شجرة الصبار
وفاء أحمد حسن
مؤسسة سطوع
جميع الحقوق محفوظة ويحظر طبع أو تصوير أو تخزين أي جزء من الكتاب بأية وسيلة من وسائل تخزين المعلومات إلا بأذن كتابي صريح من الناشر
اهــداء
إلي روح أمي التي تتهيب كالنجوم فوق السحاب كل ليلة أهديها باكورة أعمالي ....
ذات مساء، سكنت الرياح، تكدست السحب خلف الضباب، رحلت أمي في صمت، عبرت روحها مثل سحابة صيف، فغربت شمسي، أختفي ضوء القمر، ساد الظلام، غدت سمائي بلا نجوم ، ، ، توسد الحزن قلبي أتقاسمه والصمت مع قبرها.
مقدمة الكاتب
قبل أن يمنحني الله هبة الكتابة؛ كنت أسيرة الظلّمات المعتمة، تختلج بداخلي الأفكار، تتصارع داخل عقلي ووجداني صرخات مكبوتة، أهات حبيسة، مشاعر مضطربة، تهيج في نفسي شأن عاصفة تقتلع حبات الرمال من جنبات الصخور، انطلق من أعماق تلك العتمة شعاعًا، قبضت عليه كمن يقبض علي نجمة في كهف مظلم، كتبت لأول مرة وأنا علي مشارف الخمسين، وإنه لشيء عجيب يشبه العودة للحياة بعد الموت، الأشياء في الحياة مهما تنوعت منابعها وسلكت دروبها من الحركة و السكون، الحب، الخيانة، الشقاء، الترف بعد مد وجزر و مهما توائمت المتناقضات والتقائها معا في الحياة تتلاقي جميعها إلى نهاية واحدة.. الموت.
أمسكت قلمي وانطلقت باحثة عن الزمن المفقود من حياتي استوحي كتاباتي من المجتمع الذي أعيش فيه وأشخاصا قابلتهم في معترك الحياة، قد لا أوصلك لدرجة الاقناع لأن الفكرة في حد ذاتها جدل دائم وصراع بين ،كل المتناقضات، وأهمهم على الأطلاق هو صراع الموت والحياة.
يد الموت
إنه مساء اللوعة الكبرى، صامتين في ضيافة الحزن، لم يعد ثمة خوف أو جزع بعدما فتك بك الموت الذي طالما حام حولك متربصًا منذ اللحظة الأولى لقدومك إلى تلك الدنيا الفانية كم ظللت بجوارك أعد أنفاسك وكلي أمل بأن رحمة ملك الموت؛ رغم قسوته لن تنتزع روحك في حضرتي كما الخرافة القديمة بأن الروح تظل معلقة لا تترك الجسد في معيه احبائها، تمدد جسدك شاحب اللون على فراش مرضه، واصل غيبوبته في صمت، مشدود على أنبوب دواءك وكأنه حبل صري بينك وبين الحياة، لعقت شفتاي لثما دمع العين المنحدر على خدي، رتلت صلوات الرجاء ولهج لساني بتمتات الدعاء تضرعًا عند قدميك بلوعة لله الخالق القدير، مشلولة الأحاسيس، ممزقة الفؤاد.دقت أجراس رحيلك الأبدي ليخطف الموت اللعين زهرة شبابك، ما أحقرك أيها الموت الزؤام وأنت تنبش بأظافرك في روحه الطيبة، يشع وجهك بالضياء، مدثرا بأكفانك لا حول لك ولا قوة، اليوم أتممت عمرك الثاني والعشرون ويا لعجائب القدر فما أفجع هذه الصدفة ذكري ميلادك هو يوم وفاتك، فاضت روحك إلي بارئها وانطفأت معها شعلة لطالما اضاءت لي طريق الأمل في هذه الحياة المظلمة، خمدت معها آخر شموع سعادتي لتشتعل مواقد الشوق والفراق، سالت أدمعي، فقل لي بربك كيف أطفأ بتلك المدامع بحور من نار الفراق والفقد؟