاية ولربما لاحظ الجميع ذلك.
لا يهم، لا يعنيني ما يظنونه بي اليوم، وهذا تمرُّدٌ جديد يضاف لتمرد سابق حين تركت هاتفي الجوال بالمنزل.