وقفت في صف طويل منتظرًا دوري، كنت في وسطه تقريبًا، أمامي يوجد عشرة أشخاص، وورائي مجموعة لم استطع تحديدها لطول الصف، و اعوجاجه حيث بدا كذيل ثعبان هَرَم، نُزِعَ نصف جلده ذات صيف. لم يتقدم الصف قيد أنملة. كان متوقفًا تمامًا منذ ساعة على الأقل. أحد أعوان الاستقبال الكثيرين، والذين لا علم لي بِمَا هي مهامّهم بالضبط، أخبرنا أنه هناك عطب في المنظومة الإعلامية، وبالتالي علينا الانتظار، لكن هذا الوضع لم يرق للجميع، فبعض المنتظرين أبدوا امتعاضهم من الأمر خاصة مع سريان شائعات أطلقتها المعارضة المتواجدة خارج البلد، تفيد بأنَّ الحكومة تعاني عجزًا ماليًا في الموازنة العامة نتيجة الفساد المنتشر في أجهزة الدولة، كانتشار مياه الصرف الصحي الآسنة في شوارع الأحياء المنسية، و بالتالي، فلن تستطيع توفير الأجور لهذا الشهر، و إذا تعلّق الأمر بالأجور تكون الحرب، فالموظف حدّثه عن كلّ شيء حتى عن نزع سرواله فوق مسرح الهواء الطلق، ولا تحدّثه ولو بدعابة سخيفة عن عدم صرف الرواتب، فالراتب هو آلهة الموظّف، التي تحييه و تميته.
طال الإنتظار فأضطر أغلب الواقفين لإفتراش الأرض، لكنّي بقيتُ مُنتصبَ القامة، أتقوّى على آلام ألّمت بي نتيجة إنزلاق غضروفي، جعلني أبدو كعود صبّار مستقيم الأعلى و الأسفل، معوجّ الوسط.
كيف أجلس على الأرض؟
مستحيل أفعل ذلك!
ماذا لو ردّ أحدهم خبرًا لزوجتي؟ أو رأتني إحدى قريباتها المشنفخات اللاتي مازلن إلى الآن لم يَعِين كيف أحبّت قريبتهم واحدًا مثلي؟
ماذا سأقول لها لو سمعت؟
كيف سأجيبها؟
أكيد ستكسّر رأسي كالعادة بحكايات أمّها البليدة، و لن يكون لديّ ما أجيبه بها، لقد أمضت الزمن الأوّل لزواجنا في تعليمي " الإتيكيت" و فرضن عليّ - هي وأمّها - ما أطيق وما لا أطيق بدعوى التقاليد العريقة الضاربة في المدنيّة لعائلتهما، وفي النهاية كنت أفشل في كلّ اختبار أتعرّض له.
فعائلة زوجتي، وأمّها بالذّات، لولا نبوغي و تفوّقي العلمي، والحبّ الخرافي الذي وقر في قلب ابنتهم تجاهي، لَمَا وافقوا أبدًا أن يرتبط اسمي باسمهم، فأنا طه الحويمدي القادم من هناك، من بعيد، من قلب الوطن المعطوب، من زمن منسي. وهي أنوار العابد سليلة آل العابد، الذين إرتبطا بهم السياسة والمال و ارتبطوا بهما، لا نشبه بعضنا في شيء، عدا شيء واحد و هو أنّ جواز السفر، و الذّي لم أمتلكه بعد، مكتوب فيه في خانة من الخانات « من دولة كذا »
كما أنّ الهيبة التي ورثتها عن جدّي، والوقار الذي اكتسبته من الوظيفة، التي ناضلت للحصول عليها، وهذه قصّة أخرى، لا يسمحان بالجلوس أرضًا، كما فعل بعضهم، رغم الرغبة الجامحة التي اجتاحتني، للتخلّص من " الإتيكيت"، واسترداد شيء من ذاتي المفقودة، ومن الذكريات المنسحبة من حياتي بأنْ أفترش الأرض كما كنت أفعل أيّام الحصاد ومواسم جني الزيتون واللوز، آه كم أشتاق باديتنا، آه يا ابن الحويمدي نسيت أهلك، و لبست بعدهم ثوبًا غير ثوبك، لكنّ ذاك زمن غابر يا طه، أنت اليوم السيّد طه الحويمدي، فلا تفكّر أبدًا بالماضي؛ لأنّه كمرساة تشدّك فلا تتركك ترحل أبدًا، تطير في دنيا الله الواسعة.
