* 10 *
*** وصلت منى إلى منزلها في الواحدة صباحًا تقريبًا لتجد والدتها على وشك الجنون، ووالدها على وشك أن يخرج باحثًا عنها في جميع مكاتب الطباعة في المدينة والمدن المجاورة!
وما إن دخلت حتى قامت في وجهها عاصفةٌ هوجاء حملت من القلق والغضب والارتياح الكثير حقًا..
لم يكن هكذا الحال في منزلها فقط، بل في منزل بسمة أيضًا لأنهم اتصلوا بها بالطبع عندما عجزوا عن الاتصال بابنتهم..
كان من الصعب أن تخبرهم بما حدث فعلًا وهم بهذه الحال، يكفيهما ما شعرا به من قلقٍ وخوفٍ عليها، ثم إنها الآن بخيرٍ فلا شيء ستجنيه من إخبارهما بأنها كادت تتعرض للأذى من طغمة من الأوغاد بسبب تأخرها ليلًا بمفردها..
أخبرتهم بالجزء الخاص بتأخرها دون أن تشعر، وهاتفت بسمة أيضًا وطمأنتها متحملةً سيل كلمات التقريع الذي أسمعتها إياه طالبةً منها أن تؤجل ذلك للغد..
وبعد أن مرت اللحظات العصيبة بسلام، أوت إلى غرفتها أخيرًا وألقت نفسها على فراشها بإنهاك..
مر بعقلها سريعًا كل ما مرت به، فتزينت شفتيها بابتسامةٍ كبيرة وأسبلت جفنيها هامسة: أنا أحبك جدًا.
- من هذا يا منى؟!
بلغها صوت أمها المندهش، فانتفضت وهي تهب جالسةً على الفراش، فعادت الأم تقول بهدوء: رويدك يا ابنتي.. رويدك.
زفرت منى بعمقٍ قبل أن تقول في اضطراب: لقد أفزعتني يا أمي.
ابتسمت والدتها في حنان واقتربت تجلس على الفراش بجوارها، ثم سألتها بصوتها الهادئ: هل ستنامين هكذا دون أن تغيري ملابسك؟
قالت وشعورها بالإرهاق يتزايد: لكم أنا متعبةٌ يا أمي حتى أنني أشعر أن تغيير ملابسي بات مهمةً ثقيلة جدًا.
ربتت أمها على كفتها ثم قالت وهي تنهض: هيا.. تحلي ببعض النشاط وغيري ملابسك ريثما أجهز لك شيئًا تأكلينه.
أومأت برأسها وهي تتثاءب، فتحركت الأم تغادر الغرفة، إلا أنها تذكرت ما سمعته منها فالتفت تقول في تساؤل: من كنت تقصدين بقولك "أحبك جدًا"؟!
هتفت منى في استنكار مصطنع: أنا؟!
- أجل.. لقد سمعتك وأنا على باب الغرفة.
ردت منى بارتباك: آه.. لقد كنت أقصد النوم يا أمي، فكما قلت لك أنا مرهقةٌ جدًا وأشعر برغبةٍ عارمة في النوم.
تطلعت إليها والدتها في شك، فهربت بعينيها بعيدًا عنها..
- حسنًا يا منى.. لا تتأخري.
قالتها أمها وغادرت الغرفة، فتنفست الصعداء وغمغمت: معذرةً يا أمي.. لا يمكنني أن أخبرك بشيءٍ الآن.
قامت لتغير ملابسها بذهنٍ شارد، ولم يكن شرودها سوى فيه..
عمرو..
أي صدفةٍ تلك التي بعثته إليها في أحلك لحظات حياتها؟!
لقد كانت وحدها.. خائفة.. مذعورة.. مشوشة التفكير وعلى بعد خطوةٍ من الانهيار..
ثم وجدته أو وجدها لا فارق.. المهم أنه أصبح معها..
يكفيها شعورها عندما كانت تمشى إلى جواره..
لقد انمحى خوفها كأن لم يكن.. حتى عندما طاردهما هؤلاء الأوغاد لم تكن خائفة، بل منفعلة!
