الثاقب
مجموعة كتاب
مجموعة قصصية
سطوع لخدمات النشر
جميع الحقوق محفوظة
جميع الحقوق محفوظة ويحظر طبع أو تصوير أو تخزين أي جزء من الكتاب بأية وسيلة من وسائل تخزين المعلومات إلا بأذن كتابي صريح من الناشر
الثاقب
(كتاب المفرمة الثاني)
مسابقة أحمد معوض
لأدب الخيـال العلمي
…..
لم نشأ أن نجعل ذكرك نعياً، ولم نرد لسطورك أن تتوقف. مسابقة أخرى، رفاق يشاركون ويتنافسون في أرقى المحافل.. محفل القلم. عشرات القصص، عشرات الأقلام المبدعة، منافسة محتدمة، آراء تتبادل، نقاشات تدور، نقاد يكتشفون أنفسهم، توجهات قصصية لم تكن في الحسبان.. كلها تحت عنوان واحد: مسابقة أحمد معوض للخيال العلمي.
ثم كان يوماً بهيجاً، يوم تسليم الجوائز. سلمتها جميلتك "رؤى" بيديها، كانت تختال في ثوب أحمر رقيق، بابتسامة تشق قلب الحزن لتزرع مكانه بهجة صادقة.
تحدثنا عن فكرة المسابقة، وتأصيل قصص الخيال العلمي. مناقشة أدبية خالصة، لا أثر للفقد فيها.. بل للأمل. أن يستمر الفيض، للغاية التي نظن أنها حقيقتنا الأصيلة، وهي الكتابة.
سلام عليك يا صاحبي، سلام إليك وأمل أن تكون سعيداً في مكانك الأسمى، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
هشام عيد
…...
كان أدب الخيال العلمي ولا زال هو الباعث القوي لي ولآلاف الكتاب على الإبداع الأدبي والعلمي.. ولكن وللأسف فإن ذلك الصنف الأدبي يكاد يكون منسيا مردوما في مجتمعنا العربي وأدب اللغة العربية.. لعل ما نفعله هنا محاولة قد تنفتح بعدها العديد من المحاولات.. فها نحن نطرق بمعولنا بعض الطرقات على السد تاركين لمن بعدنا إكمال ما بدأناه..
ورغم صعوبة التنسيق والتنظيم في مسابقة بحجم وقوة كيان المفرمة لكني أعتقد أن ما بين يدينا خلاصة ورحيق تعب وجهد وأبداع مجموعة مميزة من الكتاب والمؤلفين أتمنى أن تمتعكم بقدر ما تفتح لكم أبوابا عبر الأكوان والأزمان والأمكنة والأهم عبر أنفسكم
أشكركم..
تامر حجازي
خلل جيني
هند الشلقاني
لم أكن أتصور أبدا أن تسير الأمور على هذا النحو، كان الوضع بالنسبة لي في البداية بمنزلة معجزة حقيقية لم تأت منفردة، إنما بصحبة معجزة أخرى تماثلها في الروعة.
نعم كان حملي في ابني الوحيد معجزة لامرأة تجاوزت خطوط الزمن المسموحة، امرأة جف جسدها وانطفأت هالتها ولم يبق فيها حي إلا التوق إلى طفل. حظي أنني كنت قد انتقلت إلى هذا البلد الذي تتم فيه عمليات تكوين الأجنة وحقنها في الرحم بيسر ظهور شمس الصباح في بلادنا.. وبطريقة لا تقيدها حدود السن أو الصحة أو الهيئة الاجتماعية.
ولما أظهر تحليل الجينات الذي أجريته في الشهور الأولى من الحمل جينا يحمل ضعفا مزمنا بعضلة القلب ورثته خريطتي الجينية عن أبي، وآخر يحمل مرض السكر من عائلة زوجي، وثالث يحمل ضعفا في المناعة يبدو أنه إرث عائلي من طرفي أيضا، انبثقت المعجزة الثانية: عرض عليّ الطبيب أن أكون جزءا من برنامج ثوريّ للتحكم في الجينوم البشري وتعديله بما يحرر جنيني من إرث عائلته المؤذي.