كان يتوجب عليّ اليوم البقاء واقفًا، شامخًا و تحمل التعب على أن أظهر بمظهر الخانع، الذي ينتظر أن تمنّ عليه الحكومة ببضع ملاليم، وهو يفترش أرضية القاعة كالمتسولين، لا لن أفعلها، و الحكومة لا تمنّ عليّ بشيء، بل هو حقي؛ أي نعم حقي، اشتغلت لفائدتها، و عليها أن تدفع لي راتبي، و حتّى إن لم تفعل، فلن يضيرني في شيء، أنا لست مثلهم، أنا لا أعبد هذا الراتب الوضيع، فهو لا يمثّل شيئًا مقابل ما أقدّمه لهذا الوطن الكئيب، هو مجرّد تعويض بسيط عن ساعات طويلة من الإجهاد و التعب، من البحوث المتواصلة. وهذه الحكومة من واجبها الأخلاقي أن توفّر ما اِلتزمت به على الأقلّ.
صحيح أنّي لست معارضا، لا لزوجتي و لا للحكومة، و لكنّي لست مؤيّدا لهما.
فزوجتي و الحكومة يشبهان بعضهما البعض، كلاهما يصدر الأوامر، و يطالبني بالتنفيذ دون أنْ يأخذا رأيّي.
أنا رجل مسالم و طيّب، و لا أبحث إلاّ عن السلم، و هذا ما لم تفهمه، لا زوجتي ولا الحكومة. كذلك كنت في الجامعة ثخين العقل، سامح الله جميع أصدقائي. غالبًا ما أتهموني بالجبن، أنا لست كما قالوا، فقط أنا عقلاني، أنا رجل واقعي لا أرى فائدة في الشعارات، فالجميع يرضع من نفس الصدر، إذن ما فائدة تغيير السرج إن كان البغل واحدًا؟!
ما زال الصفّ على حاله، و الناس تزداد وتزداد معهم زحمة الانتظار، أمامي مباشرة وقف رجل بدين بدا لي من خلال وجهه المدوّر، ورأسه المكوّر، وشواربه الكثّة، وحواجبه الغليظة، ويديه المشققتين أنّه من أصحاب المهن الشاقّة، لكنه أمام تواصل المعاناة، كما سمّاها لم يجد بدًّا من الجلوس على الأرضية، خاصة أنّه يعيش صراعًا مريرًا مع كرشه الذي سبقه للأرض، جلس ومدّ رجليه على أصوات الكتل الهوائيّة المنبعثة من فمه، فهذه الجلسة الوحيدة التي تناسبه، حاول أن ينزل قمصيه؛ ليغطّي ما بدا من مؤخرته، لكنّه لم يفلح، فترك الأمر على حاله، كان ينفخ كالثور و الشرر يتطاير من عينيه، أدخل يده في جيبه، فأخرج نصف سيجارة. بدا أنّه دخّن نصفها في وقت سابق، ثُمَّ همّ بإشعالها غير مكترث لعلامات منع التدخين المثبّتة على الجدران لولا أنّ قدّاحته أبت أنْ تشتعل، فلعنها ولعن صانعها، ازداد حنقًا، وقد فاض غيظه، فقال مُهَدِدًا:
- لن أخرج من هنا إلا بأموالي، اليوم أكملت ثلاثة أيام أجيء وأعود دون أن أحصل على شيء!
