لن أغاليَ اذا ما قُلْتُ أنّنا كنا نحيا سُعَداءَ نعيشُ المودةَ والإخاءَ ونبادلُ بعضَنا كلَّ الخيراتِ. في المدنِ والقرى والضّيعِ، كان الجيرانُ والأهلُ سواء. يتشاركون الأفراحَ والأتراحَ وكلّ الأمورِ والأحداثِ.
أذكرُ أنّنا كنا في حارةٍ تجمعُ كلَّ الاتجاهات في لبنان من أصولٍ ودياناتٍ وآراء.أم حسن الجنوبية اذا كان دورُها في الخبزِ، كانت تَصْنَعُه للجميعِ وبكلّ محبةٍ والأولادُ يتسامرون على الأدراجِ وفي الممراتِ وفي السّاحاتِ وهم يحملون الرّغيفَ الشّهيَ السّاخنَ كأنّه كنزٌ أو صيدٌ يفخرون بحملِه ويتلذّذون بتناولِه.
كانت هناك موقدةٌ وكانوا يصنعون من وقتٍ إلى آخر الخبزَ الطّازجَ مع أنّه يوجد أفرانٌ ولكن إحياءً لعاداتِ أهلِها وقريتِها وإسعاداً لجيرانِها.
أمّ جورج كانت تصنعُ المُرَبياتِ وتوزّعُها على الجيرانِ، لاعتقادها أنّ ابنَها يسْعَدُ في السّماءِ؛ فهوالذّي كان يحبُّ المربى. وأذكرُ يومَ مأتمه كيف وَضَعَ له والدُه نقوداً كان يجمعُها في القجةِ الفخاريةِ وقائلاً أنّه قد يحتاجُها حيث يذهب الآن، وكنا جميعاً واقِفِينَ صِغاراً وكباراً في الكنيسة نودّعُ ابنَ الجارِالصّغيرِ الذّي ماتَ بسبب المرضِ دون أن نفرّقَ مذهبَه أو دينَه فقد كان رفيقَ الدّربِ وصديقَ المشاكساتِ.
ولمّا رجعْنا سألْتُ أمي: “لماذا قالَ أبو جورج لابنِه يلْزمُك النّقودَ؟”فجاءتْ الإجابةُ درساً في الأخلاقِ وباختصارِ قالت: “لكلٍّ دينُه ومعتقدُه؛ فهكذا يعبّرُ هوعن حبِه لولدِه وكفى!”
ولا تزال تلكَ العبارةَ في ذهنِي رغمَ مرورِ الأعوامِ والسّنينَ.
الخالةُ حنّة ممرضةٌ وكانت طبيبةَ الحيّ تداوي الجرحى من الأطفالِ الأشقياءِ وتوزّعُ الأدويةَ للعجائزِ وتساعدُ الجميعَ وخاصة إذا ما اضطروا إلى الدّخولِ إلى المشفى الحكوميّ.
أمّا أمّ إبراهيمَ كانت تدعو الجاراتِ إلى تعاونيةِ الجيشِ ليتبضَعوا معها ويؤمّنوا حاجاتِهم لأنّها أرخصُ ثمناً هناك.
ووالدتي كانت تصنعُ الزّهورات والزّعترَ بكمياتٍ كبيرةٍ. كنا نقضي فصلَ الصّيفِ بجمعِ الصَّنَوْبَرِ اليابسِ للسّخان والنّباتاتِ البريّةِ للزّهوراتِ والزّوبَعِ للزّعترِ.
وكانَ لكلّ جارٍ نصيبٌ من هذه المنتجاتِ المحضّرةِ.
لن أشبّهَ حياتَنا بالجنةِ ولكن مقارنةً بالواقعِ المريرِاليومَ كنا نعيشُ في سعادةٍ وهناءٍ وراحةٍ بالرّغمِ من الظّروفِ القاسيةِ التّي أمسيْنا عليها من فقرٍ وحربٍ وانعكاساتٍ لأطماعِ السّياسيين في الغربِ. هناك أمورٌ يتشاركُها الماضي والحاضرُ ولكنّ النّفوسَ تختلفُ.
لن يستطيعَ الجدُّ تقديمَ أيّ حلٍ ولا القيامَ بأيّ إنجازٍ فالواقعُ ضبابٌ والوطنُ خرابٌ.
ولكنّه قرّرَ على طريقةِ العربِ استذكارَ ما كان لعلّ الأجيالَ القادمةَ تعيشُ الحلوَ من الحياةِ ولو بالحكايا. على أملِ أن يمسَّنا نورٌ ويذهبَ الظّلامُ...
بالحبِّ سأبدأُ ومنه لن أنتهيَ...
كنتُ الشّابَ المجتهدَ الطّموحَ الذّي يساعدُ كلَّ تلاميذِ الحيّ والشّابَ المتفوّقَ في كلّيةِ الهندسةِ في الجامعةِ اللّبنانيةِ حصنِ العباقرةِ.
وهي كانت في الثانويةِ سمراءُ، نحيلةٌ، خياليةٌ دائماً تهربُ من الواقعِ وتعيش في قصرِها البعيدِ.
كانت كلّما دَخَلَتْ عليّ غرفتي حيث الطّاولةُ والفوضى والكتبُ المُبَعْثَرةُ، تَجِدْني غارقاً في إنجازِ واجباتي وكنتُ أرتاح بين الفَيْنةِ والأخرى معها ومع أولادِ الجيرانِ من خلالِ مساعدتِهم في حلّ مسألةٍ رياضيّةٍ أو في تفسيرِ نصٍّ علميّ مُبْهَمٍ.