منفعلةً مما يحدث ومما سيحدث، ومنفعلةً أكثر من ردود أفعاله هو وهو يتصرف وكأنه المسئول عنها وعن حمايتها.. ولكم أسعدها هذا ودغدغ شعورها بأنوثتها..
لقد شعرت إلى جواره بأنها صغيرة.. صغيرة.. يكفي أن يحتويها كلها بين أصابعه..
شعرت بأنها إلى جوار أعظم رجل في الدنيا وأكثرهم رجولةً وشهامة و...
شهامة؟!!
أمن الممكن أن يكون كل هذا مجرد شهامة؟!
لا.. لا يمكن أبدًا..
ليست شهامةً فحسب..
قلبها يشعر بأن هناك شيئًا ما إلى جوارها.. ولكم تتمنى ألا يكون شعورها هذا وهمًا..
خفق قلبها في قوة لحظتها وكأنما يؤيد ما تشعر به!
تُرى.. أبدأ يشعر بقلبها حقًا؟
أستقبل قلبه شيئًا ما من مشاعرها تجاهه؟
أم مازال أمامه حتى يفعل مزيدٌ من الوقت؟
أم تراه لن يفعل مطلقًا؟
اتجهت بحركةٍ آلية نحو الفراش واندست تحت الأغطية الثقيلة ناسيةً أن أمها تنتظرها بالخارج..
كانت متعبةً جدًا ولقد سقطت في شباك النوم بعد لحظةٍ واحدة من ملامسة رأسها للوسادة، وقبل أن يتلاشى وعيها تمامًا همست: سأنتظر.
************************
*** هي نامت وهي تفكر فيه.. وهو أيضًا كان يفكر فيها، لكنه لم يستطع النوم مطلقًا!
لقد كان يعتقد وهو يتجه لغرفته أنه - ومع كل ما يشعر به من إجهادٍ وإرهاق - سينام قبل حتى أن يصل إلى الفراش، لكنه لم يفعل، بل لم يستطع أن يفعل.. فها هو ذا يتقلب في الفراش منذ ساعةٍ أو يزيد لا يفعل شيئًا سوى أن يشرد، ثم يفيق من شروده ليشرد مرةً أخرى!
وعندما ألقى نظرةً على شاشة هاتفه التي أشارت أرقام ساعتها إلى الثانية والنصف صباحًا لم يشعر بالضيق، بل بالدهشة.. الدهشة من كل هذا الوقت الذي مر دون أن يشعر به!
كان يعلم أن سهره حتى هذا الوقت المتأخر يعني أن يومه غدًا سيصبح عسيرًا للغاية، لكن ذلك لم يكن كافيًا ليثير ضيقه خاصةً وهو يشعر بارتياحٍ غريب ولا يدري له سببًا..
فقط يشعر به يغمره كلما تذكرها..
كلما مرت صورتها بذهنه.. كلما تحسست أصابعه منديلها الملتف حول راحته، يكتشف بعدها أن هناك ابتسامةً كبيرة تغفو على شفتيه، فيزفر بعمق ويغمغم: كم هي رقيقة!!
ثم يعود ليتقلب في الفراش ويواصل محاولته المستميتة للنوم، لكنه مجددًا لا يستطيع!
شيءٌ ما يدفعه دفعًا للتفكير فيها.. للشرود في استرجاع لحظات وجودها معه..
شيءٌ ما لا يدري كنهه لكنه يشعر بأنه ينبع من داخله.. من أعمق أعماقه..
ثم أنه لا يقاومه كثيرًا وعلى نحو يثير دهشته، فليس من عادته أن يفعل ذلك.. ليس من طبيعته أن يستسلم لأي شعورٍ بسهولة، لكنه ولدهشته فعل!
ربما لأنه يختلف.. وربما لأنه يرتبط بها هي..
حقًا.. لكم هي رقيقةٌ جذابة..
منذ أول مرةٍ رآها فيها وهو يشعر بأنها كذلك..
منذ أن أحس لأول مرةٍ بارتجافة يدها بين أصابعه..
منذ أن شعر بنظراتها تنفذ داخله.. تخترقه.. بينما غموضها يشعل أعماقه نارًا..
