الوقوف على العتبات
محمد عبد الرازق
اسم العمل: الوقوف على العتبات
الكاتب: محمد عبد الراوق
التصنيف:رواية
عدد الصفحات:279
رقم الإيداع: 25446/2022
الترقيم الدولي: 9789776908154
تصميم الغلاف: عمرو بسيوني
التدقيق اللغوي: إسراء جمال
إخراج داخلي: سطوع لخدمات النشر
-------------------------------------------------------------------------------------------------------------
خدمات ما قبل النشر يافي للنشر والتوزيع
الطبعة الأولى
جميع الحقوق محفوظة ويحظر طبع أو تصوير أو تخزين أي جزء من الكتاب بأية وسيلة من وسائل تخزين المعلومات إلا بأذن كتابي صريح من الناشر
روايــــــة
الوقوف على العتبات
محمد عبد الرازق
الإهداء
إلى: ماما
لعلها ترضى
مايـــــــــو
تركتك مي ولا تعرف لماذا..
3 مايو
تركتك مي، ولا تعرف لماذا..
ينفجر السؤال في وجهك كل لحظة، قسوة السؤال ليست في ذاته، وإنما في الاحتمالات اللانهائية للإجابة عليه.
عند عودتك من المدرسة لا تجدها في البيت، تدخل الشقة، تنادي عليها، لا تجيبك. تدخل غرفة النوم، تعود إلى الصالة، البيت فارغ تمامًا، لا تتذكر أنك عدت من قبل ولم تجدها في البيت، دائمًا ما تكون جالسة على السفرة أو الكنبة الفوتيه أمام اللابتوب.
تدخل إلى المطبخ، لا تجد أي طعام، تتوتر أكثر، ماذا يعني أنها لم تحضّر طعامًا؟! تغير ملابسك، وتبحث في الثلاجة عن شيء تأكله، تخرج هاتفك وتطلب رقمها قبل أن تأكل. هاتفها مغلق، تترك الهاتف وتأكل.
قبل المغرب، تذهب إلى أمك بشقتها، تجدها تتابع شيخًا ما في التلفاز، تسألها عن مي، تقول أمك إنها لم ترها منذ ودعتها بالأمس قبل النوم. تزيغ عيناك، لا تسيطر على قلبك، تقفز في ذهنك فكرة أن مي تركتك، تقاوم ألم الفكرة، لا بد أنها تأخرت في مشوار يخصها، تتذكر أنها كانت تمكث في الشقة ولا تغادرها لأسبوع أو أكثر.
تهرب من عيني أمك المتسائلتين، تعود إلى شقتك، تطلب رقم مي على الهاتف لكنه ما زال مغلقًا. تطلب عمك، مشغول. تفتح الشباك وتنظر إلى الطريق، يهبط الظلام رويدًا، وتلمع أضواء السيارات المارقة، تدقق النظر في كل شيء، تتمنى لو تخرج مي من أي اتجاه حالًا. يهتز هاتفك بالرنين، إنه عمك، تسأله عن مي، يخبرك أنه لم يرها اليوم، ولم يكلمها منذ ثلاثة أيام. يرتج صوته، تهدئه وتخبره أنك قلق بدون سبب. يأمرك أن تطمئنه فور أن تعود مي.
لا تفتح أيًّا من أنوار الشقة، تتمدد على كنبة الفوتيه في الصالة، تتخلى عن الموبايل، تلقيه بهدوء على الأرضية، تنصت إلى أبواق السيارات الآتية إليك من الشباك، تفكر في جملة عمك، عليك أن تطمئنه فور أن تعود مي.
4 مايو
تخبر أمك أن نفسك مسدودة عن الأكل، في عينيها انعكاس لقلقك، تخبرك أن الله سيطمئنك، تهز رأسك وتنزل مسرعًا.
تدور على الأقسام والمشافي والمقاهي الكبيرة في المنطقة حولك، الجميع يخبرك أنهم لم يروا مي، تدور رأسك بتساؤل عن مكانها، تضع احتمالات متعددة لما قد يحدث لها، لا تنفي احتمال أنها غاضبة منك، تراجع نفسك وما فعلته لها في آخر الأيام، آخر أسبوع، آخر شهر، السنة والنصف التي جمعتكما، تكتشف فجأة أن حياتكما كانت عادية جدًّا. تترك نفسك للشارع ليقودك حيث أنت ذاهب، لتعرف أين ذهبت مي.
