يكتب صاحبنا لآنسته الفضلى:
يا آنستي الفُضلى، إنَّك لا تسألي هذه السماء ولا هذه الأرض مِمّنْ هي، ولا ماذا تصنع، وإنّما تنظري إليها بتأمّل أعظم الفلاسفة والرهبان، وتقولينَ من بعدها: جَلَّ الربُّ الذي خلق، وتسبّحينَ باسم الواحد الأحد البارق، فانظري إليّ كما تنظري إلى هذه السماء أو إلى هذه الأرض، وقولي تبارك الله فيما صنع من بلاغة وشعر وبيان في بهجة النفس، وأيّام الأُنس، وأحلام الإنس، وكأنَّنا أطبقنا السماء على الأرض، أو الأرض على السماء، لنشهد بورقة تنطوي على عظمة الحبّ، وانصبابه في نفسه، ودورانه في ذاته عند مدار المنطق القلبي.
يا آنستي الفُضلى، ليت شعري الدائم يبقى نبوغًا حازمًا في فلسفة الجمال الخاصّة بمظهركِ ووجهكِ، وَأَخَصُّ ما تمتازينَّ بهِ، أنَّك تشغلينني عن عقلي وعن قلبي، وعمّا في سطر قصتي، وعمّن حول روايتي، بل تشغلينني أيضًا عن ديوان الحبّ والغزل، لأنَّك أنتِ فقط الديوان كلّه.
وأحرى أنْ نُتيح لنا فرصة الإغراق في محيط الإمعان والتفكير للبحث عمّا وراء كَنز الشوق، وعمّا في داخل جزيرة العشق، فوالذي نفسي بيده ليوشك أنْ يكون الشوق عشقًا تبرّم منه رقّة الفؤاد، وتهافت عليه الاشتياق في محلّ رفع المراد، وجال بين جنبيه دمع الوداد، ألا رُبَّ من عامٍ أبيض من السواد. وأعلم يا من كتب السطور بالحبور أنَّك سوف تقف لها بالأقلام، ولسوف تخطُّ إليها ما يخطه وحي الأعلام.
يا آنستي الفُضلى، لو تعلمينَّ كم بلغ الذاوي ذبوله ورقة ورقة، ولو تبصرينَّ ما وجب عليكِ إبصاره، وأنتِ في جميع الأحيان مبصرة العين ضريرة القلب، أخذ السواد ندبه إلى باحات أمرك وساحات فعلك، ولقد كنتِ كالخمائل الخضراء والجداول البيضاء تملئينَ الدنيا غاية الضحك والابتسام، وكأنَّ الدنيا بما فيها وما عليها انصبّتْ عليكِ بتحيّتين:
أولاهما: السلام عليكِ.
وثانيتهما: الإسلام عليك.
والسلام والإسلام مصدران لمفرد واحد، وجوهر واحد، وربّ واحد، وهو الله يا عزيزتي، هو الله.
يا آنستي الفُضلى، لماذا بالغتُ وغاليتُ في التودّد والتحبّب إليك؟! أصار هذا من ظمأ الحبّ؟. وويلٌ من ظمأ الحبّ إذن؟. كم كَتَبَ علينا الوَصَب والشقاء، وكم بعث إلينا ببريد النجوى وظرف الصبوة، وسار في أضداد الغرام كيت الحبّ وكيت الخوف وكيت القرب، وكم كُتِبَ عليّ أوار الحبّ كما كُتِبَ على الصبار الجفاف، وكم أشتهي إلى الارتواء من كأس لمياء، وكم يشتهي الصبّارُ من يدّ الله إلى الماء، وكلانا لا يفترق عنه الصبر شيئًا فشيئًا إلّا أنَّه النبات وأنا الإنسان. وكم رأيتُ فيكِ الربيعَ وأخذتُ منهُ زهورًا أحملها في عطري، كأنَّما كيان الربيع هو أنتِ، وأمطار الشتاء مياه حبّنا، وحرارة الصيف نار فراقنا، والخريف لا يعرف منكِ مكانًا ولا زمانًا، فأنتِ الربيع كلّه مع لذات النسيم، وأنتِ الحبّ كلّه مع حصاد الهشيم، وأنتِ العلمُ في رُبا التعليم، وأنتِ... وأنتِ... أنتِ مَنْ كان شخصًا كريمًا.