كان مناخًا غير معتاد، ذلك الذي عرفته الإمارات في ذلك اليوم.
فقد انهمرت الأمطار بغزارة غير عادية وظللت الغيوم سماءها ليلًا ونهارًا؛ لتضفي مظهرًا مقبضًا على ربوع الدولة الخليجية، وهي التي اشتهرت بجوّها الحار وطقسها المشمس الدافئ، وسمائها الصافية معظم شهور السنة.
وامتدت سحابة الغيم بعد توقف الأمطار طوال الليل لتضفي ظلامًا دامسًا على تلك الليلة، لم يخفف من وطأته سوى مصابيح الطرقات حينما غادر العقيد (جابر العامري) أحد أكفأ ضباط الشرطة الجنائية في الإمارات سيارته متجهًا إلى المنزل المطل على ناصية الشارع.
وما كاد يطفئ مصابيح سيارته حتى لاحظ أن الأنوار المنبعثة من داخل المنزل قد أخذت تنطفئ تدريجيًّا؛ ليحل محلها ضوء باهت وضعيف.
لكن ذلك لم يمنعه من التقدم إلى الداخل بخطى ثابتة ليضغط على جرس الباب بشكل متواصل دون أن يجد استجابة؛ مما دعاه لأن يطرق الباب بشدة وهو يصيح بصوت جهوري قائلًا:
- افتح يا (خالد).. أعرف أنك بالداخل.
وصمت برهة قبل أن يعاود القول:
- إذا لم تفتح فسوف أطلق الرصاص على الكالون وأحطمه.
أنا أحذرك، وأنت تعرف أنني أعني ما أقوله، فلا تجعلني أصنع فضيحة في المكان وأضعك أنت ومن معك في موضع مهين وحرج.
وسرعان ما فُتح الباب ليظهر من خلفه شاب يافع، متوسط القامة والبنيان يرتدي تيشيرت أصفر
وشورت قصيرًا، وقد بدا مضطربًا وهو يتطلع إلى الرجل بنظرة وجلة.
بينما أزاحه الأخير جانبًا مندفعًا إلى الداخل وهو يقول:
- أين هي؟ أين تختبئ؟
قال الشاب مرتبكًا وهو يلاحقه:
- لا داعي لذلك يا (جابر)، دعنا نتحدث بتعقل.
لكنه لم يأبه لما قاله، واستمر في اندفاعه إلى الداخل وهو يفتش حجرات الشقة.
وقد عاد الشاب ليقول:
- من فضلك يا (جابر) اسمعني.
قاطعه بخشونة قائلًا:
- أعرف أنها هنا.. لقد حذرتك من قبل.. سأعثر عليها ووقتها ....
ومد يده إلى باب الحمام المغلق محاولًا فتحه.
لكن قبل أن يفعل فُتح الباب فجأة لتبرز من خلفه فتاة حسناء ترتدي ثوبًا ورديًّا أضفى عليها مزيدًا من الفتنة، وقد انسدل شعرها الأسود الفاحم والناعم على كتفيها العاريين ليكسبها جاذبية لا تقاوم.
هزّ الرجل رأسه وهو ينظر إليها شذرًا قائلًا:
- آه.. ها هي صديقتك المغربية تعلن عن نفسها أخيرًا.
لكنها واجهته بنظرة تنم عن التحدي قائلة:
- لست صديقته، بل زوجته.
قال لها بدهشة تنم عن السخرية:
- زوجته!
ونظرت من خلف كتفه إلى الشاب وهي تستطرد قائلة:
- لِما لم تخبره بالحقيقة؟ إلى متى ستبقى خائفًا منه على هذا النحو؟
أطرق الشاب قائلًا:
- لقد.. لقد تزوجتها.
استدار إليه وعيناه تقدحان شررًا وهو يقول:
- ماذا؟ تزوجتها؟!
قال وهو يتجنب النظر إليه:
- زواجًا عرفيًّا.
- وما الذي يثبت لي ذلك؟ أريد دليلًا على ما تقوله.
اندفعت المرأة إلى حجرة مجاورة لتفتح حقيبتها وتخرج منها ورقة الزواج العرفي وتقدمها له قائلة:
- ها هو الدليل الذي تريده.
حدّق الرجل في الورقة وهو يقرؤها بعناية، ثم ما لبث أن مزقها قائلًا:
- حسنًا.. الآن لم يعد يوجد أي دليل على حدوث هذا الزواج.
