سطوع لخدمات النشر
جميع الحقوق محفوظة ويحظر طبع أو تصوير أو تخزين أي جزء من الكتاب بأية وسيلة من وسائل تخزين المعلومات إلا بأذن كتابي صريح من الناشر
مجموعة قصصية
الجليد الأسود
مروة المصري
إهداء..
إلى كل من أغدقت عليه الحياة بسيل من الأعباء وكأنها هدايا في ليلة رأس السنة، ففرح بها دون أن يتبينها، تى أدرك انها وجه العذاب المتنطكر في صورة لجنه، واستحالة صفحته إلى الأسود، فلم تنقذه الحسانات كما في الآخرة، إن لم يصطفيك أحد.. فقد أخترتك اليوم لتكون بطلًا.
لا تيأس فالأسود ليس ظلامًا بل ظلالاً لألوان السعادة
المجموعة القصصية
الجليد الأسود
الناب الفضي
الجليد الأسود
الغرفة الذهبية
الفستان الأرجواني
التميمة الصفراء
الرجل الرمادي
العقيق الأحمر
النحلة الفسفورية
التفاحة الفيروزية
العلامة الزرقاء
الناب الفضي
أنت بالطبع لا تود أن تكون عدوا لي، لكنك أيضا لن ترغب في أن تكون صديق
بصقت كلماتها في وجهه، و كشفت عن نابها البراق ؛ لترى في ابتسامتها شبح ليث أوشك على الإيقاع بفريسته، لكنه لم يتراجع بل ازداد توددا و ملاحقة غير مبال لزيف شراستها، نظر إليها مطولا حتى كاد أن يستفيق ذلك الحمل القابع في عيونها، ولكي تحسم الأمر نشبت أظافرها في عينيه ؛ كي يراها بوضوح أكثر فأزالت تلك القبعة ؛ لتكتمل الصورة آملة في الفوز أخيرا كما تفعل دوما بكل من ينصب لها شركا قائلة: (أتسرك تلك العجوز الصغيرة؟!! ها ؟! صدقني لا أحد يرغب.)
فأراد أن يسبر غور قلبها و يحمل على عاتقه تلك الضراوة، فأطاح بقبعتها بعيدا لتحملها الرياح إلى غير رجعة، و يجيبها في تحدي: ( لكنني أرغب).
لم تكن تلك المرة الأولى التي تفارق فيها قبعتها..
فمنذ عشرة أعوام كان تعدها أمها ذات صباح لمثل ذلك اليوم، قلمت أظافرها و عطرت ملابسها و على غير العادة ألبستها قبعة حمراء اللون قائلة في شيء من الحنو و الارتباك معا : (أرجو ألا تخلعيها حتى يمر اليوم بسلام).
كان ذلك بعد انتقالهما إلى ( ولاية نيو جيرسي) ، حيث إنه اليوم الأول لها بتلك المدرسة التي لا تبعد عن المنزل سوى بضعة أمتار سيرا على الأقدام...
إنها حقا لا تتذكر شيئا عن نضال أمها ضد ذلك العالم الأجوف حين أنجبتها بشعر فضي، لم تكن لتخبرها أنه عالم يقتات على التنمر، فقد كانت ( سارة) كثيرة التنقل كلما حوصرت ابنتها بنظرات الازدراء، فصارت تضغط أكثر حتى أوشكت مقاومتها على التفتت، رحلت قبل أن تبتلعها تلك الأفاعي الوضعية .
ولم تدرك (سيلينا) حينها عبارات التهكم ، و الابتسامات الجانبية و الهمهمة وحتى تلك النظرات المتباينة مابين الدهشة و الذعر، لكن سجيتها العنيدة جعلتها تنفر من كل ماهو على شاكلة الأوامر، فلا تلتفت لتلك التعليمات و الإرشادات التي تتصدر الأبواب في الأماكن العامة إلا التحذيرات، فقد كانت تحظى دوما باهتمامها، فلديها فضول من نوع خاص لفعل كل ماهو محذور و ممنوع.
و على رغم من ذلك فقد حاولت جهد استطاعتها أن تفي بوعدها لأمها، حتى أسقطها أحدهم أثناء اللعب و كشف عن لون شعرها، لتمضي كل تلك السنوات بين أقرانها و أترابها حاملة عدة ألقاب منها ( الساحرة الشريرة، العجوز الصغيرة، صديقة بابا نويل، الجدة باربي ) لكنه من بينها كان ذلك اللقب هو ألطفهم ( فتاة القمر) والذي أطلقته صديقتها الوحيدة( فيوليت)، و التي أنهضتها حين هوت فرتبت خصلاتها و ألبستها قبعتها على الفور و كأنها تستحق الستر، حيث عملت كالمظلة لسنوات تقيها قذائف سخريتهم و نواياهم الخبيثة، لم تنكر معروف صنيعها.. لكنك أحيانا لا تحتاج إلى المظلة بقدر احتياجك إلى من يبتل معك و يحارب لأجلك، فكل الألم أن ترى في أعين المقربين الشعور بالخزي و الخجل كونه يحبك و لا يمكنه أن يلكم من يزدريك أو يشاطرك الطعنات الموجهة إليك ..