لم أتردد.. وافقت على الفور، صارحوني أن الأمر لا يقتصر على قص الأجزاء المعطوبة في الشريط الجيني، إنما يمكن كذلك التعديل والإضافة، طلب زوجي أن يكون للطفل عيونًا زرقاء وأن يكون طويلا، وأن يكون منيعًا ضد الأمراض... وخجلت أن أطلب شيئا مثل هذا، خجلت من التطاول على معجزتي الأولى، وخجلت أن أعامل ابني القادم مثل قط أشتريه؛ إنه ابني الذي أحبه وسأراه جميلا دون شروط.
لما جاء بعد شهور قضيتها في رعايتهم، علمت صدقهم. لا أستطيع وصف شعوري عندما رأيته، لابد أن هذا هو شعور كل أم؛ ذلك الشعور الذي لا يتسنى لها أبدا أن تسجله، لكني أظن كذلك أن ما ملأ نفسي حينها هو كيان مكثف من سعادات أمهات كُثر.
سحرني هذا الفتى الجميل، كنت لا أكف عن تأمل وجهه الوسيم، لا يعكر صفوي إلا خاطر وحيد لا ينفك يهاجمني "لماذا نسي زوجي أن يطلب شيئا يخص العقل، أرجو ألا يكون هذا الجمال قد جاء على حساب الذكاء".
مع الوقت أدركت أني مخطئة؛ إنه طفل ذكي بالتأكيد، بل شديد الذكاء، ولم أجرؤ على طرح سؤال هل الذكاء أصيل في شيفرتنا الوراثية أم أنه نفحة إضافية من الطاقم الطبي.
بعد سنوات اكتشفت أننا لسنا وحدنا؛ وأن برنامج التحكم في الجينات قد تطور وانتشر في هذه المدينة الكوزموبوليتانية التي نعيش فيها، بدأت ألاحظ تزايد أعداد الأطفال من الصين وشرق آسيا الذين يولدون بعيون واسعة؛ الأطفال الهنود الذين حققوا حلم آبائهم الطويل في امتلاك بشرة بيضاء؛ أطفال أفارقة بشعر أسيوي ناعم، أبناء أمريكا اللاتينية أصبح كثير منهم على هيئة ذلك المطرب الإسباني الشاب الذي تحمل أغنياته حسا شهوانيا قويا...
في المراكز التجارية مئات الأطفال فائقي الجمال مثل الملائكة بصحبة أهلهم، يجلسون بهدوء على عربات التسوق، دون صخب، دون انفجارات الصراخ والبكاء التي نعتدها في بلادنا؛ يبدو أن التعديلات الجينية بدأت تنسحب على مراكز عصبية، لا أعلم؛ أنا لا أفهم كثيرا في هذه الأمور، لكنني أرى ثمارها تنمو بسرعة. أعترف أنني كنت أشعر بالخوف (تشعر في البداية كأنك في جنة ما، ثم يتسلل شعور بارد إلى قلبك ويسكنه).
طوال سنوات طفولته لم أحتج للذهاب لطبيب الأطفال إلا في المراجعات الدورية التي نتأكد منها أن كل شيء على ما يرام. أثبت أنه طفل منيع بالفعل؛ جميل وذكي وسعيد. ظننت أن ليس أفضل من ذلك أبدا.
لم يكن يميل للاختلاط بالأطفال.. قال لي زوجي أنه طفل وحيد وليس معتادا على الصحبة، أردت أن أقول إنني توقعت العكس، لكني أحببت أن أصدق تفسير زوجي.
كنت أفتقد فيه شيئا لم أستطع تحديده، عندما أضمه بقوة، عندما أقبله وأتشممه... ثمة خواء بداخلي لا تملؤه الضمة والقبلة... أشكو لزوجي أنني أشعر أنه لا يبادلني الحب فيضحك، يتهمني بالجنون، "أتحاسبين طفلا في الخامسة؟ هل أطاحت الفرحة بعقلك، وكيف تريدين أن يعبر عن الحب؟ أن يحمل الزهور ويرسم القلوب؟ إنه طفل مثالي، أنت فقط لا تتحملين فكرة الاكتمال". صدقته مجددا، أردتُ أن أصدقه.
