Horof

Share to Social Media

وما لبث الأستاذُ حينَ غادرَ غرفةَ التحقيقِ أن تبينَ الوقتَ ثم قال في نفسه: لقد وافتِ الساعةُ الثانيةَ والربعَ. ولن أبلغَ البيتَ حتى تكونَ الثالثةُ. وستحضرُ أم "رامي" لدى الرابعة فلا سبيلَ إلى العمل! فما أَشَدَّ ذلك على نفسي! وما أَعْظَمَهُ أَلَمًا لقلبي! فآثر اختيارَ تلك الساعةِ فترة لِلْمَشْيِ والرياضة!
وظل وهو يتريض يناجي نفسه: "لَعَمْرِي ماذا صَنَعْتُ حتى يُقْحَمَ اسمي في تلك الجناية! وما عسى أن تكون جدوى شهادتي في التحقيق؟". وما كان يداخلُ الرجلَ شَكٌّ في أَنَّ نظرياتِهِ عن الجريمةِ وعن المسئوليةِ الجنائية قد تُصْبِحُ بين يَدَيِ المحامي البارعِ وفي فمِ المدافعِ الماهرِ سلاحًا ماضيًا ضدَّ رامي!
ثم استرسلَ في تلك المناجاة: أَفَمِنْ أَجْلِ تلك الأسئلة الْغَثَّةِ التافهةِ التي أمطرني قاضي التحقيق بوابلٍ منها يُزْعِجُونَ خَلْوَتِي ويقطعون عَلَيَّ سبيلَ العملِ!
حَقًّا إنهم لَقَوْمٌ لا يُحِيطُونَ بشيء من حياة الرجل العامل. وَكُلِّي رجاءٌ أَلَّا أُكْرَهَ عَلَى الذَّهَابِ إلى المحكمةِ مَرَّةً أخرى لينهالَ على رأسي سَيْلٌ من تلكَ الأسئلةِ التي أَرَانِي قاضي التحقيقِ بعضَ ألوانِها. وتمثلَ لناظرِهِ شَبَحُ الذَّهَابِ إلى محكمةِ الجناياتِ وشهودُ المحاكمةِ الجنائيةِ ففاضتْ نَفْسُهُ بالألمِ. فهو رجلٌ يسكنُ إلى الْوَحْدَةِ وَيُؤْثِرُهَا على ضجيج العالم! وَيُلْقِي بِنَفْسِهِ في أحضانِ الْعُزْلَةِ! فَهُوَ رَجُلُ فِكْرٍ ولا يُحِبُّ أَنْ يزعجَ خَلْوَتَهُ شيءٌ في الوجودِ!
ومضى الأستاذُ يناجي نَفْسَهُ: وكيفَ السبيلُ إلى الخلاصِ وفي الأمرِ مِسَاسٌ بمؤلفاتي وآرائي! ما أعظمَ الحقدَ الذي تنطوي عليه صدورُ الجهلاءِ للمناهجِ التي لا يستطيعون فَهْمَهَا! حَقًّا إنَّ الإنسانَ عدوٌّ طبيعيٌّ لكلِّ ما جَهِلَ! هذا شاب تتأججُ نيرانُ الْغَيْرَةِ في صدرِهِ فَيُجْهِزُ على الفتاةِ التي شَغَفَتْهُ حُبًّا؛ لِأَنَّهُ لا يستطيعُ الوصولَ إليها!
وكان هذا الشابُّ يراسلُ الأستاذَ وَيَدْرُسُ كُتُبَهُ... فالأستاذُ هو المجرمُ وهو الذي يتحملُ تَبِعَةَ الجريمةِ!
وَأَقْبَلَ الأستاذُ على البيتِ فجاءته "أم رامي" تسعى قائلةً:
- أنا التي كتبت إليك أَمْسِ يا سيدي.
- فأجابها الأستاذ: لي عظيم الشرف يا سيدتي، وإني لَيُؤْسِفُنِي أني تأخرتُ في الحضور؛ لِأَنِّي اسْتُدْعِيتُ للإدلاءِ بِشَهَادَتِي في شأنِ ذلكِ الابنِ التَّعِسِ.
