Horof

Share to Social Media

فاطمة

أثناء السير في تلك الأرض الترابية اللانهائية، لمحتْ ثمرة جميزة طافية على سطح مياه الترعة الممتدة على طول الطريق، كانت الأرض زلقة مبللة بمياه الأمطار الغزيرة التي زخت في الليلة الماضية. مدت يدها في محاولة مستميتة منها للإمساك بها فقد كان الجوع قد بلغ منتهاه بعد وقت طويل من السير بلا طعام، فانزلقت وكادت المياه أن تجرفها هي وأختها بعيدا، فقد سارعت أختها للأخذ بيدها كي لا تنزلق فانزلقتا سويا، لولا إن أحد السائرين معهم نزل إلى الترعة وأنقذ الاثنتين.
كان الطابور طويلا يتنقل من جحيم إلى جحيم، رجال ونساء، عجائز وشباب، وأطفال من كل سن، كان الركب يسير من قرية إلى أخرى، يحملون على أكتافهم "صُرر" مختلفة الأشكال والأحجام، محملة بما خف من المتاع، ملابسهم القليلة وبعضاً من الفرش المنزلي، إلى جانب حٌصر متشابهة الأشكال والألوان.
ملابسهم لا تكاد تفرق ألوانها عن لون التراب السائرين عليه، صحيح إنها ليست مهلهلة ولكنها أقرب للبلى منها إلى الهلهلة، جلابيب طويلة تصل إلى الأرض يرفعونها كلما تخطوا مكاناً موحلاً أو أرادوا رفع حمل من على الأرض، النسوة يضعن غطاء للشعر كان المفترض إنه أسود ولكن حال التراب والزمن لونه إلى الرمادي، المصنوع من أقمشة رديئة الصنع من الشيفون تتدلى خلف ظهورهن، يرفعنها من حين إلى آخر حينما تنزلق عن شعورهن، حتى ملابسهن سوداء وكأنما هي تعبيراً عن سواد الأيام التي يعشنها والمعاناة التي يعانينها.
البعض يرتدي في قدميه "البُلغة" والبعض الآخر حفاة، تكلست أقدامهم من كثرة السير على الأتربة، واصطدامها بالصخور والحصى والأحجار، تصلبت فلم تعد تبالى بالحسك الناتئ في الأرض أو ببراز الكلاب المنثور في كل مكان، فقد كانت هناك مسيرة من الكلاب والماشية أخري بينهم، ترحل أينما يرحلون، وتحط أينما يحطون، حتى جثث المتساقطين منهم كانوا لا يعبؤون من الدوس عليها والمسير.
وكم مات منهم في الطريق العشرات، إما تعباً أو إرهاقاً أوجوعاً، يحفرون حفرة في أي مكان بالجوار، يلقون فيها بالميت في سلام، ويهيلون عليه التراب، ويمضون من قرية إلى قرية، في محاولة للوصول، إلى محطة قطار، لا يدرون أين أو متى سيتم الوصول إليها!
كان القصف على أشده، يحاصرهم من كل اتجاه، دوي أصوات القنابل يصم الآذان ويصيب بالصمم، أزيز الطائرات لا يهدأ ليلاً أو نهاراً، جحيم لا ينتهي، ونيراناً مشتعلة في كل مكان، هُدمت الكثير من البيوت، ومات الكثيرون بلا ذنب ولا جريرة ارتكبوها، تلك القرية الوادعة الآمن أهلها تحولت إلى كومة من الرماد تحت قصف المدافع وإرضاء لحماة الديار المتعطشين للحرب والدمار، حرب لم تبق ولم تزر.
جلست فاطمة وتحلق حولها أولادها السبع لتناول بعض الطعام، قطعة من الجبن القديمة (المش) وبضع كسرات من الخبز الجاف، كانت تحتفظ بهم طوال مسيرتها الشاقة، مع بعض نباتات الفول الأخضر الحراتي وبعض الأعشاب الخضراء كالسريس والجعديد مما تم جمعه أثناء المسير بين الحقول، التي دمرت زراعتها عن آخرها ومات الزرع وجف الضرع.