أقنعت زوجي أن نشتري له حيوانا أليفا، وبالفعل اشترينا كلبا صغيرا جميلا من فصيلة (توي بودل) ذات الشعر الأجعد اللطيف، كلبا يستحق بامتياز اسم (لعبة) الذي يطلقونه عليه لدقة حجمه ولمعان عينيه وفرط ظرفه، أحببناه جميعا، وفرح به ابننا فرحا كبيرا؛ كان يقضي معه أغلب وقته، علق زوجي على ذلك قائلا: "أقسم أنه طفل ذكي، إن صحبة الكلاب أفضل كثيرا من صحبة الناس هذه الأيام."
وددت بشدة أن أشعر أن كل شيء طبيعي، أننا أسرة سعيدة بالشكل الذي تعكسه آلاف الصور التي التقطها يوميا لثلاثتنا ونحن نبتسم ابتسامة واسعة وبيننا الكلب الصغير، لكن رغبتي لم تهزم قلقي.
في صباح يوم صيفي حار، يوم نادر بمقاييس الطقس هنا، افتقدته، خشيت عليه من الحرارة، فجسده ليس معتادا عليها.
نزلت إلى القبو، كنا نؤجر الغرفة بالأسفل لطلاب الجامعة ثم رأينا أن نتركها خالية لابننا؛ نحفظ فيها لعبه وأشياءه وملابسه القديمة، بالطبع لم يكن بمقدوري أن أتخلص من أي شيء يخصه؛ كل ذكريات طفولته تحولت إلى كنوز صغيرة أحببت أن أحفظها وأتأملها وأقبلها من حين لآخر، عندما نزلت القبو شممت رائحة غريبة، تتبعت الرائحة حتى رأيت الكلب.
في المعاينة الطبية الدورية، كان الطبيب يؤكد أن التعديل الجيني أنقذ الولد من (اعتلال عضلة القلب الضخامي)، اسم لا أنساه لمرض أعرفه جيدا، كان والدي مصابا به ومتعايشا معه.
ضيق النفس وألم الصدر عند أي جهد، الضعف والدوار وخفقان القلب، كنت وأخوتي نسمع هذه الشكوى من والدنا كل يوم حد الاعتياد الذي يحول دون التأثر بذلك، حتى مات والدي فجأة وعلمنا أن الوفاة المفاجئة إحدى نتائج ذلك المرض الذي لا يبدو للوهلة الأولى على تلك الدرجة من الخطورة.
لكن قلب والدي المريض كان خاليا تماما من القسوة؛ كان الأكثر عطفا وحنوا، كان يضحك من ذلك ويقول "إن قلبي كبير بلا مجاز".
كان للقطط والكلاب وكل الكائنات نصيب من هذا القلب، كم من مرة أحضر للمنزل قطا أو جروا صغيرا ضعيفا أنقذه من الحبل المربوط حول عنقه أو أشفق على ضعفه فتبناه حتى استرد عافيته، تذكرت ذلك كله وأنا أقف في القبو أحدق في الكلب الصغير المثبت على لوح رأسي وشقوق مختلفة ومخيفة تملأ صدره وبطنه؛ شقوق رطبة نازفة، كان الكلب حيا يا للأسف، وشعرت إنه يستغيث، (وكيف يُغاث من في حالته؟)، بيد أن زوجي تصرّف.
بقيت الجثة الصغيرة المدفونة تحت شجرة الصنوبر في حديقتنا علامة على مرحلة جديدة من حياتنا؛ مرحلة غادرت فيها استسلامي لتفسيرات زوجي، وبدأت أشجع بذرة الشك التي تنمو في نفسي منذ سنوات وأنا أرى ولدي يطور مسلكًا غريبًا من القسوة.
