عائلة محمود
على قبلة الفجر الأولى وصياح الديكة، يرسل ضوء النهار أولى خيوطه، يزين أسطح منازل قرية بسيطة، أطلق عليها أهلها قرية «الصفا»، فيداعب أعين فلاحيها البسطاء، لتضج الحياة في شوارعها وحواريها وأزقتها الضيقة.
تلك القرية الصغيرة التي تطل على بحيرة من بحيرات الفيوم، على ضفافها أسوار من أشجار الزيزفون والصفصاف، المتدلية أغصانها والمتشابكة، تنبثق أشعة الشمسِ المتلألئة من بين ثنايا أغصانها، فتنعكس صورتها على صفحة الماء، لترتسم بذلك لوحة خلابة أخاذة للبصر.
على أطرافها منزل محمود، طرازه فريدًا من نوعه، ورثه عن والده، يحيطه سور حديدي تتداخل أعمدته بطريقة جذابة، طلي باللون الأسود مطعمًا ببعض الفسيفساء الذهبية.
حوى بداخله أنواعًا شتى من الزهور المختلفة ألوانها وأصنافها، فغدت كأنها سياج مختلط من قوس قزح، لا يملك الرائي إلا أن يديم النظر فيها دون أن يصيبه أي ملل.
بدا الجو متقلبًا قبل أن تتوارى شمس المغيب، وتنذر سحبها بيوم شتوي، كشّرت السماء عن أنيابها، وزمجرت الرياح، فأطلقت رعودها لتجوب أنحاء القرية، بدأت الأمطار في الهطول، ماهي إلا لحظاتٍ وهَمّ سكان القرية بإغلاق محلاتهم والانزواء داخل بيوتهم متلمسين بعض الدفء.
صفية زوجة محمود وابنة خاله، ومنذ نعومة أظافرها لا تعرف لحياتها قيمةٌ إلا من خلاله، هو عينها التي ترى بهما، وقلبهُ النابض بين ضلوعها، جمعت بينهما قصة حب لو عرفها التاريخ لخلدها مع قصص العاشقين.
لا تزال بربيع شبابها، لم ينقضِ عقدها الثالث، قصيرة بعض الشيء، على وجهها سماحة مريحة، جميلة الخُلق والخِلقة، كانت تعمل ممرضة بالوحدة الصحية الكامنة بقريتها.
حباهما الله بفضلٍ من عنده، ورزقهما بثلاثة أبناء ذكور، أكبرهم عمر، ذو العشر سنوات، تبدو عليه فراسةٌ مبكرة تبشر بمستقبلٍ باهر، بالصف الرابع الابتدائي، متفوق بدراسته، رغم صغر سنه إلا أنه يتمتع بذكاء وقدرة عالية على الاستيعاب، صفات لا يتحلى بمثلها الأقران الذين في مثل عمره.
تمنت صفية لو رُزقت بفتاة، لكن الله أنعم عليها بحسام، الذي يصغر عمر بثلاث سنوات، فرحت به هي وزوجها كثيرًا، كان يحمل الكثير من صفات والدته في الشكل والطبع، يميل لمرافقتها دومًا.
لم تكن صفية تدري أن المسئولية ستكون ثقيلة على كاهلها فعمدت على تقديم استقالتها، وتفرغت لتربية أبنائها.
شغفها في إنجاب فتاة عرضها لمخاطر شتى، رغم نصائح الأطباء لها، لم تكترث لهم فحملت مرة أخرى، ورزقت بنديم الذي لم يبلغ عامه الخامس بعد.
***
تأخر الوقت كثيرًا، وما يزال محمود خارج منزله لم يعد، توترت صفية بعض الشيء، فذهبت للمطبخ تعد حساءً ساخنًا له منتظرة عودته.
شردت قليلاً تقلب في ذكرياتها كما تقلب الحساء، على ثغرها ارتسمت بسمة خَفيفة، جابت بمخيلتها تتفحص صفحة من ذكريات الماضي البعيد.
الطقس وقتذاك كان يشبه ما هو عليه اليوم، حينها لم تكن صفية قد تزوجت بعد، وغاب عنها محمود، ولم يحادثها طِوال هذا اليوم على غير عادته، فلم يكن هناك أيّة وسائل للتواصل كيومنا هذا.