غير معقول هذا، لست هنا لأحصل على راتب، أنا هنا لأسحب من مالي الذي أودعته في حسابي! كيف يقولون أنَّ الحكومة ليس لديها مال؟ ماذا فعلت بمالي الذي أودعته في مصارفها؟ أليست لديها مطابع، لماذا لا تطبع النقود، و تريحنا من هذا العذاب.
عندها التفتت إليه امرأة نحيفة، طويلة بعض الشيء، عيناها شديدتا السوّاد، ويبدو على شعرها آثار صبغة حمراء باردة، ترتدي سروال جينز أزرق، وقميص أبيض مفتوح الأقفال العلويةّ، وحذاء أحمر داكن بكعب عالٍ، كانت تقف أمامه. حيث قالت:
- الأمر ليس هكذا يا أستاذ! -
- لست أستاذًا، أنا فحّام، أقطع الشجر، ثمّ أحوّله لفحمٍ.
هممت بالكلام مخاطبًا للبرميل المرمي على الأرض. يا لك من مجرم، أتقطع الشجر باعث الأكسيجين، عنوان الحياة وتحوّله لفحم؟! لأوكسيد قاتل! أنت الوجه الآخر للحكومة، فهي تقطع رواتبنا، تقطع عنّا الحياة، وأنت تقطع الشجر، تقطع عنه وعنّا الحياة أيضا، كلاكما عدوّ للحياة.
قبل أن أسمع المرأة، و هي تجيبه قائلة:
- أعلم ذلك، وأستاذ تعني وصفًا للمخاطب.
- دعينا من هذا الكلام الكبير الذي لا أفهمه، و لا يفيدني، ماذا تريدين؟
- لا شيء، فقط أن أبيّن لك.
- تبيّني لي ماذا؟
- أنّ الحكومة لا يمكنها أن تطبع الأموال هكذا، كما تريد!
- طبيعي أن تقولي مثل هذا الكلام، فأنت ابنة الحكومة، أكيد أنّك موظفة، لا شك في ذلك، ولهذا أنت تدافعي عنها، أمّا أنا وأمثالي فلا أحد يفكر فينا، فأبناء الكلب مثلي يجب عليهم العمل ليلًا نهارًا كآلات، ليدفعوا نهاية كلّ شهر الضرائب للحكومة التي تقدمها كرواتب لأمثالك.
- أنا لست ابنة الحكومة، أنا ابنة هذا الشعب، والرواتب التي نقبضها نظير ما نقدمه لك و لأمثالك.
اِرتفع صوت الفحّام أكثر، فدارت نحوه كلّ الرّقاب، وعيون الواقفين والجالسين أصبحت ترقبه، وتنتظر ما سيقول.
- هه ابنة الشعب، لم أكن أعلم أنّ الشعب مترف لهذا الحد، ألم تنظري لهيأتك في المرآة؟ هل تشبهين هذه الوجوه الكالحة، اِلتفتي إليهم، أنظري لا تخافي، لن يعضّك أحد. قالها وهو يفتح فمه، مبرزًا أسنانه، وقد صدر عنه صوت أشبه بنباح كلب جائع. ثُمّ واصل كلامه:
- ثُمَّ ما هي الخدمات الجليلة التي تقدميها لأمثالي حتى تتمتعي براتب، و أنت جالسة في مكتب مكيّف و تحصلي على سيّارة من الحكومة و وصولات الوقود و تذاكر المطاعم و.. و.. و..
- ماذا تقصد يا هذا؟
- أقصد أنّه يجب عليكم التوقّف عن العيش في فروة جلودنا كالقراد، يا موظّفي الحكومة.
- أفٌّ، أنا مخطئة من البداية، كيف أقبل الحديث مع جاهل كهذا.
قالتها همسًا، بل تمتمة، وأشاحت بوجهها عنه.