عندما سألناه عن الكلب حدجنا بنظرة ثابتة بعينيه الزرقاوين (ليت زوجي لم يطلب هذا اللون البارد) قبل أن يقول ببساطة؛ إنه كان يستكشفه.
لم تكن هذه الحادثة هي الأخيرة من نوعها، بل تكررت... تكررت كثيرا مع قطط وكلاب وفئران ولا أدري، كان الجيران يبحثون عن طفلة لم تكمل العامين ولا أظن أنهم وجدوها أبدا.
بت متيقنة أن التعديل الجيني الذي أزال عطب القلب الوراثي قد أزال معه شيئا آخر لم يره العلماء، أو ربما رأوه.. ربما هم يعلمون ولا يعترفون، ربما هو أمر مقصود.
لم تنته أبدا علاقتنا بالبرنامج، عندما وافقت على الاشتراك فيه وأنا حامل لم أدرك أنني أبدأ مسارا لانهائيا، لأن الفريق الطبي لا ينفك يدوّن ملاحظاته حول نتائج التدخل وتطور الحالة على مر السنوات.
كنا نزورهم مرة كل شهر، وربما أكثر من مرة، يسألوننا بعض الأسئلة ثم يأخذون الفتى إلى الداخل عدة ساعات قبل أن يسمحوا لنا بالرحيل، أكاد أجزم أن الولد كان يتغير كل مرة.
في سنوات عمره الأولى كان مولعًا بالاستكشاف، استكشاف مثابر بارد غلّف حياتنا بالخوف، لسبب ما كنا لا نستطيع مواجهته.
لا أظن أن طبع الثبات الذي فيه، والذي يخالف طبع القلق الملازم لسلوك الأطفال وإيماءاتهم هو السبب الوحيد، رغم مهابته وما يبعثه من رهبة، السبب الأكبر والأهم تمثل دائما في الحب؛ حبنا له وخوفنا من أن نفقده.
في مرحلة عمرية تالية صار مولعا بالتفتيش؛ يظل في مسعى دائم لفحص الأشياء واختبار جودتها... قام بوضع معايير صعبة، وفرض عقوبات أصعب على كل شيء لا يوافق المعايير.
الطعام الذي لا يتوافق مع المعايير يسكبه في القمامة. الملابس التي لا يتوافق نسيجها مع المعايير يمزقها، وصلات الصرف حطمها بالفأس وطلب تغييرها بوصلات تحقق معايير الجودة، ومثلها، وصلات الكهرباء، والغاز، أخذ سيارتنا لمكب السيارات القديمة وتركها هناك. قال إنه كان سيحرقها لولا أنه أمر يضر بجودة البيئة.
تفاقم سياج الخوف الذي يحيطنا، هوس الرقابة والجودة والمعايير دمرنا، كانت حياتنا تضيق وتختنق، الطفل الثابت أصبح شابًا أكثر ثباتا، في لحظة ما انكمش حائط الحب أمام طوفان الخوف وبت أنا وزوجي نخطط للهرب.
قبل أيام وجدت على مكتبه أوراقًا طبية تخص فحوصات حديثة لي ولوالده، أوراق توضح إصابة زوجي بالسكر وبارتفاع ضغط الدم، وإصابتي بورم سرطاني في الأمعاء، لا أعرف كيف حصل على هذه الفحوصات، (هل يخدرنا أثناء النوم؟).
حجزنا تذاكر العودة لبلادنا، تذكرتين لي ولزوجي فقط، لم يكن بالإمكان أن نأخذه معنا، أعددنا كل شيء بصمت، كنا نخاف أن نتكلم فيسمعنا، نعلم أنه يراقبنا.
المهم أنني بت أعرف مصيري ومصير زوجي، أنا لا أريد هذه النهاية، لقد صنعت له طعاما متوافقا مع المعايير ومعجونا بمخدر قوي، أنتظر أن يأكل وأن ينتهي هذا الكابوس، أريد أن أموت في بلادي وقد أوصيت زوجي أن أدفن بجانب والدي وقلبه المعتل، أكبر قلب في العالم....