وكانت أنفاسُ الأمِّ الضعيفةُ الخافتةُ تدلُّ على ضعفِها وإعيائِها فأخذته بها شفقةٌ ورحمةٌ، وهو الأستاذُ الذي لا تجدُ أحداثُ العالمِ سبيلًا إلى قلبِهِ!
وقد رأى الأستاذُ الأمَّ المسكينةَ وَجْهًا لِوَجْهٍ فما رَاعَهُ إِلَّا أَنْ يشهدَ الغضونَ المرتسمةَ في زوايا فَمِهَا وَعَلَى جَانِبَيْ أَنْفِهَا والشَّفَتَيْنِ الجافَّتَيْنِ مِنْ حرارةِ الْحُمَّى والحاجبينِ المنقبضينِ والجفونَ المتقرحةَ واليدينِ المرتعشتينِ تَحْمِلانِ أوراقًا ظَنَّ الأستاذُ أنها خَاصَّةٌ بِمَوْقِفِ المتهمِ ثم هَوَتِ الْأُمُّ على الكرسيِّ وقالتْ بصوتٍ يملؤُهُ الحزنُ واليأسُ:
- يا إلهي! يا إلهي! لقد أَقْبَلْتُ إذن متخلفةً... لقد كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ أَتَحَدَّثَ إليك يا سيدي قبل حديثك مع القاضي... وَمَعَ ذلك فَإِنِّي لا أشكُّ في أنك قد توليتَ الدفاعَ عنه فَقُلْتَ: إِنَّ ذلك لا يستسيغُهُ عقلٌ، وإنه لَمْ يرتكبِ الجريمةَ التي يتهمونَهُ بها! إنك لا تعتقدُ إجرامه يا سيدي، أنت الذي كان يدعوك أستاذه وَيُحِبُّكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِهِ!
- فقال الأستاذ: ما كان لي أَنْ أُدَافِعَ عنه يا سيدتي، فلقد سألوني ماذا كانت علاقاته بي، وبما أني لَمْ أَرَهُ إلا مرتينِ... وبما أنه لَمْ يُحَدِّثْنِي إِلَّا عن دراساته...
- فقاطعتِ الْأُمُّ (وقد طارت نفسُها): آهٍ... لقد قَدِمْتُ متأخرةً... ولكنك يا سيدي سَتُدْلِي بِشَهَادَتِكَ أَمَامَ محكمةِ الجناياتِ... فَتُنَادِي بأنه ليسَ بمجرمٍ، ولا يمكنُ أن يكونَ مجرمًا... فليس يَصِحُّ في الأذهانِ أَنْ يُصْبِحَ الإنسانُ مجرمًا بينَ عَشِيَّةٍ وَضُحَاهَا... فنزعةُ الإجرامِ تتجلى في نفسِ المجرمِ طَوالَ فترةِ الشبابِ، وأولئك قومٌ يَجْنَحُونَ إلى الشر وينزعون إلى التَّـبَطُّلِ وينهمكون في الميسر ويتسكعون في الطرقات ويقتلون الوقت قعودًا في مشارب القهوات... فأما هو فمنذ نعومة أظفاره... كان مع أبيه المسكين مُكِبًّا على الكتبِ في كُلِّ حينٍ... وكنت أنا التي أقول له: "هيا يا رامي، اخرجْ... ينبغي لك أَنْ تخرجَ لتبديلِ الهواءِ والترويحِ عن نفسِكَ".
آهٍ... لو تصورتَ الحياةَ الهادئةَ الناعمةَ التي كنا نحياها معًا، هو وأنا... قبلَ أَنْ يغشى تلكَ الأسرةَ اللعينةَ! وما التحق بها إِلَّا لِيُخَفِّفَ الْعِبْءَ عن كاهلي ويستطيعَ إتمام دراسته... فقد كان يُخَطِّطُ للحصولِ على الماجستيرِ ثم الدكتوراهِ ثم يتخذُ له مكانًا للتدريس في إحدى الجامعات!
وَكُنْتُ أبتغي له زوجةً صالحةً... وأكبر همي أن أرعى أبناءه. فقل لي بربك أيجوزُ في عقلِ عاقلٍ أَنَّ وَلَدًا نَبَتَ في مثلِ تلكَ البيئةِ ونما وترعرعَ وَسْطَ تلكَ الأفكارِ والآراءِ... يُقْدِمُ على ما يُسْنِدُونَهُ إليه؟ والله إن هذا لعارٌ!