منذ أن علمته عيناها كيف يتطلع إليها كما تتطلع هي إلى عينيه..
كل ما فيها يُشعره برقته وجاذبيته..
ملامحها.. ابتسامتها.. حديثها.. وحتى خوفها وذعرها..
وكل هذا شيء، ولمسات أناملها الرقيقة بينما تعتني بجرحه شيءٌ آخر تمامًا..
و.. وعيناها..
عيناها الآسرة..
عجيبٌ أمره..
مضى عمره ولم تُثر إعجابه أي فتاة.. كلهن جميلات الوجوه وأحيانًا بارعات الحسن، لكن خاويات الروح..
أما هي، فبرغم جمال ملامحها ورقتها، ورغم امتلاكها لأجمل عينين رآهما في حياته كلها، إلا أن روحها أجمل.. أجمل بكثير..
تدافع قلبه بخفقاته في هذه اللحظة بالذات، فأفاق من شروده وتحرك يتقلب في فراشه للمرة الألف مغمغمًا: يبدو أنني لن أنام في ليلتي هذه أبدًا!
ألقى نظرةً أخرى على ساعة هاتفه، ثم عاد يغمغم في غيظ: رائع.. الثالثة صباحًا والمفترض أن استيقظ في السادسة.
دفن رأسه تحت الوسادة وسكنت حركته تمامًا لعدة دقائق على نحوٍ يوحي بأن النوم قد غلبه أخيرًا، لكن قدمه ارتفعت بغتة تركل الغطاء بعيدًا ثم اعتدل وأمسك الوسادة وطوحها جانبًا في سخط..
ولدقائق، ظل حيث هو جالسًا على الفراش مبعثر الشعر يستند برأسه على قبضتيه المضمومتين، ثم لم يلبث أن اقترح على نفسه أن يقوم ليغسل وجهه ورأسه ببعض الماء البارد، عاد بعدها إلى حجرته وعلى رأسه منشفةٌ صغيرة جفف بها شعره ووجهه، ثم وقف أمام المرآة يصفف شعره بأصابعه بعد أن أضاء الأنوار..
وبينما يفعل وجد نفسه يتساءل..
ترى كيف شعرها؟
بالتأكيد أسود كالليل.. كلون عينيها.. كلون حاجبيها.. كلون رموشها الطويلة الـ... الرائعة..
ولو أطلق لخياله العنان لقال إنه ناعمٌ وطويل أيضًا.. لا يمكن أن يحيط هذا الوجه الرقيق سوى شعرٍ أسود ناعمٍ وطويل، وحتى لو لم يكن ناعمًا أو طويلًا سيكون برغم هذا جميلًا وسيعجبه بالتأكيد..
انتبه فجأةً ليجد نفسه مبتسمًا لصورته في المرآة، فتلاشت ابتسامته على الفور وعقد حاجبيه قائلًا في حدة: ولِمَ من الضروري أن يعجبني؟! مالي أنا وشعرها أصلًا؟!
زفر في عمق ومد يده يمرر أصابعه في شعر قائلًا: يبدو أنني قد جننت أخيرًا.
ظل حيث هو واقفًا صامتًا لبعض الوقت وكأنما ضايقه أن تطرق تفكيره إلى شيءٍ كهذا، ثم لم يلبث أن تحرك ومد يده المصابة ليطفئ الأنوار عندما انتبه إلى أن المنديل المربوط حول راحته قد تراخت عقدته وتزحزح عن موضع جرحه، فتحسسه بيده الأخرى ليكتشف كونه مبتلًا أيضًا!
حله على مضض واستبدله برباطٍ طبيٍ صغير..
التقط المنديل المطوي بشكلٍ قطري وفرده يتأمله، فضايقته بقعة الدماء التي توسطته والتي أفسدت شكله الأنيق تمامًا.. لفت انتباهه نقشٌ صغير في أحد أطرافه، فرفعه إلى مستوى عينيه يتطلع إليه في اهتمام..
تسللت إلى أنفه رائحةٌ عطرة رقيقة في نفس الوقت الذي ميزت فيه عيناه حروف اسمها المزخرفة بأناقة والمنقوشة بدقة بخيطٍ مقارب للون المنديل..