في مشفى التأمين الصحي تلتقي بصديق والدك الأستاذ علاء، تجلسان معًا بمكتبه، تحكي له أن مي متغيبة منذ أمس، يبحث لك في دفتر المشفى، ينفي وجودها هنا، يُخبرك أنه يعرف لواءً من الذين يسمعون دبيب النمل في البلد، يكتب لك رقم هاتفه على ورقة، تمسك الورقة بيديك؛ فيلاحظ الأستاذ علاء ارتباكك. يتصل هو باللواء، يخبره اللواء أنه سيعاود الاتصال به حالًا.
بعد نصف ساعة أو أكثر يتصل اللواء، يمتقع وجه الأستاذ علاء وهو يستمع إلى كلمات اللواء، يضع الهاتف ببطء على مكتبه، ويتحاشى النظر إلى عينيك.
يقول بتردد:
– مي سافرت برا مصر.
لا ترد؛ لأنك لا تقتنع بما سمعت.
يواصل الأستاذ علاء تحاشي النظر إليك، يتابع القول إنها سافرت إلى كندا من مطار القاهرة.
تعود إلى البيت مطعونًا، ترفع خطواتك ببطء على درجات السلم صاعدًا إلى شقتك، يستعر صدرك بما سمعت، تظهر كندا في ذهنك كسراب غير موجود، تشك أن اللواء يكذب على علاء، وأن علاء بدوره يكذب عليك، لا تفهم لماذا ستسافر مي إلى كندا، ما الذي يدعوها لتذبحك هكذا؟ تتسحب على بصطة السلم حتى لا تراك أمك، لكنها تسمعك وأنت تحاول فتح الباب، تنادي عليك.
تتوقف على عتبة شقة أمك ولا تدخل، تلمحها جالسة في الظلام، مكتفية بضوء التلفاز الشحيح، طبعًا لا تخبرها بالمصيبة التي عرفتها لتوك، تحاول أمك طمأنتك ببعض الكلمات المحفوظة، تهز رأسك لكلماتها دون أن تقتنع أنها رأتك، ثم تنسحب إلى شقتك.
تغلق الباب وتقف مستندًا إليه، يعانقك الظلام والوحدة مجتمعين، تلتصق بالخشب متمنيًا أن يبتلعك داخله، في ظلام الشقة لا ترى شيئاً. أنت وحدك، ومي ليست هنا، مي بعيدة جدًّا، في بلد لم تفكر أنت في الذهاب إليه، ولم يخطر لذهنك من قبل. تمشي في الظلام عدة خطوات، تقف على عتبة غرفة النوم، لا تدخل، تقف في وسط الصالة، مؤكد أن الرجل يكذب عليك، مؤكد أن مي ما زالت هنا، مؤكد أنها ستفتح الباب بعد قليل وتدخل، ثم تضيء أنوار الشقة! تشعر أن الحر يأكل رقبتك، تفك بعض أزرار القميص، تعبُّ نفَسًا طويلًا، ثم ترتمي على كنبة الفوتيه، يصلك ضجيج أولاد يلعبون في الشارع، تحاول مناداة مي، قد تكون نائمة في الغرفة، ستسمعك وتجيبك، لكن صوتك لا يتجاوز أفكارك، ترتخي على الكنبة، ولا تجد إجابة للسؤال الذي يشق صدرك: لماذا تركتك مي؟
5 مايو
تنزل من شقتك مسرعًا، لم تقتنع بعد أن مي هربت إلى كندا كما أخبرك الأستاذ علاء، تدور في الشوارع المحيطة بعمارتكم، تود لو تسأل أصحاب المحلات والمقاهي القريبة منكم لكنك تخجل من نظراتهم، تؤثر الصمت وتمشي في طريقك، لا تجد أحدًا تشكو إليه الحيرة واللهب المستعران بقلبك، تقف على جانب الطريق، تشعر بالتعب من الحر، تدخل أول مقهى يقابلك، تجلس في ركن بعيد عن الأنظار وتطلب شايًا. يحضر في ذهنك أن تتصل بخالد، ابن عمك وصديق الطفولة، ستحتمي به، وتشكو له ما فعلته أخته؛ تخرج هاتفك، تطلب خالد، لكنك لا تملك رصيدًا يكفي لإجراء مكالمة للسعودية. تخبر القهوجي أنك ستشحن رصيدًا، ثم تعود لتشرب الشاي، ينظر إليك القهوجي ببعض الشك، ثم يشير بيديه إلى أقرب محل هواتف.