لذا قررت بلا سابق إنذار أن تنتصف لنفسها و لو لمرة واحدة، لتشعر بتلك المتعة المؤلمة حين لطخت وجوههم بالوحل الممزوج بالخجل فارين يطاردهم خوفهم، لقد أرتهم كيف تكون الساحرة الشريرة بحق.
جلست (سيلينا) على أحد الأرصفة بملابسها المتسخة بالوحل تجفف عبراتها، وتحسست ذلك الألم في فمها لتكتشف أنها فقدت أحد أنيابها أثناء الشجار، فأخرجت هاتفها ووضعت السماعات بأذنيها، و تمددت على الطريق مغمضة العينين في مواجهة السماء
وكأنها تخاطبها: (Sia)لتأتيها
سأضع الدرع علي لأريك كم أنا قوية
I put my armor on, I"ll show you that I am
لا يمكن إيقافي
I"m unstoppable
أنا سيارة بورش بدون فرامل
I"m a Porsche with no brakes
أنا لا اُقهر
I"m invincible
أجل، أفوز في كل مباراة
Yeah, I win every single game
أنا قوية جدًا
Iam so powerful
أنا واثقة جدا فلا يمكن إيقافي اليوم
Iam so confident , yeah, Iam unstoppable
لتهدأ أخيرا و تنسجم جوارحها المرتجفة، وتستلم في خنوع لذلك الإيقاع الذي حرر غضبها
: وظلت تردد في زهو
I"m unstoppable today
I"m unstoppable today
في حقيقة الأمر أنها لم ترد عراكا أو بكاء أو حتى تطمع في عناق، بل كانت ترنو إلى السلام.. إلى التقبل
ومع ذلك الانتصار العظيم كان لابد من حدث عظيم أيضا، و في عيادة الأسنان اختارت بمنتهى الآنفة الناب الفضي عوضا عن ذلك الناب الهزيل رغم كل محاولات( سارة) المستميتة و دموعها ألا تفعل.
نظرت (سيلينا) لنفسها في المرآة لأول مرة بكل فخر و ابتسمت ؛ كي تتبين لونه الجديد الذي أكسبها مظهرا قويا لتودع هشاشتها إلى الأبد.
وتحول الإنتباه من شعرها الفضي إلى ذلك الناب لتتبدل كل الألقاب فيصير لقبا واحدا ( الناب الفضي)
و توالت المشاجرات و ربحت (الناب الفضي) كل الجولات، و تعلمت أن النوم لم يكن كافيا للتخلص من تلك الغصة العالقة بقلبها، فصارت تدعس على الحثالة من البشر بينما تحتسي قهوتها و تكمل المسير وكأن شيئا لم يحدث، فلم تعد تلك الفتاة التي تنتبه لصغائر الأمور، و أقنعت والدتها أخيرا بالعدول عن قرارها في الانتقال إلى مدينة أخرى.
وانتهى ذلك العهد الذي كان يشار إليها كالثمامة، وفي الوقت الذي يترأى للعابرين أنها قد تغيرت، لم يكن هناك من أحس بذلك التصدع بروحها، فقد انشق كل ما فيها إلى نصفين، نصفا عدوانيا عنيفا و آخر لينا ضعيفا، و هو الذي تستأثر به في إحدى زوايا حجرتها بعيدا عن الجميع.
وازداد من ازداد في مقته ل(الناب الفضي) و اقترب من اقترب مهما كانت مشاربه و غاياته، لكنها فاترة المشاعر لا تأبه لأحد.
حتى الفتى الذي فتن بها في صفها الدراسي، صرخت أمه في وجهه: (لقد جلبت ساحرة إلى بيتنا ) وأخذت تتلو صلوات الرب؛ كي يبعد ذلك الشر عن ابنها آملة أن تلفح تلك الكلمات المقدسة وجهها، لكنها أصابت روحها.