صرخت في وجهه وهي تنظر إلى الوريقات التي
تناثرت على الأرض، قائلة بانفعال:
- هل أنت مجنون؟ ماذا فعلت؟
تجاهلها قائلًا للشاب:
- لابد أنك لم تكن في وعيك حينما أقدمت على فعل ذلك.
قال له بضعف:
- أنا أحبها يا (جابر).. ليتك تقدر مشاعري و....
قاطعه بصرامة قائلًا بحزم:
- طلقها.
- ماذا؟
- قلت لك طلقها.
نظر إليه متوسلًا:
- لكني أحبها ويصعب عليّ .....
قاطعه مجددًا وقد علا صوته قائلًا:
- افعل ما أقوله لك ولا تدعني أكرره.
تطلعت إليه بتساؤل وهو يبدو مترددًا، قبل أن يشيح بوجهه عنها قائلًا:
- أنت.. أنت طالق.
حدقت في وجهه وقد اغرورقت عيناها بالعبرات قائلة:
- هل تخشاه إلى هذا الحد؟ أين ذهبت إرادتك؟ وأين كل هذا الكلام الذي قلته عن حبك الأبدي واستعدادك لمواجهة العالم بأسره في سبيل الحفاظ على هذا الحب، ووعدك لي بمواجهة أخيك بزواجنا الذي كنت تنوي أن تحوله إلى زواج رسمي بعد شهرين فقط من الآن؟
كل ذلك تبخر في لحظة، وهان عليك أن تطلقني وتتخلى عني بهذه السهولة لمجرد أنه أمرك بفعل ذلك؟
بقي الشاب مطرقًا وقد بدا عاجزًا عن الكلام أو حتى عن النظر إليها.
بينما تحول أخوه إليها قائلًا بغلظة:
- أمامك ثماني وأربعون ساعة لا أكثر، تجمعين فيها حاجياتك وتغادرين الإمارات، وإلا أقسم بالله أن أودعك في السجن بتهمة ممارسة الدعارة، ولا أجعلك ترين الشارع مرة أخرى.
واستدار ليمسك بذراع الشاب وهو يدفعه أمامه قائلًا:
- وأنت هيا معي، فحسابنا لم ينته بعد.
*********
توكأت السيدة العجوز على عصاها وهي تنظر إلى ابنها الأكبر بتمعن قائلة:
- ماذا حدث؟ وما الذي فعله (خالد) هذه المرة؟
قال (جابر) بغضب وهو ينظر إلى والدته بعد أن جلس على مقعده مدخنًا سيجاره:
- تخيلي، لقد كان متزوجًا من تلك الراقصة.
تشبثت بمقبض عصاها بكلتا يديها قائلة:
- أية راقصة؟
- ما بالك يا أمي؟ هل ضعفت ذاكرتك؟ تلك الفتاة
التي تعرف عليها في أحد الملاهي الليلية.
لقد تبين لي هذه الليلة أنه تزوجها منذ أسبوعين واشترى لها شقة بإحدى الضواحي الراقية.
تهالكت السيدة العجوز على المقعد المجاور لها قائلة بانزعاج:
- أية حماقة أقدم عليها هذا المعتوه؟ يتزوج من راقصة تعمل في ملهى ليلي.. ألم يفكر للحظة في اسمه واسم عائلته؟
- لم أكن أظن أن الحماقة يمكن أن تصل به إلى هذا الحد.
تصورت أن الأمر لن يزيد على مجرد علاقة مؤقتة أو نزوة عابرة.. أما أن يصل به الأمر إلى حد الزواج.. وممن؟ من امرأة سيئة السمعة كهذه، فهذا ما لم أتخيله مطلقًا.
وفي تلك اللحظة أتت زوجة (جابر) من الداخل وقد وصل إلى سمعها جزء من الحديث، وقد بدا الغضب واضحًا على ملامحها وهي تحدجه بنظراتها قائلة:
- أهذا ما أثار حنقك على أخيك حقًّا؟ كونه تزوج من تلك الراقصة في الخفاء.. أم لأن تلك الراقصة فضلته عليك؟
انتفض واقفًا وهو ينظر إلى زوجته شذرًا، قائلًا بغضب:
- ما هذا الذي تقولينه يا امرأة؟
واجهته بتحدٍ وبرود قائلة:
- اسمها (فاطيما).. أليس كذلك؟ أليست هي نفس الراقصة المغربية التي سعيت لمصادقتها وفرض نفوذك عليها، لكنها رفضتك مما أثار حنقك عليها وجعلك تلاحقها في عملها وتفرض الخناق عليها؟
- من أين جئتِ بهذا التخريف الوقح؟
- لا تظن أن كونك ضابطًا كبيرًا في الشرطة يجعلك أذكى مني وأقدر على إخفاء أفعالك المشينة عن الجميع.. كان يتعين عليك ألا تستهين بي؛ فأنا أعرف الكثير عنك رغم أنني لا أغادر هذا المنزل كثيرًا.