تعود إلى المقهى بعد دقيقتين، تجلس فيضع القهوجي كوب الشاي بسرعة، لا تلمس الكوب، تحدق فيه كالخائف، ثم تطلب رقم خالد، تسمع وشيشا لثانيتين، ثم صوت الرسالة المسجلة تفيد أن الهاتف مغلق، لا تصدق الرسالة المسجلة، تعاود الاتصال، فتتكرر الرسالة.
تضع الهاتف على الطاولة أمامك، تواجه الحقيقة وحدك، يعجز عقلك عن التفكير، تختار رقم مي، تتصل بها، لكن لا جديد، تتذكر آخر مرة رأيتها، منذ ثلاثة أيام عندما عدت من المدرسة، كنت متعرقًا وكانت مي قد خرجت لتوها من دش منعش، دخلت الشقة، فرأيتها تقف أمام تسريحة غرفة النوم تمشط شعرها، مررت في الصالة على اللابتوب الموضوع على السفرة، توقفت لثانية أمام الشاشة، عرض عليها مشهد لمظاهرة كبيرة، يسير فيها الناس ببطء، ويحملون لافتات كتبت عليها شعارات حمراء. قلت لمي بحدة:
- إنتي معندكيش غير المظاهرات والصداع ده؟
تظاهرت مي أنها لم تسمعك، وأكملت تمشيط شعرها، دخلتَ غرفة النوم وبدأت تخلع ملابسك. أنهت مي تمشيط شعرها وعقدته كحكة خلف رأسها، ثم التفتت إليك كأنها سمعت جملتك لتوها فقط.
- هو أنت حاولت ولو مرة واحدة تفهمني؟
لم تعرف بم ترد، هززت كتفيك فتركتك مي وخرجت إلى الصالة، ثم جلست أمام شاشة اللابتوب كعادتها. أنهيت تبديل ملابسك، ثم ذهبت إلى المطبخ فلم تجد شيئًا تأكله، كان واضحًا أنها لم تطبخ شيئًا جديدًا واكتفت ببقايا طعام منذ يومين، لم تقل شيئًا، تجنبت أن تنشب بينكما مشادة لأسباب تافهة. شعرت ببعض الصداع ففضلت أن تأخذ قيلولة، سلمت نفسك للسرير لكن لم يأتِك النوم، ظللت تتقلب في مكانك، تدير الكلام في رأسك لتفتح معها أي حوار، خشيت أن تكون أغضبتها بسبب تعليقك على المظاهرات، قمت من السرير، واتجهت إليها في الصالة، جلست على الكرسي المقابل لها، واقترحت عليها أن تذهبا إلى أخوالك في المنصورة؛ رفعت مي رأسها عن اللابتوب بنظرة غير مهتمة. فسرتَ لها اقتراحك بأنك ستأخذ إجازة لمدة أسبوع تغيران فيه الجو، وتخرجا بعيدًا عن كتمة القاهرة، هزت رأسها بالموافقة. شعرت بسعادة طفيفة، وقلت لها إنك ستنزل لتحضر بعض طلبات البيت. لم تكتب مي ورقة بالطلبات، ولم تأمرك بإحضار أصناف بعينها، قالت لك: هات ما تريد. بلا مبالاة.
رجعتَ إلى المنزل بعد ساعتين تقريبًا بسبب الزحام، وضعت الأكياس على طاولة السفرة، وعبرت الصالة نحو الحمام، دفعت الباب ببطء، رأيت مي تقف أمام الحوض وتنزع شعر يديها كأنها تستعد لدش آخر.
سألتها باستغراب ماذا تفعل، فقالت إنها ستأخذ دشًّا سريعًا وتنام، ابتسمتَ لها وأشرت نحو ذراعها، سألتَها إن كانت لديكم مناسبة قريبًا، فهزت كتفيها دون أن تجيب، لم تشغل بالك بما تفعله مي، ابتلعت قرصًا مسكنًا للصداع، وذهبت إلى السرير على أمل ان تلحق بك بعد الاستحمام.