وقتها تمكن القلق منها ونال منالاً عظيمًا، شغل بالها معرفة ما حل بحبيبها، جفا النوم جفونها، وهيأ لها أن النهار بات بعيد المنال، لن تطيق صبرًا لحين ولوج ضوئه، حاملاً إليها أي خبر عنه.
دق جرس المنزل فجأة، ومعه تصارعت دقات قلبها، دلفت للباب، وفتحتهُ بسرعة فائقة، وما إنْ رأت محمود واقفًا أمامها حتى هدأت من روعتها، واستكانت نفسها، واطمأن قلبها، ابتسمت في خجل، فارتسمت بذاك بسمة على محياه، وبدأ يتسرب إلى مسمعها صوت مغاير لنبرة صوت محمود، وبدت الكلمات مغايرة هي الأخرى.
كان صوتًا من بعيد، يردد قائلاً:
- أمي ... أمي.
هنا انتبهت صفية، إذ بها تفاجأت بعمر، أمسك بردائها ويقوم بمناداتها، نظرت إليه بدهشةٍ، وقالت له:
- لمَ أنت هنا؟ ألم تخلد للنوم؟!
- بلى يا أمي حاولت النوم لأكثر من مرة، ولكن قلقي على والدي حال دون نومي، لم أعهده يتأخر لمثل هذا الوقت!
تنهدت صفية، وأخرجت زفرة محملة ببعض التعب والقلق، وبصوتٍ متهدج أجابته:
- أنت تعلم أن هذا الوقت امتحانات بالمدرسة، لا تقلق يا بني، عُد لفراشك واخلد لنومك ومتى وصل والدك، سأجعله يمر عليك لتطمئن عليه بنفسك.
ابتسم عمر، وقبّل والدته، وأسرعَ إلى فراشه.
توجست صفية خيفة وهمست لحال نفسها وكأن عمر معه حق، لم يتأخر محمود لهذا الوقت دون أي خبر.
تحركت بخطى سريعة وألقت نظرةً خاطفة إلى ساعة ِالحائط، كانت تشير إلى العاشرة مساءً، فبدأ يتسرب القلق لقلبها، وتساءلت وهي في حِيرة من أمرها:
- ترى ما حدث؟ وما الذي حال دون عودته لمثل هذا الوقت؟
تذكرت الحساء فجأة، فهرعت إلى المطبخ مسرعة، قامت بإطفاء النار عليه، تركته وانتظرت عودة محمود، بين كل لحظة وأخرى تجوب المنزل ذهابًا وإيابًا، تفرك يديها مرة، تضربهما ببعضهما البعض مرة أخرى، تردد بين الفينة والفينة أذكارًا تلتمس بها عودته سالمًا.
لا تزال صفية على حالتها تلك، سمعت صوت سيارة تتوقف أمام المنزل، أطلت من إحدى النوافذ؛ عَلّها تجد ضالتها.
وما إنْ أطلت برأسها حتى رأت محمود يترجل من السيارة، عقدت حاجبيها في دهشة عارمة، أسرعت إلى باب الشقة، وانتظرت بشغف لحظة وصوله.
ما هي إلا دقائق معدودة حتى كان محمود بين يديها، كانت متلهفة لتطمئن عليه، فلم تنتبه لِمَ يحمله بين يديه، دخل مسرعًا، ودون الالتفات إليها، فطالما قبلها حين وصوله، وغمرها بدفء حبه.
رمقته بنظرة تحمل بين طياتها عتب وحيرة وعجب لأمره، لكنها تمالكت نفسها، وأغلقت باب المنزل في حين دلف هو لغرفة نومه، أقبلت عليه بخطى ثابتة، والدهشة تنبثق من مقلتيها، وما إنْ همت أنْ تحادثه حتى فاجأها بالحديث:
- صفية ... اغلقي باب الغرفة بسرعة.
أغلقت الباب، واقتربت منه أكثر فأكثر حتى وجدته واضعًا ذاك الرضيع على السرير، رفعت رأسها ونظرت مشدوهة إلى زوجها، ولم تستطع التفوه بكلمة، فقد ألجمها هول ما رأت.