جردني موتك من هويتي غدوت تائهة مبعثرة الاشلاء، صريعة يأكل الهم روحي ، خائرة القوي ناحت غربان الشؤم في صدري فزادت حزني حزن.قبل هذا المساء لم أكن أشعر بثقل السنين، لم اتصور أن تأتي نهايتك قريبة ومفجعة لهذا الحد كنجم هوى آثرت الافولّ.انبئت ولادتك عن شخصيتك الثائرة كشيء خارق للعادة منذ قرارك المبكر بالرحيل من أحشائي لم تسكن في رحمي سوي ستة أشهر، حينها قدت ثورتك الأولى مدافعا عن وجودك في الحياة، سبحت وسط أمواج النزيف المتلاطمة التي كادت تفرغ دمائي لحظة المخاض، متخطيا أيادي الموت المتلهفة للفتك بنا معا، رسونا على شاطئ الحياة ونحن في الرمق الأخير من الغرق في براثن الموت. ظللت متشبسة بك علي أعتاب غرفة المبتسرين لأسابيع عدة من اللهفة والتضرع، قلبي وعقلي معلقان علي الصندوق الزجاجي الذي ارتضيته عوضا عن رحمي، هل طالت القسوة قلبك الوليد فاستكنت بين أحضانه هادئًا قرير العين؟ حاصرتك أجهزة التنفس مربوطا بأنابيب مدلاه تطوق جسدك الرقيق، ظلت أمومتي معلقة لأسابيع عدة مرت كما الدهر متلهفة اللحظة التي أضمك فيها لصدري أرويك من فيض حناني اشبع ظمأ روحي بالقرب منك، ويالعنادك حرمت على نفسك مذاق ثدي، حرمتني اشعاع وجهك الوسيم وأنت تلقمه نائما في أحضاني، أكنت رافضا لقانون الطبيعة أم كنت تخشي زيادة تعلقي بك وما ستلحقه بي من أذى فآثرت البعد واخترت قانون المسافات الفاصلة خشية تورطي في الإشتياق والحنين إليك؟ما أقسي لحظات تلصصي خلف زجاج الغرفة البارد التي حالت بينك وبين لهيب أشواقي، استويت علي جمر الصبرحتى جاءت اللحظة المرتقبة التي طالما انتظرتها، فاض فؤادي فرحا حين ضممتك ملاك صغير إلى صدري، امتزج بكاء الشوق وفيض مدامعي علي خديك، امطرتك قبلات لو احصيت لتصدر أسمي العناوين الرئيسية لصفحات الجرائد المحلية والعالمية ولتجاوز عددها الرقم القياسي لموسوعة جينيس.كانت الأجواء مهيأة لاستقبالك كأن الدنيا جميعها تشاركك نزعتك الثورية، ميلادك في حقبة تملؤها الصراعات الدولية وكأنك كنت عاجزا عن الصمت رغم أنك لم تعرف الكلام بعد.لاحقتك الأزمات واحدة تلو الآخرى؛ نقص الدواء، شح الوقود، انقطاع الكهرباء المتكرر، الانفلات الأمني، محن حاولت الفتك بك فقدت ثورتك الخاصة في الدفاع عن حقك في الحياة مجتازا الحواجز المنتشرة علي طول الطريق لجيوش مختلفة الأجناس والملل، لا فرق بينها وبين الحواجز المزورة لقاطعي الطرق، أخضعوا كل مرتجل وراكب للتفتيش يتطلعون على بطاقة هوية أصحابها ورفقاءهم ليحددوا مقدار غنائمهم، دفعت خاتم زواجي ثمنا لوصولنا للمشفي سالمين.