ترفع كوب الشاي إلى فمك، ترشف قليلًا، ثم تنزله بسرعة، طعمه سخيف كأن الماء لم يغل أبدًا، يقترب القهوجي منك، يمسحُ الطاولة أمامك ببطء، رغبت بأن تعطيه بقشيشًا. تسأله ببلاهة:
- من يومين كده كانوا بيسألوا على واحدة مختفية.
ينظر لك القهوجي باهتمام. فتكمل:
- متعرفش عرفوا مكانها ولا لأ؟
يقول القهوجي إنه لم يسمع بذلك أبدًا، تدفع له ثمن الشاي وتقوم من مكانك، لا ترغب في العودة إلى البيت، تهرب من الوحدة والهزيمة اللتين تنتظرانك هناك، تُخرج الهاتف وتعاود الاتصال بخالد، محاولة أخيرة قد تنقذك من نحيب قلبك، لكن هاتفه ما زال مغلقًا، تضع الهاتف بيأس في جيبك، وتستمر في المشي بلا هدف.
11 مايو
تفتح عينيك بصعوبة، تشعر بوخزة ألم في كتفك الأيسر، تدب الوخزة في مجمع كتفك وصدرك، ثم يجتمع الألم كله في ذراعك الأيسر، يتصاعد الألم تدريجيًّا حتى يمزق ذراعك، تعتدل ببطء على أريكة الصالة، تحس بعطش وحر شديدين، تريد مناداة مي لتحضر لك كوب ماء، ولتشكو لها ألم ذراعك، تستغرق بضع ثوان لتدرك أنها ليست هنا، تنظر حولك لتلمح أقرب كوب أو زجاجة ماء، لا تجد شيئًا، تتثاقل على نفسك وتذهب إلى المطبخ، تتجرع الماء ببطء، يرن هاتفك فتجري إليه، لعلها تكون مي. تقرأ اسم المتصل، إنه ناظر المدرسة، ترمي الهاتف بلا مبالاة على الأريكة، ثم تتهاوى جواره.
يخفت ألم ذراعك تدريجيًّا كما بدأ، ولا يبقى من أثره سوى نبضات خفيفة، تقوم لتفتح الشباك علك تخفف الحر، تضربك الشمس مباشرة، تهرع إلى الداخل، يسقط الضوء على الأرضية، ترى بعض الفتات وحوله سرب نمل، تدرك أنك وحيد تمامًا.
تدخل لتستحم، لتزيح عنك بعض وسخ الأسبوع الفائت، تفكر في النزول إلى الأقسام والمشافي مجددًا لتبحث عنها؛ لم تقتنع بعد أنها سافرت إلى كندا. تترك نفسك لتيار الماء البارد، تدعك أذنيك وحول سرتك، تحدث نفسك أنك ستجدها غضبانة عند إحدى صديقاتها، تتمنى لو تعود الآن. لو عادت ستسامحها! مؤكد ستسامحها، لن يهمك أن تعرف لماذا غابت أو أين غابت، المهم أن تعود.
تغلق الماء، ثم تكتشف أن الحمام بلا مناشف، تود لو تنادي على مي لتحضر المنشفة، تخرج من الحمام عاريًا، تبحث عن أي منشفة خارج غرفة النوم التي تحاشيت دخولها منذ أسبوع. تدخل الغرفة الأخرى، تسمع رنين الهاتف كأنه كلب مسعور، تجري عليه، تتمنى لو تكون هي، أو أي شخص يخبرك أنها تنتظرك. يخيب أملك، تجده الناظر مجددًا، ترد عليه يائسًا، يسألك عن غيابك لمدة أسبوع، يخبرك أنه لا بد أن تحضر في الغد، فهو لن يستطيع التغطية عليك أكثر.
