Horof

Share to Social Media

كان أَهْلُ محافظةِ (القاهرة) يترقبون حدثًا عظيمًا، وهو الاحتفال باليومِ العالميِّ للغةِ العربيةِ، وَمِنْ ثَمَّ يحتفلونَ بهؤلاءِ العلماءِ الأجلاءِ الذين أَثْرَوْا حياتَنَا اللُّغَوِيَّةَ بالعديدِ من المؤلفاتِ المفيدةِ، وقد فَاجَأَ سكانَ شارعِ "النيل" أَنْ يَرَوْا عَالِمًا لُغَوِيًّا وأستاذًا جامعيًّا إن لم تَكُنْ له شهرةُ العقادِ المستفيضةُ فإنه يُشْبِهُهُ في دِقَّتِهِ ونظامه وحركاته وسكناته ويزيد أنه أشدُّ منه حرصًا على الدِّقَّةِ اللُّغَوِيَّةِ؛ نقول فاجأهم أن يروه على غيرِ مألوفِ عَادتهِ يَبْرَحُ الْبَيْتَ في يومٍ من أيامِ شهرِ فبرايرَ مِنْ عامِ 2019 م نحوَ الساعةِ الواحدةِ ظهرًا!
هو الأستاذُ اللُّغَوِيُّ الذي آثر المصريون أن يخلعوا عليه لقب "عالم اللغة العربية والرياضيات والفلسفة"!
وكان البيت الذي اختاره لمقامه يقع في حَيِّ مَنْ تِلْكَ الأحياءِ القاهريَّةِ التي تتصفُ بالهدوءِ والسكينةِ، وكان سكان الحي يرقب بعضهم حركاتِ بعضٍ، بل كانت الحركاتُ البريئةُ تثير الْقِيلَ وَالْقَالَ، وتطلقُ الإشاعاتِ من كُلِّ عِقَالٍ. وإذا عَرَضَ لِأَحَدِهِمْ أَنْ يُبَدِّلَ موعدَ غُدُوِّهِ وَرَوَاحِهِ استرعى الأنظارَ واستثارَ فُضُولَ النَّاسِ، فما بالك بالأستاذ! وسترى من الصورة التي نرسمها له، أنه رجل غريب الأطوار خليقٌ أن يسترعيَ الأنظار والأفكار!
وَحَقًّا إِنَّ حياةَ ذلك الرجلِ تثيرُ حفيظةَ الراغبينَ في تَعَرُّفِ الطبيعةِ الإنسانيةِ، وتعطيهم صورةً صحيحةً واضحةً للأستاذ الذي أَبَتْ نَفْسُهُ إلا حُبَّ اللغةِ والفلسفةِ والرياضياتِ! وَجَدَّ في البحثِ وراءَ الحقيقةِ وتمزيقِ القناعِ عن أسرارِ هذا العالم، فوقف حياته على البحث والتقصي، فقلما تجدُ رجلًا مثله قد نَبَغَ في دراسة الرياضياتِ واللغةِ والفلسفةِ بفروعِها!
مَضَتْ ثماني سنواتٍ من يومِ أَنْ وَضَعَتْ ثورةُ الخامسِ والعشرينَ مِنْ ينايرَ أوزارَها، فَأَقْبَلَ الأستاذُ على شارعِ النِّيلِ واتَّخَذَ لَهُ في أَحَدِ البُيُوتِ مسكنًا ولَمْ يَكُنْ جَاوَزَ الأربعين، ولكن لا يبدو عليه شيء من غضارة الصبا أو نضارة الشباب، فقد بَكَرَتَا بمغادرته لإضنائه العقلَ في عالمِ اللغةِ والآراءِ والأفكارِ.
كانت له جبهة عالية بارزة! وشامة تجمل وجهه! وفم ينفرج عن شَفَتَيْنِ دقيقتين، ولونٌ يَضْرِبُ إلى الصفرة وعينان مريضتان من الانكباب على الدرس وإدمان المطالعة تختفيان تحت نظارته السوداء، وجسم نحيل يرتدي الثوب الرسمي صيفًا وشتاءً، ورأس قد اشتعل شيبًا، وكل ذلك يكسوه جلالًا وروعةً!