لعب الساسة الأقوياء وقادة العالم لعبتهم المفضلة، امتدت أيادي الخبثاء لتعبث في مقدرات الوطن والشعب وقوته ومقومات الحياة الأساسية، قطعوا الكهرباء لينهكوا قواك وليثبتوا دعائم حكمهم في ملعب مفروشا بأجساد الضعفاء، كم من رضيع مثلك قتل دونما ذنب أو جريرة! ملوثة أيديهم بدماء الأبرياء شهداء النفس الأخير في حضانات المبتسرين، قدر الله لك النجاة فما زال لك عمرًا ودربًا تسلكه ومحن تختبرها وتختبرك.
ينتابني الجنون حينما تمر بذهني فكرة موتك، أذكر يوم رحت أختبر وقع موتك الحقيقي علي نفسي كدت أموت حقا، توالت السنون وأصبت بتسمم في الدم، اذاقوك ذل الانتظار ومرارة التنقل بين طوابير المرضى بحثًا عن جرعة علاج، تدهورت حالتك سريعًا، نقص الدواء ولبن الأطفال أزمة فضحت أنظمة سياسية متصارعة علي الحكم ووضعت حياتك علي المحك، تخطيت طوابير الانتظار الطويلة بجسدك النحيل عقب خروجك من المشفي منتظرًا في صفوف السيارات بمحطات الوقود لساعات كمن طال ليله مترقبا بزوغ الفجر.ذات خريف اكتشفت مرضك النادر عشت منقطعة عن عالمي اتنقل بك بين الأطباء ومعامل التحاليل ومراكز البحث العلمي بحثًا عن علاج نزيفك المفاجئ دون فائدة، دخلت مدار الذعر لينتهي مقامي في كنف أضرحة أولياء الله الصالحين أملًا في شفاءك، لم تبرئك أحجبة الكاتبين ولا وصفات العارفين ولا أضواء الشموع المشتعلة تحت أقدام القديسين ولا نثر البخور في مجامر العرافين، أفقدني وجودك المتكرر في المشفى الشعور بالزمن.
انت روحك وتلوت تحت ضربات معول المرض الذي أنهك جسدك وتفشي فيه، نخر في جسدك شهورًا وسنين، كانت الآمك أضعاف صرخاتك المكتومة ووجعك المخبئ بين جنبات جسدك الناحل، كنت شيخًا كبيرًا في صبرك، شابًا يافعًا في حماسك للحياة التي أعطتك ظهرها طريح الفراش محتجزا داخل غرفتك، وجدت السلوى في الكتابة فوُلِدت روائعك الأدبية من رحم المعاناة.
لاح في الأفق بريق أمل حين علمت بزيارة طبيبًا فرنسيًا متخصصًا في مرضك النادر للبلاد، تجدد ت بداخلي ينابيع السعادة، حدد موعدا لاجراء جراحة زرع نخاعك الشوكي، وقفت لساعات طوال أمام غرفة العمليات انتظارا لاشراق شمسي الجديدة وعودتك معاف حتى خارت قواي، سقطت علي الأرض استفقت بين الذعر والعجلة، انتزعت أنبوب المغذي من وريدي، تمرغت مصروعة علي عتبات غرفتك، هرولت نحوك أتأملك ممدًا علي فراشك الأبيض تحاصرك الأنابيب والأجهزة، مستسلم دون صراع وحيدًا تواجه قدرك المحتوم، ضاعف وقوفي علي أعتاب غرفة العناية المركزة أحزاني وذكرني بيوم وقوفي علي أعتاب غرفة المبتسرين، انتفض قلبي كقلب عصفور صغير طار ألف عام، أترقب لحظة استفاقتك واجفة القلب مفعمة بالشكوك تربكني رعدة المحيط وتأخذني رجفة البرد.
ها هو أسبوع غيبوبتك الثامن ينقضي، لم أفقد الأمل في عودتك للحياة، لكن الخيبات الكبرى تأتي دومًا علي سجاد فاخر فرشناه لاستقبال السعادة.