12 مايو
تأكل أي شيء إرضاءً لأمك، تتظاهر بالمضغ بينما هي تتكلم، تخبرك أنها حلمت بمي، رأتها تلبس فستانًا برتقاليًّا وتقطف وردة، كانت تقف في حديقة واسعة وتضحك. تتنهد أمك، وتقول لك إنه خير. تضع اللقمة من يدك وتقوم لتنصرف، تنزل السلم على عجل، تفكر في رؤيا أمك. تشك في تفسيرها لكن مسبحتها تتأرجح في ذهنك. تفكر في مي وهي تضحك، مي في رؤيا أمك سعيدة، تقطف وردة وتبتهج. مي بعيدة جدًّا لا تعبأ بك، وأنت هنا تكتوي بالبحث والتساؤل، تتوقف لحظة لتركب الأوتوبيس، تنظر خلفك إلى عمارتكم، ثم ترتد إلى داخلك متفاجئًا، متى انفجر كل هذا الحب لمي؟
في المدرسة، تجد طابور الصباح قد انتهى، يستقبلك الناظر في الطرقة، يسحبك إلى مكتبه، يسألك عن تغيبك، تصمت للحظة، تريد أن تخبره أن زوجتك طارت، وأنك صرت شيئًا مستعملًا تم استبداله، تصارع الكلمات وتخبره أنك أصبت بوعكة صحية. يتمنى لك الشفاء، ويخبرك أنه سيضطر إلى مضاعفة حصصك الأسبوعين القادمين لتعويض التلاميذ، ولأن الفصل الدراسي على وشك الانتهاء؛ فقد كان فصلًا قصيرًا بسبب ما اقتصته الثورة من بدايته، يضحك الناظر لتذكر الثورة، تهز رأسك وتوافقه على مضاعفة جدولك، ثم تدرك أنك ستعمل لست أو سبع حصص يوميًّا حتى تنتهي، لا تعترض، تترقرق عيناك كأنك لامست دملًا متقيحًا فتهيّج أكثر، تهرب بعيدًا عن عيني الناظر.
يسألك: هل أنت بخير؟ تنظر في عينيه طويلًا، تشك أن يكون عرف شيئًا، ترتج صورته في عينيك، أو صورتك في عينيه، توافقه برأسك بسرعة وتخرج.
تعبر الطرقة التي ملأتها شمس الصيف، ترى التلاميذ يلعبون في الحوش، يجرون خلف بعضهم، يقذفون الكرات لبعضهم، يقعون، ويضحكون، يمسحون العرق عن وجوههم، ينفضون التراب عن ملابسهم، لا يعكر بالهم أي شيء.
تدخل غرفة المدرسين، يرحبون بك، يسألون عن حالك، تخبرهم أنك بخير، يحاولون تخمين سبب غيابك، تخبرهم أنها وعكة صحية، تخاف أن يتسرب إليهم شيء، تداري قلق عينيك خلف زجاج ملون بالزيف، تخاف أن يعرفوا أنك صرت شيئًا مستعملًا، استعملته مي ورمته. تجلس على مقعدك، ويجلسون كل في مكانه، يخفت اهتمامهم بك ويلتقون في ثنائيات، يقبل عليك صديقك أحمد نعمان وزوجته، يحيطان بك، يطمئنان عليك، ثم يسردان لك بعض الأخبار الحاصلة في غيابك. تستمع لهم شاردًا، تفكر في السر الذي تحمله وحدك، تقطع شرودك صفاء، تسلم وتجلس، تخبرك بحنان أنها قلقت عليك، تهز لها رأسك، لا تقدر على الكلام. تخبرك بهمس في غفلة منهم أن قلبها حدثها أنك تمر بمشكلة، تداري تفاجؤك، تتوقف عند كلمة قلبها، تشك أنها تعرف شيئًا وتلعب معك لعبة من ألعابها. هل ستفجر في وجهك مفاجأة بمعرفتها السر؟ تفحصها بعينيك، هل يمكن أن تكون هي من حرضت مي على فعلتها؟! تنتصب واقفًا، يتسرب إليك شعور مقيت بالشك، تدور في العيون، هل يعرف أحد منهم ما حدث!
تخرج بسرعة من غرفة المدرسين، تسمع وأنت في الطرقة نداء أحمد نعمان، لكنك لا تتوقف.
تدخل إلى الناظر، تخبره أنك تريد طلب إجازة بدون مرتب، يفتح الناظر دفترًا طويلًا أمامه، يقلب الصفحات على مهل، يتعمد أن يجعلك تنتظر، تخبره أنك تريدها لشهر أو شهرين حتى تستريح أعصابك، يقرأ الناظر شيئًا في الدفتر، ثم ينظر إليك، يعود بعينيه، ويخبرك أنه لا يستطيع توقيعها لك قبل نهاية الفصل الدراسي، تخرج من مكتبه، لا تعرف كيف ستتعامل مع حياتك. تتوقف لتراقب الأطفال يلعبون تحت الشمس.
15 مايو
تخرج من المدرسة بالساعة الثانية ظهرًا، بعد سبع حصص كاملة، تشعر أن رأسك سينفجر، كل شي ثقيل عليك.