تنهد محمود واقترب من زوجته، وضمها إليه ضمة قوية، ثم نظر إليها بعدما رُفِعَ وجهها إليه، وقال بصوت خافت:
- وجدتها ملقاة وسط المقابر، رق قلبي لها، أخذتها وذهبت بها إلى الطبيب، هي مريضة وبحاجة إلى عناية شديدة.
قاطعته صفية وهي تنظر إليه في كلتا عينيه بعينين امتلأتا بالدموع:
- أهي بنت؟
لمعت عيناه ورد عليها:
- نعم هي بنت، رقاقة ورق ضعيفة، ملقاة على الأرض يدوسها الزمن، وتلفظها الحياة، وينبذها مجتمع جشع وجاحد، لم يرحم براءتها وضعفها، ولم تغفر لها دموعها، وقلة حيلتها.
وضعت صفية يدها على فمه، وهمست بحنان:
- هون عليك، هون عليك.
لم يخجل محمود من زوجته، فنزلت دموعه على خده، فمسحتها بيديها الناعمتين، وقبلت جبهته بحرارة، وتركته ليهدأ، واهتمت هي بالبنت.
ما أن فرغت منها، غطت الطفلة بنوم عميق، كانت كالملاك، بيضاء كنقاء سحابة صافية في نهار شمسه مشرقة، عيناها بزرقة مياه البحر حين تكسبه السماء لونها المتلألئ، وجنتاها بحمرة الورد الزاهي في ربيع أيامه، مستكينة ومستسلمة للنوم في هدوء وسلام بعد أن أحست بالأمان.
***
على سفرة الطعام تناول محمود عشاءه، بعد إلحاح من صفية، ما إن انفض حتى غسل يديه، وجلس بعدها في صالة البيت الواسعة على أريكة مذهبة، خلفها لوحة كبيرة لمنظر طبيعي خلاب، محاطة بإطار ذهبي اللون، كان المكان إضاءته خافتة إلى أن زاد من رونق جماله.
دنت صفية وجلست إلى جواره، فاعتدل في جلسته، وأخذ يرسل نظراته على استحياء، وهو غارق في تفكير عميق، لا يدري من أين يبدأ؟ وبماذا يبدأ؟
فربتت صفية على كتف محمود وسألته:
- ماذا سنفعل؟
نظر إليها، وكأنها وضعت يدها على الجرح، فقال بهدوء:
- لا أعلم، الحيرة والقلق يساوراني، إن أخطرت الشرطة فلا بد من تسليم الصغيرة، وسينتهي بها المطاف في إحدى دور رعاية الأيتام، وأنا مشفق عليها من ذاك المصير، ناهيك عن كونها معدومة الأصل والنسب. فأي مستقبل هذا الذي يتوعدها. وأي مصير ذاك الذي عليها أن تسلكه.
وضع محمود رأسه بين كفيه بعد أن قال كلماته تلك، وقالت صفية وهي مشفقة على الصغيرة:
- ألا يوجد حل آخر؟ ألا يوجد من يرحمها؟! ألا نستطيع أن نحتفظ بها؟
رفع محمود رأسه تائهًا، لم يملك القدرة على الرد.
تعاطفه مع الطفلة من ناحية، وتلك الرحمة التي غرسها رب العالمين في قلب زوجته من ناحية، وضميره الذي يصرخ بداخله، جعله في شتات بين أمرين: إما أن يسلم الصغيرة، وينتهي بذاك عذابه، لتبدأ هي أولى صفحات عذابها؛ أو يتبناها ليتحمل عبئًا فوق عبء.
بعد شرود طويل اعتدل محمود وهم بالوقوف، وترك حيرته بين يدي الله، لعله يحدث أمرًا كان مفعولاً.
«الغد مَملوءٌ بالأسرارِ الغِزار،
تحومُ حَولهُ البَصائِر،
وتتسقطه العقول،
وَتستدرجهُ الأنظار،
إلا إذا جاءت الصخرةُ بالماءِ الزُلالْ»
أقوال خلدها التاريخ
مصطفى لطفي المنفلوطي