كانت أغلب المواشي قد نفقت من الجوع والعطش، وما تبقى منها واصل مسيرة العذاب مع الجموع.
كانوا ينتقون الخرائب على طول الطريق، لتفادي قيظ الشمس عند الظهيرة، اتقاء للمطر عندما يهطل، للاستراحة أحيانًا، أو لقضاء ليلتهم بها.
تناول الجميع ما تيسر من الطعام وكانت الشمس توشك أن تتركهم قليلاً للراحة، وعند الليل يجن جنون المدافع فتنهال طلقاتها كالسيل يرغي ويزبد، وتحلق الطائرات بمقذوفاتها النارية فتضيئ سماء العتمة تحمل معها صور الموتى محلقين في الهواء، وتثير عواصفها الرعدية موجات من التراب والدخان المتكاثف يشق عباب الكون ويزكم الأنوف، فتقيئ الصدور دماً ورعود.
كانت ألمانيا مُصرة أن تركع العالم كما ركعها سابقاً في حربه الأولى، زادت من إمكاناتها الحربية أضعاف أضعاف ما كانت عليه، وتوافقت الحكومات العميلة بقيادة علي ماهر وحزب الوفد مع محتلينا من الإنجليز للدفع بالجيش لمحاربة الألمان فكان الخراب.
فاطمة هي فلاحة في أواسط العمر تزوجت باكرًا وأنجبت سبع من الأولاد، خمس بنات وولدان، وتوفي زوجها قبل أن تتم ولادة أصغر أولادها أحمد.
وصل الركب أخيراً إلى محطة القطار، مجرد سكك حديدية صدئة ممتدة على طول الطريق، بين ما كان في يوماً ما مزارع، هي لا تعرف مكانها على الخريطة على وجه الدقة، ورغم وجود لافتة باهتة اللون، إلا أن أحداً لا يعرف القراءة أو الكتابة.
الأرض متعرجة ملتوية كالثعبان، تراب متصاعد من كل اتجاه، أعلى لأسفل، شمالاً وجنوبًا، شرقاً وغربًا، يحجب الرؤية بشكل تام، فلا يدرون أهم مدبرون أم مقبلون، ومن أي اتجاه سوف يأتي القطار وإلى أين سوف يمضي.
بعد ساعات طوال من الملل والترقب والإرهاق مرت كأنها الدهر، نام من نام بعد أن هدهم التعب، على القضبان الحديدة وحولها، بدأت طلائع الفجر تهتك ستر الظلمة، ويمحو بياض النهار سواد الليل البهيم، لم يكن هناك عصافير تزقزق، ولا كلاب تنبح، ولا ديكة تؤذن، فقط أشباه بشر مهملين ملقون متناثرون فوق الأتربة ومخلفاتهم بول وبراز أطفال وعجائز، مختلطة بأحلام الرسو على بلدة الراحة والأمان.
رأت فاطمة على البعد جنة خضراء، أشجار بهية الطلة مختلف ألوانها، ونهر فضي تترقرق مياهه تحت أشعة الشمس الذهبية، أطنان من الفاكهة ، أعناب ورمان، سُرر مرفوعة، وزرابي مبثوثة، وطيور محلقة عذبة الصوت وأشكالها تسر الناظرين، رأت فاطمة نفسها تجري وسط الحدائق الغناء، تقفز فتطير وتتأرجح ضفيرتها خلفها، محدثة صوتا يشبه نسيم الريح حين يهب صيفا، ورأت هناك أمها وأبوها مرحين مهللين لقدومها، قدمت لها أمها كأسًا من الذهب الخالص به جرعة ماء، وقدم لها أبوها ثوباً حريرياً ناعم أملس لم يسبق لها أن رأت مثله من قبل، مدت فاطمة يدها لتقطف عنقوداً من العنب تدلى من الكرمة بجوارها، فانزلقت في هوة سحيقة قامت على إثرها منتفضة من فوق التراب تفرك عينيها.