16 مايو
أسبوعان بالضبط على رحيل مي، وكأنك لن تعرف أبدًا لماذا تركتك.
22 مايو
تحاول التهرب من صفاء بعد انتهاء يومك بالمدرسة لكنها تترصدك، تخبرك أنها تريد أن تتمشيا سويًّا، تسألها: ماذا تريد؟ تخبرك أنها تريد التحدث معك، تضع ألف احتمال لرغبتها تلك، يذيبك الشك بأنها تعرف شيئًا مما حدث. تعرف أنها تحبك، أو تشعر نحوك بأشياء عدة، تتوقع أنها يمكن أن تنتهز الفرصة، وذلك يخيفك، تريد الهرب منها لكنها تنتظرك. تراها تنظر لساعتها وتشير إليك، تعتذر لها بأنك تريد دخول الحمام، تذهب إلى حمام المدرسين، تلتف لتخرج من الباب الخلفي للمدرسة، توقف أول تاكسي وتذهب.
يهتز هاتفك بمكالمة من صفاء، لا ترد. تنظر عبر شباك السيارة، ترى مباني جديدة تحاول الارتفاع فوق الرمال، لماذا تتهرب منها؟ لماذا لا تعطي نفسك فرصة للجلوس والتكلم معها؟ لكنك تنفض الفكرة من رأسك، تريد أن تثبت لنفسك أن مي أخطأت، وهذا الإثبات لن يحصل إلا بتتبُّع أثرها.
يرن هاتفك مجددًا، إنه عمك. ترد عليه، يسألك عن الأخبار، تخبره: لا جديد. يسكت، تسكت، تنازع نفسك أن تريحه، وتستريح معه، أن تخبره بما فعلت ابنته، لكنك تتراجع دون سبب، تكتم السر في صدرك أكثر، هي لك وحدك، وستحصل عليها أنت. يسلم عليك عمك وينهي المكالمة، تضع الهاتف في جيبك وتنزل من السيارة.
24 مايو
تفتح عينيك فلا ترى إلا الظلام، تقوم، تحاول إضاءة الأنوار لكنك تفشل، تتمشى إلى الحمام، تصطدم قدمك بشيء، لا يوجعك، فتواصل المشي، تدخل الحمام، تغسل رأسك ووجهك، تسمع همسًا يأتي من الصالة، تنادي على مي، ينقطع الهمس. تعيد غسل رأسك، تتمضمض لكن الماء لا يريد الخروج من فمك، تعيد المحاولة، لا تستطيع، تنظر حولك، لا ترى إلا الظلام، يبدأ الماء في التدفق من فمك، قطرات قليلة، ثم سرسوب صغير، ثم ينفجر فمك بماء رائحته غريبة.
تهرول من الحمام إلى الصالة. تحاول فتح الأنوار مجددًا لكن لا جدوى، يرتفع الماء أكثر، يعلو أصابع قدميك، تسمع نفس الهمس مجددًا، تنادي على مي، تجري ناحية غرفة النوم، لتكتشف أن الهمس يأتي منها. لا تدخل، تعود للبحث عن مصباح، يكاد الماء يمزق فمك، تنزلق قدمك، تنسدح على ظهرك، تشعر بارتجاج يافوخك على بلاط الصالة، يندفع الماء أكثر، يملأ فتحات أذنيك وأنفك لكنك ما زلت تستطيع التنفس، تحاول التمسك بأي شيء، تخونك كل الأشياء. يتوقف الماء فجأة عن التدفق من داخلك، تهدأ، لا تعدل وضعيتك، تحاول تمييز رائحة المياه الغريبة، لا تستطيع، تستند على راحتيك لتقف، لكن قبل أن تقوم يندفع الماء مرتدًّا إلى حلقك، ولا تستطيع المقاومة. يدخلك بحر كما خرج منك، تحاول الاستغاثة، صوتك مدفون تحت المياه ورائحتها، تضرب الماء بيديك، تقاومه، لكن كل شيء أقوى منك، تغلق فمك، لا ينغلق.
تشهق شهقة عظيمة، تستيقظ.
