شجرة الصبار
وفاء أحمد حسن
رزمة ورق
ذات صباح أشحت الستائر الداكنة لابدأ يومًا جديدًا، تراءت لي الشمس تتوارى دلالًا خلف الغيوم، أسدلت جدائلها الذهبية على الشرفات، فتحت زجاج نافذة غرفتي، سرت نسمات الهواء العليلة تداعب الستائر وانتشرت في كافة الأرجاء على غير عادتها في مثل هذا الوقت من العام.
نحن في منتصف الخريف هذا الفصل العجيب الغازي بلا رحمة الذي يجرد الحقول من جمالها ونضرتها الخضراء يطليها بصفره فاقعة هو مزيج من الموت وألم ولادة جديدة، تشيخ من حولنا الأشياء، يعصف بأوراق الأشجار، تتهاوى، تسقط علي الأرض.
تخشى الشتاء القريب حين تقف أغصانها وحيدة في حياء لا تجد ما يسترها، تستعبر البؤس، تهجرها الطيور، تصارع بضعف وإعياء البرد القارس والرياح العاتية، يا له من فصل يشعرني بعدم الأمان والخطر فيتهادى عمري غاربًا نحو الفناء، فصل يشبه ذلك الرجل الذي بدأت قصتي معه منذ عشر سنوات.
تزوجنا بعد قصة حب لا تختلف عن قصص العشق الأسطورية، عشنا معًا أعوام من الود والتفاهم، كان رومانسي الطباعِ، اشعل بقلبي فتيل الاشتياق رغم أنه يكبرني بخمسة عشر عامًا، لم يقدر لنا الله الانجاب، بعد بلوغه سن التقاعد تغيرت طباعه، تهدمت جسور التفاهم بيننا، منذ عام وصلت قصتنا لفصلها الأخير، اختار الرحيل كما الكروان غرد ثم رحل في صمت.
دفعني نحو خريف العمر، تقصفني رياح الخماسين وسط عالم من الوحدة يفجر الاشتياق ويزحم القلب بالوجد، أجابه عواصف هجرانه العاتية متحصنة بذكري قبلاتنا الحارة، أغالب جفاف الشوق كشوق حقولي الجدباء للجَوْدِ.
توقفت عن الجري لأول مرة كتوقف الخيل أنهكها طول السباق، حلت بي كل الانكسارات التي رافقتني طيلة حياتي، الحب الزائف، الصداقات الخادعة، الزمالة المزورة، عشت عتمة الأسئلة لشهور، يحتفظ قلبي بقليل من الضياء لحب رجل لعب به، أخادع نفسي؛ أراهن علي عودته، يحن قلبي لمن سلمني للصقيع وللشتاء ليجثوا اليأس علي صدري.
زهدت مباهج الحياة بعد رحيله، انطفئات شموع العشق، تركني وقت الغروب تمضي الشمس مسرعة نحو مضجعها، ضاعت مسحة النور وسط الأضواء اللينة في الأفق وكسا الظلام الكون، أحمل كهف في قلبي، يحيط أعماقي شتاء بارد، يطمس ليل دامس روحي، ازداد شعوري بالأسى على نفسي وخوفي من مصيري المجهول، أصارع الصمت خلف جدران الوحدة، عصفورة مكسورة الجناح حبيسة في عشها.
اكتشفت وأنا علي مشارف الخمسين عقدة يتمي، لا انيس ولا جليس، أبحث عن السلوى في الكتابة صديقتي الوحيدة في هذه الدنيا؛ قلمي يخدش أوراقي برفق ويخط هليها شكواي، يرسم لي طريقا للأمل.
(ما أقسى الصمت! وما أرق أصوات البشر ولو كانت ضجيجا.. ما أبرد الوحدة وما أدفأ أنفاس الناس ولو كانت مريضة.. ما أقبح السكون! وما أفظع الفراغ، ما أحلى التفكير والانشغال حتي بالفشل.)
احتسيت فنجانا من القهوة لأنعش ذهني، بدت لي فكرة "الخريف وهجر الأحبة" موضوعًا جيدًا لمقالي الأسبوعي الذي سيطرح في الصحف يوم غد.
بحثت عن بعض الأورق دونما جدوى، هرعت إلى الشارع عليّ أجد مكتبة مفتوحة، خلت الشوارع إلا من بعض المارة، معظم المحال مغلقة عدا القليل منها تقترب الساعة من الثامنة صباحا، وجدت مكتبة (عم علي) مفتوحة، تعجبت؛ ليس من عادته أن يفتح يوم الجمعة، اتجهت صوبه وجدته غارقا في النوم ممدًا علي أريكه متهالكة، همست بصوت هادئ:
- عم علي..عم علي..
انتفض منزعجًا، بدا متورم العينين، منكوش الشعر، ملابسه غير مهندمه، كانت تلك المرة الأولى التي أراه بهذه الحالة، لم أعهده إلا مهندم الثوب، باسم الوجه يملئه التفاؤل.
لوحت له بيدي قائلة:
- صباح الخير والسعادة عليك يا عم علي.
خرج صوته حزينًا قائلًا:
- ومن أين تأتي السعادة لرجل مثلي؟! رجل تملؤه التعاسة ملئ البحر.. رجل ذبلت أزهاره وغادرت البلابل أشجاره وسكنت بدلها الغربان..