حاول الفحّام الوقوف، دفع برجله اليمنى للأمام، و رمى بكلّ ثقله فوقها، لعلّ ركبته تسعفه بحمل مرفقيه العريضين إلى أن استطاع ذلك بعد عناء، و جرجرته كصفّارة قطار فحم حجري، تظاهرت بأنّي غير مهتمّ بما يحصل مخافة أن يمسكني، ويُطفئ فورة غضبه في وجهي ظنًّا منه أنّي ابن للحكومة أيضًا. اللّعنة على هذه الحكومة، التي لَمْ نَر منها سوى المتاعب.
عاد النقاش من جديد بينه وبين المرأة، اِحتدّ أكثر هذه المرّة، فتركتهما في جدالهما، الذي كثر وتشعّب لمواضيع لا تكاد تجد لها معنًى، أو مستقرًا. ثم أدرت رأسي للخلف قليلًا محاولًا استراق لحظة دون ألم في غفلة من ذاك الانزلاق، الذي يبدو أنّه سينهيني قبل أن أبدأ، اللّعنة على الأسقام، لكم هي جبانة.
المرض يشبه الحكومة. كلاهما جبان لا يواجهانك مباشرة، فهما يتخفيّان ويبدآن في حياكة الآلام، لسرقة ما جمعته في وقت عافيتك.
استمتعت بلحظة منعشة مع استدارة رقبتي، وأنا استمع لطقطقتها، فتناهى لسمعي حديث خافت ورائي، لامرأة أربعينيّة كانت تمسك بهاتف جوال، وقد وضعت سلكين أسودين متصلين به في أذنيها الذين تدلى منهما قرطان من الذهب يتوسط كل منهما جوهرة خضراء براقة، وهي تهمس برفق لمخاطبتها، إذ كانت تحدثها عن مشاكلها مع زوجها، وعدم اهتمامه بها، و لا مبالاته، التي لا حد لها:
- تخيّلي يا نوّارة كنت أنتظر يوم السبت بفارغ الصبر، علّه يُطفئ ما بالجاش، إذ كنت أجد له العذر وسط الأسبوع مقدرّة ضغط العمل والإرهاق، فكنت أستيقظ منذ الصباح، فأذهب لحمام « عين السلطان » وأنتظر منوبية بنت لحمر لتقوم بغسلي، فقد كانت يداها كفيلتين بجعل كل قطعة لحم في جسد المرأة مشتهاة لوحدها، ثُمَّ أتوجه لسامية الحلاقة، التي كانت تقوم معي بالواجب، تضع لي أفخم ما عندها من مساحيق وعطور، لتزييني حتى أنّي حين أمر بمقهى " حصّاد " في طريق عودتي للبيت. تنبعث التنهيدات من صدور الرجال كإعصار مدمّر يكاد يعصف بأضلعها المتهدمة من آثار التدخين، وقد كنت أشعر بمئات العيون تلاحقني، و تطلق سهام إعجابها نحوي، لكنَّ عينيه الوحيدتان اللتان كانتا لا ترى ما تراه العيون، لقد أعمى القمار و الخمر بصيرته، إذ كان ينظر ولا يرى، يعود متأخرا من سهراته فيجدني بانتظاره لكنه دائما متعب، غائب في وجوده، أحاول مداعبته، فيمتنع ويتعلل كل مرة بسبب جديد حتى أني شككت في أنه ربما يكون مسحورًا فبدأت رحلة طواف على العرافات و العرافين، ثُمَّ ما لبثت أن قلت ربما يعاني عجزًا جنسيًا فاقترحت عليه أن نزور طبيبًا، لكنه رفض رفضًا شديدًا و قال لي أنا « صح ستار »، إذن إن كان كلامه صحيحًا فما به يا نوّارة؟
زفرت زفرة سمع صداها في أرجاء القاعة رغم الضجيج، وكاد الحماس يدفعني لأجيبها قبل نوّارة، لكنَّ صوت ذلك الرجل الذي يقف أمامي، وهو يزمجر في وجه أحدهم عفس على أحد أصابع رجله، قطع عليّ لحظة النشوة تلك ولولا ضعف حيلتي، لصفعت خده المكتنز، ليتعلم السكوت في لحظات منعشة كهذه.
