يحدثّنا صاحبنا في مقدّمته:
هذه نبضات بلغتْ بالفؤاد حديثًا من ينبوع الوفاء إلى حبيبتي الميساء، وبعثتُ إلى العالم دقّةً من دقّات الحبّ عند جمالها، ورنّة من رنين النبض عند روحها. ولقد كانت النبضات تشعل نفسي نشاطًا وحركةً كأنَّها شلّالُ ينهمر في قلمي، فكنتُ أتذوّقُ من مظهرها المسكر خيوطًا من آمال تـعـربـد في النفس، كأنَّما جلست على قلبي بحنين لا يعرف إلّا العشق، وعشقٍ لا يعرف إلّا الحنين، حتَّى نتراجع رويدًا رويدا، فنبصر من بين الشمس ظلّين، ونرى من بين القمر طيفين، فَوَالله لا أحسبهما إلّا ظلَّي الإشراق وطيفَي العناق في سراب الأشواق.
ولو لبستْ تلك الغادة كلمة الحبّ للحبِّ، بالله للبستِ البراءةُ وجهَها والجمالُ جسدَها والحسنُ عمرَها والشِّعرُ نفسَها، ولقد عمل الأربعة في الأربعة، كما يعمل الربيع في الزهور والورود والنباتات والأشجار، وكذلك يعمل الحبُّ والربيعُ معًا، بل يُطلق شهيقُ الربيع في زفيرَ الحبّ، لتصنع روابط قويّة متينة ما استطاعت أنْ تصنع. ولكنْ أين مَنْ يقدر على الربيع والحبّ معًا إلّا سعة المحبّ النفيسة!.
وها أنذا اليوم أرسل حبّي المتألّم إلى صفحات الأرض في دموع الأرض، فليس من حبٍّ في هذا القلب منثور إلّا وهو نابضٌ إلى قلب منثور، وأدعو اللهَ تعالى أن يُنزلَ من جبين السماء قطرات الابتسامات على ثغرها الرقيق الطاهر، وأنْ تظلّ هي الساكنةَ الباردةَ ليظهر ويتجلّى فيها جلال القدّوس فيما أملاهُ على صورتها وتصويرها: مِنْ نطفة فعلقة فمضغة فعظمة فتركيب بديع بيانيّ بليغ، وما أجمل التركيب حين تبصر فيه إنسانة خفيفة الوزن، خفيفة الطبع والدم، لا تعلم من اسمها إلّا إذا أرادتْ هي أنْ تكشف لكَ معانيه وسرّ ما يحويه، لذلك ثبتت صورة لمياء في عينيَّ على أنَّها لذيذة الطبع، ورديّة اللون، مائلة إلى الاحمرار، حوراء العينين، شابّة المفاصل، غَمَّازَة الخدّ، باسمة المعالم، حسنة البدن كأنَّها زهرة لا تمتص إلّا ماء الله، وتكاد من فرط براءتها تتحدّث مع الطفولة، حتَّى لا يحسب من رآها أنَّها طفلة أو آنسة، بل رآها نصف طفلة في نصف آنسة، كما ترى نصف الإشعاع في نصف النَّهار، وتجمع هذا النصف على نصفه الآخر، فتبصر الشمس طالعة في مجموع من اللؤلؤ والمرجان اللذين يبتسمان في أحضان الماء، وكأنَّ الطبيعةَ تزفُ رقّتها وهدوءها في بيت مِنْ أبيات قصائدي الذي لا يُنسى مع مرور التواريخ والأزمان قائلًا:
و بكرٌ وجهها روض الجنانِ كقرصِ الشمس و الدرر الحسانِ
وأمّا قَبْلُ... فقد بدأ حبّي لها بإعجابِ بالغٍ، تحوّل فيما بعد إلى حبٍّ عميق، ولكلّ إعجاب مقدارٌ من الحبِّ، ولكل حبٍّ مقدار من الصبر، ولكل صبر مقدار من النفاذ، فلا أستطيع بعد تلك الساعة كتمَ الهوى أيُّها السادة القرّاء، ولكنَّ تلك المرأة التي هويتها استطاعت ذلك، وكتمت حبّي إليها في طيات جوانحها وجوارحها، غير أنَّي كنتُ أصانعها بالغزلِ، وأتودّدُ إليها بكلمات حب في شعر عذب، فأمنحها من لساني وكياني ما شاء الله ليّ أنْ أمنحها، وآليت ألّا أفارقها أو أتركها، ولكنَّها فعلت ذلك بقسوة، فرأيتُ أنْ أُخرِجَ هذا الكتاب بعد مرور حولين أو أكثر على هذه القصّة، وأقسمتُ على سريرتي بإنشاد سلسبيل لا يحول بيني وبينها إلّا في كشف حجاب الشوق لها، وحديث العهد بها، لأختم مقدّمتي بسورة الوداع في آية الفراق.