أنين الحياة
في ليلةٍ غاب عنها القمر، وأُسدلت ستائر الظلام، كانت السماء عبوسًا ماطرة، والرياح مُزجرة، أمّا الليل فظلمته مُوحشة.
ليلةُ دجناء من ليالي يناير الحالكة، تبرق سماءها، ويُسمع هزيم رعودها، كالناذر يدقُ على الأبواب، ليدرك كل قاسٍ أن البرودة أقسى.
توارى الجميع وانزوى كل في بيتهِ، لَمْ يلمح طرف لأحد على مدد النظر، سوى خيال رجل غير جلي، محمود المهدي، جاء مترنحًا في خطواته من بعيد، متكاتفًا على نفسه داخل معطفه الأسود، على رأسه يعتمر طاقيةً من الصوف.
يلتف حول عنقه لثامٌ مزركشٌ متداخلةٌ ألوانه تميل إلى الزرقة، في مقتبل الأربعينِ من عمره، ليس بالطويل الفاره، أو القصير القصيم، متوسط القامة والقوام، تميل بشرته إلى الخمرية.
كان محمود عائدًا لتوه من عمله، حيث يعمل مدرسًا بإحدى المدارس الابتدائية، بعد انتهاء فترة الامتحانات المقررة، حرص على تصحيح كامل الأوراق رفقة زملائه بالمدرسة، داهمه الوقت من حيث لا يدري، تردد قليلًا إلا أنه في نهاية المطاف، قرر أن يعود لبيته رغم غزارة المطر، تحرك بحذر شديد، كان يلتفت بين الفينة والفينة، طامعًا أن يجد أحدًا يقله إلى منزله.
لم يكن الوقت قد تأخر كثيرًا، فلا تزال الساعة تشير إلى الثامنة مساءً، لكن السماء افترشت عباءة سوداء بسحبها الغائمة، فحجبت نجومها، وبدت كأنها انتصف ليلها.
لكن هيهات هيهات!
فوحشةُ الظلامِ والصقيعِ والأمطار تخور قلب من هو أشدهم بأسًا.
بدأ في طي بنطاله، وبخطوات متباطئة، تابع المسير إلى أنْ قارب الوصول لمقابر القرية، كانت في طريق عودته لمنزله، فكان يخشاها كثيرًا في وضحِ النهار، فما بالك وهذا الظلام بعينيه؟!
غمرت الأمطار الأرض، فجعلتها تبدو كالبحور، وكالمضطر لا بطل، استند محمود بيده على جدران المقابر حتى لا تخور قدماه فيقع.
لم يكن بالمكانِ سوى محمود، والرهبة، والَوحشة، والظلام، وذاك الصوت الآتي من غيابات الجبانات، صوتٌ لطفل رضيع يبكي، لَم يعر محمود للصوت أي اهتمام، وتابع المسير غير مبال، ما أن وصل إلى مَفرقِ بين المقابر، لا يتعدى المتر الواحد، يفصل بين قطاعين منها، ازداد الصوت قوةً، وبدا واضحًا جليًا.
في لَحظةِ وجس وخيفةٍ، غُمر برهبةٍ أرغمته على التقدم دون الالتفات لشيء، لكن سرعان ما خفق قلبه، ولَم تطاوعهُ نفسه على المضي قدمًا.
صرخات البكاء كادت تفوق صوت ضربات قلبه، وتخترق مسامعه، لم تحمله قدماه إلاَّ على التراجع، ليبصر ما في الأمر من أمر.
بدون حول له ولا قوة، وبِقلبٍ يخفق بكل شَراسة، اخترق محمود المفرق ما بين القبور متفاديًا ما يعترض طريقه، فكلما تقدم أكثر ازداد وضوحَ الصوت، الذي ضعف وكاد يصمت للأبد، لاعنًا ما وصل إليه.
على مرمى بصره لمح لفةً بيضاء، ملقاة بمدخل إحدى المقابر المفتوحة، تغلب على خوفه، ومد رأسه محدقًا ببصره.
إذ به يتفاجأ بمولودٍ صغير، انتابته قشعريرة وكاد يسقط مغشيًا على الأرض، تمالك نفسه محاولاً استجماع قواه، واسترعى انتباهه حالة الرضيع.