ارتفعت زاوية فمه بابتسامة، وقرب المنديل من أنفه أكثر ليلتقط نفسًا عميقًا محملًا برائحة عطرها قبل أن يقول: ألم أقل أنها رقيقة!
عاد يتأمل اسمها المنقوش على طرف المنديل عندما شعر بغتة أن تلك الزخرفة تبدو مألوفةً إلى حدٍ كبير، إلا أنه تجاهل الأمر سريعًا وهو يودع المنديل جيب منامته..
أطفأ أنوار الحجرة واستلقى في فراشه وتدثر بأغطيته الثقيلة شاعرًا بالفعل أنه أكثر استرخاءً وانتعاشًا.. وعندما أسبل جفنيه هذه المرة لم يشعر أن النوم مازال بعيدًا كما كان.. عليه فقط ألا يفكر في أي شيءٍ سواه..
وبعقل بدأ اللاوعي يغزوه فعلًا مد يده يغلق هاتفه.. لا يريد الاستيقاظ في السادسة ولا في أي ميعاد بعينه.. سينام حتى يشعر أنه اكتفى ويستيقظ وحده.. لا بأس أن يتأخر عن المستشفى قليلًا مع إنه يكره ذلك، ولا بأس ألّا يتريض قبل خروجه للعمل كما يفعل دائمًا.. ولا...
مهلًا.. لقد كانت تعرف!!
تعرف أنه يخرج للتريض يوميًا.. إنه يذكر عبارتها جيدًا.. "أنا لا أتريض كل يومٍ مثلك"!
ترى.. ماذا كانت تعني؟
أهو مجرد استنتاج؟ أم كنايةٍ عن سرعة عدوه؟!
كم أن أمرها عجيب..
أشياءٌ كثيرة تتعلق بها يشعر أنها تحمل غرابةً وإما غموضًا..
لم يمهله النوم ليفكر أكثر، إذ سرعان ما ظفر بعقله وجذبه إلى الأعماق..
أخيرًا..
*********************
*** استيقظ عمرو بغتة على صوت جلبةٍ بالأسفل، فنهض قلقًا ليرى ما هنالك..
"أمازلت نائمًا ؟!!"
بلغته العبارة محملةً باستنكارٍ شديد ودهشة بمجرد خروجه من غرفته، فحدق في قائلها وقال: باسل؟! كيف دخلت إلى هنا؟!
اقترب منه باسل قائلًا بغيظ: لم أخترق الجدران بالتأكيد.. عندما وصلت كان سيد يعتني بالحديقة ففتح لي لأدخل.. أما لماذا أتيت فهذا لأن هاتف سيادتكم مغلق وباءت اتصالاتي جميعها منذ الصباح الباكر بالفشل.. والآن هيا أيها الطبيب الكسول.. إنها العاشرة والنصف صباحًا.. لقد تأخرنا كثيرًا.
غمغم عمرو: العاشرة والنصف؟!
- أجل.. هيا تحرك بسرعة.. لم أتخيل أبدًا وأنا قادم أن أجدك نائمًا حتى الآن.
تثاءب عمرو بقوة ومرر أصابعه في شعره شاعرًا بأنه مازال يريد مواصلة النوم، في حين كرر باسل بنفاذ صبر: هيا.. لقد تأخرنا.
تركه عمرو وعاد إلى غرفته بل واستلقى مجددًا على الفراش ثم قال بصوتٍ ناعس: اتركني أنام قليلًا يا باسل أرجوك.. لقد تأخرت على المستشفى وانتهى الأمر.
عادت الدهشة والاستنكار إلى وجه باسل وهو يقول: أي مستشفى؟! اليوم الخميس.. هل نسيت المؤتمر الطبي الذي من المفترض أن يبدأ في الثانية عشرة؟
اعتدل عمرو على الفور وقد التقى حاجباه، ثم هتف وهو يضرب جبهته براحته في قوة: يا إلهي.. المؤتمر! كيف نسيت؟!