- فما زاد الأستاذ على أن قال لها: "هَدِّئِي رَوْعَكِ يا سيدتي... هَدِّئِي رَوْعَكِ!".
وكانت هذه هي العبارة الوحيدة التي عَرَفَ أَنْ يجيبَ بها أُمًّا وَقَفَتْ أمامه ونفسُها تكادُ تذهبُ حسراتٍ. فتولول بعباراتٍ تمزقُ القلوبَ حينَ تشهدُ أعزَّ آمالِ قلبِها تضيعُ وأغلى أماني نفسِها تنهارُ! ومن ناحيةٍ أخرى فقد كان لا يزالُ تحتَ سلطانِ التأثرِ الذي تركه القاضي في نفسِهِ. فَتَرَاءَتْ له الأمُّ وَقَدْ ضَلَّتْ ضلالًا بعيدًا وأصبحتْ فريسةً للأوهامِ العمياءِ!
فاستقرَّ في ذهنِ الْأُمِّ أَنَّ الأستاذَ لا يؤمنُ ببراءةِ ابنها، فأشارت إشارة اليأس! وَذَهَبَتْ بَعِيدًا عنه خائفةً فَزِعَةً، وصاحتْ في حُزْنٍ وَأَلَمٍ: كيفَ! وأنتَ أيضًا يا سيدي! أتنحازُ إلى جانبِ خُصُومِهِ!
- فأجاب الأستاذ في هوادة ورفق: كَلَّا، لَسْتُ خَصْمًا يا سيدتي، وَأَحَبُّ شَيْءٍ إِلَيَّ هُوَ أَنْ أَعْتَقِدَ مَا تَعْتَقِدِينَ. لَكِنْ أَتَأْذَنِينَ لِي فِي أَنْ أَكُونَ معكِ صريحًا غايةَ الصراحةِ؟ الوقائعُ هي الوقائعُ. وَإِنَّ وَطْأَتَهَا لَشَدِيدَةٌ على ابْنِكِ البائسِ. فَشِرَاءُ الْمُهَدِّئِ! وإلقاءُ الزجاجةِ من النافذةِ! والخروجُ مِنْ غرفةِ (فاتنَ) ليلةَ الوفاةِ مرتينِ! والرسالةُ الإلكترونيةُ الزائفةُ! والرحيلُ قبلَ اكتشافِ الْجُثَّةِ! وأضيفي إلى هذا كُلِّهِ: الخطاباتِ التي أُلْقِيَتْ طعامًا للنيرانِ! والتحصنَ خَلْفَ الإنكارِ!
- فقاطعته الأمُّ قائلةً: ليس في ذلك كله أَيُّ دليلٍ يا سيدي... فأما عن سَفَرِهِ المفاجئِ فتعليلُهُ أنه كان ينوي تركَ هذا العمل في تلك الفيلا منذ شهرٍ أو يزيد؛ لِأَنِّي مريضةٌ وهو يريدُ أن يكونَ بجواري! وتحتَ يدي رسائلُهُ التي تُنْبِئُ عن ذلك العزم، وهذا كل ما في الأمر!
وأما عن مغادرته غرفتها ليلًا، فمن الذي شاهده؟ أشاهدته الخادمة أم مريم؟ وإذا كان! فقد اشترى ضميرَها القاتلُ الحقيقيُّ لِيَتَّهِمَ ابني وَيَدْرَأَ عَنْ نَفْسِهِ عِبْءَ الاتهامِ! وَهَلْ أَنَا أَعْلَمُ بِدَخَائِلِ تِلْكَ الْفَتَاةِ (فاتن)؟ وَبِمَنْ عَسَى أَنْ يكونَ له صالحٌ في قَتْلِهَا؟
فَأَمَّا أمرُ المهدئِ والزجاجةِ الملقاةِ والخطاباتِ المحترقةِ فما هي إِلَّا ذيولُ خُطَّةٍ مُدَبَّرَةٍ؟ أُرِيدَ بها إلقاءُ الشبهاتِ عليه!