كان يشغل مسكنًا في الدور العاشر إيجاره ثلاثةُ آلافِ جنيهٍ في الشهرِ ومساحتُهُ ثلاثُمِائَةِ مترٍ مؤلفًا من حجرتين للنوم وأخرى للخادمة، وغرفة للمكتب مملوءة بكل ما لذ وطاب من أنواع الكتب، ومطبخ واسعٍ وصالةٍ رَحْبَةٍ وحمامين، وكلها تشرف على أفق رَحْبٍ، فكان الأستاذ مشرفًا من نوافذِهِ على جنباتِ حديقةٍ غَنَّاءَ ناهيك بِنَهْرِ النيلِ!
وَعَهِدَ بإدارةِ شُئُونِ البيتِ إلى "أم عباس" على أن يدفعَ لها ألفينِ فوق ما كان ينفحُها من الْهِبَاتِ، وظلت في خدمته أمينةً على مصالحه وفيةً له! وكانت "أم عباس" تحسن الظن بالأستاذ فما يروعها منه إِلَّا غرابةُ تفكيره وأسلوبُهُ المتفردُ في الحياةِ!
وُلِدَ الأستاذُ بمدينةِ "طهطا" عام 1980 م. وأبوه طبيب بشري ماهر يحبه الناس؛ لإخلاصه في عمله وطيبة قلبه وتدينه. وأمه معلمة فاضلة تحفظ القرآن وتعلمه. وكان الغلامُ متوقدَ الذكاء على أَنَّ هُزَالَهُ واعتصامَهُ بالصمت وبقاءه في أحضان العزلة، كل ذلك كان يحملُ أصحابَهُ على ظَنِّهِمْ أَنَّ بأخلاقِهِ شذوذًا وبنفسِهِ جفوةً!
ومضى الفتى في دراسته متفوقًا على أقرانه وأحبَّ لغته العربية حُبًّا جَمًّا، والفضلُ يرجعُ لأبيه وأمه ثم لأستاذه الدكتور رشوان، ثم اتجه إلى دراسة الرياضيات في كلية التربية، وكان يحضر في الوقت ذاته مع زملائه في كلية الآداب بقسم الفلسفة، وبعد تشبعه من الرياضيات والفلسفة دَرَسَ اللغةَ العربية وعلومها في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة ثم تخرج فيها!
وَتَجَلَّتْ مواهِبُهُ عندما درسَ الفلسفةَ بما يتفرعُ عنها من عِلْمِ الْمَنْطِقِ وَعِلْمِ الكلامِ وَعِلْمِ النَّفْسِ مع أستاذه الدكتور رشوان، ولاحَ لأستاذِهِ استعدادُهُ لعلومِ ما وراءَ الطبيعةِ فأرادَهُ أن يكملَ دراساتِهِ الْعُلْيَا في (مجال الفلسفة) فأبى الدراساتِ الْعُلْيَا قائلًا: إنه سيسلكُ طريقَ العقادِ وأساتذةِ الفلسفةِ القدماءِ في الدراسة الذاتية والاعتماد على النفس لبناء شخصيته العلمية، ولم يقتصدْ أبوه في تأنيبِهِ حيثُ حَثَّهُ حَثًّا متواصلًا أَنْ يكملَ دراساتِهِ الْعُلْيَا ولكنه أَبَى.
وما أخذ عليه أبواه هفوةً من الهفوات، فما رُؤِيَ يومًا يدخنُ، ولا شُوهِدَ مرةً يغشى مَقْهًى أو يذهبُ إلى مَلْهًى أو يتأبطُ ذراعَ فتاةٍ، فكان مدعاةَ فَخْرِهِمَا وَمَعْقِدَ آمالِهِمَا.
وأقبلَ الأستاذُ على دراسةِ الفلسفةِ والرياضياتِ واللغةِ واستوعبَ آراءَ أساطينِ هَذِهِ الْعُلُومِ وشيوخِ الحكمةِ في العصرِ الحديثِ.
وفي عام 2010 أخرجَ لنا ابنُ مدينة "طهطا" كتابًا عجيبًا في مبادئِ اللُّغَةِ اسمُهُ "الحلمُ المُنْتَظَرُ" ناقش فيه أَهَمَّ القضايا اللُّغَوِيَّةِ التي يُعْنَى بها المبتدِئونَ في فُنُونِ اللُّغَةِ وآدابِها، وقد تبدت في الكتاب رُوحُ الفيلسوفِ التي تسكن بين جوانح الأستاذ بأسلوب مسرحي ممتع وبديع وفريد، وقد ذاع صيت الكتاب في الأوساط الثقافية!