نظر باسل إلى ساعته وهمّ بقول شيءٍ ما، لكنه وجد عمرو يقفز من الفراش ويدفعه خارج الحجرة قائلًا: معذرة يا باسل انتظرني بالخارج.. عشر دقائق على الأكثر وأكون جاهزًا.
مط باسل شفتيه في سخط وقال وهو يغادر الحجرة: سلامة عقلك يا صديقي العزيز.
ثم هبط درجات السلم إلى أسفل قائلًا بصوتٍ أعلى: من الأفضل لك ألا تتأخر، لأنني بعد إحدى عشرة دقيقة من الآن سأتركك وأذهب.
لم يتلقَ ردًا من عمرو ولم يكن ينتظره، فقد واصل هبوطه ثم انتقى مقعدًا وثيرًا مواجهًا لإحدى النوافذ العريضة المطلة على الحديقة وجلس ينتظر..
لم تمضِ عشر دقائق بالفعل حتى سمع صوت عمرو من خلفه يقول: هيا بنا.
التفت فوجده يهبط درجات السلم في سرعة حاملًا سترته على أحد كتفيه بينما يعقد رباط عنقه في عجل، فقال: أخيرًا.. بدأت أندم على اقتراحي بالذهاب إلى هناك سويًا.
سأله عمرو وهو يرتدي سترته متجهًا إليه: كم الساعة الآن؟
- إلا الثلث.. ألم تنتهي بعد؟
- لقد انتهيت بالفعل.. هيا بنا.
قالها والتقط سلسلة مفاتيحه واتجه للخارج بخطواتٍ سريعة، فطالعه باسل بدهشة ثم لم يلبث أن ابتسم وقال وهو يلحق به: ألا تلاحظ معي أنك لم تُحضر أيًّا من أوراقك.. أين الدراسة التي أعددتها لموضوع رسالة الدكتوراه والتي أخبرتني أنك ستعرضها على لجنة المناقشة في المؤتمر؟
توقف عمرو بغتة وقد اكتشف أنه نسيَ ذلك بالفعل، فابتسم في ارتباكٍ واتجه نحو غرفة مكتبه قائلًا: أنت على حق.
تحولت ابتسامة باسل إلى ضحكةٍ وقال: كثرة النوم تفعل هذا وأكثر.
أتاه صوت عمرو مقترنًا بصوت أدراج المكتب التي تفتح وتغلق: بل قلة النوم.. أذكر أن الساعة وصلت الرابعة صباحًا وأنا مازلت مستيقظًا!
سأله باسل في دهشة: ولم؟!
زفر عمرو بعمق، ثم قال في اقتضابٍ وهو يخرج من حجرة المكتب حاملًا بضعة ملفات: أرق.
خرجا سويًا من المنزل إلى الحديقة بينما باسل يقول ضاحكًا: وفيما الأرق حتى الرابعة صباحًا؟ لا أظنك قد سهرت تعد النجوم.
رمقه عمرو بنظرةٍ جانبيةٍ ساخطة ولم يعلق، وظل على صمته حتى خرجا من البوابة الأمامية..
انتبه باسل إلى يده المضمدة فتساءل: ماذا أصاب يدك؟
- مجرد جرحٍ سطحي.. لا تشغل بالك.
اتجه عمرو إلى السيارة وفتح بابها الخلفي ليضع أوراقه، ففوجئ بصورته المنعكسة على زجاج السيارة وقال: أرأيت نتيجة استعجالك.. لقد نسيت أن أصفف شعري.
رفع يده يحاول تصفيفه بأصابعه بينما باسل يقول في نفاذ صبر: هيا يا عمرو.
بدا على عمرو الضيق وهو يتطلع إلى ساعته، قبل أن يلقي بمفاتيحه إلى باسل قائلًا: دقيقةٌ واحدة وأعود يا باسل.. انتظرني.. لن أتأخر.
التقط باسل المفاتيح مندهشًا، لكنه أمسك بيد عمرو قبل أن يذهب قائلًا: كلا أرجوك.. لقد تأخرنا كثيرًا.. أقسم أنك في قمة الأناقة والروعة.