كان مجردًا تمامًا من الملابس سوى تلك اللفة، مخضبًا بدمائه، كأنه خرج من رحم أمه للتو، تُرك على حالته وحيدًا.
قطعة لحمٍ بشرية، تصرخ في وجه الموت، متشبثةٌ بالحياة، معلنة رفضها لِمَ آلت إليه.
توجم من هول ما رأى وبشاعة الإنسان!
ما ضير هذا الرضيع، ليأتي بهذا الزمان؟!
زمانٌ ضاعت فيه الإنسانية، وأصبحت بِطي النسيان،
شابٌ استغل وهرب.
أمٌ لهت فحملت.
وما أن وضعت راحت وتركت
رضيعًا يسأل: ما ذنبي يا أمي؟
لماذا أتيتِ بي؟ إن لَم ترغبي في!!
ليتك كأهل قريش، وأدوا من رغبوا عنه، ولم يتركوه لغدر الزمن، وقسوة الليالي.
وقلبٌ كقلبك تحجر، فبات أشد من الحجر قسوةً.
***
في مشهد مأساوي، يتكرر أمام أعيننا، على أرصفة الشوارع والطرقات، بمكبات النفايات، أمام المساجد والمستشفيات، داخل عربات القطارات، أو حتى داخل الجبانات.
تلك الأماكن جميعها وإن اختلفت في واقعها، إلا أنها تشابهت في شيء واحد، كونها مسرح لجريمةٍ بشعة ترتكَب في حق الإنسانية.
اغرورقت عيناه بالدموع، وانتفض جسده، فتسمر بمكانه، ولم يستطع الحراك، أعجزه ما رأى، وخارت قواه.
سرعان ما استجمع شجاعته، ومدّ يد الرحمة لذاك الضعيف بلا مأوى، ضمّه بكل حبّ وحنان إلى صدره، وبدأ يهدئ من روعه، ولا تزال دموعه تغمره، لتسابق زخات المطر.
احتضن الرضيع بين كنفي صدره، وطأطأ برأسه عليه، ليحميه من قطرات المياه، ممسكًا إياه بإحدى يديه في حين استند بيده الأخرى على المقابر حتى خرج منها بسلام.
أغلب الشوارع كانت مظلمة، اجتاز شارعًا دلف بعدها لآخر، توسطه عمود إنارة لكن إضاءته خافتة، يصدر منه ومضات متتالية، وصوت أزيز شرر الكهرباء، يُدخل في القلب الرعب.
تلفت بنظره على لافتات العيادات، ودَّ لو أنَّ أحدًا ما زال متواجدًا، رغم استحالة حدوث ذلك لكنه لَم ييأس.
ها هي رحمة الله تتجلى، لمح طبيبًا يحاول أن يستقل سيارته مغادرًا عيادته، يبدو أنه لَم يكن من أبناء قريته.
شاب وسيم الطلة، حسن الهيئة، يرتدي معطفًا بني اللون من تحته قميصٌ أبيض، وبنطالاً أسود، باديًا عليه أنه حديث التخرج لصغر سنه.
استوقفه محمود، واستحلفه بكل معاني الإنسانية، أن يفحص الرضيع الذي لم يحرك ساكنًا منذ مدة، بابتسامةٍ غمرتها الدهشة، أومأ الطبيب برأسه مرحبًا بالموافقة، وبعبارات شكر وثناء ظل يرددها محمود وهو يصعد درجات السلم، وأمامه الطبيب لم ينبس ببنت شفة حتى وصل لعيادته.
بدت على الطبيب علامات الاستنكار، حالة الطفل مزرية، بدأ يلوم ذاك الرجل عديم الشفقة والرحمة، عقد حاجبيه من شدة الغيظ، ولامه بغضب:
- ما كل هذه القسوة؟ ما الذي تحمله بين ضلوعك؟ قلب هذا أم قطعةٌ من الإسفنج؟ حالة الرضيع يُرثى لها، كيف تخرجه بهذه الحالة دون ملابس مخضبًا بدمائه؟ هان عليك أن توصله لهذه الدرجة؟ أليس هذا ابنك؟ كيف تفعل به ذلك؟!