طُلِبَ الأستاذُ بعدَ تأليفِهِ "الْحُلْمَ الْمُنْتَظَرَ" لِيَكُونَ باحثًا في دار الإفتاء المصرية في العام نفسه 2010 فَقَبِلَ الوظيفةَ وَهُوَ يعلمُ في قرارة نفسِهِ أنه لن يُطِيلَ الْمُكْثَ فيها، ولكنها رُوحُ التَّجْرِبَةِ التي تدفعُهُ دائمًا لاستكشافِ كُلِّ ما هو جديدٌ ولاستكشافِ نفسِهِ قبلَ كُلِّ شَيْءٍ!
وظلَّ يعملُ هناك بِجِدٍّ في هذا العام وفي أول شهر من عام 2011 طلبته ساقية الصاوي ليكون محاضرًا دائمًا فيها، وكانت له محاضرة شهريَّةٌ ثابتة من 2011 إلى 2014، ومن الجدير بالذكر أنه ألف كتابًا آخرَ في نهاية 2010 وسمَّاهُ "تشريحَ الرُّوحِ" ثم بَعَثَ بِهِ إلى عِشْرِينَ شَخْصًا لا يزيدونَ، ولكنْ قُدِّرَ لَهُ أَنْ يُحدِثَ ضَجَّةً في جميعِ البيئاتِ، ودويًّا هائلًا بين الطبقاتِ كافَّةً.
وُضِعَ الكتابُ عَلَى ضوءِ التحليل العلمي الذي قد يبلغ القسوة، وأثار هذا الكتاب اهتمام الباحثينَ؛ لِأَنَّهُ اصْطَدَمَ بأدقِّ مسألةٍ مِنْ مَسَائِلِ علوم ما وراءَ الطبيعةِ، وقد كان جائزًا أن يظلَّ الكتابُ مغمورَ الاسمِ والكاتبُ خاملَ الذِّكْرِ لولا أَنْ أُتِيحَ له أن يتصدى للردِّ عليه عالمٌ كبيرٌ من علماءِ الدار التي يعمل فيها، وقد أشار إليه أحدُ أعضاءِ مَجْلِسِ النُّوَّابِ إشارةً تَدُلُّ على الْحَنَقِ!
وَتَصَدَّرَ لِهَدْمِ نَظَرِيَّاتِهِ كاتبٌ مرموقٌ، فكانت تلك العواملُ مجتمعةً مثارَ اهتمامِ الشَّبَابِ الذين كانت تَهُبُّ عليهم في ذلك الحينِ عاصفةُ التَّغْيِيرِ وتطغى عليهم موجةُ التَّـنَـكُّرِ لما تواضعوا على تسميته بالآراءِ العتيقةِ القديمةِ واصطلحوا على اعتباره نُظُمًا باليةً فكانتْ تحتشدُ في الأفقِ رُعُودُ الثورةِ وَبُرُوقُهَا منذرةً بالانفجارِ القريبِ!
وكذلكَ قُدِّرَ للكتابِ الجديدِ الذي وضعه صاحبُهُ في سُكُونِ الْوَحْدَةِ أَنْ يصبحَ مثارَ الضَّجَّةِ في بيئة الآراءِ العصريَّةِ. وفي الْحَقِّ فقد مضت سِنُونَ وَلَمْ يَشْهَدِ الناسُ مِثْلَهُ في قُوَّةِ الْحُجَّةِ وَسَعَةَ الاطِّلَاعِ!
بينما أصبح اسمُ الكاتبِ في القاهرةِ مِلْءَ الأفواهِ والأسماعِ فَإِنَّ نجاحَهُ أثار الحزنَ في قلوبِ ذوي قرباه. فقد أُتِيحَ لوالِدَتِهِ أَنْ تسمعَ نَقْدًا لاذعًا خارجًا على القنواتِ الدينيَّةِ لهذا الكتابِ الغريبِ الذي أَلَّفَهُ وَلَدُهَا فأسلمها ذلك إلى اليأسِ، وَتَوَجَّسَ أبوه خِيْفَةً عليه.