ولكن هي لم تكن تَفْقَهُ شيئاً ولكأنّها ترسمُ لنا طرقاتٍ في الهواءِ وكنتُ أصرخُ في وجهِها وهي كالأميرةِ النّائمةِ لا تَأْبَهُ لصوتي ولا لانفعالاتي، فقط تبتسمُ وتدافعَ عن نفسِها:”هذه المناهجُ وُضِعَتْ لتعقيدِنا وأنا لا أحبُّ العلومَ، أحبُّ الأدبَ والشّعرَ فقط!”. وكنا ندخلُ في جَدَلٍ لا ينتهي، هي تدافعُ عن الأدبِ وأنا أتحمسُ للعلوم.
ولا أذكرُ يوماً أنّني أمسكْت يدَها أو سرقْتُ منها قبلةً، ولكنّ تعابيرَ وجهِها كانت كنشرةِ أخبارِ الصّباحِ فاضحةً تصرّحُ بأنّنا تَعانَقْنا وتَغازَلْنا وقَبَّلْنا بعضَنا البعضَ. كانت تحكي عن الحبِّ وتُسْهِبْ وتُعطيني مفاتيحَ لَأْفتَحَ خزائنَ قلبِها وحلمِها وأفكارِها. هي ترسمُ قلوباً وتضعُ الأسهمَ وتكتبُ قصيدةً وتراقصُ الأحلامَ. وأنا الشّاب العاقل لمّا أرضخْ لها،كنتُ لها النّاصحَ الأمينَ فَأَخْفَيْتُ حبّي في أعماقِ الرّوحِ.
تَخَرّجْتُ من الكلّيةِ وقدّمْتُ أوراقي للسّفارةِ الكنديةِ طلباً للهجرةِ؛ ففي وطني الخبزُ لا يُشْبِعُ والمستقبلُ لا يُبشّرُ بخيرٍ.
ويومَ قُبِلْتُ، فَتَحَتْ مأتماً حقيقياً،وعدْتُها وقتَها أنّي سأرجعُ عندما أصبحُ قوياً وثرياً،لم تُصَدّقْني حينها ولكن عُدْتُ لأجلِها ولأجلِ أهلي التّعساءِ ووطني الموجوعِ.
أنا هو الجدُّ اليومَ المحتارُ وأنا الشّابُ المغتربُ الباحثُ عن الدّفاترِ والكتبِ والمكتبةِ وعن أقصوصاتٍ تركتُها يوماً في أدراجِ غرفتي على أملِ أن تكونَ خارطةَ وطني الذّي عنه أبحثُ إلى اليومِ.
وقفْتُ مسروراً وعلاماتُ الفرحِ فوق محياي هي الآن أمامي بعد عقودٍ من الزّمن. سيّدةٌ رصينةٌ تحملُ محفظةَ وتعدو أمامي كأنّها تلك التّلميذةُ الصّغيرةُ. تنهيداتٌ خرجَتْ كأنّها طبولُ المسحراتيةِ وزفةُ الأفراحِ. وبلحظاتٍ، بُنِيَتْ جسورٌ من التّلاحمِ بيننا.ركِبْنا السّيارةَ،تحَدّثت دون أن أسألَها: “جِئْتُ قبلَ أن يُتْلِفوا كلَّ آثارِنا، لم يُعْنِني أيٌّ من أشيائي إلّا تلك الأوراقُ والدّفاترٌهي كلُّ ما يهمُّني فقد لخّصْتُ فيها قصةَ غرامي مع من تركَني وسافرَ!” ابتسمْتُ وقلتُ لها:” ها أنا قد عُدْتُ ولديّ أبناءٌ وأحفادٌ وأنتِ كما رأيْتُ لديك أبناءٌ وأحفادٌ. المهم أنّنا التقيْنا.هل ما زِلْتِ تشاهدين “الوسادة الخالية” وتردّدين مع السّت “يا ظالمني” ؟” ضَحِكْنا معاً وتابَعْتُ قائلاً:” هل تملّكيني تلك المحفظةَ أعملُ على صياغتِها في كتابٍ؟ هذه المرة أنت من يرحلُ ويترُكُني خلفَه،فهلا تَكَرّمتِ عليّ ومَنَحْتني ذلك الشّرفَ؟”
وَصَلَت إلى المطارِوكان بانتظارِها ابنُها وابنتُها وعوائلُهما. ودّعْتُها مقبّلاً يدّها وتاركاً نظراتي في دمعاتِها ونبضاتي في قلبِها...
ورَجِعْتُ إلى غرفتي مستعجلاً كي أنهلَ من كلماتِها ومن حكاياتِ عِشْقٍ عاشَ في رحمِ الأقلامِ ولم يُبْصرْ وطناً ما زلنا نرجو الوصولَ إليه. لم أعدَّ الأيامَ ولم أعلمْ كم من الزّمنِ قَضَيْتُ بين رَشَفاتِ ذِكْرَياتٍ حلوةٍ ورائعةٍ أحيَّت في ذاتي مواقفَ وقصصاً: أولَ حديثِ، أولَ تصريحٍ، أولَ هديةٍ، أولَ صدٍّ، أولُ احباطٍ أو كَبْحٍ لمشاعرَ غاليةٍ نفيسةٍ.” فقدرُنا ألّا نتلاقى: إمّا أرحل أو أنتِ ترحلين” هكذا كَتَبْتُ لها رسالتي ومَضَيْتُ لإنجازِ مهمتي. وعدتُها أن تعيشَ كلماتُها في قصصٍ يقرأُها من شاء أن يعرفَ عن الحبّ وعن الوطنِ.