حاول عمرو جذب يده من يد باسل القابضة عليها بقوة وهو يقول: لن أتأخر صدقني.. نصف دقيقةٍ فقط و...
قاطعه باسل وهو يتشبث بيده أكثر: مهلًا.. انتظر.. لدي ما تحتاجه!
قالها وأخرج من جيبه مشطًا صغيرًا ناوله لـه، فابتسم قائلًا: هذا أفضل.
نظر إليه باسل في غيظ، ثم تركه يصفف شعره في عناية أمام زجاج السيارة وفتح بابها الأمامي ودلف إليها ينتظره في استسلام..
لم يستغرق عمرو سوى لحظات دلف بعدها إلى السيارة بدوره قائلًا بابتسامةٍ كبيرة: ما رأيك؟
قال باسل في حنق: مبهر.. تمامًا كعريس في ليلة زفافه.. والآن هلّا تكرمت وانطلقت بنا قبل أن أصاب بالشلل الرعاش.
أطلق عمرو ضحكةً عالية وأدار محرك السيارة قائلًا: سأندهش حقًا لو لم يحدث هذا.
وكأنما شعر برغبةٍ في أن يعبث قليلًا، انطلق عمرو بالسيارة انطلاقةً عنيفة جعلت قلب باسل يهبط بين قدميه وهو يرى نفسه مندفعًا نحو أسوار المنزل في قوة فهتف: عمرو!
اعتدل عمرو بالسيارة بحركةٍ أكثر عنفًا جعلت باسل يهتف مرة أخرى: يا مجنون!
جاوب عمرو هتافه بضحكةٍ مرحةٍ عالية وهو يعاود الانطلاق في هدوء، ثم قال: معذرة يا صديقي.. أردت فقط اختبار مدى ثباتك الانفعالي، ويبدو أنه عالٍ جدًا فلقد أصبت بالذعر بسرعةٍ خرافية.
ابتسم باسل على الرغم منه وقال: هكذا إذًا.. حسنًا.. دعني أقود أنا وسأوريك كيف يكون الذعر الحقيقي.
رفع عمرو كفه في استسلام وقال ضاحكًا: كلا أرجوك.. أريد أن أصل إلى المؤتمر قطعةً واحدة.
هز باسل كتفه وقال وهو يسترخى في مقعده: مهما قلت.. تعلم أني أفوقك مهارةً في القيادة.
رفع عمرو أحد حاجبيه وخفضه مغمغمًا: آه.. طبعًا.
قالها بلهجةٍ عابثة جعلت باسل يلتفت إليه قائلًا بلهجةٍ مماثلة: على الأقل أنا لم أُفاجئ إحداهن أبدًا بقيادتي المتهورة أثناء عبورها الطريق.
تلاشت ابتسامة عمرو على الفور والتقى حاجباه بينما منى تقتحم تفكيره اقتحامًا مقترنةً بانفعالٍ غريب لم يجد له سببًا فأورثه ضيقًا جعله يلوذ بالصمت..
- عمرو!
صاح بها باسل عندما طال صمته، فالتفت إليه متسائلًا ليجده يقول في دهشة: إلى أين ذهبت؟!
قال في بساطة وعيناه تعاودان تركيزهما على الطريق: كنت أفكر في ردٍ لاذع يليق بكلامك السخيف.
عقد باسل ذراعيه أمام صدره وقال مستعيدًا لهجته العابثة: حقًا؟! أم تُراك تذكرت شيئًا ما أكثر أهمية؟
تحولت ابتسامة عمرو إلى ضحكةٍ قصيرة قال بعدها: دعك من هذا الآن وألقِ نظرةً على الدراسة التي أعددتها للمناقشة اليوم.. أريد أن أعرف رأيك بسرعة.
قال باسل مستنكرًا: الآن؟
- أجل.. لا أضمن أن نجد وقتًا لهذا عندما نصل.
انشغل باسل بمطالعة الأوراق، فزفر عمرو في ارتياح..
كان رأي باسل في الدراسة التي أعدها يهمه بالتأكيد، إلا أنه أراد فعلًا أن يشغله عنه الآن ولو قليلًا..