- لابد أنكِ قد جننتِ.
قالت له متهكمة:
- حقًّا.. وما الذي تنوي فعله بي إذن لتثبت جنوني؟ هل ستودعني في مصحة عقلية؟ أم تحتجزني في إحدى حجرات هذا المنزل الكبير كما فعلت بشقيقتك من قبل؟
اقترب منها بوجه محتقن من شدة الغضب رافعًا يده إلى أعلى وهو يهم بضربها قائلًا:
- إذا لم تصعدي إلى غرفتك الآن فسوف ....
لكنها تصدت له بجرأة قائلة:
- هل تريد أن تضربني يا (جابر)؟ إياك أن تفعل فأنا لن أسمح لك بفعلها هذه المرة.
وسرعان ما حسمت الأم الموقف بينهما وقد علا صوتها قائلة بحزم:
- توقفا عن تلك الحماقات فلدينا ما هو أهم الآن.
أرخى يده ممتثلًا لأوامر أمه، في حين استدارت زوجته لتغادر المكان.
بينما استطردت الأم قائلة لابنها:
- وماذا فعلت بشأنه؟
قال وأثر الانفعال مازال مرتسمًا على وجهه:
- أجبرته على تطليقها ومزقت ورقة الزواج العرفي.
- يجب ألا تبقى هذه المرأة في الإمارات.
قال وهو يعاود إشعال سيجاره:
- سترحل.. لقد أمرتها بذلك.. وهي تعرف جيدًا عواقب عدم تنفيذها لأوامري.
- وعليك أيضا أن تعقل أخاك، لكن بهدوء وحكمة وذكاء دون أن تطلق العنان لغضبك واندفاعك المعتاد، فتلك الأمور تحتاج إلى شيء من العقل والروية.
لا نريد أن نخسره أو ندفعه إلى شباك تلك الراقصة أو ممن هن على شاكلتها مجددًا.
ومن ناحيتي سأتفاهم مع زوجة الحاج رابح للتعجيل
بعقد قران (خالد) على ابنته بدلًا من الانتظار لنهاية الشهر، فلسنا بحاجة للانتظار أكثر من ذلك.
المهم ألا تعرف أسرتهم أي شيء عن زواج ابننا بتلك الفتاة أو أي علاقة له بها.
فالحاج رابح رجل له مكانته في المجتمع وعائلته من أكبر العائلات في أبو ظبي، وبيننا وبينهم مصالح كبيرة كما تعلم.
أطلق زفرة طويلة من صدره قائلًا:
- سأفعل كل ما بوسعي، ولو أن لديّ العديد من الأمور التي تشغلني حاليًا.. أبسطها ذلك الحفل الذي أنوي إقامته في منزلي بعد يومين لزملائي من رجال الشرطة المشاركين في المؤتمر المزمع عقده في أبو ظبي غدًا.
قالت السيدة العجوز وهي تدق بعصاها على الأرض:
- ليس هناك الآن ما هو أهم من مصلحة أخيك ومصلحة الأسرة.
أطفا سيجاره متجهًا إلى الدرج المؤدي إلى الطابق العلوي وهو يغمغم قائلًا:
- لم يكن ينقصني سوى معالجة تصرفات ابنك الطائشة ونزواته الحمقاء.
واقترب من حجرة شقيقه وهو يحاول السيطرة على انفعالاته.
لكن باب الحجرة المجاورة فُتح فجأة لتظهر من خلفه فتاة مشعثة الشعر زائغة العينين، وقد انقضت عليه لتمسك بخناقه وهي تصرخ في وجهه قائلة:
- ما الذي أتى بك إلى هنا؟ ابعد عن هذا المكان.. لا أريد أن أراك في وجهي أينما كنت.
حاول أن يخلص نفسه من بين يديها، لكنها تشبثت بثيابه في قوة وهي مستمرة في الصراخ في وجهه قائلة:
- وغد.. أنت وغد يا (جابر).. وستنال ما تستحقه آجلًا أم عاجلًا.
وتمكن أخيرًا من إبعاد يديها عنه ليلقي بها على الأرض وهو يصيح بغضب قائلًا:
- نرجس.. أين أنت يا نرجس؟