والذي يقرأُ كتابَيْهِ "الْحُلْمَ الْمُنْتَظَرَ" وَ"تَشْرِيحَ الرُّوحِ" لا يصدقُ أن الذي أَلَّفَهُمَا شخصٌ واحد! وثارت ثائرةُ الناسِ على الأستاذِ اللُّغَوِيِّ الفيلسوفِ وانْصَبَّتِ الأحقادُ على رأسِهِ وأوشك أَنْ يهجرَ أسرتَهُ لولا أَنَّ ثورةَ الخامسِ والعشرينَ مِنْ ينايرَ قَدْ صَرَفَتْ عنه أنظارَ أهلِهِ وبني وَطَنِهِ.
وَصَحَّتْ عَزيمةُ الأستاذ على أَلَّا يتزوجَ ولا يغشى الأندية الخاصَّةَ ولا يذهبَ إلى الاجتماعاتِ العامَّةِ ولا يطمحَ إلى ألقابِ الشَّرَفِ ولا يرنوَ إلى الوظائف الحكومية ولا يجريَ وراءَ الشهرةِ، بَلْ يكونُ شِعارُهُ في الحياةِ: "التنقيبَ عَنِ الحقيقةِ وَنُصْرَةَ اللُّغَةِ العربيَّةِ التي يَعْشَقُهَا"!
ولو أنا ألقينا نظرةً على حياته اليومية لوجدنا فيه العامل الذي لا تَفْتُرُ هِمَّتُهُ، ولا يجدُ الْوَهْنُ إلى عزيمته سبيلًا، فإذا أقبلتِ الساعةُ السادسةُ صيفًا أو شتاءً وَجَدْتَهُ مكبًّا على مكتبه وما تزودَ إِلَّا بكوبٍ مِنَ الشايِ الصَّعِيدِيِّ الثَّقِيلِ، فإذا كانتِ الساعةُ التاسعةُ تناولَ فَطُورَهُ على عَجَلٍ، وما هي إلَّا لحظاتٌ بعدَ الإفطارِ وتجدُهُ في طريقه إلى الجامعة، فإذا انتهى عمل الأستاذ في الجامعة انقلب إلى بيته فيلبثُ يعملُ ويطالعُ الكتبَ!
وكان يستقبلُ مرةً واحدةً في الْأُسْبُوعِ زائرِيهِ، وَكُلُّهُمْ مِنَ الطَّلَبَةِ والأساتذةِ الذين يشاركونه عِشْقَهُ للرياضياتِ واللُّغَةِ والفلسفةِ، والأجانبِ الذين تجتذبُهُمْ شهرةٌ أصبحتْ تُدَوِّي في جوانبِ مصرَ بأسرِها.
وفي التاسعةِ مساءً يتناولُ عشاءَهُ ثم يظلُّ مع كتبه وَبُحُوثِهِ حتى منتصفِ الليلِ، وبعدها يطفئُ الأنوارَ وَيَأْوِي إلى مَضْجَعِهِ حتى يوقظَهُ صوتُ المؤذنِ بصلاةِ الفجرِ!
تلك الحياةُ التي تماثلُ حياةَ الراهبِ في الدَّيْرِ والناسكِ في الصومعةِ ... لم تَكُنْ تَتَخَلَّلُهَا راحةٌ أُسْبُوعِيَّةٌ إلَّا يومَ الجمعةِ! وتمضي السنوات وهو لا يغير نظامَهُ اليوميَّ ولو مرةً واحدةً!
وما كان يقرأ الصُّحُفَ مُلْقِيًا أمورَ الإعلان على عاتق من يطبعُ مؤلفاتِهِ، ولو أغرقه كاتب في طوفانٍ من المديح لما كَلَّفَ نَفْسَهُ أن يشكرَ له على ما أسدى من حَمْدٍ، وما كان يهتمُّ بالسياسةِ في كثير أو قليل، ولم يكن مهتمًّا بأمر الانتخابات!
ولكي نُتِمَّ تصويرَ تلكَ الشخصيةِ الْفَذَّةِ يجبُ أَنْ نقولَ: إِنَّ الرجلَ قد فَصَمَ كُلَّ عُرْوَةٍ تَرْبِطُهُ بِأَهْلِهِ، وكانت تلك القطيعةُ ترتكزُ على نظريَّةٍ يَدِينُ بها الأستاذُ الفيلسوفُ اللُّغَوِيُّ في أعماقِ نَفْسِهِ! وَلِمَ لا! أليس هو القائلُ في مقدمةِ كتابهِ: "تشريحِ الرُّوحِ": "ينبغي لِكُلِّ مَنْ يودُّ أَنْ يَعْلَمَ الحقيقةَ ويجهرَ بها في عالم العلوم النَّفْسِيَّةِ أَنْ يتحلَّلَ قَدْرَ الْمُسْتَطَاعِ مِنْ قُيُودِ الروابطِ الاجتماعيةِ".
