يقول صاحبنا في مدينة الغرام:
أصبحتُ في هذه المدينة منذ عامين أو أكثر على شخصيّتين غريبتين متناقضتين أشدَّ وأفزعَ من التناقض بأحكامه، وأسوأ ممّا يسوء أنَّ الأولى تمتلك الأدب والحياء والفضيلة، وأنَّ الثانية تمتلك الوقاحة والجرأة والر..، وكانت الاثنتان امرأة واحدة، تبتعد عنها معاجم السماء الإلٰهيّة، لتقمع في نواميس الشياطين الأرضيّة، حتَّى هبّت في تلك المدينة الآنسة الأولى، لأشهدَ لها بما كان يا زمان، وبما سار بيني وبينها يا مكان، عند اللقاء الموعود في البستان. وأمّا عن الثانية فسيأتي ميعادها في وقت لاحق بإذن ربّ الجنان والنيران.
وأمسيتُ في ذات ليلة أخطُّ كتابًا رومانسيًا بحتًا في فلسفة الحبّ والغزل، أو في فلسفة الحبيب ودلالِهِ، أو في المنطق الغريب بعض الغرابة عند الشعر العربيّ الجميل جمالًا لا حدود لهُ، واتّخذتُ الطفلة البريئة عنوانَ رسالتي الثانويّة في كلّ يوم، وفي كلّ ساعة، وقد صرتُ - والله - من كُتَّاب الرومانسية، وأدباء الحبيبة، وشاعر لمياء: أي شاعر الجمال والدين الذي يعتنق حرّيّة المرأة بحجابها ونقابها، لا بتبرّجها وسفورها، وكأنَّني في تلك المدينة عنترة وهي عبلة، أو قيس وهي ليلى، أو أنا ولمياء - الأولى في الإهداء - اسمان لن ينساهما التاريخ القلبيّ العريق أبدًا، وسيظلُّ، وإلى حدّ التكرار والملل، يعصف في فؤادي ثلاثة حروف على هذا النحو: (الميم): محب، (الواو): ودود، (النون): ناجٍ من ذوبان الخلق وانصهاره.
وفي الحين الذي نظرتُ فيه لكل القلوب، فلا أرى قلبًا يتّسع قلبي إلّا هي، ولا أرى أحدًا يداوي كَلمي إلّا هي، ولا أرى مثل هاتين العينين اللامعتين، كالنجوم المضيئة من فوق كواكب ترويها، وقمر يغذّيها من ضوئه، وكأنَّ القمرَ في السماء مصباحُ وُجِّهَ إليها وحدها، فامتصّتهُ مرآة وجنتيها، وترك نساء العالم أجمع في ظلام قاتم، أترى يا "مؤمن" وجنتيها إلّا رشّاشًا من النور الأحمر النديِّ الذي ينحدر داخل حياء الشفق الباكي؟ فما انبعث نور الصباح حتَّى كأنّكِ تتثاءبينَ في أشعة الشمس المستيقظة مع سماع نغمة قلبي المسرور.
وبات مَعْلَمَ طيب الفكاهة، فصيحَ اللسان في ألفاظ وألفاظ، لحوحًا في كلامه بأنَّ الحبَّ سوف يأتي في هذه السنة السوداء، فقابلتُها حينئذٍ في درس لصانع الأوائل، ولم ترَ عيني صباحًا هادئًا ومشرقًا مثل ذاك الصباح من قبل ولا من بعد، فلا أدرى حينما رأيتُها أنَّني في فجر العشق، أم شروق الحبّ، أم ظهيرة نياط القلب، وتالله لمّا رأيتها في ذاك النّهار، لم أعرف أهي الشمس أم الشمس هي؟ وكأنَّما هي والشمس ضياء واحد لا يفرّق بينهما شيء، إلّا أنَّ الشمسَ ثابتةٌ فتدور حولها الأرض، أمّا هي فمتحرّكة وتدور حولها الشمس والأرض والكواكب والمجرّات، وكلّ ما ملك الكون ينصب داخل نورها الذي لا يخفت ولا يضطرب، وعندما تمعّنتُ ودقّقتُ في ملامحها علمتُ أنَّها جاذبيّة لامتصاص نور الشمس، حتَّى جذبتْ قلبي في قالبها الغربيّ، واستقرّ ونَبَتَ فؤادي في عرشها، وهو لا ينصت إلّا لنغمات العشق التامّة بمملكتها، التي تحكم عليه بقانون الحبّ، ومن ثَمَّ ناموس العاشق الأسير في كلمة واحدة ألا وهي الجنون.
ولن تظهر لمياء في جميع اللقاءات والمصادفات إلّا وهي عصفورة قصيرة هادئة في نسيم الربيع، تقف على غصن الشجرة لتترنّمَ بمظهرها لا بصوتها، وأغلب الظنّ يعود إلى صمتها، فإذا هي متكلّمة خرساء في أوان الفصول الأربعة، وإذا هي متحدّثةٌ بلا حديث، ولكنَّ حديثها رُمِيَ على قلب المؤمن رميًا كالسهم وهو في أحشاء قلب الجنديّ، وكم من هدوءٍ وسكوتٍ وصمتٍ يعملون على الضوضاء والقول والحديث، وها هي ذي صاحبة الحديث تتمدّد على الهدوء لتكون الضوضاء من الحبيب كلّ الهدوء لمعاني الحبّ، وتملأ السكوت بين الثغر والثغر ليكون القول بعضًا من السكوت لمفردات الحبّ، وتبلغ الصمت إبلاغًا يستعطف الكلام ليكون الحديث أتمّ حديثًا للحب، وهي معاني الحبّ ومفردات الحبّ وحديث الحبّ، جميعها فيها هي، ومنها هي، ولها هي، حتَّى الحبّ نفسه هي.
وما تزال عيناها ثاويةً على الأرض إلّا وقد حفظت صخرة صخرة، وحجرة حجرة، وحائطًا حائطًا، والوجه الأبلج الوضَّاح لا يفارقه الاحمرار والخفر والحياء، وانهمل الخجلُ على وجهها انهمالًا كأنَّ رموشَ عينيها قد سقطت من عليها، والاحمرارَ وُضِعَ في خدَّيها كأنَّ في خدّيها تفّاحتَين لذيذتَين، ومَنْ غيري الذي يشتهيهما؟!.
وفي قلبها الوحيد من النساء، أبصرتُ مدينة راياتها تقول: لا للاستسلام ولا للحرب، وإنَّما كانت تنطق براية الحبّ الإلٰهي المشرق على السلام الأزليّ.