تركت تلك الفاتنة مع نوّارة، وذاك البدين مع ألمه، بعد أن جلبت اِنتباهي مجموعة من النساء والرجال بَدَأوا بالتجمهر أمام باب مكتب صغير من الجهة اليمنى للصف الذي كنت فيه، حيث علا صياحهم، وهم ينكرون على الموظف الجالس داخل مكتبه، بأنّه قام باستقبال إحداهن، رغم أنّها كانت في آخر الصف، فقلت في نفسي الحمد لله أنَّ صفنا مازال محافظًا على نظامه رغم اعوجاجه، ومع كثرة الضجيج خرج المتّهم، ثُمَّ قال لهم:
- ألم يخبركم عون الاستقبال أنّ منظومة الإعلامية معطلة؟
فأجابه أحدهم:
- وما دخلنا نحن في المنظومة؟ لقد تعودنا منذ زمن بأنّ ملاليمنا تأتي في أكياس، ثُمَّ توزع علينا بعد أن يقدم كل منا قصاصته.
- هذا لم يعد معمولًا به.
- منذ متى؟
- منذ اليوم.
- ومن اِتخذ القرار.
- من فوق .
- و لكنكم لم تخبرونا.
- ها أنا أخبركم الآن بأنكم أصبحتم تابعين للمنظومة، ويسري عليكم ما يسري على الآخرين، وبالتالي عليكم الانتظار.
حينها تكلمت إحدى النساء التي يبدو من خلال ملامحها أن الفقر تمكن منها، وفعل فيها فعله، قائلة:
- ولكننا رأيناك تقدم للمرأة الجالسة في مكتبك مبلغًا من المال نقدًا .
- إنها حالة خاصّة، وهي آخر من استفادت من النظام القديم، والآن عليكم التراجع للخلف والاستواء في الصف، ثُمَّ الإنتظار وإلاّ سأغلق المكتب.
تراجع هؤلاء المنتظرين على مضض وهم يكادون ينفجرون من الغبن الذّي شعروا به، إلى أن مرّ بجانبي أحد الذين كانوا يقفون معهم ثم خرج مغتاظًا لا يروم البقاء وهو يسب ويلعن، فسألته عن حالهم، فأخبرني أنهم مكفولون من طرف جمعية أجنبية في إطار برنامج لمكافحة التسول وقعته الحكومة مع هذه الأخيرة التي تتكفل كل شهر بدفع مبلغ زهيد من المال على أن يصرف نصفه للمستفيد وربعه للحكومة والربع الأخير للبنك الذي قبل بأن يكون منسق المشروع، ثُمَّ سألته، وما بال تلك المرأة التي تجلس مع الموظف، فأخبرني بأنها صديقته، وأنه هو من دعاها لأن تدعي بأنها متسولة حين زار الوفد الأجنبي الممثل للجمعية حيّ «الخرّار» لمعاينته و الوقوف على ظاهرة التسول التي وسم بها باعتبار أنّ أغلب سكانه يعملون كمتسولين، ثُمَّ أضاف. لقد كان الحي يسمى قديمًا حي « الخرّار » لكن درجت تسميته بحيّ « الخرا » لذلك سعت الحكومة لتغيير هذا الإسم بتركيز لافتة كبيرة في مدخله كتب عليها حيّ « الديمقراطية »، قال لنا مسؤول الحزب الذي زارنا وقتها صحبة جيش من مرتزقته بعد أن قام بعض الفتية بالتغوّط في أكياس من البلاستيك، ورشق اللافتة بها، بأنّ تلك اللافتة تكلفت على المجموعة الوطنية خمس مائة ألف دينار، وبأنها مكسب عظيم للحي، سيساهم بلا شك في رفع تلك الصورة السلبية عنه، وكلام كثير لم أعد أذكره، لأنّه حين كان يتكلم قام أحد الحاضرين « بالتعفيط » له، فحاول أعوانه ضرب الرجل، فاشتبكوا مع أهل الحي الذين تفوقوا عليهم لولا تدخل قوات الأمن التي بلغ بها الأمر لاستعمال الرصاص المطاطي، وكان المشهد عظيما لأن أهالي الحيّ استطاعوا تهشيم سيّارة رئيس مركز الشرطة، كما أنّ أحدهم نجح في شجّ رأس مسؤول الحزب بحجر...واستطرد الفتى في حديثه المليء بفخر المنتصر في معركة عادلة.