غمتني كلماته، دفعني الفضول لأعرف سر تغير حالته، دعاني لتناول كوبًا من الشاي، لم أتردد وجلست بالقرب منه علي كرسى ليس أسعد حظًا من أريكته وكلي شغف في أن أسمع حكايته، تنهد وقال:
- استيقظت في الصباح الباكر مفزوعًا على أصوات المكنسة الكهربائية، أغمضت عيني متجاهلا صوتها راجيًا العودة للنعاس حتي تعالت أصوات الأواني، طار ما تبقى من النوم من عيني، جلست حائرًا ماذا عساي أفعل الأ أستطيع أن انال قسطًا من الراحة بعد أسبوع طويل من العناء والعمل المستمر، لجأت إلى المكتبة عليَّ اجد بعض الراحة التي افتقدتها في منزلي.
اوجعني حديثه، قلت:
- آسفه يا عم علي لم أقصد إزعاجك.
- لا عليكِ.
- لكن ما سر حالتك هذه وما سببها؟
أسند ظهره ورأسه على الحائط، أطلق زفير حار وقال:
- بدأت مأساتي منذ خمسة وثلاثين سنة.. تعرفت علي زميلتي بذات المدرسة التي كنت أعمل بها.. كانت حينها أجمل وأرق نساء الأرض.. تسللت إليّ وأحسست أنها توأم الروح ومنية النفس.. كلما رأيتها غمرتني السعادة.. تزوجنا وظللت السعادة منزلنا الصغير.. بلغت بهجتي منتهاها عندما حملت.. تجذرت روابط المحبة بيننا.. ازداد إحساسنا بالغبطة وامتلأت نفسي بالرضا.. بدأنا نخطط لمستقبل الضيف القادم إلى أن جاء ذلك اليوم المشئوم.. اصابها نزيف حاد عجز الأطباء عن إيقافه..
دمعت عينا عم علي وأكمل بصوت متهدج:
- توفقت هي عن الحياة بعدما وهبتني قطعة من روحها وجمالها.. كالحلم مضت علي عجل.. لن أنسى أبدا تلك اللحظة التي واريت جسدها التراب.. كانت كل متعة معها سريعة الزوال.. أظلمت الدنيا في عيني.. ألجمتني الصدمة وزلزلت كياني.. أحسست أن حياتي بلا قيمة.. كأنني تلقيت شهادة باليأس.. لم أكن أدرك أن العشق يسقم وأن رحيل الحبيب يميت.. عشت سنوات علي ذكراها اخفي ما تهشم مني.. ادفنها في صدري كناسك يخفي تقواه خشية الفتنة.. بعد عناء استجمعت قواي وجدت السلوى في الوقت الذي اقضيه مع ابنتي.. كنت أضمها لصدري فأجد فيها عزاء ويستبد بي الحنين لأمها، أقنعت نفسي تحت وطأة الوحدة وأمام إلحاح والدتي بضرورة زواجي لأكمل مسيرة الحياة... لم أجد أنسب من شقيقة زوجتي الصغرى التي طالما أولت طفلتي الرعاية والاهتمام بعد حرمانها من حنان والدتها.
نظر لي عم علي ورأى دموعي حبيسة عيناي، عاد برأسه للوراء وأكمل كلامه:
- تزوجنا ومضت بنا الحياة.. حاصرتني بنصف دستة من العيال.. اسرتني في حلبة البحث عن الرزق لألبي الاحتياجات.. يومي كأمسي كغدي.. أيام تمر بلا طعم.. لم أدرك حده طباعها الا بعد التقاعد.. اكتشفت بعدها فداحة الفارق بين كليهما.. تمنيت لو كان لي الحق في إعادة صياغة الواقع.. وجدت هنا في مكتبتي متنفس لي..
تأوه في حسرة وأردف قائلًا:
- أشعر بوطأة العمر.. لم أنل حظي من عدل الحياة في السعادة.. أصابني الزمن بجرح غائر.. ضاقت علي الدنيا بما رحبت.. ظننت أن زواجي منها سوف يضمد جراحيّ لأكتشف خطأي.. الحياة معها موتا.. لم تؤذني لم تخونني لكنها أغتالتني ببطء.. تملكني شعور بالحزن والآسي واستسلمت لواقع الحياة المرير وتركت دفتي للحياة..
هالني ما سمعت، تاهت مني الكلمات، هل أواسيه أم أواسي نفسي؟! كلانا شُقْيان، متشابهين في خطانا الضائعة علي أرصفة العمر، بادرته قائلة محاولة فك الحصار عن روحه المكلومة:
- الحياة معركة كبري مع انفسنا نحاول الانتصار فيها علي كل الظروف فلا تجعل اليأس ينال منك.. حاول أن تعيد التجديف إلى شاطئ السعادة.. السعداء من لا يطول ابحارهم في بحر التعاسة قبل أن تعيدهم الحياة لبر الأمان.. ما زال في العمر والقلب بقية لتذوق جمال الحياة.. من عرف مرارة الشقاء مثلك يقدر أهمية السعادة الحقيقية.. تخلص من كبوة الروح التي اهدرت فيه زهرة عمرك.. لحياة تستحق أن تنظر إلى ما وهبك الله فيها من نعم.
مسح دموعه بطرف كمه المتسخ وقال:
- الحمد لله على نعمة الأبناء والصحة..معك كل الحق فنعم الله علينا كثيرة.
غمرتني سعادة طاغية لأنني استطعت أن أمنحه بعض الأمل، شكرته لأنه اهداني موضوع المقال وهممت بالانصراف، نظر لي مندهشًا وسألني:
- ماذا كنت تريدين؟
تذكرت أنني جئت لابتاع رزمة ورق.