يعرف كم هو فضولي ولا يكف عن إلقاء أسئلةٍ غريبة لا يعرف إجابتها هو نفسه، فكيف يجيبه!!
*********************
*** وقفت منى أمام المرآة بكامل أناقتها تضع لمساتها الأخيرة على ثوبها وحجابها وزينتها البسيطة..
كانت لازالت تشعر بإرهاقٍ شديد منذ الأمس فلم تستطع الاستيقاظ مبكرًا.. وبرغم أنها فوتت وقت المحاضرة الأولى، إلا أنها قررت الذهاب إلى الجامعة لتلحق بالمحاضرات التالية..
اتجهت إلى مكتبها الصغير والتقطت دفتر محاضراتها والبحث الذي أنهت إعداده بالأمس بعد أن وضعته في حافظةٍ بلاستيكية أنيقة..
غادرت المنزل وهبطت درجات السلم في سرعة، وقبل أن تعبر بوابة البناية، توقفت لحظةً أمام الجزء الزجاجي المصقول منها تُلقى نظرةً على نفسها لتتأكد من أن كل شيءٍ على ما يرام..
لم يكن حجابها قد تزحزح سنتيمترًا واحدًا عن موضعه إلا أنها رفعت يدها تعدل من وضع أحد الدبابيس ثم ابتسمت وهي تعبر البوابة مغمغمة: بالطبع أبدو جمـ....
"دقيقةٌ واحدة وأعود يا باسل.. انتظرني.. لن أتأخر"
بترت عبارتها مرغمةً وهذه العبارة تصل إلى مسامعها يحملها صوتٌ مألوف جعلها تلتفت بسرعة نحو مصدره..
أدهشتها رؤية عمرو كثيرًا، فعندما استيقظت متأخرًا لم تُطل من النافذة لثقتها بأنه ذهب لعمله منذ الصباح الباكر..
تعلقت عيناها به وهو يتابع حديثه حتى أنها لم تنتبه إلى كونها تبدو واضحةً للغاية من مكانها هذا، وإلى أن أي التفاتةٍ بسيطة من عمرو تجاهها تكفى ليراها ويتعرفها، لكنها لم تكن تعي سوى وجوده..
ابتسمت وهي تستمع إلى حواره مع صديقه ابتسامةً تحولت سريعًا إلى ضحكةٍ خافتة وهي تراه يقف أمام زجاج السيارة يصفف شعره..
انطلاقته العنيفة بالسيارة جعلتها تطلق شهقةً خافتة وهي تتراجع إلى الوراء بحركة غريزية، ثم لم تلبث أن ملأتها الدهشة بدلًا من الاضطراب وضحكته تصل إلى مسامعها واضحة، بينما يعتدل بالسيارة بحركةٍ عنيفة أخرى قبل أن يعاود الانطلاق في هدوء..
تعجبت مما فعل، ومن تأخره حتى هذا الوقت، وأيضًا من نفسها التي ينقلب حالها في غمضة عين بمجرد رؤيته..
لم تفارقه عيناها حتى غاب في نهاية الطريق، فتحركت تمشي وهي تفكر..
فيه طبعًا.. وفي نفسها..
حقًا تساءلت من أعماقها..
ما هذا الذي يحدث لها حين تراه!
أيّ مشاعر تجتاحها!
أتراها دهشةٌ لوجوده المفاجئ؟!
أم فرحٌ وسعادةٌ لرؤيته؟!
أم تراه شوقٌ جارف إليه؟!
أم هو حبٌ وحنين؟!
أتراها لهفةٌ ورغبةٌ هائلة في أن تهتف تناديه.. في أن تقترب منه.. في أن تتطلع إلى وجهه عن قرب؟!
أم هو خوفٌ من اللحظة التي سيبتعد فيها؟!
أم رهبةٌ من كل هذا الوقت الذي سيمضى إلى أن تراه ثانيةً؟!
تنهدت بقوة..
لقد شعرت بكل هذه المشاعر مجتمعة.. شعرت بكل هذه الأحاسيس دفعةً واحدة على نحوٍ كفيل بجعل قلبها يئن بخفقاته..