25 مايو
على العشاء، تحكي أمك أن رؤيتها عن مي تكررت، تسألك: هل بحثت عنها؟ تهز رأسك، وتخبرها أنك لا تتوقف عن البحث. تتناول منها بيضة مسلوقة، تقسمها وتغطس في لون صفارها، ما زلت متقوقعًا على سرك، تكوي به نفسك، تفكر في رؤيا أمك، تقارن بينها وبين كابوسك الذي تكرر معك مرتين، لا تدري من أين تأتي أمك بكل تلك الطمأنينة، تراقبها وهي تقطع حواف رغيف الخبز، وتأكله من المنتصف، عادتها الدائمة التي لا تغيرها مع الخبز أبدًا. كانت مي تقسم الرغيف نصفين، ثم تصنع ساندويتشًا من كل نصف، وتقول إنها تستمتع بذلك أكثر.
يقطع صمتكما رنين هاتف أمك، تقوم لتحضر لها الهاتف المجاور للتلفاز، تخبرها أن خالتك الكبرى هي المتصلة، وتناولها الهاتف. ترفع الأطباق إلى المطبخ بينما تتنصت على مكالمة أمك، تستنتج أن هالة ابنة خالتك وضعت مولودها، تنتظر لتحكي لك أمك التفاصيل.
تقول أمك إن هالة أنجبت طفلة، ولا بد أن تزوراها في المنصورة، ترد بسرعة أنك لن تزور أحدًا.
تقول أمك:
– يا ابني ده أنا قلت لهم يسموا البت مي.
ترفع رأسك متفاجئًا، تعلل أمك ترشيحها:
- قلت يمكن تبقى بشرى خير.
طمأنينة أمك تكاد تصيبك بالجنون، تركز عينك على وجهها وهي تحكي، تحس بإشراقه وسط لون الكنبة القاتم، إشراقة لا تناسب الكآبة بداخلك، تعتذر منها وتنسحب لشقتك. تلاحقك هي بكلامها، تخبرك أن الحزن سيأكلك، ولا بد أن تختزن لنفسك شعاع أمل تستند عليه في باقي الأيام، تعبرُ من شقتها إلى شقتكَ ولا تعلق.
ترتمي على كنبتك الفوتيه، تبرز لك مي في كل شيء بقوة لا تستطيع مقاومتها، تلح عليك بيوم مولدها، المرة الأولي التي رأيتها في حياتك، كان وجهها صغيرًا جدًّا وأحمر. يومها عاد أبوك من العمل، أمرك أن تغير ملابسك بسرعة، نادى أمك، وأخبرها أن علية، زوجة عمك سعد، أنجبت طفلة. وصلتم بيت المنيل بعد العصر، داعبتكم رشرشة مطر خفيفة قبل أن تدخلوا، صعدتَ بسرعة أمام والديك، قابلك على السلم خالد وعبد العزيز إخوة مي. قال خالد إن أمه ولدت بنتًا لكنهم محتارون حول تسميتها، اقترح عبد العزيز أن يسموها رئيفة، ضحك والداك من اقتراحه ودخلتم كلكم الشقة. غزت أنفكَ رائحة بخور كثيفة، كانت جدتك سعاد تدور بالمبخرة تحيةً للمولودة الجديدة، أوقفتكم جميعًا وفتحت حجرها طالبة النقوط، دخل والدك إلى الصالون حيث عماك سعد وحامد، ودخلت أمك إلى حجرة الولادة، جريتَ أنت في أثرها، شغوفًا بحدث الولادة الذي لم يحدث أمامك في بيتكم من قبل. أمسكتك جدتك سعاد، وسألتك بغمزة: مستعجل يا ولا؟ تكاثفت رائحة البخور على صدرك، فسعلت، ضحكت جدتك ونبهتك أنها ستكبر وتصير غزالة مثل أمها، قالت لك: لا تضيعها من يدك أبدًا. وضعت جدتك حجر بخور في المبخرة فتبخر كل شيء.
27 مايو
لم تضيء أنوار الشقة منذ يومين، بدأت تستأنس الظلام لكنك تخاف النوم، تخاف أن يعاودك الكابوس، فتغرق.
30 مايو
ما زلت تتهرب من صفاء.
تخرج من المدرسة بسرعة وتركب أول أتوبيس، تطالع وجوه الناس، لا أحد يعيرك أي انتباه، يرن هاتفك، عمك سعد، تتردد أن تجيبه لكنه يلح عليك بالرنين، يكلمك وهو مستشيط، لقد مر شهر على غياب مي، أخبرتَه في البداية ألا يخبر أحدًا، لكنه أب وحتمًا سيصيبه الجنون. يتهمك بالتقاعس في البحث، يشتمك، يتوعد ويهدد، تصمت ولا ترد، يسألك في عنف لماذا لا ترد عليه، فتخبره يائسًا: ما الذي سأقوله! يغلق المكالمة في وجهك.