إلى أن سألته أيضًا، و أنت ماذا تفعل معهم؟
فقاطعتني تلك الكتلة من اللحم الواقفة أمامي،
- ما بك يا رجل؟ ألا تنتهي أسئلتك؟ أترك الفتى يخرج هكذا نرتاح من خلقته.
تركت الفتى يذهب، ثُمَّ سكت، ولم أنبس ببنت شفة.
مضى الوقت، فعمّ الصمت، ودبّ القلق أكثر في نفوس المنتظرين، ولا يبدو أنه هناك حلّ في الأفق، وما أزّم الوضع أكثر أنّ اليوم يوم جمعة، فالدوام ينتهي الساعة الواحدة وهو آخر أيام العمل الأسبوعي أيضًا. وبينما نحن على تلك الحالة الضبابيّة، خرج لنا من أحد المكاتب رجل قصير القامة عرفت بعدها أنّه مدير البنك بالنيابة، سحب نظّاراته الطبيّة من جيبه، وألقى بها فوق أرنبة أنفه، ثُمَّ أخذ ورقة من جيبه، مدّها وبدأ يقرأ ما فيها:
أيّها السادة و السيّدات،
- على الجميع المغادرة بعد أن يحصل كلّ الموجودين على أرقام يمكن بمقتضاها العودة يوم الإثنين للحصول على المال، لأن وقت صلاة الجمعة قد حان، ووقت غلق البنك لأبوابه قد حان أيضًا، فالساعة تشير للواحدة والنصف، نحن آسفون، وبنكنا دائما في خدمتكم و معًا نحو غد أفضل.
عندها جنّ جنون الجميع، ولم يبق في القاعة عاقل سواي والمرأتين، الجميلة التي تقف خلفي، و النحيفة التي تقف أمام البدين، ثم انتبهت للأخير، وقد أزبد وأرعد في الكلام قائلًا لمدير البنك:
- لا صلاة ولا هم يحزنون، منذ متى وأنتم تصلون؟ لن يخرج أحد من هنا قبل أن نحصل على أموالنا، نريد مسؤولًا في الحكومة نتحدّث معه.
ثُمَّ سانده جمع غفير من الناس، نعم ، إيه، هذا هو، معك حق، نريد مسؤولا!
ولم أشعر إلا والأيدي تتدافعني كريشة تلاعبت بها الريح في يوم عاصف، وبين يد تسحبني من معطفي، وأخرى تدفعني من خلف، وثالثة تفتح لي الطريق، وأنا أتألّم من شدّة الوجع، وجدت نفسي أمام مدير البنك بالنيابة، وقد تجمّع خلفي كلّ من كان بالبنك، ويد الرجل الضخم تضغط على كتفي، وقد أنشب أصابعه المشققة في عظامي وهو يقول:
- منذ الآن نحن معتصمون هنا، وهذا الأستاذ هو الناطق الرسمي باسمنا.
فعلت صيحات التكبير، والدعوات لوحدة الصف، ونبذ الفرقة، والهتاف بحياة العمّال المسحوقين.