بدأت سحب من الدخان الأسود الكثيف تتجمع عن بُعد، وأصوات قرقعة وزمجرة أصوات عجلات القطار الصدئة وهي تكر إليهم، وزغاريد صافرة عالية متواترة متقطعة الأنفاس تصرخ من بعيد محذرة ومنذرة ومتواصلة تخبر الجميع ها أنا قادم فكأنما لتنبه أشلاء البشر المبعثرة هنا وهناك أن تلملم أطرافها، وتدعو الميتين أن هبوا من رقادكم الطويل فقد آن الأوان.
هب الجميع مفزوعين يبحثون عن بعضهم البعض، يلملمون أطرافهم، أبناؤهم، وأوانيهم الفارغة، وحصرهم الملقاة بإهمال إلى جوارهم، وبعض الصرر التي كادت تفرع.
هم لم يسبق لهم أن شاهدوا قطاراً، ذلك الشيء المجهول الذي طالما سمعوا عنه، أقام له الإنجليز سكة على داير الناحية، بجوار دوار العمدة والمأمور وشيخ البلد، عمرهم لم يروه، فقط سمعوا عنه وسمعوا ألا يركبه إلا الباشوات وأعيان البلد.
أقترب القطار رويدًا رويدًا عندما رأى السائق الجثث أشباه البشر، المتناثرة والمنتشرة على طول الطريق وعرضه وحوله، إذاً هذا هو القطار، حوالي عشر عربات صدئة كالحة اللون، خالية تماماً من المقاعد، تجر بعضها بعضاً عن طريق ملفات بنية اللون مشحمة باللون الأسود، وفي الواجهة تلك العربة التي يسمونها وابور يتصاعد منها دخان كثيف السواد تأز وتصر عجلاتها صريرًا مزعجاً كأزيز جنازير الدبابات، أفزع الكبار والصغار فابتعدوا مسرعين عن مرماه.
برز السائق من الوابور يلوح لهم ليطمئنهم، وبعد أن توقف القطار بشكل تام، أخذ السائق يستفسر عن وجهتهم، وأخبرهم أنه قطار فقط لحمل البضائع وليس الأفراد.
ولكن من كان ينتظر الإجابة أو الشرح؟ هجم الجميع على العربات، بتسارع وحشي دهس فيه القوي الضعيف، ودهس الرجال النساء والأطفال، وقلما تجد من أنقذ أطفاله أو عرف حتى إنهم موجودين، (ويا روح ما بعدك روح)
بحثت فاطمة عن أولادها فوجدتهم يصرخون وينادون عليها، كانت ممسكة أصغرهم: عزيزة وأحمد، وجدت أمينة وجليلة ونعيمة وخديجة متعلقات بسلمة القاطرة المجاورة فطلبت من أحدهم إسعافهن ومد يده وجذبهن إليه، وبعد أن هدأت الأوضاع، سار القطار على مهل نافخاً صافرته الزاعقة المتواصلة النغمات في الهواء كأنما تنفس عن نفسها وجع اللحظة ووهج الانتظار.
انحشروا جميعا كالزكائب التي يحملها القطار مكدسين فوق بعضهم البعض، لا يدركون أين موضع رؤوسهم من أقدامهم، صرخت فاطمة:
- ياجليلة أنتِ هنا؟
- أيوه يامه
- وأخواتك معاكِ؟
- أيوه
- طب جومي اطمني عليهم وطلعي البطانية وغطيهم م البرد
- حاضر يمه
فتحت جليلة الصرة التي كانت قد فرغت من نصف محتوياتها تقريبًا طوال الطريق وأخرجت البطانية المهلهلة التي بلا لون وفردتها على أخوتها، واتكأت على ذراعها في محاولة للنوم.
-جعانة يام
- جربنا نوصل، دلوجت أجوم أدور لك على لجمه مع حد
ولكن غلب النوم الجميع وراحوا في سُبات عميق كالموتى، أو كجثث هامدة أرهقتها الحياة فقررت فجأة المغادرة.

0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.