فأما كيف؟ ولماذا؟ فالأيامُ كفيلةٌ بتمزيقِ القناعِ عَنْ وَجْهِ الحقيقةِ!
فأما ما أعلمه على الحقيقة فبراءةُ وَلَدِي من الجريمةِ! وأقسمُ غيرَ حانثةٍ بذكرى والدِهِ الراحلِ أنه بَرِيْءٌ... أَوَتَعْتَقِدُ أني كنت أَدْرَأُ عنه الشبهاتِ بمثلِ تلك الحرارةِ لو شعرت بأنه مجرمٌ؟ أَمَا واللهِ لو اعتقدتُ إجرامَهُ لكان قُصَارَايَ التوسلَ والاسترحامَ، لا أَنْ أُرْسِلَ بالصيحةِ الشديدةِ: العدلَ! العدلَ!
لا، لا، لم يكن من حَقِّ هؤلاءِ القومِ أَنْ يتهموه، وَأَنْ يُلْقُوا به في غيابةِ السِّجْنِ وَأَنْ يُلَوِّثُوا سمعتَنا. فقد أوضحتُ لك يا سيدي أَنَّ القضيةَ خاليةٌ من كُلِّ دليلٍ.
- فقالَ الأستاذُ (وهو يَحْسَبُ بينَهُ وبينَ نَفْسِهِ أَنَّ المرأةَ المسكينةَ لَمْ تُوَضِّحْ لَهُ شيئًا! اللهمَّ إلَّا ثورتَها الصاخبةَ في وجهِ الْمُسَلَّمَاتِ): إذا كان بريئًا فَلِمَ الإصرارُ على التزامِ الصمتِ؟
- فصاحتْ أُمُّ رامي: لو صَحَّ أنه مجرمٌ لتكلمَ وأطالَ الكلامَ، ودافعَ وأسهبَ في الدفاعِ وَعَمَدَ إلى الأكاذيبِ يُسْرِفُ فيها ولا يقتصدُ، بل لَأَغْرَقَ المحققينَ في طوفانٍ من المفترياتِ... فلا بُدَّ إذن أَنْ يكونَ في الأمر سِرٌّ! وإني لَعَلَى ثقةٍ أنه يعلمُ شيئًا لا يودُّ أَنْ يبوحَ بِهِ وَلَدَيْهِ ما يفسرُ صمتَهُ، وأكبرُ الظَّنِّ أَنَّهُ يُحْجِمُ عن تلويثِ سُمْعةِ تلكَ الفتاةِ التي يزعمونَ أَنَّهُ كَانَ يَتَعَشَّقُهَا. فإذا كنتُ يا سيدي قَدْ وَدِدْتُ أَنْ أراكَ بِأَيِّ ثَمَنٍ فإنما ساقتني الرغبةُ في التماسِ الْعَوْنِ منكَ. فَلَنْ يستطيعَ سِوَاكَ أَنْ يَحُلَّ عُقْدَةَ لِسَانِهِ، وَيَحْمِلَهُ على الدفاعِ عن نَفْسِهِ، والإفضاءِ بالحقيقةِ كاملةً! وأرجو أَنْ تَعِدَنِي بأنكَ ستكتبُ إليه، وستذهبُ إلى هناك! فذلك دَيْنٌ لي في عُنُقِكَ!
عِدْنِي أن تَحُلَّ عقدةَ لسانِهِ ليتكلمَ من أجلي ومن أجلِ أولئكَ الذين يحبونه، بل من أجلكَ يا سيدي أيضًا. فَلَيْسَ يَصِحُّ في الأذهانِ أَنْ يكونَ أَحَدُ تلاميذِكَ قاتلًا. فما مِنْ شَكٍّ في أنه تلميذُكَ وأنكَ أستاذُهُ. فهو مَدِينٌ لك بالدفاعِ عن نَفْسِهِ كما هو مَدِينٌ لي أَنَا أُمُّهُ!
- فقال الأستاذُ بلهجةٍ فِيهَا الْجِدُّ: إني أَعِدُكِ يا سيدتي أَنْ أَفْعَلَ كُلَّ ما في وُسْعِي أَنْ أفْعَلَهُ.