وما لبثَ أَنْ فَاجَأَ الناسَ بكتابٍ جديدٍ في ثلاثةِ مجلداتٍ دعاهُ: "نظريةَ الْحُبِّ" ولولا حريةُ الفكرِ والقلمِ لضاقَتْ صُدُورُ الناسِ بما احتواه من وصف جريءٍ ولجعلوه طعامًا للنار ولوضعوا الأستاذ في غياهب السجون!
وَأَلَّفَ كتابًا آخرَ في النَّحْوِ والصًّرفِ والأخطاءِ اللُّغَوِيَّةِ الشَّائِعَةِ سَمَّاهُ "عَصِيرَ النَّحْوِ" وزَعَمَ أنَّه يُغْنِي عن كُلِّ الْمُؤَلَّفَاتِ القديمةِ والحديثةِ في هذا الْفَنِّ، وقد استقبلَهُ الناسُ بِقَبُولٍ حسنٍ ومدحُوهُ وَأَوْصَوْا بتدريسِهِ في الجامعاتِ كُلِّهَا!
يا ليته قد اكتفى بوصفه لُغَوِيًّا بارعًا وَلَمْ يُوغِلْ في دراسةِ الفلسفةِ والتأليفِ فيها، فقد أخرج لنا كثيرًا من النظريات التي قد تقودُ الشبابَ إلى الجنونِ!
وَيُخَيَّلُ إليَّ أَنَّ هذا الرجلَ ما كان يهتمُّ بالعواطفِ أو يَأْبَهُ للمشاعرِ، نَعَمْ، لقد كان يُحِبُّ أباه وَأُمَّهُ، ولعلَّ هذا الحبَّ هو العاطفةُ الوحيدةُ التي دَبَّتْ بين جوانِحِهِ!
ولقد كانت رُوحُهُ متشبعةً بالتسامُحِ تُجَاهَ جميعِ الناسِ، وتلك الغريزة هي التي تُوحي إليه الرحمةَ حتى بالجمادِ، فلا يزحزحُ الكرسيَّ إلا في هوادةٍ ولا يَنْقُلُ الأثاثَ إِلَّا في رِفْقٍ.
وما أحسَّ الأستاذُ يومًا بالحاجةِ إلى حنانٍ يَغْمُرُهُ، وعطفٍ يحيطُ بِهِ، وَحُبٍّ يفيضُ عليه، وإخلاصٍ يتجلى له؛ بل ما أحسَّ بالحاجة إلى الصداقة في أبسطِ مظاهرها! وما توثقتِ الروابطُ بينه وبين نَفَرٍ مِنَ العلماءِ إِلَّا لِيُحَاجَّ هذا في مسألةٍ من مسائلِ علمِ النَّفْسِ أو لِيُجَادِلَ ذاكَ في الرياضياتِ أو ليناقشَ الآخرَ في مسألةٍ مِنْ مسائلِ اللغةِ العويصةِ.
وما كان يَعْنِيهِ من جماعةِ العلماءِ أَنْ تكونَ لهم زوجاتٌ أو يكونَ لهم أولادٌ أو يكونوا منهمكين في البحثِ عن المناصبِ أو الوظائفِ وإنما كان كُلُّ ما يَعْنِيهِ منهم هو جانبُ البحث العلمي. ويا عَجَبِي لعالمٍ تلك صورةُ حياتِهِ! هل يشعرُ هذا الإنسانُ بالسعادةِ في أعماقِ نفسِهِ!
تمثَّلْ أمَامَكَ ذَلِكَ الرجلَ وصورْ لِنَفْسِكَ تلك الحياةَ، ثم تَصَوَّرْ مبلغَ الأثرِ الذي يتركُهُ حادثان جاءا مُتَعَاقِبَيْنِ في يومٍ واحدٍ:
فأما أَوَّلُهُمَا: فإعلانٌ موجهٌ إلى الأستاذِ بالحضورِ إلى مكتبِ المستشارِ "معتز" قاضي التحقيقِ لسؤالِهِ عن الوقائعِ التي تدعو الضرورةُ لسماعِ ما يعلمُ عنها.