نظر محمود للطبيب مشدوهًا، وأصبحت مقلتيه أكثر اتساعًا، لم ينطق بكلمةٍ واحدة، فما عساه يقول؟
لقد انعقد لسانه عن الكلام!
أيقول الحقيقة؟
أية حقيقة تلك!
أيعقل أن يقول أنه لقيط وجده وحيدًا بين القبور؟!
أم يعترف ببنوته له ليدرك ما الأمر؟
ما عساه يفعل؟!
بين لحظات الشرود والصمت، استفاق محمود على صوت الطبيب ممسكًا بيده ورقة، وبنبرة أكثر غلظة وحدة قال له:
- فيمَ أنت شارد! لعمري ما ارتبكت يومًا بحياتي كيومي هذا، أحضر هذه الأدوية بأسرع وقت.
كان حينها قد اقتعد كرسيًا خلف مكتبه، لم ينتبه محمود للطبيب متى انتهى من الكشف؟ ومتى جلس؟ كان غارقًا في التفكير، وحين انتبه لصوته، وقعت عينه على لافتة مصنوعة من الكريستال، منقوش عليها اسم الدكتور «أحمد رءوف»، وأسفله نُقشت عبارة «أخصائي أطفال وحديثي الولادة»، موضوعة أمامه على المكتب.
بيد مرتعشة، ونظرة انكسار، أخذ محمود الورقة من الطبيب، هامًا بالانصراف. لا زال الوجوم مسيطرًا عليه.
استوقفه الطبيب، وأخرج من محفظته بعض النقود محاولاً إعطاءها له، رفضها محمود، وبنبرةٍ حزينةٍ أجابه:
- لا عليك أيها الطبيب، معي من المال ما يكفي وطلبات الرضيع، أشكرك لحسن صنيعك.
قال كلماته تلك، وأشاح بوجهه خارجًا، وظل يبحث بكل مكان ليصرف الدواء، فجميع الصيدليات كانت مغلقة، بشق الأنفس عثر على واحدة، صرف الدواء وأعطاه للطبيب، فأسعف الطفل، واستقرت حالته.
انتبه لصوت الطبيب يحادثه مرة أخرى:
- التزم بإعطائها الأدوية في المواعيد المحددة لها، ولا تتقاعس عن ذلك.
- أهي بنت؟
رمقه بتعجب وحيرة لأمره هذا، واستطرد قائلا:
- نعم، ألم تكن تعلم؟
- بلى، ولكن ارتبكت قليلاً، كيف هي الآن؟
نظر الطبيب مليًا، ومِنْ ثَمَّ وافاه قائلا:
- لن أخفي عليك الأمر، تعرضتْ لنزلة شعبية حادة، وستحتاج متابعة عن كثب، أيضًا ستحتاج لجلسات استنشاق، التزم بها في مواعيدها.
شكره محمود بابتسامة، وأثنى على معروفه، أخذ الطفلة وغادر المكان، تبعه الطبيب بعد أن أغلق عيادته وهو في حيرة من أمر هذا الرجل، تناقضٌ جليٌّ بين حالة الصغيرة، وذاك الاهتمام البادي عليه.
لا زالت الأمطار تتهاطل، فأشفق محمود على الصغيرة أن يتحرك بها في هكذا جو، لمحه الطبيب فأصر أن يقله بنفسه إلى منزله القابع على أطراف القرية.
في قرارة نفسه لم يكن محمود راضيًا عن الوضع الذي آلت إليه تلك الطفلة البريئة.
فكم من الأبرياء الذين جاءوا إلى هذه الدنيا، في لحظات طيش وتهور، أمام نزوات يسميها أطرافها حبًا، ليظل طوال حياته يعاقب على ذنب لم يقترفه، وتبدأ رحلته مع الحياة.
رحلة طفل الشوارع مجهول الهوية.
إلا من رحم ربي!
«حسبك من السعادة في هذه الدنيا:
ضمير نقي،
ونفس هادئة،
وقلب شريف،
وأن تعمل بيديك»
أقوال خلدها التاريخ
مصطفى لطفي المنفلوطي