فَتَرَاءَتْ له في المرةِ الثانيةِ في اليومِ ذاتِهِ مسئوليةُ الأستاذِ تُجَاهَ تلميذِهِ. نَعَمْ، لقد لَمَحَ تلكَ المسئوليةَ بارزةً من خلالِ أقوالِ قاضي التحقيقِ ثم لَمَسَهَا بِيَدِهِ في عِبَارَاتِ أُمِّ "رامي".
- ثم قالت (وهي تُكَفْكِفُ دُمُوعَهَا): لقد قال لي: إنك طيبُ القلبِ، وَلَقَدْ جِئْتُ لِأُؤَدِّيَ رسالةً عَهِدَ بها إليَّ ذلكَ الولدُ التَّعِسُ، فَعَسَى أَنْ تجدَ بينَ ثناياها دليلًا جديدًا على بَرَاءَتِهِ (فلقد لَبِثَ في السِّجْنِ شَهْرَيْنِ وَضَعَ خلالَهما بَحْثًا مُسْتَفِيضًا في الفلسفةِ، وقد كلفني بتقديمِهِ إليك)!
ثم قَدَّمَتْ للأستاذِ الأوراقَ التي مَعَهَا وقالتْ له: ما زالتِ الأوراقُ على الحالةِ التي أعطاني إياها. فَهُمْ يَدَعُونَهُ يَكْتُبُ كيفَ يشاءُ؛ لِأَنَّهُمْ جميعًا يُحِبُّونَهُ، ولقد سَمَحُوا لي بمخاطبته مِنْ دونِ وجودِ الحارسِ، فأراهُ الآنَ في غرفةِ المحامين، وَمَنْ ذَا الذي يَعْرِفُهُ ثُمَّ لا يُحِبُّهُ؟ لقد كان يَصْدُقُنِي القولَ دومًا. وإذا كانَ قَدِ اخْتَارَ أَنْ يَخُصَّكَ بالكتابةِ فما ذاك إِلَّا لِأَنَّهُ يريدُ أَنْ يُفْضِيَ بالحقيقةِ إليكَ وَحْدَكَ!
- فقال الأستاذُ وهو يَفُضُّ غِلافَ الأوراقِ: سأرى ذلك في الحالِ.
ثم ألقى نظرةً على الصفحةِ الأولى من الأوراقِ. فاستطاعَ أن يقرأَ فيها الكلماتِ الآتيةَ: "علمُ النَّفْسِ الحديثُ" وقرأ في الورقةِ الثانيةِ عنوانًا آخَرَ: "مذكرةٌ عَنْ نَفْسِي" وتحتَ هذا الْعُنْوَانِ السطورُ الآتيةُ:
"أرجو من أستاذي العزيزِ أَنْ يَتَعَهَّدَ لي أَنْ يَحْتَفِظَ لنفسِهِ بالصفحاتِ الآتيةِ. فإذا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَأْخُذَ على نفسِهِ هذا العهدَ لِتِلْمِيذِهِ التَّعِسِ. فإني أطلبُ إليه أَنْ يَحْرِقَهَا. وإني لَعَلَى ثِقَةٍ أَنَّهُ لا يُسَلِّمُ تلك المذكراتِ لكائنٍ مَنْ كانَ، ولو كان في تسليمِها إنقاذُ رَأْسِي" وَقَدْ وَقَّعَ رامي الرِّسَالَةَ بِأَحْرُفِ اسمِهِ الأولى!
وبينما يتصفحُ الأستاذُ أوراقَ الكراسةِ وهو في أقسى حالاتِ الاضطرابِ والقلقِ إِذْ سألته الْأُمُّ: ماذا رأيتَ؟
- فأجابها وقد طوى الأوراقَ وَبَسَطَ أمامَ عَيْنَيْهَا الصَّفْحَةَ الأولى: ليس هذا إِلَّا بَحْثًا فَلْسَفِيًّا مَحْضًا كما أَخْبَرَكِ. فانظري!