وأما الثاني: فرسالةٌ تَحْمِلُ اسمَ "أم رامي" تطلبُ فيها أَنْ يتفضَّلَ فيأذنَ لها بمقابلتِهِ نحوَ الساعةِ الرابعةِ بعدَ ظُهْرِ الغدِ لتحدثَهُ عن الجنايةِ التي اتُّهِمَ فيها ظُلْمًا ابْنُها "رامي".
ولقد عَرَفْتَ أَنَّ الأستاذَ لا يقرأُ الصُّحُفَ أَبَدًا .. ولو فَعَلَ لرآها طَوالَ الأُسْبُوعينِ الماضيين تَفِيضُ أنهارُها تَحَدُّثًا بِقِصَّةِ الشَّابِّ "رامي".
ولأنه لا يَطَّلِعُ على الصحفِ فَقَدْ عَزَّ عليه أَنْ يَفْهَمَ مرمى دعوةِ الحضورِ أمامَ القاضي وفحوى رسالةِ الوالدةِ التي تلتمسُ مقابَلَتَهُ!
ومع ذلك فَإِنَّ العَلاقَةَ بين دعوةِ الحضورِ وكلمةِ الوالدةِ جَعَلَتْهُ يُرَجِّحُ الارتباطَ بينَ الواقعتينِ ثم استعرضَ الأستاذُ الماضيَ فَتَذَكَّرَ شابًّا اسمه "رامي" عَرَفَهُ خلالَ العامِ الماضي 2018 في ظروف عاديَّة، ولم يكن من شأن تلك الظروف أن تُثِيرَ في نفسه فكرةَ قضيةٍ جنائيةٍ!
ولذا ذَهَبَ سُدًى كلُّ ما قَدَّرَ من فروض. فَلَبِثَ يُقَلِّبُ النظرَ في الدعوةِ تارةً وفي الرسالةِ طورًا وظلَّ صريعَ القلقِ الْمُؤْلِمِ والاضطرابِ الْمُزْعِجِ، شَأْنُهُ كَشَأْنِ أولئكَ الذين اعتادُوا الحياةَ النظاميةَ فإذا نَزَلَتْ بهم نازلةٌ أو أَلَمَّ بِهِمْ مُلِمٌّ أو فُوجِئُوا بحادثٍ غَيرِ مألوفٍ تَصَدَّعَتْ نفوسُهم وتخاذلتْ قُوَاهُمْ وضاق أفقُ الحياةِ عن أَعْيُنِهِمْ!
من هو "رامي"؟ إِنَّ الأستاذَ لَيَذْكُرُ أنه قَرَأَ ذلك الاسمَ في ذيل رسالةٍ مصحوبةٍ بنسخةٍ خَطِّيَّةٍ عُنْوَانُهَا "بحثٌ في الشخصيةِ الْمُزْدَوِجَةِ" يتوسلُ صاحبُها إليه أَنْ يلقيَ نظرةً على باكورة تفكيره، وأضاف المؤلفُ إلى توقيعِهِ: "طالب فلسفة بكلية الآداب".
وكانت النسخةُ الْخَطِّيَّةُ تتضمنُ سبعين صفحةً تَدُلُّ على الذكاء المبكر النافذ إلى صميم الحقائق، فوق إلمامها التام بأحدث النظريات العصرية في علم النفس، وَتَكْشِفُ عن قدرةٍ في التحليلِ اضْطَرَّتِ الأستاذَ إلى الرَّدِّ عليها بخطابٍ مُسْهِبٍ مُسْتَفِيضٍ! فجاءَتْهُ رسالةٌ على بريده من ذلك الشابِّ رامي يقول فيها: إِنَّهُ سَوْفَ يَقْدَمُ مِنَ الصعيدِ إلى القاهرةِ لتأديةِ عَمَلٍ مُهِمٍّ! وبذلك يتاحُ له شرفُ المثولِ بينَ يَدَيِ الأستاذِ!
وبعدها بِأَيَّامٍ رأى شابًّا في بدايةِ الثلاثينياتِ له عينانِ سوداوان يشعُّ منهما نورُ الذكاءِ فيفيض على وجهٍ شاحبٍ. تلك الصورةُ هي التي ارتسمتْ في ذهنِ الأستاذِ!