وكيف لا وهو ينبض بكل هذه المشاعر.. ينبض معترفًا لها في كل لحظةٍ أنه يحبه..
يحبه جدًا..
كانت قد بدأت مرحلة البحث عن مواصلات، فتنهدت في عمقٍ وغمغمت: حان الوقت الذي أشعر فيه أنني أحسدك يا بسمة على نوبة البرد اللطيفة التي أراحتك من الجامعة يومين كاملين.
ولحظها الـ... السعيد، استغرق الطريق هذه المرة وقتًا أطول من المعتاد.. حتى أنها حدثت نفسها ساخطة وهي تعبر أبواب الجامعة الرئيسية: ساعةٌ كاملة! لو كنت قد جئت مشيًا لوصلت قبل هذا!
أسرعت الخُطى حتى تستطيع اللحاق بمحاضرتها فهي تعلم أن الأستاذ الذي سيلقى محاضرة اليوم من ذلك النوع السخيف الذي لا يسمح لأحدٍ بالدخول بعده..
مع اقترابها، لمحت الكثير من زميلاتها وصديقاتها يجلسن بالخارج في ساحة الكلية، ولم يطل الوقت حتى علمت بإلغاء المحاضرة..
أثار هذا تعجبها وإحباطها، فاتجهت إلى حيث صديقاتها مغمغمةً بسخط: ها أنا ذا أحسدك للمرة الثانية يا بسمة.
كانت هناك محاضرةٌ أخرى فلم يكن هناك مفرٌ من الانتظار..
- أراهن أنه المؤتمر الطبي.
كانت هذه عبارة إحداهن، فتساءلت منى: أي مؤتمر؟
ردت وهي تشير إلى إحدى لافتات الإعلان الكبيرة المعلقة بساحة الكلية: إنه مؤتمر عديم الفائدة كباقي المؤتمرات التي تعقد في كلية الطب.. ولا بد أن أستاذ الكيمياء الحيوية قد شعر فجأة أنه مثقفٌ للدرجة التي تجعله يرغب في حضوره.
قالت أخرى ضاحكة: أعتقد أن الأمر لا علاقة له بالعلم ولا بالثقافة.. إنه بالتأكيد الغداء الفاخر الذي يتناولونه في مثل هذه المؤتمرات.
ضحك الجميع في مرح وهمت منى بقول شيءٍ ما عندما شعرت بمن يضع يده على كتفها وسمعت صوت بسمة يقول: هذا هو السبب الحقيقي بالتأكيد.
التفتت منى في دهشة قائلة: بسمة !! حمدًا لله على سلامتك.. كيف حالك الآن؟
قالت بسمة بصوتٍ مازال يحمل آثار نوبة البرد: بخيرٍ والحمد لله.. أنا أفضل اليوم بكثير.
ابتسمت منى وقالت: حمدًا لله.. لم تخبريني أنك ستأتي اليوم!
هزت بسمة كتفها وقالت في مرح: لم أكن أنوى بالفعل.. وعندما فعلت، قررت أن أجعلها مفاجأة.
رفعت منى البحث الذي تحمله أمام عيني بسمة وهي تقول: أنا أيضًا أحمل لك مفاجأة.
التقطت بسمة البحث في لهفة وتصفحته في سرعة قائلة: رائعٌ يا منى.. رائع.. إنه يستحق بالفعل أن تسببي لنا كل هذا القلق من أجله.
- لقد أتعبني جدًا.. وكدت أضيع بسببه لولا أحدهم.
قالت بسمة مازحةً وهي تواصل تصفحه: لا بأس يا منى لا بأس.. البحث أكثر أهميةً بالتأكيد.
انتبهت بغتةً إلى لهجتها، فرفعت عينيها إليها لترى ما خشيته!
تلك الابتسامة البلهاء لا تعني خيرًا أبدًا..
أغلقت البحث ومسحت جانب وجهها بكفها وهي تقول: لولا أحدهم! قلبي يحدثني أن جنونك قد تسبب في كارثةٍ كالمعتاد.
ضحكت منى، فتأكدت بسمة أن ظنونها في محلها تمامًا!
***********************