تنزل من الأتوبيس عند البيت لكن لا تصعد، جنون عمك وانتشار الخبر في العائلة يخيفانك، صرت شيئًا مستعملًا بلا رجعة، مهما حاولت الفرار من الفكرة فقد التصقت بك. توقِف تاكسي وتخبره أن يذهب بك إلى السيدة زينب. لماذا تركتك مي؟ يلح السؤال عليك بعنفه المدمر، يشطرك إلى نصفين محطمين تمامًا، تراجع كل ثانية مرت بينكما، لا تجد أية إجابة شافية، فترتد إلى التساؤل المرير.
تنزل من التاكسي، وتدخل المحل، تدغدغك رائحة عطر المشمش الأثير، تطرق حجرة الإدارة طرقتين وتدخل، لا تجد عمك في مكتبه، تفتح الباب وتسأل عنه أول صبي يقابلك، لكن عمك ينادي عليك من الداخل، تراه خارجًا من الحمام يربط إبزيم حزامه ويجلس، لأول مرة تلتقي عيناكما بعد رحيل مي. لا يتكلم، يخرج سيجارته الـ(إل-إم) ويشعلها، تجلس على الكرسي أمامه، لم يعد في صدرك متسع لما تعرف، إذا كانت مي كوتك برحيلها، فستحرقها أنت بتلطيخ ذكراها في رؤوسهم. هي غائبة لكن أنت حاضر، والحضور يمكنه تشويه الغياب، بل وتكوينه من جديد حسبما يريد.
تقول لعمك أنك عرفت شيئًا عن مي، ينزل السيجارة من بين شفتيه ويستمع بكامل اهتمامه، تخبره أنها سافرت كندا، وأنك لا تعرف أكثر من ذلك. يستغرب عمك مما تقوله، يشكك في كلامك، يعلو صوته، يتهمك أنك كذاب، يهرتل الرجل ويهذي بكلام عصبي، تنتفخ شرايين رقبته كأنه سينفجر ويتفتت في أي لحظة.
تخرج من هاتفك رقم اللواء، تكتبه على ورقة أمامه، وتخبره أن يتصل به، ثم تترك له الدنيا دون أن تناقشه. تعود إلى شقتك بعد ليلة من المشي دون هدف، لا تحس بأي خفة إثر إفراغك سرك، بل بثقل أعظم. تخلع ملابسك وترميها كيفما اتفق، تفكر في مي، ماذا تفعل الآن؟ لا بد أنها نائمة في هذه اللحظة بسبب فروق التوقيت.
نائمة ببال رائق، ولا تعيرك أي اهتمام، لا يهمها ما تعرفه أو ما لا تعرفه، لا بد أن عمك أخبر العائلة كلها، قد يتصل بك أي أحد ليسألك، ستكون الأسئلة بصيغة اتهام، تهز كتفيك، تشعر أن أسئلتهم لا تهمك، يمكنك الإجابة بكلمة واحدة، أنها عاهرة. لا تستسيغ الكلمة على لسانك، تفتح لك مليون احتمال لحياتها الجديدة، يدب فيك تساؤل أمرُّ من الأول، ماذا تفعل مي في حياتها الجديدة؟
تقوم من مكانك، تضيء نور الصالة، تدخل غرفة النوم، لأول مرة تدخلها منذ رحلت مي، تبحث عن اللابتوب الذي أهديته لها في عيد ميلادها؛ تحت المراتب، في أدراج التسريحة، بكل أرفف الدولاب، تبحث مع يقينك أنك لن تجده، تتوقف عند ملابسها، تكتشف أنها تركت كل شيء، عدا الملابس الداخلية. جردتك مي من كل لحظة حميمية جمعتكما. تخرج من غرفة النوم خائبًا، تتذكر ذلك الشيء الذي كانت تستخدمه من اللابتوب: الفيس بوك. تسترجع ساعاتها المتواصلة -على الأريكة أو السفرة- تقلب في شاشة زرقاء، تكتب أشياء، وتقرأ أشياء. ترتدي ملابسك على عجل، تنزل الدرج بسرعة، ستشتري لنفسك لابتوب مهما كلفك الأمر.