وَلَمْ يَنْسَ الأستاذُ الحديثَ الذي جرى بينَهُ وبينَ "رامي"، فما لَفَتَ انْتِبَاهَهُ منه إِلَّا وَفْرَةُ اطِّلَاعِهِ وَقُوَّةُ تَدْلِيلِهِ المنطقيِّ. ولقد ملأ سمعَ الأستاذِ قَوْلُهُ:
"كلا يا سيدي، أنت لا تعلمُ منزلتَكَ من نفوسِنا، ولا الشعورَ الذي يتملكُنا حينَ نستوعبُ مؤلفاتِكَ. إنك أنت الذي تتقبلُ الحقيقةَ كاملةً. فيجبُ علينا نحنُ الشبابَ أَنْ نؤمنَ بآرائِكَ. أرأيتَ حَدِيثَكَ عَنِ "الْحُبِّ" في كتابِكَ "نظريةِ الْحُبِّ" كيفَ أصبحَ قبلةَ تفكيرِنا وأمسى كعبةَ آمالنا! وانظر إلى كُتُبِكَ اللُّغَوِيَّةِ الرائعةِ المفيدةِ "الْحُلْمِ الْمُنْتَظَرِ" و"عَصَيرِ النَّحْوِ" و"فَلْسَفَةِ اللُّغَةِ" لقد أَبَنْتَ فيها عن أصولِ اللغةِ وفلسفتِها وأظهرتَهَا في أحسنِ صورةٍ بِسَعَةِ اطِّلاعِكَ وجمالِ أُسْلُوبِكَ، وَأَضِفْ إلى ذلك الدِّقَّةَ المتناهيةَ التي يَلْحَظُهَا كُلُّ قارئٍ، والسببُ وراءَ ذلك هو دراستُكَ الرياضياتِ! فأنت من هؤلاءِ الأفذاذِ الموسوعيين الذين أتقنوا مجموعةً من العلوم وَأَلَّفُوا فيها!
إنهم في كُلِّيَّتِنَا يمنعوننا قراءةَ كتابِكَ "تشريحِ الرُّوحِ". ولكنني أحرصُ عليه حِرصِي على تُحْفَةٍ ثمينةٍ وأَقْرَؤُه أنا وبعضُ أصدقاني لِنَنْهَلَ من فَيْضِ علمِكَ الغزيرِ.
ومهما يكن من إخلاص الأستاذِ فليسَ مِنْ شَكٍّ في أَنَّ تقديسَ طائفةٍ من الطلبةِ لآرائِهِ العلميةِ ذلك التقديسَ الذي عَبَّرَ عنه واحدٌ منهم أصدقَ تعبيرٍ -قد داعبَ كِبْرِيَاءَهُ!
والتمس "رامي" شرف الزيارة مرة أخرى وصارح الأستاذ بما اعتزم من مشروعات، وسأله الأستاذ على غير مألوف عادته عن حياته الخاصَّةِ، فَعَلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ ابنُ مهندسٍ مات ولم يتركْ ثروة. فَرَبَّتْهُ أُمُّهُ وَبَذَلَتْ كَثِيرًا مِنَ التضحيات. وقال "رامي" لأستاذه: "لن أرضى أَنْ أَكُونَ حِمْلًا على والدتي، فلقد نَوَيْتُ أَنْ أَحْصُلَ على درجةِ الماجستيرِ ثُمَّ الدكتوراهِ، فإذا نَجَحْتُ في الْحُصُولِ عَلَيْهِمَا طَلَبْتُ مَنْصِبًا لتدريسِ الفلسفةِ في إحدى الجامعاتِ، وَسَأَهْتَمُّ بوضعِ كتابٍ عن "ازدواج الشخصية" قد أطلعتك على جُزْءٍ منه. ولقد فَرِحَ الشَّابُّ حينَ أَخَذَ يَرْسُمُ بَرْنَامَجَ حياتِهِ المقبلةِ!
ولقد جاءَت هاتانِ الزيارتانِ في شهر ينايرَ مِنْ عامِ 2018 م، فلما أقبل شهر أغسطس من عام 2018 م كان الأستاذ قد تلقى خمسَ رسائلَ إلكترونيةٍ على بريده "إيميله" من تلميذه الشاب. أخبره في رسالةٍ منها أَنَّهُ التحقَ بوظيفةِ مدرسٍ في أسرة من أسر النبلاء (أسرة عبد الرحمن وعمرو) تسكنُ في فيلا فخمة لا تختلف عن القصر إلا في الاسم فقط! لها حديقة واسعة غناء! ومحاطةٍ بأسوارٍ عاليةٍ وحراساتٍ مشددةٍ!