وبينما كانتِ الْأُمُّ تنظرُ في الصِّيَغِ الفنيةِ التي يقصرُ إدراكُهَا عن تفهمِ مراميها طافَ بِفَمِهَا سؤالٌ حائرٌ، وانطبعتْ على عينيها مظاهرُ عَدَمِ التَّصْدِيقِ؛ إذ شَهِدَتِ الأستاذَ حيرانَ مترددًا على أنها لَمْ تَجْتَرِئْ على السؤالِ فَنَهَضَتْ، وهي تقولُ:
- معذرةً يا سيدي إذا كنتُ قد أَطَلْتُ الْمُكْثَ لديكَ، فلقد وضعتُ فيك آمالي، وما أنتَ مِمَّنْ يَخْدَعُ قلبَ أُمٍّ! وإني لَأُسَجِّلُ عليكَ وَعْدَكَ!
- فأجابها قائلًا: سأفعلُ يا سيدتي كُلَّ ما في طاقتي حتى تتجلى الحقيقةُ، وإني لَأَعِدُكِ مَرَّةً أخرى.
فلما شَيَّعَهَا إلى البابِ ووجدَ نَفْسَهُ في المكتبِ وَحِيدًا غَرِقَ في بِحَارِ التأملاتِ. ثم تناولَ النسخةَ الخطيةَ التي أَلْقَتْ بِهَا إِلَيْهِ "أُمُّ رامي" فقرأ العبارةَ التي خَطَّهَا "رامي" بيدِهِ، وكلما نازعَتْهُ نَفْسُهُ إلى مطالعةِ الأوراقِ دَفَعَهَا بِيَدِهِ.
وأخذَ يمشي في غرفةِ مكتبِهِ جِيئَةً وَذَهَابًا ولقد أمسك بالأوراق مرتين واقتربَ من النارِ وَهَمَّ بإلقائها فيها على أنه كان في كلِّ مَرَّةٍ يُحْجِمُ عن أَنْ يَجْعَلَهَا طعامًا لِلَّهَبِ!
وكان رأسه مثارًا لمعركةٍ مشبوبةِ النيرانِ، وظلت تتنازعُهُ عواملُ متباينةٌ بينَ أَنْ يستسلمَ لتلكَ الرغبةِ الملحةِ في الاطلاعِ على اعترافاتِ تلميذِهِ وبينَ أَنْ يتفادى المخاوفَ التي تساورُهُ!
وفي الْحَقِّ فإنَّ العهدَ الذي يأخذُ نفسَهُ بِهِ مضافًا إلى ما يمكنُ أن يَتَبَيَّنَهُ من تلك الأوراق قد يقذِفُ به في مَأْزِقٍ حَرِجٍ! أَفَيُطَاوِعُهُ ضَمِيرُهُ أَنْ يكونَ بِيَدِهِ الدليلُ على براءةِ الشَّابِّ "رامي" تلميذِهِ ثم لا يستطيعُ تقديمَهُ؟ وماذا يكون موقفُهُ إذا كانت تلك الأوراق تحملُ الدليلَ على إدانتِهِ؟
وَخَشِيَ أَنْ يجدَ فيها (إِنْ صحَّ أنَّ في الأمرِ جريمةً) مظهرًا لتأثيرِهِ، ومصداقًا للاتهامِ القائلِ: إِنَّ كُتُبَهُ قد كان لها دورٌ مُهِمٌّ في تلك الجريمةِ المروعةِ! ورأى أنه لا يَجْمُلُ به التورطُ في تلك المأساةِ! فقال في نفسه: "كلا، لَنْ أَقْرَأَ تلكَ الأوراقَ، وسأكتبُ إلى ذلك الفتى كما وَعَدْتُ والدتَهُ، ثم ينقضي الأمرُ!".
ثم أقبلت ساعةُ عَشَائِهِ فجلسَ إلى المائدةِ وحيدًا على مألوفِ عادتِهِ، وَأَكَل مَا أَعَدَّتْهُ لَهُ خَادِمَتُهُ أُمُّ عَبَّاسٍ. فلمَّا فَرَغَ مِنْ تَنَاوُلِ العَشَاءِ جلسَ على مَقْعَدِهِ وأمامَهُ أوراقُ "رامي" وَبَقِيَ مُتَرَدِّدًا... ثم تَغَلَّبَتْ طبيعةُ الفيلسوفِ على أحكامِ الضميرِ، فأقبلَ على الأوراقِ يَقْرَؤُهَا حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ!

0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.