لم تعد، غيرت وجهتك وانضممت بثورتك العارمة التي تهواها لصفوف مؤيدي الموت، شعرت بهول الفاجعة، صدمني الواقع ودفعني تحت عجلات قطار ركبته بنية الحلم فأرداني قتيلًا في كابوس لا ينتهي، يا لغبائي لم أكن ادري أنني سلمتك بيدي للموت، أدخلتك بيدي غرفة العمليات صريعًا بين مخالب المرض التي لا ترحم لتقع في براثن يد الموت المفجع، رجوت المستحيل كمن يستحضر جذوة نار من جبل ثليج.
تطاردني نيران ذكرياتك التي أحرقتني، منذ لحظة ولادتك وأنت ساحة معارك بين الحياة والموت، ليتني قبلتك واحتضنتك حتي الإرتواء، من وقع المفاجأة صمتت ردود أفعالي، تجمدت أحاسيسي وأنا واقفة أمام جثمانك كملاك جميل يغادر الحياة، اتسأل سؤالي المعتاد: "لماذا أنت دائما علي عجل؟ ألن تفاجئني بشرودك وبثوراتك، وتواسيني علي فجيعتي؟"
ممد أمامي أصاب الصقيع أطرافك، قبلتك عبثًا عل لهيب لوعتي يبدد برودة جثمانك فتسري الحياة في أوصالك من جديد وتوقظك من موتك.
أهداني رحيلك عمرا من الهذيان، ليتك سلمتني للشيخوخة والردى، ليتني شددت وثاقك إلى كرسي بجواري طيلة العمر، اخبرك بكل اسراري، أجلسك لأسمعك خيبات كهولتي، لكن أين لك من الصبر لتسمع اسرار العجائز التي لا تخفى؟ كم كنت قاسيا لم تقل شيئا مضيت مسرعا بلا وداع، هالني مشهد هيل التراب، وقفت مشدوهة عاجزة لا أملك حراكا، مستسلم أنت لنومك الأخير، ذهب عنفوانك ليلتهمه الدود وتراب المقبرة العطن.
ماذا استطيع حيال يد القدر التي اخطتفت ريعان شبابك وأهدرت بقايا عمري البائس، اقبع خلف جدار الذكرى حيث لا مكان لكلمات العذاب ولا للحكايات المبهرة أمام برودة الرخام وأتربة المقبرة.
لم تتوقف عن الثورة حتى بعد رحيلك، منذ يومين حصدت روايتك "يد الموت" الجائزة العالمية للرواية العربية، ترنحت خطواتي من عثرة الحظ الذي أذاقني مرارة مجدك وأنا أحتضن الجائزة نيابة عنك.
دخلت غرفتك أعلق الجائزة علي جدار نجاحاتك، أنظر لأشيائك التي عاشت بعدك بحضور بارد لا باكية ولا مشفقة عليك كالهيكل العظمي المنتصب في ركن غرفتك بلا روح، جلست علي سريرك أتأمل شهادات تفوفك العلمية وشهادات التقدير يتوسطهم "صك وفاتك" تحسست كتبك الطبية علي أستشعر دفء أصابعك، نظرت على معطفك الأبيض المتهدل على شماعته، احتضنته، سمعت همس أنين الأمنيات الحبيسة بداخله، اغرفته بفيض مدامعي، اشتهيت ساعتها المنية لألقاك.
آه علي فراقك آه
يا من كنت للقلب نبضا
وللعين الضياء
تملك السقم بدنك
كما السم يسري في الأحشاء
ما فضح اللسان يوما
ولا بالسر باء
فكنت كجلمود صخر
توالت عليه الأنواء
لا كل الموج يوما
ولا الصخر ناء
حتي أتتك رسل المنايا
وأختارك رب السماء
فغدوت بعد الموت حيا
شهيدا تسكن العلياء
فسلاما لروحك دوما
وأدعو الله حسن اللقاء.
جمعة عبد المقصود