وعلى الرغم مِنِ انشغالِ الأستاذِ بإصلاحِ مقالٍ "للمجلة اللُّغَوِيَّةِ" وآخَرَ للمجلةِ "الفلسفيةِ" إِنَّهُ جَدَّ في البحث عن الرسائل التي وردت إليه من ذلك الشابِّ؛ لِأَنَّ بريدَهُ مَمْلُوءٌ بالرسائل! فمن الصعب أن يبحثَ في كُلِّ تلكَ الرسائلِ!
قَرَأَ الأستاذُ رسائلَ "رامي" مَرَّاتٍ! فما رأى إلا تَأَمُّلاتٍ عقليةً وبضعةَ أسئلةٍ عن الكتب الجديرة بالمطالعة! فما عسى أن تكونَ الْعَلَاقَةُ بين هذا والقضيةِ الجنائيةِ التي تتحدثُ عنها تلكَ الوالدةُ؟
وما مِنْ شَكٍّ في أَنَّ ذلكَ الفتى قد استرعى نَظَرَ الأستاذ، وآيةُ ذَلِكَ أَنَّ اللُّغْزَ الكامنَ في الدعوةِ الموجهةِ إليه للحضور إلى المحكمة والسر المنطوي تحت كلمة الأم التي باتَتْ فريسةً لليأسِ قد أسلماه للاضطراب فتجافى جَنْبُهُ عن الْمَضْجَعِ، وقضى شطرًا من ليله يَقِظًا يقلبُ وجوهَ الرَّأيِ ويفكرُ!
فلما أقبلتِ الساعةُ الواحدةُ بعدَ الظُّهْرِ مَرَّ مسرعًا بحارسِ البيتِ "عم كرم" من دونِ أَنْ يُلْقِيَ التحيةَ المعتادةَ! وكانت دلائلُ القلقِ باديةً على وجهه وهو الهادئُ الساكنُ! فاسترعى ذلك نظر الحارس. كما استرعته ورقة الدعوة إلى الحضور فتحدث الحارس إلى زوجته وأفضى بالأمر إلى أهل الحيِّ جميعًا!
قال إمامُ المسجدِ لزوجتِهِ وهو يحاورها: إن الفضول لا يدفعني إلى التَّجَسُّسِ على شئون الآخرين، ولكنني أود أن أعرفَ ماذا تريد العدالة من الأستاذِ المسكينِ الذي يَهْبِطُ في تلكَ الساعةِ على غير مألوف عادته فيضربُ في الأرض على غيرِ هُدًى ويهيمُ على وجهه في الطرقات!
وقالَتْ فتاةٌ لأمها وهي جالسةٌ إلى صندوقِ الحسابِ في دُكَّانِ البقالة: يا عَجَبِي للأستاذِ! كيفَ غَيَّرَ موعدَ رِيَاضَتِهِ (مَشْيِهِ)؟ أكبر الظَّنِّ أنه ذاهب للحضور في قضية ميراث!
وقال طالب لصاحبه: ما أرى العدالةَ إلا مرهقةً الأستاذَ من أَمْرِهِ عُسْرًا. تَرَاهُ فَتَحْسَبُهُ عَفًّا لا يتعلقُ بذيله غُبَارٌ، فإذا به غارقٌ في الدَّنَسِ إلى أُذُنَيْهِ! وكلهم من هذا الطِّرازِ البغيضِ!
وقالت زوجةُ أستاذٍ في الجامعةِ الأمريكيةِ لزوجِها: حَقًّا لقد تضاعفَ جَفَاءُ خَلْقِهِ، أَفَلَا يُقْرِئُنَا السلام! ولقد ترامى إِليَّ أنَّهُمْ سَيُقَدِّمُونَهُ للمحاكمةِ من أجل كتبه، وإنهم لفاعلون خيرًا!
وكذلك استرعى الأستاذُ أنظارَ أَهْلِ الحيِّ جميعًا. ولو قُدِّرَ له أن يُدْرِكَ ذاكَ الفضولَ لَعُنِيَ به كما يُعْنَى بمجلدٍ يضمُّ بين دَفَّتَيْهِ خلاصةَ الفلسفةِ واللغةِ والرياضياتِ! ولكنه جَهِلَهُ فَمَضَى في طريقِهِ لا يَهْتَمُّ بِشَيْءٍ!
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.