فاعتادت الوحدة إلا من صديقتها ( فيوليت) التي لازالت تدعوها ب (فتاة القمر)
و ها قد أتى أخر يتحدها بقوله : (لكنني أرغب)، فلن تسمح له بتحطيم ذلك السياج الذي يعصمها الخيبات و الضعف، و لكنها منحته بعض الأوقات ليغازلها و تلبي غرور الأنثى القانطة بداخلها، إلى أن أرغمها على هجر ضفاف العقل و الغوص إلى عاطفتها، بينما تسلق حبه شيئا فشيئا حتى لمعت عيناها ذات ليلة حين وقعت كلماته في قلبها قائلا :
(كلما ابتسمتي لامستي قلبي و شعرت بتناقض أحبه كثيرا، أرى فيك الخير و الشر معا، الرقة و القوة، وجه الملاك و الشيطان، جميلة أنتي كثياب أهل الجنة البيضاء لكنك ناقوس الخطر و نذير شؤم إذا ابتسم نابك الفضي لمن أراد بك السوء، أنت لطيفة إلى حد الدهشة، أهلا لأن يكون لك أجنحة كالملائكة).
- انظري لحالك يا سيلينا إن قلبك يغلي و أفعالك باردة، وهو لا ييأس أبدا.
هكذا أخبرتها ( فيوليت)
- دعينا منه و أخبريني، كيف حال حبيبك ؟
- إنه لا يعرف الحب، أو لا يود الوقوع في الحب.. لست أدري ماهية قلبه، لكنه كالحجر لا يلين ابدا.
- إذا لا تيأسي، كوني كذلك الأحمق الذي يحبني و لا ييأس.
- أخشى أن يكون مصيري معه كمصير حبيبك، لابد و أن قلبه يعتصر ألما مثل قلبي.
- لا تيأسي، فأنت......
يبدو أن ( فيوليت) أثارت بكلماتها ذاك الألم الرابض بضلوعها ليتسلل إلى أوصالها، حتى سقطت مغشيا عليها.
- (سيلينا ) ماذا بك ؟ ماذا حل بك ؟ سيلينااااا
لازالت سيلينا ترقد في المشفى تحت الملاحظة، لا أحد يعلم ماذا أصابها، وحين استفاقت اخذت تمعن النظر لتجد صديقتها متشبثة بيدها مكلومة تبكي، و حبيبها يقف جوارها خالي الوفاض.
بدا على (سيلينا ) التوتر رغم تكلفها الابتسام..
- لماذا فعلت ذلك بي ؟؟ أخبريني يا سيلينا
- ماذا فعلت؟ ماذا تقصدين؟
أشاحت سيلينا بوجهها بعيدا تحاول أن تجد كلاما لتهدأ من روعها، لكنها لم تمهلها...
- كنتي تعلمين أنني اتألم، تعلمين أنه لن يحبني أبدا.
- كيف تجرأ و أخبرك ؟!
- بل أخبرتني لهفته، نبض قلبه الذي كاد يكسر ضلوعه خوفا عليكي هو الذي أخبرني، وقف ينظر إليك كالمجنون بل كطفل يخشى فقد أمه، كان يضرب برأسه الحائط و يدك بقدميه الأرض، لماذا أخبريني لماذا؟؟؟
فاستوقدت ( فيوليت) حنقها، لتصرخ سيلينا في جزع :
لأنني لا أصلح للحب، لأنك تستحقين هذا الحب، أنت في حاجة إليه أكثر مني ؛ لأنه لا خير في قلب مثقوب لا تستقر به المشاعر، لا جدوى من خوض الرحلة التي نعلم نهايتها، ما عاد بإمكاني أن ألعب ذات اللعبة مرتين، لأني اعتدت التجول في الطرقات وحدي، و كلما تعثرت بالحب أصبت بندوب جديدة غير قابلة للتعافي بل كانت تنمو في الظلام و تحدث ثقوبا سوداء أكثر اتساعا، فجعلت أواري ذلك القبح الأسود الذي أنبته الخذلان بلون شعري و ابتسامتي المتمردة ، حتى اجتاحني الضباب و مع هذا حاولت كثيرا أن أضيأ لأجله لكنني فشلت، فوهبته اغلى ما عندي و هو أنتِ.
- كذب، لقد أحببتيه بالفعل، لكن التضحية كانت أيسر إليك من أن تمنحيه الفرصة لإصلاح ما أتلفه بعضهم بقلبك، إنك أتعستي ثلاثتنا يا سيلينا.
- يا عزيزتي على المرء أن يعلم أن الجميع لا يصلح للحب، فهناك من يصلح للعمل، وآخرون للصداقة، و البعض للتنزه، و القلة الفريدة للحب و أنا لست منهم، فحياتي لم تكن سوى مزار للفضولين، لكنه لا أحد لا أحد كان يرغب في أن يحبني...
فأتاها صوته ليجيبها كعادته دون تردد : لكنني أرغب، لازلت أرغب..